Sunday, April 27, 2014

الزمان هو المكان والعالم نسج خيال




منصورة عز الدين

سواء تحمست لرواية «نهاية السيد واي» للكاتبة البريطانية سكارلت توماس وأعجبت بحبكتها المحكمة، أو تحفظت عليها بسبب أن الشخصيات في معظمها كان من الممكن أن تحظى بقدر أكبر من التعميق، فالمؤكد أنك كقارئ سوف تحترم الجهد البحثي المبذول في الرواية وستقدر مهارة المؤلفة في توظيف المادة الفكرية والعلمية وتضفيرها بسلاسة في أحداث عملها.

تثبت الرواية الصادرة عن دار التنوير بترجمة لإيمان حرز الله، أكثر من غيرها، قدرة الفن الروائي على استيعاب ما سواه من أجناس أدبية وفنون بل وعلوم، وهضمها وامتثالها، فكما تستفيد «نهاية السيد واي» من إسهامات مفكري وعلماء القرن التاسع عشر وأفكار هايدجر وبودريار ودريدا وغيرهم، نراها تصالح بين أدب الخيال العلمي والإثارة وبين ما يُطلق عليه «الأدب الرفيع».

في صفحات بعينها تشعر أنك تقرأ رواية خيال علمي صرفة، وفي صفحات أخرى يخيل إليك أنك تشاهد -عبر الكلمات – فيلمًا هوليووديًا وسوف يخطر ببالك فيلم «ماتريكس» تحديدًا، لكن الأغرب أنك ستجد نفسك كما لو داخل لعبة من ألعاب الكمبيوتر خاصة في مشاهد الخروج من الذات والانتقال إلى التروبوسفير.

تبدأ الرواية بانهيار مبنى «نيوتن»؛ أحد مباني الجامعة التي تعمل بها آرييل مانتو بطلة الرواية. مشهد الانهيار مفرداته كالتالي: ضوضاء، أرض ترتج، أجراس إنذار، أناس يركضون، ومصاب بآلام الظهر داهمته أزمة قلبية. «هكذا يبدو مبنى نيوتن الآن، يخر منهارًا على ركبتيه بلا اتزان.

 ها قد انهار أحد جانبيه، الآن الآخر، الآن…… الآن توقف، يصدر صريرًا ويتوقف. تنفتح نافذة بالطابق الثالث على مصراعيها وتسقط منها شاشة حاسوب لتتهشم على بقايا الفناء الأسمنتي بالأسفل».

هذا المفتتح الأبوكاليبتي يمكن قراءته كمجاز لتحطم العالم كما تعرفه آرييل مانتو، ولبداية عالم جديد تتعرف فيه على التروبوسفير والسفر عبر الزمن وفي أذهان الآخرين.

فكما ينشأ الكون وفقًا لنظرية «الإنفجار العظيم» إثر انفجار جسم حار شديد الكثافة، يولد عالم آرييل الجديد من رحم انهيار المبنى الذي يجبرها على العودة إلى منزلها سيرًا فتمر بمكتبة صغيرة تجد فيها نسخة من الرواية النادرة «نهاية السيد واي» للعالم والكاتب الفيكتوري توماس لوماس، تلك الرواية الملعونة المحتوية على وصفة لتركيبة تمكِّن من يشربها من الانتقال إلى عوالم موازية في التروبوسفير والسفر عبر الزمن والتسلل لوعي الآخرين، وعليه تختبر آرييل ما سبق ومر به السيد واي بطل رواية توماس لوماس وربما ما مر به لوماس نفسه، فتكتشف مثلية جارها وصديقها وولفجانج ومعاناته بسبب تخلي حبيبه عنه، وتفهم قرب نهاية الرواية سر اختفاء أستاذها سول بيرلوم، وتخرج من جسدها متجولة في أروقة التروبوسفير وتتعرض لمطاردة عميلين سابقين بوكالة الاستخبارات الأمريكية، وهذا الخيط تحديدًا ما ينحو بالرواية نحو أفلام التشويق أو روايات «البِست سيللر»، غير أن الحمولة المعرفية التي تستند إليها، تحميها من الاندراج تمامًا تحت هذا التصنيف.

انهيار مبنى «نيوتن» يُعرِّف آرييل على آدم أستاذ اللاهوت شبه الملحد وأكثر شخصيات الرواية إثارة للاهتمام، والذي ينتقل إلى مكتبها مؤقتًا ويبدآن تدريجيًا علاقة عاطفية أبعد ما تكون عما اختبرته آرييل فيما مضى من علاقات جنسية مدمرة.

لا يعنيني هنا سرد أحداث الرواية الشائقة بقدر ما تهمني الإشارة إلى بعض الأفكار الكامنة بين ثناياها، إذ ثمة جمل ومقاطع مفتاحية لفهم العمل والولوج إلى باطنه بدلاً من الاكتفاء بظاهره الممثل في الحبكة التشويقية.

من هذه الجمل المفتاحية ما يرد على لسان آدم: «في ظني أن الحقيقة تكمن وراء اللغة، ووراء ما ندعوه (الواقع). لا بد من ذلك؛ حسنًا إن وُجِد هذا الماوراء أساسًا».

«الأمس لا يوجد إلا لأننا نتذكره: ليس واقعًا، لا يمكنك أن تثبتي لي أن الأمس حدث حتى».

«الأمر كله نسج خيال»، يقول آدم كصدى لصوت المؤلف الضمني. نسج الخيال هنا ليس قصصنا وأفكارنا كبشر، إنما وجودنا ذاته.

المعنى نفسه تكرره آرييل مانتو مستعيرة أفكار المفكر الفرنسي جان بودريار: «نعيش بمبدأ الشك ونظريات تفتقر لبراهين وفلاسفة يزعمون أن العالم محاكاة… نسخة بلا أصل. نعيش في عالم حيث لا شيء قد يكون حقيقيًا».

ومثلما بدأت الرواية بمشهد يُذكِّر بأبوكاليبس مصغر، تُختتم بمشهد يتماس مع الفردوس الأول. تكتب سكارلت توماس في آخر فقرات روايتها عن آخر محطات رحلة آرييل وآدم في التروبوسفير: «لكننا ندخل حديقة. أجمل ما رأت عيناي، بقدر من الأشجار لم أره من قبل قط، وعلى حافتها نهر يتلألأ كمرآة. أعتقد أن هذا معقول، أن يبدأ الوعي في حديقة؛ لأن الوعي نبت، برغم كل شيء. أنظر إلى آدم، لكن لم يعد بإمكاني الكلام بعد الآن، لست واثقة حتى أن بإمكاني التفكير، وثمة شجرة واحدة، تقف على ضفة النهر فنسير نحوها. وأفهم».

تفهم آرييل ونفهم معها أن رحلة آدم وآرييل تمثل –بشكل ما– مسارًا عكسيًا لرحلة آدم وحواء من الجنة للأرض، فبخلاف الأخيرين، يعود آدم وآرييل (الأقرب هنا لليليت المتمردة منها لحواء) إلى جنتهما ويسيران نحو شجرة المعرفة.

وهكذا مع آخر سطر نستعيد ما تقترحه «نهاية السيد واي» وتوحي به على مدار صفحاتها، من أن كل شيء بلا استثناء مجرد تصورات ذهنية، نسج خيال، وأن الزمان والمكان مندمجان معًا، فـ«هذا المكان يوم واحد طويل».

توجد «جنة» آرييل مانتو في نهاية ذلك الفضاء الغامض المسمى بالتروبوسفير، حيث حافة الوعي، وفي التروبوسفير كما تخبرنا «نهاية السيد واي»: «المسافة هي الزمن، ولا يوجد موت، (أنتِ) ما تفكرين فيه أيًا كان. المادة هي الفكر. المسافة هي الوجود، لا شيء يغادر التروبوسفير. بإمكانك على الأرجح اعتبار التروبوسفير نصًا مكتوبًا. بإمكانك اعتبار التروبوسفير مجازًا».

نُشِرت المقالة بمجلة "أكثر من حياة" الإلكترونية بتاريخ 27 أبريل 2014

  

Thursday, April 24, 2014

The Complete Review's Review of Maryam's Maze




By: M. A. Orthofer

       Maryam's Maze follows a young woman, Maryam, on a journey of personal exploration -- in the present and the past -- that suggests not so much a physical maze but a metaphysical one. Maryam is unsure of the places she finds herself in, and there is no trace of people she expects to find at certain addresses. The reality of her memory and mind and the reality she encounters seem separate -- all the way up to such significant facts like whether or not she was married to a man name Yahya, as she finds a marriage certificate suggesting they had been married, even though: "She was certain, or she had been, that she had never been married to Yahya, and that there should never have been a certificate."

       The novel opens with Maryam waking -- or seeming to wake -- from a dream. It is, in fact, unclear whether she is even alive, as:



Maryam felt that she had been reduced to nothingness. She no longer had any physical existence to fill a space in the void.

       She considers both the world around her -- trying to find a hold among familiar places and people (which prove elusive) -- as well as in her past, memories of the person she was. She is confused by the situation she finds herself in -- at one point thinking: "she had either lost her memory or her reason".

       The most stable site is El Tagi, the family estate, and brief mentions of it precede each of the chapters of Maryam's story. These short pieces suggest a haunted sort of place imbued with death, fertile ground for fantasies, even if the memories of her time and the people there are generally fairly mundane.

       From domestic scenes, a childhood friend, her schooling (successful early on, until her mind drifted off the subjects ...), to the time when Nasser's shadow loomed large, the story flits across memories, as well as the present in which Maryam tries to find some hold. There are some scenes and descriptions that are firm and clear, but for the most part the novel floats (or, ultimately, is mired) in a fog of vagueness: even the strongest scenes are not connected enough to form a substantial picture of Maryam, her life, and her condition -- perhaps appropriate for someone who feels she has: "been reduced to nothingness", but not always easy for a reader to appreciate.

       There's the explanation:

     It's a life of glass, a brittle life that can be smashed at any moment, by any chance event. And her particular life, if she has a life, is glassy twice over.

       Maryam's Maze proceeds almost gingerly, as if Ez Eldin fears any firmer touch would splinter and break her protagonist all apart, but a stronger guiding hand -- or one willing to smash away, and then pick up the pieces -- might have been welcome for navigating this particular maze.


The review was published by "The complete Review" on 20 April 2014

Wednesday, April 16, 2014

نحو الجنون

منصورة عز الدين

كنت أراقب جارتي وهي تخطو بدأب نحو الجنون، كانت تتجه إليه بالبساطة نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب شقتها كل صباح، بالإتقان نفسه الذي تطهو به أصناف الطعام التي تغمرني روائحها الشهية كلما مررت بشقتها  الواقعة أسفل شقتي مباشرة.

حين انتقلتٌ للسكن في البناية لم ألحظ أى شىء غريب أو حتى غير اعتيادي فيما يخصها، امرأة في أوائل الثلاثينيات.. ربة بيت نشيطة وأم  وحيدة تبالغ قليلاً فى رعاية أطفالها الثلاثة الذين يبلغ أكبرهم تسعة أعوام كما أخبرتني.

تبتسم في وجهي كلما قابلتني على السلم وأنا متجهة لعملي أو عائدة منه، صوتها خافت وملامحها منمنمة بما يتناسب مع قصر قامتها وصغر وجهها، ورغم ارتدائها للعباءة والحجاب الذي يصل إلى ما تحت صدرها كانت لا تحرمني من تعليق مجامل على تسريحة شعري أو فستاني القصير أو حتى رائحة عطري. "تحفة" تقول وعيناها تلمعان بطريقة شخص متشوق للتواصل مع الآخرين.

عادة ما كنت أتقبل تعليقاتها بنوع من التحفظ الذي يشعرني بالذنب بعدها، حرصت منذ البداية  على وضع مسافة ملائمة بيني وبين جيراني، فنمط حياتي لا يسمح لي بتضييع أى وقت في محاولة التواصل مع أناس مختلفين كليةً عني، أنا بالنسبة لهم امرأة غريبة الأطوار تتعامل مع بيتها كمجرد مكان للنوم، إذ كنت أغادر في الواحدة ظهراً ولا أعود إلا مع اقتراب منتصف الليل.

لم يكن مألوفا بالنسبة لهم أن تعيش امرأة تعدت الثلاثين مثلي بمفردها، لا زوج، لا أولاد، ولا أقارب. لكن هذه المرأة بدت كأنما ترغب في أن تتغاضى عن كل هذه المآخذ التي أخذها الجيران علىّ.

كنت أرى في عينيها نوعاً من التوق للتواصل معي، عزوتُ ذلك للاختلاف بيننا، فأنا بالنسبة لها أشبه ذلك الغريب الذي نقابله فى سفرة بعيدة ونفضي له بأدق أسرارنا لأننا ندرك أننا لن نراه مرة أخرى.
قد أكون جنحت كعادتي إلى المبالغة فى تفسير نظراتها لي، لكني كنت واثقة من أن هذه المرأة القصيرة ذات الملامح المنمنمة لديها ما تريد إخباري به.

عندما أسمع صراخها الهستيري وهي تعنف أطفالها بشدة، ثم صوت نشيجها الذي يتلو وصلة التعنيف اليومية، كنت أصاب بالحيرة، إذ كيف للمرأة الهادئة، ضئيلة الجسم، دقيقة الملامح، التي اصطدم بها من وقت لآخر على دَرَج البناية أن تتحول لهذه المخلوقة الهستيرية التي تحوِّل صباحاتي إلى جحيم بشجارها الدائم مع أولادها، وتضطرني للاستيقاظ مبكراً حتى في أيام العطل؟

لا أتذكر الآن متى بدأ صوتها المرتفع ينطلق لتصدح به وهى تقف على بسطة الدَرَج أمام شقتها مناديةً زوجة البواب كي تشتري لها ما تريده من الخارج رغم وجود جهاز الإنتركوم الذي يمكنها من طلب ما تريده من المرأة بصوت هادئ وهى جالسة في مكانها.

كنت أتعاطف مع امرأة البواب وأنا أسمع جارتي تسبها متهمة إياها بتجاهلها، وأشفق على أطفال جارتي  المشاغبين  - الذين لم أرهم أبداً- حين تعاقبهم بأن تحبسهم فى إحدى الغرف وتغلق الباب عليهم، من دون أن تكترث بتوسلاتهم أو بالجلبة التى يسببونها بطرقهم المتواصل على الباب.

بدأت أتخيل عقلها كقطعة أرض "شراقي" تشققت بفعل العطش ثم فتحت ذراعيها للماء وقد أخذ يجرى مغطيا إياها، الماء هو الجنون الذى يزحف ليغطي عقلها ويواريه في الخلفية.

لم استطع أبداً التخلص من صورة الأرض العطشى والماء يفيض عليها. كلما اصطدمت بالمرأة على الدرج أو سمعت صوتها الذي أصبح مبحوحاً بفعل الصراخ المتواصل لأتفه الأسباب، أرى شقوقا تبتلع الماء.

ذات صباح فوجئت بها تطرق بابي، كانت مرتبكة وعيناها حمراوان كأنما قضت الليل كله في البكاء، أفسحت لها الطريق فدخلت مباشرة إلى الصالون كأنها تحفظ شقتي عن ظهر قلب. لم أكن قد أفقت تماماً من أثر النوم، فتبعتها بكسل وأنا أردد كلمات الترحيب المعتادة.

عندما جلست في مواجهتها لاحظت أن نظراتها زائغة، وجسدها يرتعش بعض الشىء. أخذت تنظر حولها بتوتر للتأكد من أننا وحدنا. ثم انتفضت فجأة متجهة لجهاز التلفاز، وغطته بمفرش منضدة الصالون. ونظرت للسقف والجدران بتمعن، ثم اقتربت لتجلس بجواري على الكنبة وهي تهمس:
-         معلش. الاحتياط واجب.
لم أعلق واكتفيت بابتسامة مشجعة، فبدأت تحكي وهي ترجوني أن أصدقها وألا أتهمها بالجنون كالآخرين. قالت إنها لم تعد تتحمل الحياة على هذا النحو، وأن طليقها يراقبها ويرصد كل حركاتها حتى في غرفة نومها لدرجة تضطر معها للنوم وهي مرتدية العباءة والحجاب.
طلبت مني أن أنزل إلى شقتها لرؤية الكاميرات المزروعة في أركانها فتبعتها متضررة، حين وصلنا لباب شقتها وضعت سبابتها أمام فمها طالبة مني ألا أتكلم.

دخلت على أطراف أصابعها وأنا خلفها. بدا بيتها كأنه نسخة منقولة عن بيتي بكل تفاصيله، الأثاث، وألوان الستائر وحتى اللوحات المعلقة على الحوائط. تلفازها كان مغطى هو الآخر. اندهشت وشعرت ببعض الخوف النابع من عدم الفهم.

نظرت حولي بحثا عن أولادها إلا أنني لم أعثر لهم على أي أثر. دخلت معها كل الغرف فأخذت تشير إلى ما تظنه كاميرات سرية وأجهزة تنصت. كنت مشغولة فقط بالبحث عن أي أثر للأولاد الثلاثة المزعجين. تركتني لدقائق للذهاب إلى الحمام، فتسللتُ لغرفة نومها، كان هناك جهاز تسجيل كبير وبجواره عدة شرائط كاسيت، من دون أن أفكر فتحت بابه وأخذت الشريط الموجود بداخله وأخفيته في ملابسي واتجهت للباب.

في شقتي رحت استمع لأصوات الأطفال المنطلقة من الكاسيت، مرة يطرقون على باب ما وهم يتوسلون من أجل اخراجهم، وأخرى وهم يلعبون بأصوات صاخبة تقطعها فترات صمت تام.
كانت الأصوات نفسها التي اعتدت سماعها منبعثة من شقة جارتي، لكن من دون صوتها هي.

لم أجد أطفالها الثلاثة حين دخلت شقتها لأنهم ببساطة غير موجودين من الأساس، تذكرت أني لم أرهم أبداً، وكل معلوماتي عنهم كانت مستقاة من الكلمات القليلة التي كنت أتبادلها مع جارتي حين ألتقيها على بسطة السلم. كونت عنها فكرة الأم التي تبالغ في الاهتمام بأطفالها لحرصها على الإشارة إليهم في ثنايا كل جملة توجهها لي، ولروائح أطعمتها الشهية التي توحي بأم حريصة على تزويد أبنائها بتغذية سليمة، ولملابس الأطفال التي اعتادت أن تنشرها كل يوم تقريباً على حبل غسيلها.

شعرت بالتعاطف معها وقررت أن أزورها في اليوم التالي متعللة بأي حجة، رغم معرفتي بأنها نظراً للبارانويا التي بدت واضحة عليها ونظراً لخروجي المفاجئ من شقتها ربما تظنني جاسوسة لطليقها عليها.
في الصباح وجدت نفسي واقفةً أمام الشقة الواقعة أسفل شقتي. طرقت الباب ثلاث طرقات خفيفة، ففتحت لي امرأة فى حوالي الخمسين ترتدي ملابس بيت قطنية وتبتسم ابتسامة مرحبة. سألتها عن..... عن ..... اكتشفت أنني لا أعلم اسم جارتي فوصفتها لها وقلت إنها تسكن هذه الشقة.

أخبرتني المرأة الخمسينية أنها تسكن هنا مع ابنتها الجامعية منذ عشر سنوات، ولا تعرف عمّن أتحدث. بدا عليها نفاد الصبر وهى ترمقني بنظرة متشككة. فاعتذرت وأنا أغادرها محرجة.



***


كنت أتابع المرأة غريبة الأطوار التي تسكن في الشقة التى تعلو شقتي، دون أن أتكلم معها. اعتدت أن أقابلها  من وقت لآخر على دَرَج البناية، كانت دائما في عجلة من أمرها، تهبط درجات السلم أو تصعدها عدواً كأن هناك من يطاردها.
امرأة في الثلاثينات تقريباً بجسد ضئيل وملامح منمنمة، تترك شعرها الطويل منسدلاً على كتفيها، وترتدي ملابس قصيرة وأحذية ذات كعب عالٍ بدرجة ملحوظة.

حرصت على تجنبها منذ البداية إذ بدت لي غير متزنة بعض الشىء سمعتها أكثر من مرة تحادث نفسها وهي تصعد أو تهبط، كنت فقط أتبادل معها تحية الصباح أو المساء حين أقابلها على الدرج فترد دون أن تنظر إليّ ثم تواصل همهماتها غير المفهومة.

كان من الممكن أن تظل كغيرها من الجيران بالنسبة لي، فعدم اتزانها يخصها وحدها طالما بقيت مسالمة وغير عدوانية، غير أنني بدأت أتضايق من الجلبة التي تصدر بشكل دائم عن شقتها رغم معرفتي بأنها تسكن وحدها. كانت هناك ضوضاء ناجمة عن بكاء أطفال صغار وشجارهم مع بعضهم البعض. وصوت امرأة تبدو كما لو كانت أمهم تعنفهم وتصرخ فيهم بشكل دائم.

حين شكوت لحارس البناية وطلبت منه أن يبلغها بانزعاج الجيران من الأصوات المرتفعة الصادرة من عندها ليل نهار، فوجئت به يخبرني أن جارتي غير المتزنة نفسها اشتكت من تلك الضجة مؤكدة له أنها تصدر من شقتي أنا!!

ذات يوم كنت على وشك الصعود إليها كي أبدي لها انزعاجى وعدم استطاعتي النوم بسبب صخبها، إلا أنني وجدتها هي من يطرق بابي لتسألنى عن امرأة ضئيلة الجسم ترتدي العباءة والحجاب مدعيةً أنها تسكن شقتي.

أصبت بالذهول، وأنا أراها تلفق هذه الادعاءات السمجة، فالمرأة ذات العباءة والحجاب تشبهها هي تمام الشبه لدرجة تصورت معها حين رأيتها للمرأة الأولى أنها توأمها وتسكن معها، إلا أن البواب أخبرني أنه لم ير الاثنتين معاً ولو لمرة واحدة، وأنه يعتقد أنهما الشخصية نفسها.

تمالكتُ أعصابي واكتفيتُ بقول إني أسكن هنا مع ابنتى وحدنا منذ عشر سنوات ولا نعلم شيئاً عن المرأة التي تسأل عنها. بدا اندهاشها حقيقياً وهي تسمع مني ذلك. كانت على وشك أن توجه لي أسئلة أخرى، فأمسكتُ بالباب كأني على أهم بإغلاقه وأنا ابتسم لها بود مصطنع فغادرتْ محرجة.


***

لا أعرف على وجه اليقين من أوصلني إلى هذا المكان القبيح، لكني أعتقد أن المهووسة ذات العباءة السوداء والملامح الدقيقة لها علاقة بالأمر، أو قد تكون المرأة الخمسينية التي وجدتها تسكن في شقتها بدلاً منها.

أريد العودة إلى بيتي وعملي من جديد. لن أزعج أحداً مرة أخرى رغم تيقني من أنني لم أزعج أى أحد في المرة الأولى. لماذا لم يصدقوني حين أخبرتهم أن المرأة الهستيرية التي تسكن أسفل شقتي هي من يزعجهم؟
وجود عباءتها وملابس أطفالها في دولاب ملابسى لا يثبت أي شىء. يجب أن يصدقوني. يمكنهم أن يتصلوا بطليقها الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة كي يؤكد لهم جنونها هي لا أنا.


مارس 2009



Monday, April 14, 2014

The current situation is untenable




Qantara/ 10-4-2014

For the renowned Egyptian journalist and writer Mansoura Ez-Eldin, the revolution of 2011 provided literary fodder for essays, short stories and now a new novel. Arian Fariborz spoke with her in Cairo.

Your novella "Gothic Night", recently published in English translation, reads like dark fiction in the Orwellian vein. Some readers see the story as an allegory of being unable to escape the clutches of a dictatorship and draw parallels to the political situation in Egypt on the eve of the revolution. Do you agree with this interpretation?

Mansoura Ez-Eldin: In this short story, there is not only one way of seeing things but multiple viewpoints and possible interpretations. In "Gothic Night", I wanted to show how people lose control of their destiny. The novella also reveals the break-off of communication between two people. The inspiration for this story came to me in a nightmare I had a few years ago in which I encountered a big black giant in a cloak running around the streets and pointing at people, who then disappeared. When I awoke with a start, I had the feeling that the dream reflected our lives, that we can simply vanish or die from one moment to the next. It revealed human vulnerability to me.
The story is about two cities. In one of them lives a giant who is blind and who takes away people's ability to see. The other city is on a mountain rising above a stormy sea, and the people there have to continually struggle not to fall into the water. It's all about the constant fight for survival and the omnipresence of death.
Of course, "Gothic Night" can be read as an allegory of dictatorship: I had in mind a society suffering under tyranny and gradually threatening to suffocate. I wrote the story two weeks before the revolution in Egypt, and at that time I indeed had the feeling of slowly suffocating. I had no hope left for the future of our country. My new novel, "Emerald Mountain", which came out in Arabic two months ago, takes up part of this novella, albeit in a different context.


In the early days of the 2011 revolution in Egypt, Mansoura Ez-Eldin was convinced that "we as individuals and as a people could take our destiny into our own hands and change our country and the world". Three years on, the author feels that the current situation is untenable "because all the problems and injustices that already existed before the revolution exist again today"

The Egyptian revolution and the overthrow of the Mubarak system wrested you away from your desk. You went to Tahrir Square in Cairo almost daily to demonstrate with millions of other Egyptians for freedom and democracy. What was your personal experience of the upheaval?

Ez-Eldin: Before the beginning of the revolution, I was in a state of despair. I no longer seriously believed that real change could happen in view of all the repression and the torture scandals such as the case of the activist Khaled Said in 2010. I had the feeling that we were living in a slaughterhouse and not in a state that respects the law and personal rights. But then there were finally some signs that things were changing.
Before 25 January 2011 I was not very politically active, as I generally had no interest in politics. I thought it was all a farce: there was no real opposition and Orwellian conditions prevailed. Everything was a sham, and even the politicians' declarations of their intent had absolutely no truth to them. The revolution therefore seemed like a miracle to me. On the evening of 25 January, I found myself in tears. When I then finally took part in the demonstrations, I suddenly felt very strong as an individual. I was convinced that we as individuals and as a people could take our destiny into our own hands and change our country and the world. I naturally got involved in the revolution mainly because of my daughter, who was eight years old at the time, because I wanted her to live in a better country than I had up until then.
The turning point for me was 28 January 2011, the "Day of Rage". Some friends and I had taken part in a demonstration against Mubarak that began in the Amr Ibn al-Aas mosque. It was a peaceful protest, but the police responded from the very first minute with all-out brutality and violence. Tear gas and rubber bullets were fired at the protesters. It was a very violent day, and I noticed how that affected me very profoundly and enraged me. I felt an almost personal enmity against the regime and this oppression rise up in me.

Was the January revolution the initial spark for a new literary boom in Egypt, or had the trend already begun at the end of the "leaden days" of the Mubarak era?

Ez-Eldin: The literature boom already started under Mubarak, manifesting itself mainly in blogs by young writers, who regularly published posts. The revolution was the legacy of this multifaceted development in the media and on the literary scene. Many of the bloggers later became politically active. There was of course the same rigid censorship and media control back then that there is now, although censorship has social as well as political roots.


Graffiti depicting representatives of the nationalist Urabi movement in Egypt. According to Mansoura Ez-Eldin, literature in Egypt began changing before the 2011 revolution: "Many writers had long since left the old idols and traditional values behind them and gotten over their grief at the demise of the old nationalism. A new generation of writers and bloggers came of age who saw themselves as 'children of the world'," says Mansoura Ez-Eldin

Despite the censorship, however, the younger generation of writers in particular demonstrated a great deal of courage, breaking many taboos. Publishers such as Mohamad Hashem were very committed in this respect and deliberately encouraged these developments. This then served to inspire further writers.
But the new Egyptian literature had already been undergoing a transformation prior to the revolution. Many writers had long since left the old idols and traditional values behind them and gotten over their grief at the demise of the old nationalism. A new generation of writers and bloggers came of age who saw themselves as "children of the world". And they were the ones who from the outset determined and shaped the rhetoric of the revolution. After the revolution as well, though, new media such as Facebook ushered in a major turning point. Today, there are authors who write completely differently to the generation before the revolution. These are young people who have experienced a great deal in two years. They have been through a social and political earthquake and have freed themselves from many constraints that were formerly taken to be God-given.

The spring of blossoming freedom for Egypt's literary and media talents proved to be short-lived. Today, the familiar old red lines are in place again for independent authors and journalists who are critical of the regime. How did this happen?

Ez-Eldin: When Mohamed Morsi took office, I had the feeling for the first time that freedoms were being restricted. He initially had no control over the media. In December 2012, however, there were many protests, deaths and cases of torture. Media freedom was then gradually restricted step by step after the end of Morsi's rule on 30 June 2013. Since then,there has only been a single voice in the media landscape, and the other mass media are left merely to sing along in harmony. Other shades of meaning are not tolerated.

You once said that the revolution is an ongoing process, so that setbacks for democratic development in Egypt are understandable. Do you think the liberal and secular forces in the country will be able to change course again and steer the country in the direction of democracy?

Ez-Eldin: Today, when I look back at what I wrote in my articles in 2011, my former optimism is almost embarrassing to me. I think that the current situation is untenable – because all the problems and injustices that already existed before the revolution exist again today. I'm afraid that the next wave of the revolution will be more violent, more than we can bear – a confrontation that sweeps away and extinguishes everything in its path. It is like a fight between a player and a madman, where no one knows who the enemy is.

Interview conducted by Arian Fariborz

© Qantara.de 2014

Translated from the German by Jennifer Taylor

Editor: Aingeal Flanagan/Qantara.de

Mansoura Ez-Eldin, born in 1976 in Egypt's Nile Delta, studied journalism at the University of Cairo and worked at "Akhbar al-Adab", one of the foremost literary magazines in Egypt, until August 2011. Her novels have been translated into several languages. In 2010, she was named one of the best Arabic-speaking authors under 40. That same year, she was the only woman nominated for the International Prize for Arabic Fiction. She published her first collection of short stories, "Flickering Light", in 2001. This was followed by three novels, "Maryam's Maze" (2004), "Beyond Paradise" (2009) and "Emerald Mountain" (2014).

 

 

Thursday, April 10, 2014

قاهرة المعز


منصورة عز الدين

لسنوات طويلة اختزلتُ القاهرة في قاهرة الخديوي إسماعيل، التي لطالما نظرت إليها باعتبارها توق المدينة إلى التحديث واللحاق بركب العالم المتقدم. أرادها إسماعيل "قطعة من أوروبا"، وفي خضم حماسته لتحقيق حلمه، لم يتأمل ماضي المدينة المتمثل في القاهرة الفاطمية، حيث شارع المعز وما يحتويه ويحيط به من مبانٍ وآثار فريدة، ولو فعل لربما اهتدى إلى وصفة ما لوصل ما انقطع ولاستلهام التراث المعماري القديم والاستفادة منه من دون التخلي عن حلمه الأصلي، لو فعل هذا لربما انسجمت القاهرة الفاطمية مع محيطها ولو بعد مرور قرون عديدة على إنشائها.
اعتدت المرور بالقاهرة المُعِزيّة من دون التفكير فيها أو تأمل فرادتها مقارنة بما يحيط بها من أحياء، وأعترف أني لم أفطن لها جيدًا سوى في مرآة "دمشق القديمة"، حيث تجولت – قبل سنوات - لساعات بصحبة الصديق الروائي ممدوح عزام، وفي الحال حضرت القاهرة الفاطمية في بالي، لم تلفتني أوجه التشابه بين مدينتين عريقتين مبنيتين على النمط الإسلامي، بقدر ما شدتني الاختلافات. هناك بدت المدينة القديمة جزءًا من المكان، منسجمة معه ومنفتحة عليه؛ لا توتر ولا غربة عن السياق المحيط. أما في حالة القاهرة المُعِزية، فرغم قيمتها التاريخية، أشعر أن ثمة جدارًا غير مرئي يفصلها عمّا يجاورها؛ كأن لحظة التأسيس (كعاصمة إسلامية) ظلت ماثلة في الحالتين، لتسم روح كل مدينة من المدينتين على مر الزمان.

حين وضع الأمويون بصمتهم على دمشق واختاروها عاصمة لخلافتهم فعلوا هذا بثقة الفاتح المنتصر المحاط بمؤيديه والباطش بمن اعتبرهم أعداءً له، لكن الفاطميين حين نجحوا في تأسيس عاصمتهم ومن ثم دولتهم في مصر فعلوا هذا وفي نيتهم تحصين أنفسهم ضد محيط لا يأمنون له، إذ قد ينقلب عليهم في أي لحظة، لذا اختار لها قائد الجيوش جوهر الصقلي بقعة بين جبل المقطم من جهة والخليج الكبير من الجهة الأخرى، وحرص على الاهتمام بسورها وقصَرَها في سنواتها الأولى على سكنى الخلفاء الفاطميين ورجال دولتهم وجنودهم وعبيدهم. بشكل ما، كانت مدينة تحتفي بالسر والتقية وانعكس هذا في تصميمها وعمارتها، وليس أدل على هذا مما كتبه قديمًا الرحالة والمؤرخ الفارسي ناصر خسرو في وصفه للقصر الكبير للخليفة الفاطمي: (ويبدو هذا القصر من خارج المدينة كأنه جبل لكثرة ما فيه من الأبنية المرتفعة, وهو لا يرى من داخل المدينة لارتفاع أسواره, وهذا القصر يتكون من اثني عشر بناء, وله عشرة أبواب فوق الأرض, فضلا عن أبواب أخرى تحتها, وتحت الأرض باب يخرج منه السلطان راكباً, وهذا الباب على سرداب يؤدي إلى قصر آخر خارج المدينة, و لهذا السرداب الذي يصل بين القصرين سقف محكم, وجدران القصر من الحجر المنحوت بدقة, تقول إنها قُدَّت من صخر واحد!).

Wednesday, April 9, 2014

طيف الصقلي



منصورة عز الدين

خرجتُ من بناية "وهبة" ليواجهني شارع شبه معتم لم أتعرف فيه على "قصر النيل" الذي أكاد أحفظ معالمه. بدا متعرِّجًا لا مستقيمًا كعهدي به، أسير فأراه مغلقًا من بعيد، وحين أصل إلى النقطة التي ظننتها نهايته أُفاجأ بانفراجة تقودني إلى الأمام. كانت الإضاءة خافتة، والبنايات مغايرة لحقيقتها، إذ استحالت حصونًا تحتضن تعرجات الطريق، فتبدو كمبانٍ تُشكِّل نفسها وفقًا للفضاء المحيط. كل شيء كان مغلفًا بغلالة داكنة أوحت لي بأن هذا الجزء من المدينة أضحى "نيغاتيف" صورة فوتوغرافية.
خطوتُ كما لو في حلم، أو وجود مُفلتر. العالم من حولي تحول إلى مشهد بصري مهتزّ، لا يرافقه أي صوت. أفكاري نفسها تبخرت، ولم أعد سوى ظل لأصلٍ مفقود.
شعرتُ كأنّي ولجت مساحة زمكانية مخفية من المدينة التي كلما ظننت أني صرت من أهلها أعود لأكتشف جهلي بها.  لم يعتريني خوف، بل رغبة في الفهم مصحوبة بعدم ارتياح. كنت واثقة من أنني لا أحلم، وضاعف هذا من انزعاجي. خُيِّل لي أن القاهرة  تهمس ساخرةً أني لن أعرفها، سأعيش فيها كعابرة سبيل، كمخمورة لن تستفيق أبداً.

اختفى الناس كأنّ عاصفة اقتلعتهم من الشارع. كأنهم لم يكونوا قط.

"في البدء كانت الأحجار وفي المنتهى ستبقى. الأحجار وحدها ماضي المدينة ومستقبلها!" كدت أقول هذا، لكني لم أقو على النطق. في لحظتي تلك لم يكن هناك صوت ولا صدى، فقط سكون تام. لبرهة فكرت أني غير موجودة، مجرد فكرة خطرت للطريق عن امرأة تسير فيه كأنما تحلم، غير أن سؤالًا لمع في رأسي؛ فكثَّف وجودي وجعله ملموسًا: أين أنا؟ وكيف أعثر على نقطة مألوفة؟!


هرولت بينما أتحاشى النظر يمينًا أو يسارًا، حتى وصلت إلى ميدان "مصطفى كامل"، فعادت المدينة كما اعتدتها، بناسها وضجيجها الليلي والمشاعر المتناقضة التي تثيرها بداخلي. احتضنتْ صورتها كمدينة منتشية بنفسها حتى الثمالة، وغير مكترثة بالعابرين في دروبها ممن تنظر إليهم كمجرد لحظة عابرة في تاريخ ممتد لعشرات القرون، وتختال عليهم بكل حجر قديم فيها، بل حتى بالغبار المتراكم على بناياتها العتيقة والعوادم التي تلوث هواءها.

* مقطع من "طيف الصقلي".. رواية قيد الكتابة نُشِر الفصل الأول منها بالعربية والإنجليزية في دورية "البوابة التاسعة عدد خريف 2013.

Monday, April 7, 2014

ترحال


منصورة عز الدين

أحب التوهان في المدن التي لا أعرفها، والسير لأطول وقت ممكن دون خرائط (لا أجيد التعامل معها على أية حال)، ودون خطط معينة في رأسي. عادة ما أخصص يومي الأول للتعرف على المدينة بمفردي بلا شرح أو دليل، ثم إذا سمح وقتي، أعود للأماكن نفسها مع أحد العارفين بها، لأقارن إحساسي بها مع "حقيقتها".

اكتشفت تدريجياً أن أكثر المدن بقاءً في نفسي هي تلك التي أتعرف عليها دون دليل. برلين التي تهت وتسكعت فيها مراراً مع زهرة، وكتبت المشهد الأول من "وراء الفردوس" في فندق صغير على مقربة من "ألكسندر بلاتس"، وعدت إليها بعد خمس سنوات لأتعرف على وجه آخر من وجوهها. وبراغ التي لطالما اعتبرتها واحدة من مدن أحلامي مثلها في ذلك مثل بوينس أيرس وموسكو وشيراز وبغداد.

ودوسلدورف التي تعرفت عليها مع عباس بيضون وتجولنا فيها لساعات مهتدين بنهر الراين، مخترعين تفسيرات للتماثيل التي نقابلها، بينما نتحدث عن الفن التشكيلي من حامد ندا حتى أندي وارهول.

مع الوقت يصبح السفر والانتقال من مدينة لأخرى بمثابة لعبة مع الذاكرة وبالتالي مع النسيان. مدن عديدة مررت بها، بعضها ليوم واحد فقط، وبعضها لأسبوع أو أكثر، وفي النهاية تبقى شذرات غامضة من كل مدينة. لا أستطيع القول أني زرت هذه المدن، أو أنني تعرفت عليها، فقط مررت بها كعابر سبيل، حاولت القبض على قبس منها، على لمحة من وجودها المتغير والمهتز، ولأني متشككة بطبيعتي، سأظن أني اختلقت هذه المدن، واخترعتها اختراعاً، بحيث حصلت في النهاية على نسخة تخصني وحدي.

حين كتبت عن جزائر البهجة كما يطلق عليها مواطنوها، شعرت بنزعة إكزوتيكية تغلف كلماتي، واعترض صديقي الجزائري على رؤيتي للمدينة كمعرض للهويات المتجاورة، رغم أن فعلا بسيطاً كارتدائي حلي قبائلية من الفضة في شارع ديدوش مراد دفع البعض للظن أني قبائلية، كأن أي إشارة بسيطة تصبح فعل إشهار لهوية ما في مواجهة الهويات الأخرى.

"الفكرة في شبهك من ناحية الشكل بالأمازيغيات لا في الحلي الفضية نفسها"! قال صديقي دون أن يفسر لي لماذا لم يبدأ المارة في الكلام معي بالأمازيغية متوقعين أن أفهمها وأرد بها إلاّ بعد خروجي من محل الفضة بالقلادة والسوار القبائليين.

كنت أتحدث عن نسختي المخترعة من الجزائر، فيما يتكلم هو عن مدينة طفولته وصباه التي اضطر لمغادرتها خلال العشرية السوداء ولم يعد إليها بعدها إلاّ لماماً.

في ثاكاتيكاس تذكرت الجزائر، المدينة الصاعدة ابداً الهابطة أبداً، كما وصفها رشيد بوجدرة. في المدينة المكسيكية ثمة جبل (جبلان تتوسطهما المدينة)، تكسوه الأشجار، وشوراع صاعدة هابطة، وبيوت على النمط الكولونيالي.

في الحقيقة، قد لا يوجد شبه فعلي، إنما هي ألعاب الذاكرة، ورغبتها في اختلاق خطوط وهمية بين أشياء وأماكن أحببتها. هي الألعاب نفسها التي دفعتني لتذكر أشبيلية طوال وجودي في ثاكاتيكاس، لكن هذه المرة ثمة روابط أكثر متانة بين المدينتين، كون ثاكاتيكاس من المدن الكولونيالية في ما يُعرف بأسبانيا الجديدة، ومبنية على النمط الأسباني.

Sunday, April 6, 2014

البوابة التاسعة: كتابات عربية وروسية معاصرة




فادي طفيلي

تبدأ البوّابة التاسعة في عددها الثالث هذا اختبارًا جديدًا يمكن تلخيصه بالآتي: تَقَدُّمٌ من إطار الثيمة الواسعة، التي كنّا بدأناها في عددينا الأوَّلين، إلى ما هو أكثر تفصيلًا وقُربًا، إلى النمط الإبداعي الذي يواكب اهتماماتنا الثقافيّة المدينيّة ويُغنيها (كتابة كان هذا النمط أم إنتاجات أخرى). وهذا يعني وضع إيقاع لتسلسل أعداد البوّابة التّاسعة الصادرة مرّتين في العام، مع كلّ خريف وربيع. إيقاعٌ يسير متنوّعًا مع كلّ إصدار، قوامه عددُ ثيمةٍ مُعتاد واسع، يليه عدد “نمط”، مُتكيّف في شكله مع موضوعه ... وهكذا.

إلى هذا الاختبار في الشكل الجديد، المُتكيّف مع النمط المطروح، قرّرنا البدء بما ارتأيناه متقاطِعًا مع ما كنّا بدأنا به عددنا الأوّل – “المُتخيَّل” – الذي استكتب باحثين وأكاديميين وكتّاب، مُستطلعًا رؤاهم في المدن. فاخترنا الآن نمط السَرْد، لما فيه من أبواب مُشرعة للاختبار بالكلمة المكتوبة والخيال الخالص.

وما قمنا به في الحقيقة مثّل مغامرة استثنائيّة تُشعرنا بشيء من الرضا. فها نحن سبّاقون كمجلّة تُعنى بشؤون المدن والعمران والأمكنة، في حثّ الروائي حسن داوود على كتابة رواية كاملة باللغة العربيّة، وسبّاقون في ترجمتها بالتوازي مع كتابتها، ومن ثمّ نشرها في وقت واحد بلغتين، العربيّة والإنكليزيّة، وذلك ضمن مهلة مُحدّدة لا تتعدّى الأشهر الستّة. وهذا للعارفين وقتٌ قياسيّ.

وما أغنى تجربتنا في هذا السياق، كان اختبارنا التواصل مع روائيّ في وقت زامن كتابته لنصّه وهندسته إيّاه، ومرافقتنا لما يكتب، فصلًا فصلًا. فكنّا نقرأ الفصول تواليًا، ونمرّرها إلى المُصممين وإلى المترجمة، لينا مُنذر، لمباشرة العمل عليها بالتنسيق مع المحرّر العام للمجلّة.

الرواية لكاتب لبنانيّ كان افتتح في مطلع الثمانينيات موجة “رواية المكان” في الأدب اللبناني الحديث بعمله المشهود “بناية ماتيلد”، تلك الرواية التي دفعت بصوت الحرب والقضايا الكبرى، المدوّية في بيروت آنذاك، إلى الخلفيّة كي تُصدّر صوت المكان ونبض كائناته الحيّة من بشر وأبنية. وهو تابع هجسه بما تؤول إليه المدينة بكتب أخرى بينها “نزهة الملاك” و”غناء البطريق”. الروائي نفسه اليوم يكتب نصًّا يوحي جزء كبير من أجوائه بوسط مدينة بيروت الجديد، الناشئ بعد الحرب، والذي ما زالت جِدّتُه مُستعصية على الخيال الكتابي لكثيرين.

إلى حسن داوود، المهجوس في “نَقِّلْ فؤادَكَ” بالعمر والبحث عن حب مستحيل ضائع، وبالمكان والبدايات التي لا تنفكّ تتناسل، مُطلّة برأسها من هنا وهناك، اخترنا نصوصًا لكتّاب من جيل كتابيّ – فنّي مُختلف ومُتفرّق، لكن مُتفاعل ومتواصل في خيط حساسيّات “صغيرة”، نابضة من الداخل في كوامنها. وهذا الاختيار تمّ على نحو تلقائي، اعتمادًا على الانحياز لهذه الحساسيّات التي لا تُقصِر استعراضها عند القشرة الخارجيّة ويستهويها البقاء هناك، بل تبدأ بالحفر في كلّ شيء، بدءًا من الذات والآخر، وصولًا إلى المكان الذي يُحيطهما. فتُقدّم هذه النصوص المختارة اختبارات مُلفتة توغل في لغة الجسد والتفاصيل (حسن داوود)، وفي المدينة المحجوبة المُكتنفة بالأسرار (منصورة عزّ الدين)، كما في ملامسة الأغراض الحميمة واللفتات والأنفاس والرعشات (إيرينا بوغاتيريفا) والرقّة الإنسانيّة والبراءة وهشاشة الفرد المُنكشف (أرسلان خسافوف ويزن خليلي). إذ أنّ الجميع يحيا في زمن خفتت فيه الشعارات الهادرة، المُنمّقة، والقشرويّة، والفرد أصبح هو “ذاته” فقط من دون تنميق. “لم تعد الشعارات القديمة عن كرامة العمل طنّانة كما في السابق”، يكتب أرسلان خسافوف، على لسان بطله أرتور، الشاب العشرينيّ، “الروسي” المسلم الداغستاني، المُطارد الأب، والباحث عن عمل في موسكو ربّما يقرّبه قليلًا من حلمه المثالي عن نفسه ككاتب موهوب. و“كلٌّ حرٌّ بتصرّفاته”، تكتب إيرينا بوغاتيريفا وتكرّر جملتها هذه كمحطِّ كلام بين الفينة والأخرى على لسان بطل نصّها، ذاك الدليل السياحي الرصين الذي يحاول تأدية وظيفته بانفصال عن مشاعره الشخصيّة تجاه مجموعات السيّاح المتبدّلة في كلّ مرّة، والتي يقودها ذهابًا وإيابًا من روسيا عبر البلدان الإسكندنافية. علمًا أنّ “حريّة التصرف” تلك قد تتضمّن، في بعض الأحيان، اختفاءً طوعيًا أبديًا (انتحارًا؟).

والواقع أن الجهد الذي بذلته البوّابة التاسعة للوصول إلى كتّاب من خارج الفضاء الثقافي العربي، يُمثّل أيضًا مغامرة تعلّمنا منها. فبالرغم من الجهد المُضاعف في هذه المُهمّة، والمُتمثّل في الترجمة من الروسيّة إلى الإنكليزيّة فالعربيّة، فإننا على الأقل طرقنا بابًا يُهمل طرقه في العادة، ليس فقط من قِبل المتكلّمين بالعربية، بل أيضًا من قبل الغربيين وسواهم. إذ ثمّة ما يشبه الخدر التاريخيّ المُطمئنّ إلى الحضور الراسخ للتراث الكلاسيكي الروسي العالمي (بوشكين، دوستويوفسكي، تورغينيف، تولستوي، ...)، وذلك على حساب روسيا الجديدة، أو روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي. وهذه بحسبنا، على الأقل بالنسبة لنا في العالم العربي، بات اكتشافها أكثر إلحاحًا من ذي قَبلٍ، لما أظهرته أحوالها المستجدّة من وقائع شديدة التقاطع مع وقائع منطقتنا. فروسيا الجديدة هذه، التي اختبرنا في الأشهر الماضية مقدار تأثيرها في الجغرافيا السياسيّة لمنطقتنا، رغم حضورها الثقافي الصامت والملتبس مقارنة بالحضور الغربي المُتعدد، هي روسيا أزمات تكاد تحاكي أزمات عالمنا، من أوليغارشيات التحكّم بالغاز والنفط، إلى مظاهر الدولة البوليسيّة واغتيال الصحافيين واختفاء المعارضين واضطهاد المثليين، وصولًا إلى السؤال القوقازي –  الإسلامي والإثني. كما أنّها بلاد كبيرة مُتنوّعة شهدت، خلال العقدين الأخيرين، بروز حيويّات جديدة لم تعد مُقتصرة على المدن المركزيّة الكبرى، كموسكو وسان بطرسبرغ، بل تعدّت في حراكها إلى مدن أخرى، مثل كازان (حيث ولدت إيرينا بوغاتيريفا) في تتارستان، وسوتشي على ساحل البحر الأسود.

الكاتبان اللذان نقدّمهما في عددنا هذا، هما بالضبط من هذه الروسيا الجديدة (أرسلان خسافوف هو تمامًا مثل بطله التراجيدي أرتور، من إثنية الكوميك المسلمة)، وهما يعكسان تلك النزعة الروسية القائمة على المزيد من البحث والحراك والتنقّل إثر انهيار الستار الحديدي في مطلع تسعينيات القرن العشرين.

والواقع إننا نضع تجربة هذين الكاتبين الروسيين الجديدين، بالتماس مع تجربة جيل كتابي – فنّي عربي متنوّع، هاجسه اختراق عبث الوقائع المتيبّس ومداعبته تهكّمًا (يزن خليلي)، والعبور في طبقات العيش والمكان المتراكمة للوصول إلى “التفاصيل الصغيرة المخفيّة”، على ما تكتب منصورة عزّ الدين في “طيف الصقلي” على لسان بطلها  المعماريّ، “الذي ترافقه القاهرة الفاطميّة كهوس قديم”.


ونحن في هذا السياق لا ننشر رواية ومجموعة من القصص وحسب، بل إننا نتسبب في إيجاد روايتين اثنتين. فإلى “نَقِّلْ فؤادَكَ” لحسن داوود، ها هي الكاتبة المصريّة منصورة عزّ الدين تنطلق من النصّ الذي خصّته للبوّابة التّاسعة، إلى كتابة رواية كاملة بطلها معماريّها القاهريّ ذاك، الذي يظهر في الأحلام مُطِلًّا من نافذة في “رمسيس هيلتون” ليرمي أوراقًا مثل شهبٍ تنطفئ بملامستها الأرض.



افتتاحية عدد خريف 2013 من دورية البوابة التاسعة

* طيف الصقلي رواية قيد الكتابة