Sunday, January 26, 2014

نيران.. راقصة في سياتل.. متأججة في القاهرة

منصورة عز الدين


في سياتل، المدينة الخضراء، تنمو حياتي بمعزل عني.
هناك، ثمة حياة لم أعشها، حياة عافتها نفسي. في هذا الحر القاسي، في ضحى يتمدد على مهل، ورطوبة مخيمة، يحلو لي تخيل أن حياتي الأخرى تُعاش وحدها، في تلك الجزيرة المنعزلة القريبة من سياتل. أتخيل كوخاً صغيراً في غابة ممتدة، مطراً غزيراً لا يكف عن الهطول، ومدفأة تتأجج فيها النيران في قاعة مؤثثة بأثاث عملي. هي المدفأة نفسها التي كانت في رسالة وصلتني من صديقة تعيش في سياتل. كتبت أنها فكرت فيّ، صبيحة يوم 29 يناير، بينما البرد يكاد يجمد أطرافها، ولا تفلح الحرارة المنبعثة من مدفأتها في قهره أو تخفيف تأثيره. حكت أنها صحت من نومها مبكرة، جهزت إفطار الحبوب الذي تفضله، شربت عصير البرتقال وقهوة الصباح، وحين أدارت التلفاز عرفت أن مدينتي عاشت ليلتها السابقة في مرمى الجنون.
خرجت مسرعة، سارت وحدها على الخليج القريب. جلست فوق مقعد خشبي محروسة بأصوات النوارس ورائحة اليود المغلفة للهواء. وراحت تفكر في صديقة، لم تقابلها بعد، مرت بليلة مشتعلة.
لم تصف "صديقتي" نيران مدفأتها بالمتأججة، بل بـ"الراقصة" لتعكس بذلك ثقافة تُعلي من قيمة المتعة والابتهاج. لكني - بينما أكتب عنها الآن- وجدت نفسي أستخدم، بلا وعي، وصف متأججة، كأني بهذا أصف القاهرة التي اشتعلت بالحرائق مساء 28 يناير، أو المنطقة الملتهبة بالثورة من سوريا إلى اليمن وليبيا والبحرين.
كتبت صديقتي أيضاً إنها شعرت بالذنب، بسبب حياتها المرتبة وأصوات النوارس، وكل هذا الجمال المحيط بها، وإنها تنتظر إقامتي الطويلة هناك خلال الصيف، وتتمنى أن تمكنني "ظروفي" من السفر.
وجاء الصيف، ولم يكن ثمة ما يعوق سفري، إلا هذا الهوس الجديد بالبقاء حيث أنا، كأن مغادرتي لهذا الحيز المكاني سينتج عنها ما لن أطيقه. هكذا، فجأة، وفي اللحظات الأخيرة، حسمت أمري. سأبقى هنا. لم أعتذر، لم أرد على الرسائل الكثيرة التي وصلتني. تظاهرت أنها موجهة إلى أخرى، وواصلت تشّربي لكل ما يحدث حولي.
أوقات كالتي نعيشها تجعلنا نظن، بدون وجه حق، أن الآخرين مدينون لنا بشيء ما. مدينون بأنهم لم يعانوا مثلنا، لم يختبروا لحظات كالتي اختبرناها، لم يقفوا على حافة وجودهم على وشك السقوط في هوة العدم. ملاعبة الخطر تورث نوعاً من الصلف. نقنع أنفسنا، ونحن نعيد ترتيب وجودنا وحياتنا، أننا لسنا مدينين لأحد باعتذار ما. يمكننا أن نستمر هكذا، في القفز فوق الوقت والعادات المستقرة منذ سنوات، القفز فوق حدود اللياقة والمتوقع منا، ومواصلة الانهماك في عجلة لا تتوقف يسمونها "الثورة". ثورة على ذواتنا في الأساس والمستقر فيها.
في المقابل، نستشعر ذنباً خفياً بينما نتابع، عاجزين عن المساعدة، معاناة من تعذبوا أكثر منا. يجلدنا وجه زينب الحصني بوادعته وكبريائه الهادئ. تؤلمنا البسمة الخافتة على شفتيّ حمزة الخطيب. مجرد وجودنا في عالم يسمح بقتل الأبرياء وتعذيبهم بوحشية يخبرنا بأننا شركاء في الجريمة.
صديقتي العزيزة في سياتل. ربما نلتقي يوماً ما لأحكي لكِ الكثير عن أحمد بسيوني الذي رقص قبل عشر سنوات في حفل زفافي. عن زينب الحصني، وحمزة الخطيب، وإبراهيم قاشوش، وكثيرين غيرهم. ستفهمينني حتماً حين أحدثك عن نيران غير مرئية تلتهم روحي من الداخل حين أطالع وجهي في المرآة فأكاد لا أتعرف عليه. أراهم يسكنونه ويتعاقبون عليه، فلا أجرؤ على إغماض العينين كي لا يغادرني ألمهم/ ألمي.
في المرات القليلة التي غادرت مصر فيها بعد الثورة كنت لا أغادر فعلياً. هناك في براغ، مالمو، أو ويلز كنت أصطحب كل هذا الألم معي. أتأبط هذه المنطقة الصاخبة فلا أرى في المدن البعيدة إلا مرايا تعكس الوجع نفسه.
في مايو الماضي، مثلاً، تركت مصر وهي تغلي بعنف طائفي. كانت محاصرة بوجوه ملتحية غاضبة تصرخ لنصرة الأخت "كاميليا"، أو "وفاء" أو "عبير"، فالأسماء لا تهم طالما تحوّل أصحابها إلى ورق لعب بين الأطراف المتصارعة. وعدت لأجد طوابير الواقفين أمام محطات الوقود بحثاً عن السولار. سائق الليموزين الناقم أخذ يحكي، طوال الطريق من المطار إلى بيتي، كيف كان يعمل قبل شهور في شركة متعددة الجنسيات أغلقت أبوابها فأضطر للعمل كسائق. لم يكن يشكو بقدر ما كان يحاول افهامي أنه، الآن، في المكان الخطأ، وأن إمكاناته ووضعه السابق يؤهلانه لما هو أفضل. قطع كلامه وسألني فجأة: لماذا لا نعطي المشير فرصة؟!
لحظتها أبصرت في وجهه كل ارتباكات وتناقضات المدينة المثقلة التي نعيش فيها.
المدينة التي تركتها منهمكة في صناعة فرعون جديد، وعدت لأجدها تواصل ما بدأته بتفانٍ مثير للاهتمام. المشير طنطاوي كان يتكلم، عبر الراديو، عن نسيان الماضي أو تجنيبه فلا أفهم ماذا يريد أن يقول بالضبط. اللغة متلعثمة والأفكار تلاكم بعضها بعضاً من شدة تناقضها.
سائق الليموزين، لم ينشغل بمتابعة خطاب المشير. فقط كان ينتظر إجابتي كأنها، وحدها، ما سيقرر مصير البلد.
لم أرد. هززت رأسي بطريقة العازف عن الكلام، وتشاغلت بالنظر من النافذة.
كوسيلة للهروب من الواقع، رحت أفكر في روايتي المهجورة منذ بدء الثورة. هل سيمكنني العودة إليها من جديد؟ كيف يمكن أن تتعامل شخصياتها مع أحداث مماثلة؟ انشغلت بهدير تحديداً. بطلتي الشابة، من ستشبه من بين من قابلتهن خلال الثورة؟ يعود لذاكرتي وجه معين رأيته عصر جمعة الغضب. شابة في العشرين تسير على مهل في شارع مجاور لميدان التحرير، وجهها المغسول بالكولا لم يتخلص من لزوجته بعد، وشعرها مموج، ونظرتها عميقة. كانت تسير بخطوة راقصة منتشية بنفسها كأن لا شيء يهددها رغم القصف المسموع بالقرب منا. مرّت بجانبي وهزت رأسها في تحية متواطئة. بادلتها إياها بمودة تليق بصديقتين قديمتين. في وجهها ولمعة عينيها تعرفت على "هدير" كما أتخيلها وأعايشها. هدير كما كان من المفترض أن أعكف على كتابتها، هناك في منتجع الكتابة القريب من سياتل.

نُشِرت في ملحق نوافذ بتاريخ 2 أكتوبر 2011