Wednesday, October 29, 2014

نحو الجنون: مواجهة الوهم




لؤي حمزة عبّاس

تنشيء مجموعة منصورة عز الدين القصصية (نحو الجنون)* عبر إحدى عشرة قصة قصيرة علاقة توجس مع العالم وتبني شعوراً خاطفاً بمواجهة الذات التي تبدو غريبة حائرة، إنها رياح الجنون وقد فُتحت أمامها أبوابُ القصص وها هي تتحرّك بمشيئتها، تغيّر الملامح وتبدّل الأحوال وتعدّل التفاصيل فهي تتحكم بمجريات القصص ومصائر شخصياتها التي يقيّدها منذ البدء شعور بالخوف "خوف بدائي عميق يسكنها منذ الأزل. هي دائماً خائفة، ثم تبدأ تالياً في اختراع الأسباب"، كما في قصة (جنيات النيل)،آخر قصص المجموعة، فبين الشعور بالخوف واختراع الأسباب تتشكل عوالم المجموعة وتنتظم قصصها، فلكلِّ قصة شعور وسبب يختلفان عن شعور باقي القصص وأسبابها، الشعور في المجموعة بدايةٌ، علّةٌ، إيعازٌ خفي، إشارةٌ فجائيةٌ غيرُ مدركة، والسببُ آليةٌ وتمثّلٌ وانتظامٌ يُحدّد مسارات القصص ويُضيء عوالمها، سيتجلى الخوف حدساً كما في قصة (ليل قوطي)، يشعُّ في صمت السرِّ وتكتمه، منتقلاً به من محاولة ادراك العالم إلى التيه فيه، تيه سفر يتقرّر كأمر قدري يتعدى مصير الفرد نفسه ليحكم المدن ويحدّد مسارات أناسها أمام عيني الراوية التي سريعاً ما ستنزلق إلى الحدث الذي تتبني روايته فتُصبح بعضاً منه، مأخوذةً بحدسها هي الأخرى. "وفي الحال رأيت مدينته المبتغاة بشوارعها الشاحبة، رماديّة اللون، لم يكن هناك ألوان سوى الرمادي الذي يغطي معظم المكان، وبجواره، على استحياء، الأسود والأبيض. بشر كثيرون يسيرون في الشوارع الباهتة ببطء مرتدين مسوحاً داكنة ناظرين إلى نقطة ثابتة أمامهم. هدوء ثقيل يخيّم على كلِّ شيء، وهو هناك يسير متفكراً بشرود، وأنا خارج المشهد أتلصص عليه بقلق"، سيغدو التلصص بإيعاز من الخوف، علّةَ القصص وإشارتها، مشاركة وتورطاً، "وجدتْ نفسها في مطار فخم لمدينة أجنبية، معها زميلان، كأنهم جميعاً في رحلة عمل"، إنها جملة الافتتاح في قصة (مطر خفيف)، أولى قصص المجموعة، وهي الجملة التي تُنشيء علاقة التوجس وتقترح تجسدات هذه العلاقة، فليس ثمة مقدمات واضحة تنظم حركة العالم وتحكم منطقه، بل هو حضور فجائي تحكمه الحيرةُ ويغذّيه خوفٌ غيرُ مفسّر، الخوف الذي يمكن عدّه مادةَ القصص وطاقتها المحرّكة، فالتوجس الذي يرتّب الأفعال ويربط مجريات القصص تفعّله طاقةٌ من الخوف تسري على نحو شبه صريح في القنوات الداخلية للقصص، خوفٌ أقرب إلى البديهة يتصاعد مثل ضباب مشوّشاً الحواس محفّزاً قابلياتها للخوض في غرابة ما تروي، من دون أن يكون ثمة تناقض بين فعلي (التشوش) و (رواية القصص)، فالغرابة تظلُّ بحاجة لسبل مبتكرة لترقّبها وتأمّل تفاصيلها. ستمتلك (كأنهم) في جملة الافتتاح موقعاً مؤثراً بين المفاتيح اللغوية للمجموعة، فليس ثمة شيء يقيني مؤكد، أحداثٌ تُروى على سبيل التشبيه، ووقائعُ تتشكّل، إنها قوّة الكناية التي تمنح القصة مساحةً فاعلةً لإعادة انتاج العالم وتدوين تفاصيله كما تتوجسها القصص، حيث لا عالم قبل عالم القصة ولا عالم بعده، إنما هو ( جوهر الصورة) الذي يتحدّث عنه هيدغر، ذلك الذي يرينا العالم اليومي غريباً، فالصورة، بذلك، "ترينا اللامرئي" أي الغرابة، ولغز الحضور في قلب المرئي الأشد بساطة وأكثر وضوحاً" (1)، وهي التجربة التي تشكّل نفسها كما لو كانت تحاكي عالماً قديماً لم يتجسّد بعد. ثمة رحلة تتجاوز (رحلة العمل)، وحياة تتواصل بإيقاع مختلف، ولغات غريبة، عناصر قليلة كافية لخلق شعور بتوتر الشخصية وهي تتابع النظرات (القلقة) لزميليها، كانا مرتبكين مثلها (كأنما) يتجاهلان وجودها، لكنهما للغرابة يختفيان عن مجال بصرها، وللغرابة لا يشعرها اختفاؤهما بالخوف والاندهاش. ثمة وحدة مطبقة تهدّد الشخصية كما لو كانت قدراً، " إن ما أعيشه ليس العزلة، وإنما الوحدة" (2)، ذلك ما يقوله مارتن هيدغر في حديثه عن غابته السوداء، وهو عين ما تعيشه شخصيات (نحو الجنون) من قصة إلى أخرى، كأن الوحدةَ اليقينُ الوحيدُ النادرُ في مجمل القصص، فعلى الرغم من نشدان الحياة وانتظار الآخر، ترقّبه وترصّد خطواته، فثمة شعور كثيف بالوحدة يضيء علاقة التوجس التي تحكم العالم وتجعل الخوف مسوّغاً قائماً وإن لم يكن مفسراً.
ليس عالم القصة وحده يحاكي عالماً قديماً، بل القصة نفسُها تموّل نفسَها بقصة قديمة، ذلك ما تؤديه (مطر خفيف) وهي تستعيد قصة (لقاء في دائرة حمراء) لخوليو كورتاثر بما تؤديه المدينة الألمانية فيسبادن من جسر ربط وآلية استدعاء بين القصتين اللتين تغذّيهما المخاوف، "بفضل العزيز كورتاثر، تحوّلت المدينة، في مخيلتها، إلى بقعة خرافية مسكونة بأشباح تجاهد لإنقاذ ضحايا محتملين من براثن قتلة باردي الأعصاب"، ما يهمُّ هنا ليس حضور القتلة باردي الأعصاب بل الضحايا الذين ستحيا الشخصية احتمال أن تكون بينهم، فالجنون المستور في قصص المجموعة، المصرّح به في عنوانها، يتفجّر جرّاء عتبة شعور طويل تعيش الشخصية خلاله توجّس الضحية المقبلة، ليس مخاوف العالم الغريبة وغير المفهومة ما يقود قلقها، بل احساس الضحيّة التي ستغدو تفاصيل القصة معها خارطةَ عالمٍ غريب له من القِدم ما يمنحنا الشعور بأننا عشناه مرّاتٍ من قبل، مثلما له من الجِدّة ما يجعله عالماً وليداً لم نره من قبل، وهو ما يزيد مخاوفنا ويُربك أحاسيسنا فبين القِدم والجِدّة تتجلّى المعرفة مهدّدةً بالجهل والحيرة واللايقين. بحثاً عن فيسبادن، المدينة الألمانية التي ينبغي على الشخصية أن تذهب إليها من دون أن تعرف لماذا عليها الذهاب، وماذا ينتظرها هناك، إنها تواصل خطواتها بحثاً عن أقصر الطرق للنزول إلى لحظة الشعور التي تتسع مثل حفرة معتمة مفضية إلى مجموعة من الممرات المعدنية المتقاطعة، لن تُدرك الشخصية " كيف وصلت إلى هذه النقطة رغم اتباعها علامات ارشاديّة"، العلامات نفسها تمضي إلى تيه يغدو غابةً من الممرات " ولا من شخص آخر في هذا الفراغ"، إنه التمثيل الأكثر ضراوة للجنون، الشخصية تنزل إلى قاع اللحظة المعتمة، حيث النزول نفسه يُصبح مادةً لتلاشي المكان الذي أسسته القصة وهي تمضي مؤقتاً نحو اللامكان، تغيب محطة القطارات لتجد الشخصية نفسها "في مخزن عتيق، شبه معتم، ومزدحم بالخردة والروبابيكيا. وصلها صوت اطلاق نار ورائحة حريق، كأن العالم بأسره يتفحّم ويحترق في الخارج"، إنه عالمنا، إذن، بعتقه وعتمته وخردته، بزحامه واطلاقاته، يحترق ويتفحّم. تعبر القصة خطاً أسود ـ أتصوّره فحمياً ـ فاصلاً بين عالمين يربط بينهما الخوف، خوفٌ تتبدّل طبيعته وتتغيّر هيأته لكنه يظلُّ متحكّماً في العالمين، "لست في قصة كورتاثر، بل في الحياة الواقعيّة"، إنها تحدّث نفسها من دون أن تغيّب جسر المخاوف الذي أعادها من قبل للقصة السابقة، لكن "المطار والمتاهة المعدنيّة صارا جزءاً من واقع آخر مراوغ"، لتتعدّد العوالم في مخاوفنا، تنشطر وتتناسخ، فتتأسس القصة على ثلاثة عوالم يمكن تنظيمها ابتداءً من عالم قصة خوليو كورتاثر، مروراً بمطار المدينة الأجنبية، وصولاً للعالم (الواقعي) الذي تكون المدينةُ القديمةُ فيه "بأكملها دائرةً حمراء تعجّ بأناس يهتفون بغضب، يحاصرها رجال عنيفون بأزياء رسمية داكنة". لكنها المدينة التي تشهد التغيّر الأساس في القصة، فالشخصيّة تغادر وحدتها لتمضي إلى شعور بالمشاركة تعيش خلاله ذروة انفعالاتها، ثمة حشد تغدو داخله نقطة في نهر، ذرة رمل في صحراء شاسعة، من دون أن تغادر فرديتها على نحو كامل. إن الانسجام مع المحيط سيُعيد الشخصيّة طفلةً لاهيةً بعينين متسائلتين، لتنتظم حكاية الطفلة داخل السرد القصصي جملةَ ارصاد تُضيء قادم السرد بعد أن يعثر الأهل عليها فاقدةً الوعي ومصابةً بضربة شمس، إنها الآن تتعثّر بفوارغ قنابل الغاز حيث العربات المجنونة تدهس العشرات، والشظايا المطاطيّة تخترق الأجساد. ستُغمض عينيها لتستريح وتغدو جميلةً كما لم تكن من قبل، جميلةً كفكرتها عن الجمال. ليكون الجمال، بذلك، منقذاً من ضراوة العالم، من وحشته وقسوته وجنونه، وهو يُقترح وطناً لا نهائياً لمواجهة لوعة الروح وأوجاع الجسد. إنه الخيار الذي تجترحه (مطر خفيف) مقابل جسامة الوقائع وعنف تفاصيلها.
ترتبط قصة (مطر خفيف) ارتباطاً مباشراً بقصة (مارين)، ثالثة قصص المجموعة، حتى لتعدّ قصة مارين المكتوبة في مارس من العام 2010 عتبةً للقصة الأولى المكتوبة في الشهر نفسه من العام 2012، على ما بينهما من مساحة زمنية بأحداث واسعة وتحوّلات تعمل القصة على كشف آثارها وفهم متغيراتها، فالشخصية التي تنهض برواية قصتها مع مارين المكلّفة باستقبالها وتوصيلها إلى الفندق في المدينة الغريبة تعلن تابعيتها مع افتتاح القصة وانشدادها لشخصية مارين التي "أشاحت بوجهها بعيداً عني، واستدارت مغادرةً، كدت أتشبث بمعطفها الرمادي الطويل، كطفلة تتشبث برداء أمها. تغادرني مارين ببطء، وعيوني تتعلّق بها أكثر"، إن الطفلة التي تواصل سيرها ملاحقةً مارين في القصة الثالثة لن تكون سوى طيف مستعاد وذكرى بعيدة للطفلة في القصة الأولى التي استُحضرت جملة ارصاد وتنبؤ عن مصير الشخصية واشارة لراهنها، مثلما تكون عوالم القصة الثالثة بمختلف عناصرها، البار المعبق برائحة التبغ والكحول، والموسيقى الغامضة المنبعثة بقوة، والممر الذي يطول أكثر مما ينبغي، والباب المؤدي إلى مدينة أخرى هي نسخة باهتة من المدينة الأولى، علامات شبحيّة للوصل إلى المدينة الأم في القصة الأولى، ثمة جموع بشريّة في القصتين، تحجب مارين عن الراوية، تزيد من تيهها في وقت تعجز فيه عن النطق، تقابلها في القصة الأولى جموع تلتئم في الشوارع وتتفرّق تحت ضغط الهجوم ثم تعاود الالتمام قبل أن تعدو هاربةً من العربات المجنونة التي تدهس العشرات، وقنابل الغاز والشظايا المطاطيّة التي تخترق الأجساد، مارين تعاود النظر في ختام القصة قبل أن تعود لخطوها العابث، "ثواني معدودات لكنها كافية كي أبصر في وجه مارين الشاحب قلقي، وفي تعبها ارهاقي وخوفي"، لكن الشخصيّة في ختام القصة الأولى تحقق ذاتها وتحقق خلاصها فتغدو متبوعةً بخطوات ذات رنين معدني، "استدارت فلم تجد إلا الفراغ. الرصيف المبتل بماء المطر انعكست عليه اضاءة المصابيح فامتدّ برّاقاً".
بين (مطر خفيف) و (مارين) عامان من المخاوف والشرور، طريق واسع قطعته الشخصية وهي تعاني في سبيل انفصالها عن متبوعها لتُنصت بما يشبه الحلم لإرادتها وتغادر هواجسها، لكن المخاوف تحافظ على الرغم من ذلك على هيمنتها وقوة حضورها، تتنوع مظاهرها وتتعدّد وجوهها مع تنوّع القصص وتعدّد موضوعاتها، لتظلَّ السمة المؤثرة في حقل منصورة عز الدين السردي وهي تواصل عملها في القصة القصيرة والرواية، وعلامته الفارقة التي تجد في مجموعة (نحو الجنون) حضورها الأوفى مانحةً القصص أرضاً صالحة لبذار الهواجس وحصاد الجنون، البذار التي تبدو أحياناً قريبة من سطوح القصص فتُنتج نصوصاً أقرب إلى الواقع بوضوحه وانتظام علاقاته وصولاً للحظة الفاصلة، لحظة تجلي المخاوف وانكشافها فيغدو وضوح الواقع غموضاً وانتظام علاقاته قلقاً وارتباكاً يقود الشخصية للعودة إلى شعور فرديتها والنزول إلى بئرها الخاصة، إلى عتمة هواجسها، مثلما تؤَسَس قصصٌ أخرى على مبدأ نقض الواقع وهي تمضي بعيداً في الحكاية وافتراضات عوالمها، الفئة التي  تقع (ليل قوطي)، ثانية قصص المجموعة في قلبها، وهي تكثّف ليل المخاوف الذي يلتهم مدناً ويغيّب عوالم ويقود أناساً على نحو مبهم لمصائرهم، فثمة سبب غير معروف يدعو للسفر، ووجهة بعيدة تنتظر، ومدينة لم يُسمع بها من قبل تنادي، إنها النداهة التي تحافظ على حضورها الخاطف في العديد من القصص، مدينة لن نعرف عنها أكثر من أن "حروف اسمها تؤدي إلى الانقباض والحيرة"، لكن الأهم في ذلك أن يكون السفر إليها " كأمر قدري مقرّر سلفاً"، وهو ايعاز القدر الذي يتكرّر كما لو كان يداً قاهرة توجّه الوقائع وتعيد بناء التفاصل، تغذّيها، على نحو دائم، بشعور الوحدة والقلق الذي يحافظ على ابهامه حتى نهايات القصص التي لن تعتمد لحظة اضاءة تجيب عن أسئلة القصة وتكشف أسرارها، إنما تعمل على مطابقة افتراض القصة القصيرة وإدامة فتنتها وهي تقارب بين عالمي الراوي الغريب، المسافر غالباً، وعالم المروي له، المترقّب والمقيم، وتجمع بين مدينتيهما في مدينة خوف واحدة لن تختفي في قصةٍ إلا ليُعاد بناؤها في قصة لاحقة، لتكون المدينتان، مدينة الراوي ومدينة المروي له، وليدتي حكايتين تشهدان تباعداً وانفصالاً مع افتتاح القصص وتعيشان تطابقهما مع نهاياتها، الأمر الذي ينسحب على الشخصية نفسها وهي تتلبّس صورة ما تخشى وتخاف لتجد في القصة مساحةً للتعبير عن خشيتها وكشف مخاوفها من دون أن تعلم أن تعبيرها هو طريقها للذوبان في ما عاشت طويلاً تتجنبه وتهرب منه. لن تكون المخاوف عندئذ صورةً شبحيّةً عابرةً ووساوسَ دفينةً، إنما ستكون الشخصية نفسها نتاج مخاوفها، فما نحن، في الأخير، سوى صور مخاوفنا، إنها هاوية فردريك نيتشه التي تنظر لنا بدورها كلما أطلنا النظر إليها (3). تحوّل كلاً منا إلى هاوية شخصية تأكل وتتنفس وتكتب القصص. إنه مجال الصلة بين القصة والجنون حيث يتكشف اللاعقل على نحو جديد مع كلِّ قصة، وهو نوع الجنون الذي تؤسسه المجموعة مؤجلة روايته حتى نهايات القصص، فالجنون في مجموعة منصورة عز الدين لا يُروى فحسب بل يُكتشف على مهل ليُعاش، إنه نمط حياة تنمو ببطء في دواخل الشخصية بانتظار أن تنكشف في نوع من اختلال الخبرة النابع عن خلل الشعور. ربما يكون التوصيف الأدق لجنون العديد من شخصيات المجموعة هو ثمرة الحلمي والخاطيء بتعبير ميشيل فوكو، وهو "يشترك مع الخطأ في اللاحقيقة، والاعتباطية في الاثبات والنفي" (4)، إنه ثمرة القصة، جزاؤها وحصيلتها المرّة وهي تقابل الحكاية بالجنون، "سيتهمها بالجنون لو حكت عما تراه" كما في قصة (جنيات النيل )، وبسببه تقترح القصص طرقاً أكثر مراوغة ودوراناً في حكاية جنون شخصياتها، حيث تروي الشخصيات حكايتها بوصفها آخر مبتعدة عن ذواتها مسافة شخصية واحدة، وهي تواصل أوهامها معوّلة على إمكانية كلٍّ من الجنون والحكاية على انتاج مرايا متعدّدة لذاتيهما، كلُّ مرآة منها تكشف عالماً، وكلُّ عالم يعيش أوهامه ويروي حكايته بطريقته "فإن الجنون يملأ بالصور فراغ الخطأ، ويربط الاستيهامات من خلال اثبات المزيّف" ( 5)، إنها مراوغة القصص وهي تمضي في سرد عوالمها على نحو يحكمه التوجس ويقيّده الخوف.
تختار قصة (نحو الجنون) مراقبة الجارة "وهي تخطو بدأب نحو الجنون، كانت تتجه إليه بالبساطة نفسها التي تضع بها أكياس القمامة أمام باب شقتها كلَّ صباح"، لتخطو راوية القصة بدورها نحو أوهامها، جاهدة في سبيل اثبات المزيّف وكسر الحدود بين عالمين، مواصلة الدفاع عن عالم زائل فقدت فيه أبناءها ولم تبق بين يديها سوى أشباحهم وسط عالم صادم يُطيل المراقبة والنظر. ترعى الراوية انفصال عالميها وترسم شخصيتيها بما يمكّنها من الحكم على صورتها الأخرى "حرصتُ على تجنّبها منذ البداية إذ بدت لي غير متزنة بعض الشيء سمعتها أكثر من مرّة تحادث نفسها وهي تصعد أو تهبط، كنت فقط أتبادل معها تحية الصباح أو المساء حين أقابلها على الدرج فتردُّ دون أن تنظر إليّ ثم تواصل همهماتها غير المفهومة"، تستثمر القصة استيهامات الجنون لأداء مراوغتها ودورانها، إنها (حياة زجاجيّة) يبدو كلُّ شيء فيها مرصوداً ومتابعاً وقابلاً للكسر، مثلما يكون كلُّ وهم فيها مهدداً بالانكشاف ابتداءً من طبيعة النظرة وصولاً لاكتشاف الجنون نفسه، "اكتشفت فجأة أن الرعب الحقيقي لا يكمن في تعرّض أحدنا لخطر عدو شرس ذي قلب ميت إنما أن نقع تحت مخالب مجنون لا يستطيع السيطرة على نفسه، فقدان العقل يغدو مفزعاً في مثل تلك الحالات، رغم أننا لا نفطن أصلاً إلى وجوده فيما عداها"، كما في قصة (حياة زجاجيّة)، الأمر الذي سيضعنا بمواجهة أوهامنا في محاولة أخيرة لاستعادة ذواتنا واستعادة العالم، حيث سيظلُّ الوهم محافظاً على قدرته على دفع الشخصية إلى نهايات مفزعة.   

الهوامش:
·         منصورة عز الدين، نحو الجنون، مجموعة قصصية، دار ميريت، القاهرة 2013
(1)   ميشيل هار، هايدغر والشعر، عن: متاهات، نصوص وحوارات في الفلسفة والأدب، ترجمة: حسونة المصباحي، مراجعة: قدامة الملاح، بغداد 1990: 28
(2)   م. ن: 11
(3)   فردريك نيتشه، ماوراء الخير والشر، مختارات، ترجمة: محمد عضيمة، دار الكنوز الأدبية، دمشق 1999: 220
(4)   ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، ترجمة: سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، بيروت 2006: 261
(5)   م. ن، ص. ن

عن دورية "نزوى" العمانية

Wednesday, October 15, 2014

الاقتراب من سحر الليالي


سامية أبو زيد


"حكاية لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر"!
حسنا! فلتكن الكتابة حفراً على آماق الأبصار، فلتكن طريقاً لعماء يعمق الرؤية!

بهذا المفتتح توعدت منصورة عز الدين القارئ فأخذته في تيه يتمنى ألا تخرج منه أبداً وذلك عبر فصول روايتها البديعة "جبل الزمرد" والمقسمة من الداخل إلى عناوين حيث استهلت كل فصل بمفتتح دال وثيق الصلة بالسرد الوارد في كل فصل.
وتبدأ الرواية بفصل يحمل عنوانا شديد الدلالة وهو "غبار الطريق" فيوحي بالتعب وبالترحال وبالخطى التي كتبت علينا، وقبل أن تلج الفصل الأول تعطيك النتيجة النهائية من خلال المفتتح الذي كتبت فيه "لستُ لى.. أنا منذورة لشيء غامض، وما علي سوى المضى قدماً والتوحد بمصيري". فتنبئنا بهذا المفتتح أن بستان البحر ومن معها مسيرون وإن اختاروا المضى فى الطريق.

وتتميز رواية منصورة عزالدين  بحسن التأهب قبل البدء في الكتابة، إذ تطل علينا ثقافة الكاتبة الواسعة وإطلاعها على أساطير الشعوب وأصولها، بل ونسخها المتنوعة والمتعددة فتستحضرها ببساطة ودون استعراض أو تيه على القارئ بما لديها من واسع المعرفة، وهى بذلك تمهد لنفسها خلق أسطورتها الخاصة وهي "جبل الزمرد" ودسها في الليالى والتي تكاد تكون صورة معكوسة لأساطير العهد القديم فيما يتعلق بالخروج والتيه والأفعى ومادتها الخام في ذلك الليالي والمهابهارتا والشاهنامة وغيرها، ولكن تبقى الليالي هي المتكأ الذي تستند إليه روايتها.
ثم تعود وتنأى بأسطورتها عن الامتزاج التام بألف ليلة أو أن يختلط الأمر على القارئ فيقر في نفسه أنها إعادة صياغة لقصة من قصص ألف ليلة، فتذكره بأنها صاحبة وصانعة "جبل الزمرد" وذلك عبر لغة رشيقة تخصها ولا تخص ألف ليلة، واستخدامها لمفردات غير مألوفة مثل "المزنّر" و"مجاز" بدلا من مطوق وممر. بل وقد ينتابك الظن أن الكاتبة تزيد أساطير الأولين أسطورة لتدحض بعضها وبالأخص أسطورة جبل الهيكل، فمن تلاقح الحضارات الذي أثمر بستان البحر أو بوستان دريا أو باغ دريا نستنتج أنها في مهمة مقدسة لجمع أسلافها المشتتين كى يعودوا إلى جبل قاف أو كما قالت عن نفسها منذورة لهذه الرسالة.

وعلى الرغم من كون الرواية تحمل اسم "جبل الزمرد" إلا أن جبل الزمرد ليس هو البطل الوحيد للعمل، بل ينافسه في الأهمية والحضور جبل المغناطيس إلى جانب عدة جبال أخرى ورد ذكرها فى الرواية ودارت بعض الأحداث فيها، ويكفى أن تقرأ مفتتح "مدينة مبللة بالمطر" الذى تقول فيه "الأسمى من الجبال فكرة الجبال؛ أن ترمق العالم من علٍ، أن تصير أنت الجبل وهو أنت!" ليصلك إحساس أن  الكاتبة معنية بسيرة الجبال أولا، ولم لا وقد سمت روايتها "جبل الزمرد"؟ كما اتسمت الرواية بالتقاطعات والتداخلات والتماثلات أو التشابهات بين الأحداث والشخصيات والأماكن فيما يشبه دوائر الفيض المغناطيس، وهي بذلك منحت جبل المغناطيس أهميته من خلال الفعل والتأثير، فجبل الزمرد هو الحلم والهدف المنشود، أما جبل المغناطيس فهو الواقع الفاعل والمؤثر في الأحداث.
كما يتضح لنا قدرة الكاتبة وتمرسها فى الكتابة من خلال خلق الشخصيات والاستغناء عنها ما إن ينتهى دورها فأضفت بذلك لمسة واقعية على العمل، أوليست هذه هي الحياة، خلق وغياب؟ كما لم تخل الرواية من مشاغبات الكاتبة ومناوشاتها للنقاد والقراء، ففضلا عن اختفاء الشخصيات مثل البروفيسور أو شيرويت قنديل وغيرهما، نجدها فى فصل "مغناطيس الأجساد" صفحة 24 تقول عن البروفيسور ‘‘مهووس بفكرة النص الأصلى لـ"الليالى"، وحالم بتنقيتها من إضافات المترجمين وما يسميه باحتقار "القصص المزورة". ويتحفظ عندما أتحدث أمامه عن اهتمامي بإحدى الحكايات المضافة.’’ في حين أن الرواية نفسها إضافة مدعاة لليالي!

وفي نفس الصفحة تقول ‘‘كدت أسخر من أن مفارقة أن يفخر المهووس بالأصل الذى أعرفه بعمل مقلد؛ تحريف لنسخة أصلية، غير أنى بلعت تعليقى مجاملة له’’ وكأنها تدرأ عن روايتها مقدماً الاتهامات الجاهزة باستلهام ألف ليلة وتؤكد على أنها ليست تهمة، بل التهمة الحقيقية قد تكون فى المجاملات أو الاتهامات غير الموضوعية من بعض النقاد. كما تعاود مشاغبتها للنقاد فى مفتتح فصل "أرض الجنيات" بقولها "فلتكن كلماتى منذورة لإساءة الفهم وأخطاء التأويل!" والتأويل هاهنا ينسحب على كل من النقاد وشخصيات الرواية وما نذروا إليه.

وبالعودة لتقاطعات الشخصيات وتوازيها نجدها بطول الرواية مثل نورسين وأبيها وبستان وأبيها ونجد أن كلا الأبوين قد لعب دور المعلم لابنته "المنذورة"، أو المتشرد أخضر العينين وبلوقيا،  ولكن هذا القدر من الوعى والقصدية فى الكتابة لم يجعلها تخلو من مظاهر الجمال والمحسنات البديعية مثل قولها "فيشرد خيالها فى بحر من لآلئ تخطف البصر. تحفظ الشعر" الخ...  فتستدعى فى أذهاننا العلاقة بين الشعر والبحر، كما لم تفتها جماليات الكتابة عن انتقاء مفرداتها فلم تتزيد وخلت العبارات من الحشو فجاءت كل منها لغرض وإن تأخر بيانه، فعلى سبيل المثال فى "وحدها فى مدينة صاخبة" يندهش القارئ فى صفحة 37 حين يجد الاسم المكتوب على اللوحة النحاسية لبيت الجدة هو "شيرويت قنديل" ويتساءل أين اسم الزوج؟ لكن التفسير يأتى فى نهاية الفصل فى صفحة 52 حين نعرف أنها يسارية قديمة وتعرضت للاعتقال لفترة قصيرة ثم سافرت إلى فرنسا حيث حصلت على الماجستير والدكتوراه فى إشارة موجزة لطول بقائها فى بلد النور والحرية ثم تختم الكاتبة قائمة التفسيرات بزيجات ثلاث فاشلة مرت بها شيرويت، ولذا فلا عجب أن تضع اسمها على اللوحة ويتوارى اسم الرجل، وهو عين ما فعلته الكاتبة فى روايتها، فالرجل لم يكن ذا حضور فاعل بقدر ما كان أداة فى يد المرأة المنذورة.

ولا تتخلى الكاتبة عن الرموز والربط بين ما هو واقعي وما هو خيالي بصورة تكاد تفسر الظواهر الخارقة تفسيراً موضوعيا يستند إلى أصل من الواقع ـ أى موجز تعريف الأسطورة ـ فنجد توازيا بين جبل الحياة الموجود في المكسيك والذي زارته هدير وبين جبل الزمرد، بل يكاد الظن أن يبلغ بالقارئ حد الاعتقاد أن جبل الحياة المكسو بالخضرة هو نفسه جبل الزمرد، أو أن يربط بين الأحجار الفضية اللامعة التي تسلب العقل في جبل المغناطيس والمسماة بحجر الجنون وبين المرايا التي تسلب العقل مع طول التطلع إليها، ومعلوم أن المرايا ما هي إلا زجاج مطلي من أحد وجهيه بطبقة فضية عاكسة. وقد تكرر ظهور المرآة في أكثر من موضع، فتارة هي هدية بلوقيا لزمردة وتارة هي معشوقة نادية أم هدير كما ورد في فصل "الغرق في المرآة".

ولا تكتفي الكاتبة بخلق أسطورة موازية لجبل الهيكل وهي أسطورة جبل قاف كما ورد في السطور السابقة، بل تخلق أسطورتين أخريين موازيتين لألف ليلة ولخروج آدم من الجنة، فنجد الراعي زوج "مروج" التي خانته وهجرته ينتظرها لثلاث سنوات أي ما يزيد عن الألف ليلة لينتحر بعدها، وهو عكس ما فعله شهريار؛ كما نجد أن قتل ملكة الحيات قد خلص جبل قاف من عزلته فوجب على أهله التيه، فكأن ملكة الحيات هي الصورة العكسية لإبليس والتي قام كل من نورسين وبلوقيا بتخليص الجبل من قبضتها.
ثم تشفق منصورة عز الدين على القارئ وتعترف له على لسان كريم فى اعترافه لهدير: "مش مسألة مصادفات، أكيد سمعت عن العوالم المتوازية" فيتأكد لنا أنها أرادت أن تخبرنا بآمالها وكوابيسها من خلال تلك العوالم المتوازية التى تهنا معها ومع أهل جبل قاف حيث ينتشرون اللون الأصفر بحلهم وترحالهم فى البلاد، فتحذرنا من خلال روايتها من المد الصحراوي ومن الحكماء وتحريفهم للنبوءة ... النبوة!! ويحرمون التدوين على النساء والتدوين عن الملك وأسرته، لينتصر في النهاية التدوين والمدونات فنفهم لِمَ أشارت الكاتبة للمظاهرات فى صفحة 26 ولِمَ أصرت على تحديد الزمان بفترة ما بعد الخامس والعشرين من يناير 2011.

وأخيرا، قد يظن القارئ  أن جبل الزمرد هو بالفعل الحكاية الناقصة من كتاب الليالى، ولكن منصورة عزالدين تركت لنا علامة لا تخطئها العين في التوكيد على انفرادها بهذه الأسطورة، فقد خلت الرواية من العفاريت التى تحفل بها ألف ليلة، فلم يرد ذكر عفريت واحد بطول الرواية الواقعة فى مائتي وعشرين صفحة تقريباً، ومع ذلك لم يفارقنا سحر الأسطورة في أي من صفحاتها.

نُشِرت في مجلة الدوحة عدد أكتوبر 2014

Monday, October 13, 2014

مقطع من رواية جبل الزمرد


منصورة عز الدين

اسمي بستان!
من يعرفونني جيدًا، وهم قلة، يسمونني "كاهنة الأبيض والأسود"!
الآخرون يرونني غريبة الأطوار. لو قُدِّر لكاتب أن يكتبني لوصفني بالمرأة الحوراء، أو ذات الشعر الفاحم والملابس السوداء، إلى آخر هذه الأوصاف المحدودة بالظاهر، غير القادرة على التقاط ما يتأجج بداخلي.

لن يتمكن أحد من اِكْتِنَاه ما أخبئه ولا ما أقدر عليه، كما لن يكون على علم بخفايا الوقائع التي جرت قبل قرون ولها نذرت حياتي، لذا عليّ أن أكون الكاتبة، أو بالأحرى الحكَّاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية ولضم أجزائها معًا، حكاية لستُ بطلتها، لكنها لن تكون بدوني.

في العام الحادي عشر من الألفية الثالثة، وبشقتي المطلة على نيل الزمالك، أنكفئ على التدوين بلا كلل. عالم قديم ينهار بالخارج وأنا مشدودة إلى كلمات مراوغة لا تكف عن التسرب من بين أصابعي. كسحائب صيف عابرة، تمر بذهني مشاهد متتابعة من أزمان مختلفة، أقتنص بعضها، ويتملص مني بعضها الآخر.

أراني طفلة فوق جبال الـ"ديلم" في ستينيات القرن العشرين، أعدو خلف أبي في تسكعه الصباحي وهو ينشد أبياتًا للرومي أو العطّار أو حافظ. يسبقني بأمتار ثم ينتبه إلى تأخري عنه، فيقف منتظرًا إياي بصبر، وبخار الماء يتصاعد من فمه. ألحق به، فيُجلسني فوق صخرة مجاورة ويحكي لي، كما كل مرّة، شذرات من خبر موطننا الأصلي. رغم البرودة الشديدة يدب الدفء في جسدي، وأكمل له ما يغفله من تفاصيل، فيعانقني سعيدًا.

"نحن غرباء أبديون"! كان يقول كل مرة يُخرِج فيها تلك الرقوق والجلود العتيقة من خزانته السرية ويروح ينبه عليّ ألاّ أبوح بسرها لأحد، ساهيًا عن حقيقة أني أكاد لا أحادث أحدًا غيره. أعده بهذا، فيبدأ في تعليمي كيفية فك شيفرة ما بها. ينقل لي ما تعلمه من أبيه. يهمس لي بأن السلسلة يجب أن تتوقف عندي، أسأله عمّا يعنيه، فيرد بأن ما لديه من علامات، ينبئه بأني الكاهنة المنتظرة، ولا يزيد في الشرح.

أتذكره الآن، بينما أجلس في بيتي القاهري، فتحضرني روائح جبل "آلاموت" ونباتاته، أكاد أبصر السفوح المكسوة بالخضرة والقمم المكللة بالثلوج والسهل المنبسط محتضنًا القرى المحيطة بجبال الديلم.

ذات يوم بعيد أشار أبي إلى ما أطلق عليه "أطلال قلعة آلاموت"، وغاصت ملامحه كلها في أسى لم أدرك أسبابه. كان يقف منتصبًا مبالغًا في شد جسده، وهو يتأمل البقعة التي يصوب نحوها سبابته. لم أنظر إليها، بل تعلقت عيناي بوجهه الأليف بلحيته الخفيفة وشعره الرمادي.
انحدرنا نحو الأسفل، وبين برهة وأخرى كان يلتفت إلى الوراء ممعنًا النظر في أطلال لم أكن – إلى ذلك الوقت - أعرف عنها شيئًا. بعدها بيومين أجلسني بجانبه تحت شجرة كستناء، وحكى لي عن حسن الصبَّاح وطائفة الحشاشين. قال إن لا شيء يبقى سوى الحكايات، تنتهي الذاكرة بموت صاحبها، وتظل الحكايات كذاكرة بديلة متوارثة.

دربني مبكرًا على السرد والكتابة، مسربًا لي تدريجيًا لمحات مما ينتظرني من مهام، أسمعني مئات الحواديت المستلة من دهاليز التاريخ الغابر، وأنشد لي آلاف أبيات الشعر، كنت ألتهم، بتشجيع منه، ما يقع تحت يدي من كتب.
اصطحبني تقريبًا إلى كل مكان ذهب إليه، معه زرت قبر عمر الخيام المحروس بالورود وقلوب المحبين، وخطوت في أروقة وأزقة مدينة مشهد المقدسة، وتجولت بين نيسابور وشيراز وأصفهان. "هذه مدن يتنفس فيها التاريخ ويعيش، ومع هذا يجب ألاّ تنسينا وطننا المشتهى"! يقول، ثم يغمض عينيه ويغرق داخل ذاته، فيخطر لي أن الوطن المحلوم به ليس سوى فكرة.

 "محال أن أنال صحبتك، لهذا أصاحب غبار طريقك"! اعتاد أن يكرر قول فريد الدين العطّار فأعرف أنها رسالة موجهة لي، أحدس أني مَن سوف يصاحب غبار الطريق، وأن حياتي برمتها ستضيع على الطريق المستحيل إلى وطن يسكن الكلمات. هشة، متعبة، تنهشني الأفكار والشكوك والهواجس، كان مقدرًا لي أن أخطو مخفورة بالغبار.

في الثامنة عشرة من عمري، غادرت شبه مجبرة لتصميمه أن مكاني لم يعد حيث يقيم، وأن عليّ بدء رحلتي وحدي، لم أحمل في حقيبة السفر سوى ملابس قليلة كي أتيح مساحة لما حمَّلني إياه من مخطوطات وكتب وأوراق. في ذاكرتي كانت تضطرم مئات التفاصيل، وفي مفكرة صغيرة، قبعت أسماء مدن أعبر بعضها سريعًا كما يفعل عصفور قلِق، وأنظر لبعضها الآخر من علٍ نظرة طائر، وأقيم في القليل منها لسنوات تطول أو تقصر. مدن تبدأ من نيويورك حيث كان يفترض بي إكمال دراستي، وتنتهي في القاهرة التي فهم من علامات ونبوءات، مبثوثة في ثنايا ما ورثه عن أجداده، أنها محطتي الأخيرة التي سأجد فيها ما أبحث عنه، القاهرة حيث أجلس الآن - بعد مرور اثنين وثلاثين عامًا على توديعي له - أنسج الكلمات لأحيك ثوب الحكاية الناقصة من كتاب "الليالي".

"أي حكاية تلك؟ نعرف حكايات كثيرة أُضيفت إلى "ألف ليلة وليلة"، لكننا لم نسمع بحكاية معينة نقصت منه، ثم أنه ليس كتابًا واحدًا، إنما نص لا نهائي لا يني يتغير عبر الإضافة والحذف!"
هذا ما سوف يجول بذهن من يقرأ ما أدوِّنه، لكن اسمحوا لي أولًا أن أضم أشلاء حكايتي جنبًا إلى جنب! ولتسامحوني إذا لم تتضح لكم معالمها سريعًا، ولتعلموا أن من أصعب الأمور القفز بين الأزمنة والتواريخ ومصالحة ماضٍ سحيق مع حاضر معاش. الصبر صيّاد، فليكن الصبر رفيقكم، كما كان وما يزال رفيقي الوحيد على دربي الوعر.

 صدرت الرواية في يناير 2014 عن دار (التنوير القاهرة- بيروت- تونس)

Sunday, October 12, 2014

جبل الزمرد واكتشاف آخر لليالي


شعبان يوسف


ألف ليلة وليلة كانت محورا لانشغالات فكرية ونقدية وإبداعية لا حصر لها، وبعيدا عن الدراسات الفكرية والنقدية والاجتماعية التي تناولت الليالي،فهناك تجارب إبداعية عديدة في الشعر والمسرح والرواية حاولت التماهي أو الاشتباك أو الاستطراد،وإنشاء عالم يكاد يتشابه مع الليالي الأصلية،نتذكر في مجال الرواية علي سبيل المثال "أحلام شهرزاد"للدكتور طه حسين، و"المدينة المسحورة" لسيد قطب، ثم "ألف ليلة وليلة الجديدة" لعبدالرحمن الخميسي،وغيرها علي شاكلة هذه الروايات، والتي تحاول التماس بشكل ما مع الليالي، وفي هذا السياق، وبدون مقارنة تأتي رواية "جبل الزمرد" للكاتبة منصورة عز الدين، الصادرة عن دار التنوير 2014، لتكشف عن ثراء مخبوء وجدلي ومركب في إمكانيات الخيال العربي، بعيدا عن المقولات التي كانت تشكك في هذا الخيال،زاعمةأي المقولاتأن العرب بلا خيال حقيقي،إنهم متطفلون علي هذا الخيال، ولا يستطيعون إبداع مثل هذه الليالي،مثلما كتب فردريش فون ديرلاين في كتابه "الحكاية الخرافية" الذي ترجمته د. نبيلة ابراهيم منذ سنوات،قائلا: "ولقد كان العرب أصدقاء للحكايات الخرافية أكثر منهم مبتكرين لها،فلم يكونوا خالقين لها علي طريقة الهنود، ولكنهم في مقابل هذا مستقبلون لها بطريقة نادرة، ولقد جعلت منهم موهبتهم في الملاحظة والتصوير،رواة للحكايات الخرافية لامثيل لهم،وذلك بمجرد أن تقع الحكايات الخرافية في حوزتهم".
وهذا غيض من فيض في محاولات تجريد الليالي من عربيتها،وردها إلي أصول هندية أو فارسية أو ماشابه ذلك،وأنا لست مشغولا هنا بالدفاع عن عربية ألف ليلة وليلة،بقدر ما يعنيني أن ما كتبته منصورة عز الدين لا يمثّل نوعا من العطف علي الليالي،بقدر ماهو استطراد واكتشاف لأفق معقد ومركب وجدلي لهذه الليالي، والتقطت حكاية الأميرة زمردة،وجبل الزمرد،وجبل قاف،لتخوض تجربة،وتكاد تكون مغامرة فنية بكافة المقاييس في مجال الرواية، واختارت الاشتباك الفني واللغوي والحكائي مع الليالي،دون أن تتورط في التماهي اللغوي معها،أي حاولت التخلص من عفوية الحكاية، ومن البدائية التي جاءت بها اللغة في الليالي الأصلية،وراحت لتنشئ عالما خاصا،ولكنه يتداخل مع الأساطير التي تداولتها الأجيال البشرية علي مدي قرون،وكانت الشخصية الرئيسية "بستان البحر"هي الي تنشئ وتدير وتحكي وتضبط الحكاية عندها،وتخلق لها كافة الأركان التي تجعل منها مستقلة تماما عما تم تداوله من قبل،"بستان البحر"منذ البداية تقدم نفسها علي أنها منذورة لشئ غامض، وما عليها سوي المضي قدما والتوحد مع المصير الذي هي منذورة له،"بستان البحر"هي البطلة التي تدير مسرح الأحداث من البداية للنهاية، هي لا تتقمص شخصية شهرزاد، ولا يوجد أي هاجس للتسرية عن آخر،أو إرضاء سيكولوجية أي "شهريار"هنا،بل إنها تجعل دور المرأة وفاعليته وحضوره حاسما، وكذلك وقدرتها علي اتخاذ القرار وتغيير مسار الأحداث دائما بيدها،"بستان البحر"التي ولدت في إيران،لاب مسكون بهاجس البحث والتنقيب عن حكاية جبل الزمرد،بعد انقراض وارثي شفرات المعرفة الحكاية هذا الجبل وأميرته زمرد،ووالدها ياقوت،ولم تبق غير" بستان البحر"أو "باغ داريا"،وبعد رحلات علاجيةمن إصابة العمي التي ابتلتها وهي في عمر السابعة،وبعد رحلات دراسية متعددة،جاءت إلي القاهرة لتستكمل بحثها الماراثوني عن حكاية جبل الزمرد.
ولم يكن التوقيت الذي اختارته الكاتبة للبحث عن أصل الحكاية المحذوفة من كتاب الليالي الأصلي،اختيارا عشوائيا،إنه اختيار مقصود،دون أن تجعله يطل علي أحداث الرواية بثقل، إنه في أعقاب الخامس والعشرين من يناير،عندما كانت الأحداث في مصر قادرة علي التغيير والتبديل والكشف عن وجوه أخري لم تكن معروفة للقاهرة،والجدير بالذكر أن الراوية لديها وعي مفرط بذاتها الباحثة والانسانة والأنثي،فتقول في مطلع الرواية:"اسمي بستان!..
من يعرفونني جيدا،وهم قلة،يسمونني "كاهنة الأبيض والأسود"!..الآخرون يرونني غريبة الأطوار.لو قدّر لكاتب أن يكتبني لوصفني بالمرأة الحوراء، أو ذات الشعر الفاحم والملابس السوداء، إلي آخر هذه الأوصاف المحدودة بالظاهر، غير القادرة علي التقاط مايتأجج داخلي، لن يتمكن أحد من اكتناه ما أخبئه ولا ما أقدر عليه،كما لن يكون علي علم بخفايا الوقائع التي جرت قبل قرون، ولها نذرت حياتي، لذا عليّ أن أكون الكاتبة، أو بالأحري الحكاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية وضمّ أجزائها معا،حكاية لست بطلتها،لكنها لن تكون من دوني".
هكذا تضعنا بستان أو الكاتبة منذ البداية أمام عدة حقائق سوف تنبني أعمدة الرواية كلها عليها،الأولي أن بستان لن يستطيع أي كاتب اكتشاف ما بداخلها، وما تنطوي عليه من أسرار وحكايات، فالكاتب الذي سيصفها سوف يكتفي،أو يقتصر علي الظاهر منها فقط،ولن يقدر علي إدراك ماهو عميق ومستتر،الحقيقة الثانية، إن "بستان البحر"هي الوحيدة التي ستكتشف بقايا الحكاية المجهولة أو المحذوفة لأسباب تكاد تكون غامضة،فهي الوحيدة كما يأتي في موضع آخر التي تقدر علي قراءة الكتابة المنقوشة علي الجلود وغيرها من مقتنيات الأب الذي رحل منذ سنين، ولذلك فكانت بستان علي مدي الرواية كلها، تخرج من الواقعي إلي الأسطوري بيسر شديد،للدرجة التي تجعل القارئ يلهث خلف الحكاية التي أصبحت تفرض نفسها عليها كلما تقدم في الرواية، وآثرت الكاتبة التي تشتبك مع النصوص التراثية المتعددة، أن تبدع بطريقتها الخاصة وبأسلوبها الخاص وبلغتها الروائية المعاصرة،.
وفي كل ذلك نجدها تستدعي عناوين كتب قديمة وحديثة،وكأنها في حقل معرفي وبحثي محض، بعيدا عن الحقل السردي الذي يشمل الحكاية كلها،ولذلك فهي تقدم الرواية نفسها بفقرة من "تفسير القرطبي"حول تعريف جبل قاف،الذي تدور فيه معظم أحداث الرواية، هذا التعريف يقول: "واختلف في معني قافماهو؟،فقال بن يزيد وعكرمة والضحاك:هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء اخضرت السماء منه،وعليه طرفا السماء، والسماء عليه مقببة،وما أصاب الناس من زمرد كان مما تساقط من ذلك الجبل"،وكذلك تتبع هذه الفقرة،فقرة أخري من نص ألف ليلة وليلة،لتزيدنا عمقا بأن الرواية  سوف تخوض في مجال بحثي عميق،ولكن هذه الاستدعاءات المتعددة التي تلقي بها الكاتبة وتبثها في كل مساحات الرواية،تدخل ضمن البناء الروائي،وضمن متن الحكاية ذاتها،حتي هذه الانتقالات الواضحة بين المعاصر الواقعي،وبين الأسطوري المتخيل،تأخذ شكلها السردي الروائي الممتع.
رغم أن الحكايات الأسطورية مفعمة بخيالات كثيفة،ولكننا نجد أنفسنا أمام لوحة روائية منسوجة بدقة شديدة، عملا بالمقولة القديمة"أوصيك بالدقة لا بالوضوح"،وهنا نلاحظ أن المشهد رغم دقته المفرطة،إلا أن الوضوح يصاحبنا كلما قرأنا فصلا جديدا في الرواية،وكلما استجدت علينا شخصية أخري،وإذا كانت بستان البحر المنذورة للحكاية هي التي تصدرت المشهد الأول في الرواية،وهي التي أعطتنا إيحاءات أسطورية حول تكوينها وثقافتها ومهمتها الكبيرة،فهناك "هدير"، هذه الفتاة التي ستظهر لنا في الفصول الأولي من الرواية، وتكاد تسير تحت سيطرة بستان البحر،وهي التي أضاعت خاتم الزمرد الذي كانت تملكه والدتها نادية، وكانت وقتها في السادسة من عمرها، ولكن العناية البستانية،كانت تراقبها وترعاها حتي أدركنا وجودها في ذلك الوقت الذي أرادته الراوية لبدء الحكاية، أي عام 2011، عام الخلخلة والتمرد والانتفاض والتغيير.
 نجد "هدير"تذهب إلي جدتها"شيرويت قنديل" في حي "المنيل"،وتنشأ علاقة ودية بين الفتاة والحفيدة،رغم اختلاف الطبائع،لاختلاف الجيلين،فشيرويت سيدة ارستقراطية قديمة لكنها قفزت من شبابيك هذه الارستقراطية،لتنضم إلي أحد الأحزاب الشيوعية السرية، وتجرب السجن أثناء انضمامها لهذا الحزب، ولها تاريخ يساري ونضالي  عريق،وانفض من حولها كل معارفها وأصدقائها،لذلك فهي تمارس ضمن تقاليدها اليومية قراءة صفحة الوفيات في الصحيفة القومية، لتكون علي علم دقيق ويومي بانهيارالعالم الذي كانت تعيش فيه،وهي منظمةبشكل واضح،حركات يومها معلومة إلي حد كبير، تتناول الإفطار في توقيت معين، وتتصفح أو تقرأالجرائد في وقت معلوم،وهي تستمع إلي موسيقي ربما لا تناسب هدير،أما هدير فهي لا تنتمي إلي هذا العالم القديم،أمها تركتها لتذهب إلي حبيبها وزوجها الجديد،كذلك كان أبوها سبق أمها وتزوج ورحل إلي الإمارات،وظلت هي لتواجه مصيرها بحريتها الكاملة،كانت تفكر في الرحيل إلي استوكهولم،ولكن السفارة لم توافق،فلم تعطها التأشيرة،وعادت إلي المنزل لتدخل غرفة أبيها القديمة لتدخن سيجارة حشيش، ورغم كل هذه الاختلافات تتكون علاقة لطيفة بين هدير وشيرويت،فالأخيرة بحكم تربيتها اليسارية القديمة،فهي تعرف معني الحرية والانفتاح علي الآخر، إلا أنها كانت تثير اندهاش هدير عندما تبدي إعجابها بالمرحلة الملكية في مصر،لذلك تحاول شيرويت أن تسعد هدير بمنحها تذكرة طيران إلي المكسيك، وتخمن هدير بأن جدتها تريد التخلص منها، فأرسلتها إلي هذه البلاد البعيدة،ولكنها تدرك هناك أن هذه الرحلة كانت حدثا مهما في حياتها،وهناك تلتقي بشخص يدعي"كريم خان"، ويخاطبها في اللقاء الأول باعتبارها ملكة شرقية، ويستدرجها إلي حوارات لا تدرك هي مغزاها،ولكنها تتعلق به،وتكاد تحبه، وتضبط نفسها وهي "غيرانة"عليه من صديقته "بوسي"، وتسخر منها بينها وبين نفسها وتقول بأن اسمها يصلح لقطة.
ولكن تتوطد العلاقة بينها وبين كريم خير، للدرجة التي يشير إليها بأن تبحث عن شخصية اسمها "بستان البحر"،عندما تعود إلي القاهرة، وازديادا في "تغميض" الحكاية لا يعطيها عنوانا، ولا رقم تليفون، وعندما تسأله:"كيف ستصل لهذه الشخصية في هذه المدينة الواسعة؟"، يخبرها بأن اسمها سيدل علي مكانها، وبالفعل تعود هدير من رحلتها،وتظل تبحث عن بستان البحر، ولكن دون جدوي، حتي تيأس، وتعتقد أن كريم خان لم يكن جادا،وفي تلك اللحظة، يتصل بها كريم من هناك، ليرشدها للذهاب إلي مشتل بهذا الاسم في الزمالك، وتذهب إلي هناك، لتلتقط رقم تليفون، وتتردد في الاتصال، ولكنها تتصل، فترد عليها بستان نفسها، وتعطيها عنوانا في وسط البلد، وبعد بضعة آليات تشبه ما يحدث في الروايات البوليسية المشّوقة، تلتقي هدير ببستان،هدير مندهشة وقلقة ومرتابة وغير مطمئنة لكل مايحدث، وعندها أسئلة عديدة حول كل الترتيبات التي لا تعلم كيف حدثت ولماذا.
أما بستان الواثقة من نفسها، والهادئة، والتي تعطي شعورا كهنوتيا صارما لهدير، لكونها تعيش بين اللونين الخالدين، وهما الأبيض والأسود، هدير الحائرة، وبستان التي تملك يقينها بأنها تسير قدما

نحو تحقيق الحكاية، واستكمالها بتفاصيلها المتعددة، وتدير كافة أشكال روايتها، عبر دروب وأزقة وعرة، ففي الوقت التي كانت بستان تسرد حكايتها هي المتعددة الوجوه،كانت علي الطرف الآخر تحكي حكاية الأميرة "زمردة"، ابنة الملك ياقوت، والذي خطف أمها "نورسين" من منطقة"جلستان"، ولكن زمردة التي أصبحت الثمرة بين الملك ياقوت،و "مخطوفته" نورسين، ولدت بكماء خرساء، فأحضر لها حكيم الجبل ، وظل هذا الحكيم يلقي دروسه ومعارفه وحكمته وفلسفته للأميرة الصغيرة، وعندما شعر بعدم جدوي مايفعله، وصار يعتقد بأنه يهين علمه بدرجة كبيرة،وفكّر للحظة أن يترك هذه المهمة ويحدث مايحدث بعد ذلك من الملك ياقوت،عند هذه النقطة نطقت زمردة،وباحت له بأن كل ماقاله لن يذهب سدي، ولن تلقي به إلي البحر.
عند ذلك كانت سعادة الحكيم سعادة بالغة، وأثبتت الحوادث فيما بعد القدر الذي وصلت إليه زمردة،التي استيقظت ذات يوم فلم تجد أمها نورسين، وهنا قال لها الملك ياقوت "أبوها"بأنها لن تستطيع، أو بمعني أدق لا يجوز لها الخروج من الجبل أو المملكة مستعينة بالعنقاء إلا بعد أن تبلغ الحادية والعشرين من عمرها،ورغم أن جبل الزمرد،الذي تحرسه ملكة الحيّات، ولا يستطيع أحد من الجن أو الإنس الوصول إليه، لأن هناك جبل المغناطيس الذي يقف حاجزا منيعا لوصول السفن إلي هناك،لأن هذا الجبل يجذب المسامير والحديد الذي تصنع منها السفينة،لذلك فأي سفينة تمر من هناك، لا بد أن تلقي مصيرها بكل راكبيها،وفي إحدي الرحلات العابرة،يحدث أن سفينة تتحطم عن آخرها، وتلقي براكبيها ليغرقوا في البحر،ولكن ينجو واحد، تطلق عليه الراوية اسم "الناجي"،ثم يحكي حكايته العجيبة،ونكتشف أن اسمه "بلوقيا"،هذا الذي تستدعي الكاتبة فقرة من ألف ليلة وليلة الأصلية في مستهل الرواية،ولكنه هنا يختلف دوره ووجوده وفاعليته عن وجوده في ألف ليلة وليلة الأصلية.
وتتشابك الحكايات بشكل مثير ومعقد، ولكن بستان تملك كل مفاتيح الحكاية،وهنا يثير وجود بلوقيا الذي هرب من كوخ الراعي،قلقا في الجبل،ويستشعر الملك ذلك،وعندما سأل عن سرّ هذه التغيرات التي تحدث في الجبل،قيل له بأن غريبا يوجد في الجبل،فيندهش لكيفية وصول هذا الغريب إلي هذا المكان المحصن،وتبدأ رحلة البحث عن هذا الغريب،حتي يتم العثور عليه، ويندهش الملك من وجود هذا الغريب،ولكنه ينصت إلي حكايته،ويعرف صنعته بأنه صائغ،ويعرف قيمة المعادن،وفوائدها الجمة، ويمكن له أن يضعها في أشكال مبهرة،ويسأله عن أهمية الزمرد،فيقول له بأنه يستخدم كنوع من الأدوية السحرية في معالجة بعض الأمراض المستعصية،ويدرك الملك أهمية بلوقيا،فيستبقيه.
ويتجنب قرار التخلص منه لحين،وتظل الراوية أو بستان تحكي الحكايات الأسطورية الممتعة،واللافت للنظر هنا،وبعيدا عن أي ادعاءات نسوية،نجد أن كافة أطراف الفعل في الحكاية كلها،تقودها المرأة.
فالراوية والباحثة هي بستان البحر، والبطلة الرئيسية ومتن الحكاية وعمودها الأول هي زمردة،وقبلها أمها نورسين،ثم تبرز هدير كإحدي الشواهد المهمة في استكمال الأسطورة،ومعها أمها نادية،وجدتها شيرويت،ولا ننسي أن حامية جبل قاف الخرافي نفسه،هي ملكة الحيات،وتأتي حكايات الرجال كلها عطفا علي حكايات النساء،ليصير لدينا قناعة،بأن زمردة وبستان وهدير وشيرويت ونادية وملكة الحيات،علي اختلاف أدوارهن وطبائعهن وقصصهن في الرواية،وكأنهن بدائل غير مدركة لشهرزاد، ولكن بستان البحر الشخصية لا يقتصر دورها علي السرد والحكي فقط،بل يتجاوز هذا بمنحنا قدرا كبيرا من المعرفة الخاصة،فهي طوال رحلة البناء والسرد تفصح عن مكنونات ثقافية ومعرفية شديدة العمق، وتخبرنا بستان البحر بأنها تعرف منطق الطير لفريد الدين العطار،وكذلك أشعار سعد الشيرازي.
وفي بداية الرواية ورحلة البحث تذهب إلي أحد المحافل العلمية،وتعترف بأنها مهما حصلت من علوم فالأمر دوما أكثر اتساعا من ذلك،فتكتب وهي ذاهبة إلي هذا المحفل:"لطمأنة نفسي رحت أفكر في طفولتي،في رحلاتي مع أبي إلي شيراز،كنت أحس عندما أزورها أني علي وشك الخطو في أرض مسحورة،تغمرني السكينة،فيما يستغرق أبي في تأملاته أمام قبر سعدي،يجلس بالساعات محدقا في نقطة متخيلة أمامه،أحاكيه كأنما أتدرب بدوري علي الصمتوتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوي العالم الأكبر!.
ترن جملة الإمام علي في رأسي، فأنغمس أكثر في ذاتي وأجاهد حتي لا أنفصل عما حولي"، وكان قد أنبأتنا أنها ليست منذورة إلا لهذا البحث، حتي أنها تفاجئها في إحدي رحلاتها في بريطانيا لترك بصمة وحفر أثر في مكان هيمن عليها منذ اللحظة الأولي،كل هذا يدلنا علي أن هذه الرواية أولا رواية معرفية،تمتزج فيها صنوف المعرفة الكثيفة والمكثفة ،مع انسياب السرد الممتع والمتخيل في قنواته الطبيعية،ثانيا أنها رواية تبني عالما موازيا للعالم الذي نعيشه علي المستويات الاجتماعية والسيكولوجية، وتخلق مجتمعا زمرديا،علي شاكلة مجتمع شهرزاد في ألف ليلة وليلة-حسب تعبير بوعلي يس في كتابه خير الزاد من حكايات شهرزاد، لذلك يختلط اسم زمردة باسم شهرزاد بقوة،رغم التباينات والملامح المختلفة، وكذلك الأسباب التي دفعت كلا منهما لإنشاء حكاياتها،مع اعتبار أن بستان البحر هنا توحي بأنها تريد التنقيب عن الحكاية المفقودة في عالم وحكايات شهرزاد نفسها.ثالثا أن الرواية تبني عالما معاصرا حيّا حقيقيا،يرتبط بالواقع المعاصر،وبكل مجرياته وحوادثه الحالية، ولا تستبعد الحديث عن العساكر والشعارات المطروحة في ذلك الوقت،دون أن تكون مثل هذه المفردات طاغية بشكل واضح،فنقابلها بين الحين والحين،في تضاعيف السرد، ولا يفوت الكاتبة أن تترك ملاحظات عميقة علي طرق الكتابة وجدواها وأهدافها وفاعلياتها،وكذلك سنلاحظ أن هناك حكايات ضمنية قائمة بذاتها، ومشتبكة مع حكايات أخري، ولكن لها دلالات حادة، مثل هذا الشخص المخبول الذي كان يفترش الأرض أمام البناية التي كانت تقطن بها شيرويت،وكان هذا الشخص يتحدث عدة لغات ويغني باللغة الفرنسية، وكان هناك ثمة غموض يحيط بقصته.
وكانت شيرويت تعطي له كل يوم طعام الإفطار في رحلتها الصباحية،وهناك تكهنات متعددة للخلفية الاجتماعية والطبقية التي أتي منها هذا الشخص،فكل ماتبقي من سلوكياته يشي بأنه كان ينتمي إلي إحدي الطبقات الموسرة،ولكن لم يستطع أحد التوصل إلي حقيقة قصته،وفي النهاية استيقظ سكان المنطقة ليجدوه مشنوقا علي الشجرة التي كان يجلس بجوارها،وبالطبع فهذه الحكاية رغم تفسيراتها المتعددة، إلا أن إيرادها بهذا الشكل،يشي بجنون العالم، وربما بحكمته، نظرا للحكايات الاخري المسرودة في الرواية، والتي تتجاوز حدود الخيال التقليدي، ليصل إلي خيال وشطح غير محدود، ولكن بستان البحر، والمالكة لكل المفاتيح المؤدية إلي المعني العميق الذي تشير إليه الأحداث، ولا تتركنا الراوية واقفين مدهوشين هكذا،ولكنها تستكمل حكايتها مع هدير،وتعرض عليها العمل، وعندما تقبل هدير العرض،وتدخل مكتبة بستان،هذه المكتبة التي تحييط بجدران الغرفة كلها، وتحتوي علي كتب ومجلدات في جميع المجالات،للدرجة التي تصل إلي كتاب يحكي قصتها وقصة ضياع الخاتم الزمردي منها وهي في السادسة من عمرها، وتكتشف أن بستان البحر تتعقبها كساحرة منذ ولادتها، فهي تعرف كل شئ عنها، وعن أمها، وعن والدها، حتي أنها تعرف ماالذي يجري لأمها نادية في موطنها الجديد "كندا"مع زوجها وحبيب القلب الجديد، والذي تركتها وتركت مصر من أجله،هنا نجد أنفسنا أمام معزوفة روائية شبه مكتملة، معزوفة موازية للعالم الاجتماعي الذي نعيشه، بكل توتراته واضطرابه وتناقضاته واختلالاته المركبة.

عن جريدة أخبار الأدب.. 26 يوليو 2014