Sunday, September 30, 2012

كهوف الذاكرة


 منصورة عز الدين

في قصته "ذاكرة فونس" يحكي الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس عن رجل يحيا تحت وطأة ذاكرة لا نهائية، لا تنسى أياً مما يمر بها. أو كما يصف هو نفسه: "لديّ وحدي ذكريات تفوق كل ما تذكره كافة البشر منذ أن صار العالم عالماً".

لم يكن "فونس" يتذكر كل ورقة في كل شجرة على كل جبل فحسب، بل أيضاً كل مرة رآها أو تخيلها. يكتب بورخِس في القصة التي ترجمها د. محمد أبو العطا: "كان يعرف كل تكوينات السحب الجنوبية في فجر الثلاثين من أبريل من عام ألف وثمانمائة واثنين وثمانين، ويستطيع أن يقارنها في الذاكرة بخطوط ورق الكتب الإسباني التي رآها مرة واحدة لا غير وبخيوط من الزبد التي خلفها مجداف في النهر الأسود عشية حركة كبراتشو".

تثقل الذكريات على فونس، يغرق في تفاصيلها فتتحول قوتها من هِبة إلى لعنة!
أفكر فيه فأراه كشخص لا يفعل شيئاً سوى الاستعادة الدائمة لما يراه حوله، كأنه لا يعيش الحياة بل يتذكرها ويحلم بها. أن تعيش بذاكرة معصومة من الخطأ يعني أن تغرق في عالم يعادي الانتقاء والفرز، يساوي بين الذكريات المهمة والتافهة، ويؤرشف أوهن الأشياء بالدقة نفسها التي يحفظ بها أكثر الأحداث مصيرية.
هكذا تصير الحياة جحيماً من التفاصيل والجزئيات، متاهةً يستحيل سبر غورها.

في مقابل مثال "فونس" الخيالي يبرز نموذج مريض الـ"ألزهايمر" الذي يعيش في عالم من نسيان تام.. أسيراً للتشوش، والتقلبات المزاجية، وانهيار اللغة.
وبين المثالين المتطرفين تتنوع علاقة كل منا بذاكرته الخاصة، تنوعاً يحتوي على تشابهات بالتأكيد، وإن ظل كل شخص حالة فريدة.

يحلو لي تخيل جماع ذكريات كل فرد باعتبارها عمله الأدبي الخاص، نصه الذي يتشارك في صياغته الوعي واللاوعي بشكل غامض، بحيث يحصل في النهاية على "حكاية" هي مزيج من العاطفة، والعقل، والأحلام، والتهويمات، والوقائع التي حدثت فعلاً.

لا يمكننا أبداً فهم كيف تعمل الذاكرة؟ أو ما الآليات التي تدفعنا لتذكر أشياء معينة وجرف أخرى إلى هاوية النسيان؟

تأمل الذاكرة الإنسانية يدفع حتماً للدهشة. يعايش كل منا معجزة يومية من دون أن يفطن إليها ربما من فرط الاعتياد. أعني معجزة أن تقودك رائحة، أو كلمة أو لمحة عابرة للغوص في كهوف ذكريات قديمة والعودة بصيد من تفاصيل عايشتها قبل سنوات طويلة.

لا يهم إن جاءتك الذكريات ناصعة ودقيقة كما حدثت بالضبط أم لا، فقد تصلك مغلفة كما لو بضباب كثيف، أو محرّفة بآثار رغباتك وأمنياتك لما كان يجب أن يكون لا بما وقع فعلاً.

ما يهم هو أن الهوية الشخصية تتأسس على الذاكرة، وتغيب وتضمحل بفقدانها. أن حياتنا، من وجهة نظر كثيرين، ليست ما نحياه، إنما ما نتذكره مما عشناه. أي ما يتبقى من حياة حافلة من أثار "تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد" لو استعرنا كلمات طرفة بن العبد.

* عن مجلة الصدى

Friday, September 21, 2012

Dreams and reality, Memory and forgetting



Zuzana Kratka reviews

Maryam’s Maze

by Mansoura Ez-Eldin

AUC Press, 2007 ISBN 978-1-84659-025-2 pbk 154pp



Maryam’s Maze is the first novel by a young Egyptian woman writer, Mansoura Ez-Eldin. Writing about the life of an individual, emotions, inner thoughts, the relation between dreams and reality and their impact on human psychology, Mansoura Ez-Eldin belongs to the generation of new Egyptian writing that tackles the issues of individualty rather than those of society as a whole, marking them out from classic Egyptian authors such as Naguib Mahfouz, Yusuf Idris or Mahmoud Taymour. Mansoura Ez-Eldin began writing short stories in newspapers and magazines before publishing her first short story collection Shaken Light (2001), and now her debut novel Maryam’s Maze (published in Arabic by Merit Publishing in 2004). Born in 1976 in a small town in the Egyptian Delta, Mansoura Ez-Eldin graduated in journalism from Cairo University in 1998 and started her career working for Egyptian TV, progressively moving into press journalism, where she presently works as Reviews Editor of the weekly Akhbar al-Adab [Literary News].

Focusing on relations between dreams and reality, on the one hand, and, on the other, memory and forgetting, with a particular focus on women, Maryam’s Maze builds on Ez-Eldin’s short story writing. Concentrating on the internal life of her heroine, Maryam, Ez-Eldin seeks to capture the feelings and experiences of a young girl unable to distinguish clearly between dream and reality and who has lost consciousness of time and space. The narrative starts with the scene of Maryam dreaming about going to El-Tagi’s palace, the place where she grew up, and feeling that there is a ghost girl, her alter ego walking beside her. When they enter the palace together, its former inhabitants appear as ghosts before they all disappear leaving nothing but blood stains behind them. The scene finishes with Maryam’s ghost-like alter ego stabbing the real Maryam, who then wakes up from this terrifying nightmare only to discover that she is no longer in the hostel where she went to bed the night before, but in a flat that belonged to her grandmother a long ago. The reader is then taken on a journey of Maryam’s sparse memories in which she attempts to re-establish her past – ‘I’m nobody,’ said Maryam, […] Maryam felt that she had been reduced to nothingness. She no longer had any physical existence to fill a space in the void. From this moment on, she had to face the world like someone experiencing life for the first time.

Interested in feminism, but also in the human body, as she acknowledged in an interview for Camden New Journal in 2006, made while on the Banipal Live UK tour, Ez-Eldin offers her readers numerous flashback insights into relationships between individuals and their bodies. Maryam’s mother Narges, for example, is described as a woman who feels she was forced to abandon her dreams and her ambitions for marriage and family life, a woman too focused on herself and in love with the body of her eighteen-year-old self, who found pregnancy [with Maryam] a painful and negative experience.Maryam’s Maze is a novel that stands out not only for its content, but also because of its structure.

Each chapter begins with fragments from the story of El-Tagi, Maryam’s ancestor who founded the family and built the palace to which most of the narrative is linked. Besides this intertextual feature, each chapter opener carries a symbol, which is then demonstrated in the narrative of the novel itself. For instance, in the sixth chapter we can find a parallel between apricot trees in El-Tagi’s garden and Maryam . . . the small trees would grow until they reached a certain stage, then stop. And we learn about Maryam’s upbringing and education, how despite being a very gifted child in science subjects, Maryam couldn’t reach minimum marks in others, and as a result had to make alternative choices in her studies and life.

The novel has now been made available to the English language readership in a remarkable translation by Paul Starkey, who is professor of Arabic at the University of Durham and translator of a number of Arabic novels into English. Starkey has also written widely on the subject of Arabic literature, most recently authoring Modern Arabic Literature (EUP, Edinburgh, 2006). Maryam’s Maze is an intriguing, intellectually challenging and yet very enjoyable piece of writing. It can be read, re-read and read again from many different angles, bringing each time new views and opening new perspectives. Highly recommended.

From Banipal 30 - Autumn\ Winter 2007.

كتاب عن الحياة وفاتورتها الباهظة: منصورة عز الدين تكشف أسرار العائلة




الأسلوب الذي ميَّز نبرة الكاتبة المصرية فقد غرائبيّته السينمائية في «وراء الفردوس»، لمصلحة أحلام تجد تفسيرها في التراث الإسلامي

حسين بن حمزة

نقرأ رواية «وراء الفردوس» (دار العين ـــ القاهرة) للمصرية منصورة عز الدين، فنحسّ بأننا نقلب صفحات مجلد عائلي ضخم. فكرة العائلة أو السلالة هي الخيط الذي يضم خرز الشخصيات والمصائر والوقائع كلها تقريباً. الرواية تبدأ من سلمى، القادمة من القاهرة إلى بيت أبيها في القرية، مدفوعةً بحلم رأت فيه أنها تقتل جميلة ابنة عمها المقيمة، مثلها، في القاهرة.

سلمى وجميلة ذريعتان سرديتان لرواية تاريخ طويل ومتشعب لعائلة ريفية ميسورة الحال. الرواية ليست ريفية. الريف حاضر هنا كحاضن واقعي لا كطموح روائي. كذلك فإن شخصيات عديدة فيها تنتقل بين القرية والقاهرة، وبين ماضي العائلة وتقاليدها وبين خياراتٍ الشخصية مؤلمة.

سلمى التي تشرف على صفحة مخصصة لنشر النصوص الإبداعية في إحدى الجرائد، والمتزوجة بـ«ظيا» البريطاني ذي الأصل الباكستاني، تعود إلى القرية لتفتح صندوقاً أودع والدها مفتاحه عندها. قراءة محتويات الصندوق تترافق مع خطين رئيسيين في الرواية: في الأول، تُكشف تفاصيل العائلة وأسرارها أمام القارئ من خلال إعادة سلمى معاينتها. وفي الثاني، نعرف أن سلمى تكتب رواية بناءً على نصيحة من طبيبتها النفسية بكتابة أي شيء يساعد في علاجها. تتحرك الأحداث وفق تقنية رواية داخل رواية، فضلاً عن حضور كثيف للأحلام والحكايات الشعبية في ثنايا الكتابة. الأحلام التي ميَّزت نبرة منصورة عز الدين في مجموعتها القصصية الأولى «ضوء مهتز» تتخلى هنا عن غرائبيتها السينمائية لمصلحة أحلام مفسَّرة في التراث الإسلامي. الرواية مكتوبة من وجهة نظر المؤلفة. سنعرف أن جميلة هي ابنة الخادمة بشرى التي تزوجها العم وطلق زوجته الأولى، وأنها كانت دائماً الوجه الآخر لسلمى. جميلة ترفض الزواج بهشام رغم أنها تفقد بكارتها معه، بينما تتأزم علاقة سلمى بزوجها الذي يتركها ويعود للعيش في مانشستر.

حضور كثيف للأحلام والحكايات الشعبية

لا تنجو الرواية من حضور هاتين الشخصيتين. نستسلم في البداية لفكرة أنّهما بطلتان وحيدتان للرواية بسبب نفوذهما الملموس والخفيّ في مجرياتها، إلا أن منصورة عز الدين لا تكتفي بالحفر في هذا الموضع رغم ثرائه وقابليته ليكون رواية كاملة. الثراء الموجود في لعبة المرايا المتبادلة بين ابنتي العم اللدودتين يحضر بطرق مختلفة في حياة شخصيات العائلة الأخرى، إذ تُبدي صاحبة «متاهة مريم» مهارة واضحة في توريط القارئ داخل شبكة العلاقات العديدة في الرواية. وإذا كان الروائيون يفكرون بخلق التشويق لأنه استراتيجية ضرورية للقارئ، فإن التشويق في «وراء الفردوس» موجود في قماشة السرد نفسه. تقلِّب سلمى تاريخ عائلتها فنصاب بعدوى عدد من شخصياتها: خالتها لولّا التي حملت جنيناً من مجهول ثم انتحرت بجرعة زرنيخ، الأب رشيد الذي أدار مصنع الطوب الأحمر بمشاركة عمها جابر، والدتها ثريا، الجدة رحمة، العمة نظلة، العم سميح، بدر المجنونة التي يربطها أبوها بجنزير لمنعها من الخروج... لا تروي لنا المؤلفة حكاياتٍ فقط. ثمة طبقات تاريخية واجتماعية تربض تحت الحكايات. نعرف أن السرد محكوم بلذة الكتابة والتأريخ معاً. الشخصيات هي ابنة أزمنة ومنعطفات. السبعينيات والثمانينيات هما الماضي الذي تعود إليه سلمى باحثة عن «فردوس» الدِّعة والطمأنينة. لكن الحنين وحده لا ينقذها من براثن حاضرها. الحياة ـــــ بحسب الرواية ـــــ هي عملية متواصلة لدفع الأثمان الباهظة للعيش.

نُشِرَت المقالة في جريدة الأخبار اللبنانية بتاريخ 8 سبتمبر 2009

من يعرف سر الفردوس



يوسف رخا

“ترجل أربعة رجال من العربة مرتدين عباءات سوداء فوق جلابيبهم الكشمير، وفتحوا الباب الخلفي. أخرجوا منه جسداً مغطى بملاءة بيضاء، وحملوه صاعدين السلالم.”

بتماسك يستحضر المشاهد الأقوى من ثلاثية “الأب الروحي” لفرانسيس فورد كوبولا، استثمرت منصورة عز الدين – منذ “متاهة مريم” (2004) – تراثها العائلي في إعادة اختراع العالم: فجرت علاقة بنت الريف بالمدينة بعيداً عن أي فرضيات مستهلكة حول “الأقاليم” أو “المرأة”. وبإلغاز لا يستتبع ضعفاً في التركيز، عرّت كل شيء – الجنون، الموت، الأنوثة – دون أن تكشف سراً واحداً من أسرار نصوص أشبه “باللاڤا لامپ”، ذلك الفانوس البيضاوي الذي يسخر الكهرباء، لا للإنارة، بل للتلاعب بالضوء الملون.

هذه هي “كتابة السر”، كما سماها الناقد محمد بدوي إثر قراءة قصص كتابها الأول، “ضوء مهتز”.

واليوم، على خلفية الأقدار المتقلبة لصناعة الطوب وما استتبعته من تجريف الأرض الزراعية في دلتا الثمانينيات، يتسع مجال التداعي من منامات قاهرية مستجدة إلى ذاكرة كاتبة محبطة لطفولتها في العزبة والبندر، من جرائم القتل الحلمية إلى الفجيعة الواقعة وفقدان البراءة وعفاريت الأحباب الغائبين: في “وراء الفردوس” تتبلور قدرة منصورة عز الدين على بناء شخصيات حية ورسم الخطوط العريضة لمجتمع متمايز، مقترحة معاني غير تنويرية للوعي التاريخي وأسطورة القرين.

وبرغم المبالغة في الانضباط الأسلوبي (على حساب خصوصية صوت الراوية، أحياناً)، برغم التعدد المربك (أحياناً أيضاً) للشخصيات والحواديت، وبرغم أن تجاوُر مختلف المآرب الأدبية لا يبلغ دائماً غاية الامتزاج العضوي، تنتج منصورة عز الدين كتابة محبوكة، عميقة، سائغة، خالية ليس فقط من شوائب الذات (النسوية) وإنما كذلك من تهويمات المحيط (الريفي). بلا تعقيد مجهد أو ادعاءات “علمية”، تتجاوز “وراء الفردوس” القرية “الإدريسية” وإنسان “الأيام السبعة”، “حكاية” حنان الشيخ ومثلية صبا الحرز.

تتجاوز حتى الهوية الوطنية والجنسية، وتهمش بطلتيها حاملتي تلك الهوية، لتجوب فضاءات – مثل كاتبتها – تكشف دون أن تبوح.

نُشِرت المقالة في جريدة الأخبار.

Monday, September 17, 2012

ثمة من لا يهتم بمحاكمة الديكتاتور العجوز



منصورة عز الدين

عن ثورة يناير قال صديق قطع آلاف الأميال كي يرى مصر في لحظتها الحالية: "لقد غيّرتم العالم! سأكتب بمجرد عودتي: المصريون لا يدركون أهمية ما قاموا به". وبسبب الثورة نفسها، صرخت فينا امرأة أربعينية بينما كنا نشارك في وقفة احتجاجية أمام السفارة السورية في القاهرة: "خربتم البلد.. منكم لله!"..

وما بين تغيير العالم و"تخريب" البلد مساحات يتأرجح بينها المصريون - على اختلافهم وتنوع اتجاهاتهم- تأرجحهم اليومي بين أعلى درجات الفرح والتفاؤل وأقصى حالات الاكتئاب واليأس.

لم يبق هذا الصديق في القاهرة حتى يشهد معنا محاكمة مبارك، لكنه وعلى مدى عشرة أيام، كان قد جمع الكثير من الملاحظات والمشاهد الكفيلة بتكوين رقعة "بازل" ضخمة، عليه أن يجلس لإعادة ترتيبها، هناك على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، علّ هذا يعينه على فهم لماذا يتعامل المصريون مع ما أنجزوه بهذا القدر من التشكك والارتياب.

تشكك طال كل شيء بما في ذلك محاكمة الديكتاتور العجوز، ففي اليومين السابقين على المحاكمة بدت مصر في قبضة الترقب والقلق. كان ثمة قناعة لدى قطاعات عريضة بأن مبارك لن يحضر محاكمته، وزاد من هذه القناعة أن الجيش صعّد من عنفه تجاه المعتصمين في التحرير لينتهي الأمر بفض اعتصامهم والسيطرة على الميدان بالكامل أول أيام رمضان، كأنما يستبق الجيش بهذا ما قد يحدث اعتراضاً على غياب مفترض لمبارك عن محاكمته.

حين مررت بميدان التحرير صباح اليوم التالي لفض الاعتصام، شعرت كأني في ثكنة عسكرية. عساكر الأمن المركزي كانوا يقفون بالمئات خلف دروعهم متحفزين، وأكثر من مدرعة من مدرعات الجيش وقفت "تحرس" مداخل الميدان. ضباط وعساكر المرور كانوا يبالغون في أداء عملهم ويرفعون أصواتهم بخشونة متحمسة. الجميع هناك كان يتصرف كالمنتصر في حرب شرسة. سائق التاكسي نظر حوله حانقاً قبل أن يوجه لي جملته: "شكلهم فضوا الاعتصام عشان يعتصموا هُمّا في الميدان". لم يقلها بصيغة المعترض على مسلك الجيش العنيف تجاه المعتصمين السلميين بالأمس، بل بطريقة الحانق على الطرفين معاً. أقول له سيُحاكم مبارك غداً بفضل الثورة، فيرد: "أفلام! حضرتك بتصدقي الكلام ده؟!".

على عكس توقع الرجل، لم تكن الجلسة الأولى لمحاكمة مبارك مجرد فيلم، رغم احتوائها على كثير من العناصر الدرامية الكفيلة بإخراج فيلم مثير.
القاعة مرتبكة والطاغية العجوز يرقد فوق فراشه في القفص. ابناه واقفان بملابس الحبس البيضاء، ووزير داخليته يتململ برداء السجن الأزرق. للوهلة الأولى يرتجف قلبي، أعرف الآن معنى المشاعر المختلطة على نحو أفضل. أرتعش وجلاً وفرحاً، لكنّ نغزة مفاجئة توترني. أشعر للحظات أن عرض محاكمة عجوز مريض على الهواء مباشرة أمام ملايين المتابعين على امتداد العالم فيه شيء من انتهاك الحرية الشخصية وحقوق الإنسان. لكن الذكريات تتالى: أستعيد قناصة نظام مبارك، وهم يصطادون المتظاهرين برصاصات موجهة نحو الرأس مباشرة. المدرعات والعربات التابعة للنظام، وهي تدهس من يقف في طريقها خلال أيام الثورة. تستحضر ذاكرتي الغازات المسيلة للدموع التي كادت تعميني وتخنقني، وضابط الشرطة العسكرية الذي ركلني ودفعني لأرتطم بالرصيف يوم جمعة الرحيل. أعود لأنفض كل شيء عني محاولةً التركيز في محاكمة مملة، إلا أنها ترسخ قيمة القانون بطريقة غير مسبوقة في تاريخنا.

ربما أراد المجلس العسكري للمحاكمة أن تكون "قطعة حلوى للثوار ليعودوا إلى بيوتهم" كما رأى روبرت فيسك، لكن ثمة شواهد كثيرة تؤكد أن هذا الإلهاء صعب الحدوث، لأن هذه المحاكمة، كما يراها الثوّار، بداية لقائمة طويلة من أهداف الثورة، كما أن المعركة الأساسية ليست مع مبارك في حد ذاته، إنما مع الاستبداد أياً كان مصدره. والأهم أن منظر مبارك وهو في القفص لن يُمحى بسهولة من نفوس المصريين، وربما يكون، في حال سارت المحاكمة كما نتمناها، فاتحة لمحاكمة كل من لا يزال يقتل ويعذب ويعتقل المواطنين حتى الآن.

الثورة لا تزال قائمة. الثوّار يواجهون العنف والبطش والاعتقال، والشهداء ما زالوا يتساقطون (آخرهم محمد محسن شهيد "موقعة العباسية")، والمجلس العسكري يخوِّن من لا يتفق مع جنرالاته الذين ينزلقون بالتدريج إلى نفس ترسانة الاتهامات التي اعتاد نظام مبارك أن يوجهها لمعارضيه. ووسط هذا كله جاءت المحاكمة لتمنح المشهد الملتبس والفوضوي بعض الحيوية.

تلقف المصريون مجرياتها وانشغلوا بتفاصيلها. رآها بعضهم تدعيماً لموقف المجلس العسكري، في حين اعتبرها آخرون ثمرة الضغط المتواصل للثوّار واعتصامهم في التحرير، لكن إلى جانب مصر الثائرة والمنغمسة تماماً في مجريات التغيير الحالي والمهتمة بلعبة موازين القوة بين الثوّار والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثمة مصر أخرى لامبالية بكل هذا الصخب، مصر محايدة متفرجة على ما يحدث حولها كمن يتفرج على فيلم سينمائي، بل أحياناً لا يهمها التفرج أصلاً لانشغالها بتصريف أمورها اليومية البسيطة.

في الوقت الذي تابع فيه الملايين محاكمة مبارك ولاحقوا أخبارها، على بعد بضعة شوارع لا أكثر، وفي منطقة شعبية قريبة من مسكني، كان ثمة من لا يهتم بأمر الطاغية المريض، ولا يأبه بمجريات محاكمته، ولا بمصير الثورة من الأساس. في مواجهة محطة مترو أنفاق فيصل كان الموت يعلن عن حضوره والرعب يلقي بظلاله الكثيفة.

مشاجرة بين رجلين تحولت فوراً إلى معركة شرسة تورط فيها الشارع كله، وراح ضحيتها خمسة أشخاص. أهاتف صديقة تسكن هناك فتخبرني أن إطلاق الرصاص المتبادل لم يتوقف ليومين متتاليين. "صيدلية مصطفى تم إحراقها وطالت النيران سوبر ماركت لاوندي" تقول بصوت مأخوذ بما يحكي، قبل أن تشوبه رنة فرح شامت وهو يعلن: "الجيش هناك بس مش عارف يسيطر على الوضع". من متابعة الصحف أعرف أن معارك ضارية أخرى نشبت في أكثر من منطقة منها حي السيدة زينب، ومنطقة السبتية القريبة من شارع الصحافة.

صباح اليوم التالي، في شارع محمد مظهر بحي الزمالك الراقي، لم يكن الناس أكثر اهتماماً.
هناك جلس العشرات أمام سفارة السويد، فوق كراسٍ صُفت بجوار بعضها بعضاً مستندة إلى حائط السفارة، منتظرين الحصول على تأشيرة ذلك البلد الاسكندنافي البعيد. الجو بالغ الحرارة والصيام جعل الناس نافدي الصبر، ومحاكمة مبارك تبدو كأنما جرت في عالم آخر، لا أحد يشير إليها أو يهتم بها، كأن الرجل بكل ما يخصه أصبح ماضياً لا يرغبون في تذكره. فقط يتشوقون لإعادة ترتيب حياتهم بعد أن تعطلت طويلاً بسببه.

نُشِرت المقالة في ملحق "نوافذ" بجريدة المستقبل اللبنانية بتاريخ 21 أغسطس 2011.

مسحة أنثوية على أساطير الملعب



زيدان وفيجو مع زوجتيهما



منصورة عز الدين

في مباراة إنكلترا وألمانيا في مونديال 1990، بكى اللاعب الانكليزي بول جاسكوين قرب نهاية المباراة التي خسرها فريقه، فبدأت موجة من الهوس به، حسبما يشير سايمون كوبر في كتابه «الكرة ضد العدو». بكاء جاسكوين التقطته كاميرات التلفزيون، وجلب معه بكاء ملايين المشاهدين الإنكليز، كما ألهم المحطة الرابعة البريطانية لإعداد مسلسلات وثائقية عن الرجال الذين يبكون أمام الناس.

أذكر، أني وقتها كنت أشجع المنتخب الألماني بجنون، وعلى رغم هذا تعاطفت جداً مع دموع اللاعب الانكليزي المشاغب وشبه المجنون، بل أن القيصر فرانز بيكينباور مدرب الماكينات الألمانية ذهب بنفسه بعد نهاية المباراة لتطييب خاطر جازا (لقب التدليل الخاص بجاسكوين) الذي مثلت دموعه خروجاً على سياق عام ينظر للاعبي كرة القدم باعتبارهم نماذج للذكورة القوية اللامبالية والخشنة.

في كرة القدم، من الطبيعي أن نشاهد التحامات وعرقلات بالغة العنف، أن نرى فرانك ريكارد يبصق على رودي فوللر، أن نتابع البلغاري ستويشكوف (كان من نجومي المفضلين) يحتج صارخاً على الحكام، بل يضربهم، ويتصرف كبلطجي أكثر منه رياضياً، أن نتسامح مع «غش» مارادونا، إذ يسجل هدفاً بيده في مرمى إنكلترا، لكن أن نشاهد، لاعباً يبكي هكذا بحرقة كطفل ضاع من أمه في الزحام، كان أمراً مختلفاً.
صحيح أن مارادونا بكى بدوره، عندما خسر فريقه المباراة النهائية أمام ألمانيا أيضاً في البطولة نفسها، إلا أن بكاء جازا كان شيئاً آخر، كان بكاءً طفولياً مع لمسة أنثوية غامضة.

كان «جازا» جديداً على النجومية العالمية، ولم نكن نعرف الكثير عن حماقاته، التي تضاعفت مع موجة الهوس به بعد مونديال 90، لم نكن نعرف مثلاً أنه يُوصف بـ«جورج بيست لكن من دون عقل»، في إشارة للاعب أيرلندا الشمالية الأسطوري الذي دمرته الشهرة الهستيرية. (آخر أخبار جازا أنه مفلس وبلا مأوى حالياً، كما حاول الانتحار أكثر من مرة، لكن تلك قصة أخرى).

صعود الـmetrosexual

وإذا كانت دموع جاسكوين قد مثلت تعريفاً مختلفاً لذكورية لاعب الكرة القدم، فإن إنكليزياً آخر، قدّم نقلة حقيقية في مفهوم الجاذبية الجنسية، بل وفي صورة لاعبي الكرة بشكل عام، وأقصد به ديفيد بيكهام الذي يعد المثال الأهم لنموذج الـ metrosexual، وهو مصطلح ظهر للمرة الأولى في مقال لمارك سيمبسون في الاندبندنت عام 1994، غير أنه لم ينتشر بقوة عالمياً إلا عندما ربطه سيمبسون في مقال آخر عام 2002 بديفيد بيكهام. ويعني به سيمبسون نوعية من الرجال بالغي الاهتمام بمظهرهم الخارجي، ممن يعيشون في مدينة صناعية كبرى حيث المراكز التجارية الفخمة وأماكن اللهو المتنوعة، ويتسمون بالثراء الشديد، والبذخ في الإنفاق بشكل عام، وعلى المظهر بشكل خاص. يحمل الـ metrosexual النموذجي وفقاً لسيمبسون الكثير من السمات التي ارتبطت طويلا بالمثليين، لكنه ليس مثلياً بالضرورة.

ربط المصطلح ببيكهام دفع الكثيرين لتبنيه، وبوصفه الـmetrosexual الأبرز في عالمنا المعاصر. قدم لاعب مانشيستر يونايتد وريال مدريد السابق نموذجاً جديداً لذكورة كروية ناعمة، تحولت إلى صرعة فتحت الباب على مصراعيه أمام تيار كامل من نجوم كرة القدم الـmetrosexual لعل أبرزهم البرتغالي كريستيانو رونالدو الذي حل محل بيكهام كمثال لهذا النوع من الجاذبية الجنسية، تماما كما حل محله ليكــون الموديــل الجـديد للمــلابس الداخلية ماركة أرماني، التي يظهر، في الإعلان الجديد لها، أشبه بإله إغريقي في بوسترات ضخمة تنتشرعبر معظم دول أوروبا.
انتشار هذه الصرعة، دفع البعض للتساؤل، أين ذهبت الرجولة الصلبة للاعبي كرة القدم؟ واستفزت آخرين كي يكتبوا عن عدم وجود أي جاذبية جنسية في الـmetrosexul.

مع هؤلاء اللاعبين وآخرين قبلهم، تكون كرة القدم قد حلت مكان السينما في مد العالم بنماذج الرجولة والجاذبية الجنسية محيلة إياها (أي السينما) إلى التقاعد ولو مؤقتاً.
غير أن ثمة اختلافاً أساسياً، ففي السينما يمكن أن نجد ممثلين استمروا في صدارة النجوم الأكثر جاذبية لسنوات عديدة دونما امتلاك مواهب لافتة، أما في كرة القدم تصبح الموهبة شرطاً لازماً للجاذبية الجنسية، فاللاعب محدود الإمكانات أو حتى متوسطها، يفقد الكثير من مقومات جاذبيته، فلو لم يكن لويس فيجو، تيري هنري، باولو مالديني، فرانك ريكارد، زين الدين زيدان وغيرهم، لاعبين ممتازين، لما أصبحوا هؤلاء الرجال الجذابين. كانوا سيتحولون في الحال إلى أشخاص بليدين وجودهم غير مبرر في المستطيل الأخضر.

هذا الحديث عن الجاذبية ودور كرة القدم في تحديدها يصبح غير ذي معنى في حالة أساطير اللعبة وفلتاتها. دييغو مارادونا، على سبيل المثال، لا يمكن التعامل معه وفق المنطق السابق. هو مارادونا وكفى. امتلك منذ البداية كل ما يلزم كي يتحول إلى أسطورة: موهبة لن تتكرر بسهولة، حياة صاخبة تقترب من التراجيديا الإغريقية، وقبل كل شيء ترسانة من الأخطاء والشطط. ترسانة لم تفلح في هز مكانته في قلوب المغرمين به، لدرجة أنه عندما مُنِع من اللعب، توجه 2000 بنغلاديشي غاضب نحو داكا وهم يهتفون ستحترق داكا إذا لم يُسمح لمارادونا باللعب، كما هدد آخرون بأنهم سيحرقون منطقة وست إند في لندن من أجله.

ولا يزال الـ«دييغو» قادراً على سرقة الأنظار حتى الآن رغم اعتزاله منذ سنوات، ورغم مهاراته التدريبية المشكوك فيها. بتحركاته كمدرب وهو يتابع لاعبيه ويرشدهم، وبالساعتين في معصميه يقدم عرضاً موازياً للعرض الدائر داخل أرض الملعب.

أبطال ومحاربون

فيما يخص كرة القدم ثمة تمثيلات للذكورة تسود أكثر من غيرها، وتساعد وسائل الإعلام تحديداً على نشرها والإلحاح عليها، لعل أبرزها، كما جاء في دراسة صادرة عن جامعة سنغافورة، الرجل فائق الذكورة «El Macho»، والمحارب، والبطل، وجميع هذه التمثيلات تصب في قالب ذكورة قوية جديرة بالاحترام.

وفق صورة الرجل فائق الذكورة يتم تصوير لاعب الكرة عادة على أنه قوي، ماهر، ناجح، شجاع، سوي جنسيا، يظهر عادة مع زوجة/ صديقة مثيرة وجذابة. طبعا النجوم الـ metrosexual، والنجوم الباكون «تزايدوا كثيراً بعد جاسكوين»، يمثلون استثناءً لهذه الصورة، غير أن الاستثناء ليس على إطلاقه، لأن هؤلاء يلعبون في الملعب، كما هو مفترض بالقوة و«الرجولة» المتوقعة منهم.

صورة المحارب من بين الصور التي تفضلها وسائل الإعلام للاعبي كرة القدم، إذ تظهرهم عبرها متسمين بالقوة، العنف، والبطولة القومية. باختصار هم نماذج عازمة على التضحية، ومكابدة الألم، في سبيل المجد الوطنى.

إلا أن الصورة الأكثر شيوعاً هي صورة البطل، وأبرز أمثلتها نجوم مثل زين الدين زيدان، جورجن كلينسمان ومايكل بالاك. نطحة زيدان في صدر الإيطالي ماتيرازي يمكن النظر إليها وفق هذا التصور علامة على بطولة ذكورية هدفها الدفاع عن كرامة أخته أو أمه (لا أتذكر بالضبط) التي أهانها الخصم الإيطالي.

لكن بعيدا عن كل هذا، يروق لي، في النهاية، استحضار جملة لاعب المنتخب الإنكليزي في الثمانينيات جاري لينيكر التي يُعرّف بها اللعبة الأهــم عالميا: «كرة القدم لعبة بسيطة، 22 لاعبا يركضون خلف الكــرة على مدى 90 دقيقة، وفي النهاية يفوز الألمان»! وبداية الألمــان في هــذا المونديال قويــة، وتُذّكــر بآدائهــم في مونديال إيطاليا عام 90. 

نُشِرَت المقالة في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 18 يونيو 2010، ضمن ملف عن كرة القدم شارك بالكتابة فيه عدد من الأدباء العرب، بمناسبة مونديال 2010.

Sunday, September 16, 2012

فنجان "كابتشينو" يغير ثقافة القراءة في مصر



منصورة عز الدين


يحلو لهواة التقسيمات والحدود الواضحة أن يختاروا عام 2002 باعتباره العام الذي شهد التحول الرئيسي في سوق الكتاب والقراءة في مصر.
في هذا العام صدرت رواية «عمارة يعقوبيان» لعلاء الأسواني لتحظى بنجاح غير مسبوق على مستوى المبيعات، وتلفت نظر الناشرين الكبار إلى أن الأدب يمكنه أن يحظى بمقروئية عالية، لكن الأهم أن 2002 شهد افتتاح مكتبة ديوان بحي الزمالك، تلك المكتبة التي أعلنت عن نفسها بعبارة اعتبرها البعض وقتها من قبيل المبالغات الدعائية المحضة. إذ رأى المسؤولون عن ديوان أن مكتبتهم ستغير ثقافة القراءة في مصر، وهو ما كان.

الأمر طبعاً ليس بهذه البساطة، فثمة عوامل كثيرة ومصادفات موضوعية تضافرت لصنع لحظة مناسبة لانتعاش القراءة ولو جزئياً. غير أننا هنا لسنا في وارد الحديث عن الأسباب، بقدر ما نرغب في تناول النتائج المترتبة على «تغير ثقافة القراءة»، وعلى شيوع المكتبات الصالونية على النمط الغربي.

هذه المكتبات غيّرت بالفعل من فكرة المكتبة نفسها، تلك التي لطالما تعاملنا معها باعتبارها مكاناً نذهب إليه لشراء كتاب ما والمغادرة فوراً، وتعامل أصحابها معها في الغالب، كمخازن تُرَص فيها العناوين كيفما اتفق دون أي اعتبار لعامل الجاذبية أو السياق النفسي المصاحب.
مع ديوان بفروعها العديدة، وبعدها كتب خان وبدرخان وألف وبعض فروع مكتبات الشروق، أصبحت المكتبة مكاناً جذاباً. مكان ملحق به Cafe وأماكن للقراءة. أصبحت أيضاً أقرب لمراكز ثقافية مصغرة لها أنشطتها الثقافية الخاصة من ورش كتابة، وندوات وحفلات توقيع، الخ.
يستطيع القارئ أن يذهب لأي من هذه المكتبات لتناول قهوته وهو يقرأ كتابه، يمكنه أن يشتري كتاباً ويجلس لقراءة آخر، بل يمكنه حتى أن يتجول بين أرفف الكتب المرتبة جيداً ويسحب أحدها للقراءة في المقهى الملحق دون أن يضطر لشرائه ودون أن يجد من يلاحقه لدفعه للشراء. مثّلت هذه المكتبات على تنوعها واحات للقراءة في صحراء كاملة من عدم الاهتمام بهذا الفعل بل وحتى السخرية منه. كما أشعرت روادها على اختلافهم بأنهم جزء من عائلة أوسع، مجتمع خاص ومعولم يتشابه أفراده، يرشحون الأعمال لبعضهم البعض دونما سابق معرفة، ويقفون في حفلات التوقيع للحصول على توقيع كتّابهم المفضلين.
شيئاً فشيئاً، أصبحت المكتبات الحديثة لاعباً رئيسياً في سوق الكتاب في مصر. لاعب مؤثر يمكنه أن يرفع مبيعات كتاب بعينه، ويعتم على آخر. اختيار كتاب ضمن ترشيحات «ديوان» للقراءة كفيل برفع مبيعاته بدرجة كبيرة، كذلك اختياره ككتاب للشهر في مكتبة الكتب خان. طريقة وضع العناوين في المكتبة تدرجاً من الواجهة إلى الأرفف البارزة نزولاً إلى أرفف الأركان المنسية تلعب، هي الأخرى، دوراً مهماً في حظوظ البيع من عدمه. سلاسل مكتبات ديوان تختار العناوين التي تعرضها وفق معايير صارمة، وهي التي تطلب ما ترغب في عرضه من الناشرين. مكتبات الشروق تولي الأهمية الأكبر، بطبيعة الحال، للكتب الصادرة عن دار الشروق للنشر، وعناوين البيست سيللر والكتّاب الأكثر شهرة. في «كتب خان» تحرص كرم يوسف صاحبة المكتبة على نوع من التوازن بين الكتب ذات القيمة الأدبية الجيدة والأخرى مضمونة البيع، وعبر السنوات الماضية نجحت، عبر شغفها بالكتب، في خلق درجة من الثقة بينها وبين المترددين على مكتبتها، تجعلهم يقبلون فوراً على العناوين التي ترشحها لهم، الأمر الذي ساهم في ترويج عناوين جيدة غالباً ما كانت لا تحظى بالرواج اللائق وسط طوفان الكتابات الخفيفة المكتسح.

نهاية عصر؟

منذ ثماني سنوات تقريباً، وفي بداية ظهور المكتبات على النمط الغربي، أفاق المثقفون على اختفاء مكتبة الكتاب الفرنسي لصاحبتها إيفيت فرازلي، والتي ظلت طوال عقود، بموقعها في عمارة الإيموبيليا بوسط البلد، المصدر الأهم للكتب الفرنسية في القاهرة. بعد وفاة فرازلي نشأت الخلافات بين الورثة وشركة الشمس مالكة العقار، وبعد ماراثون في أروقة المحاكم، أفسحت المكتبة العريقة مكانها لمحال اللانجيري والأحذية. انتقل بها الورثة إلى ضاحية المعادي، وخرجت إلى درجة كبيرة من دائرة التأثير.

وقتها سارع كثيرون لرثاء المكتبة معتبرين إغلاقها المؤقت وترحيلها من مكانها نهاية عصر، مرددين أنه في السنوات الأخيرة، ومع تراجع عدد القراّء بالفرنسية، تغيّرت نوعية زبائنها من المثقفين الفرانكفونيين وسيدات المجتمع الراقي، إلى تجار الموبيليا الباحثين فقط عن كتالوجات الأثاث. كانت فرصة مناسبة تماماً لترديد أكليشيهات معتادة عن التدهور المجتمعي، والانحسار الثقافي. لم يدرك أحد وقتها أن الفكرة الأساسية تكمن في أننا نعيش في لحظة مغايرة تحتاج لنوعية مختلفة من المكتبات ونظرة جديدة لفكرة المكتبة وثقافة القراءة ككل.

من رددوا مقولات أن تراجع عدد قراء الفرنسية هو ما أدى للخسائر التي مُنيت بها مكتبة إيفيت فرازلي لم يستطيعوا تبرير الإقبال على الكتب الأجنبية بما فيها الفرنسية في مكتبات ديوان وكتب خان وغيرها من المكتبات الحديثة، خاصة أن جزءاً كبيراً من قراء هذه المكتبات، لا سيما في بداياتها، هم من خريجي المدارس الأجنبية والأجانب المقيمين في القاهرة.
ومؤخراً جاء الدور على مكتبة دار المعارف، لتحظى باهتمام المتابعين والمثقفين، بوصفها صرحاً عريقاً مهدّداً بالاختفاء، أو بتعبير الناقدة والصحافية عبلة الرويني «تاريخ يُطاح به أمام أعيننا دون أدنى إحساس بالخطر أو دون أدنى إحساس بالأسف أو بالأسى».

والحكاية أن فرع مكتبة دار المعارف بوسط البلد «شارع عبد الخالق ثروت» ظل مغلقاً طوال الأشهر الماضية دون أي معلومات باستثناء لافتة «مغلق للتحسينات» المعلقة على الواجهة. مما أدى لإثارة شائعات كثيرة يصب معظمها في خانة الخصخصة وبيع الفرع، أو تأجيره في أفضل الأحوال. لتتضح الصورة مع إعادة افتتاح المكتبة بعد تطويرها، حيث قام هشام أبو حجازي صاحب مطبعة «الجزيرة إنترناشيونال» بتجديد المكتبة بعد أن أصبح الوكيل الوحيد الذي يورد لها العناوين. كأن دار المعارف بكل تاريخها في النشر والتوزيع، ومع تراجع حضورها في السنوات الأخيرة، سوف تتحوّل مكتباتها، ممثلة في فرع عبد الخالق ثروت، إلى مجرد مكتبة لتوزيع العناوين نفسها الموجودة في المكتبات الأخرى.

المسكوت عنه في ما يحدث أن المكتبات التابعة لدور النشر ذات التاريخ العريق تعيش حالياً واحدة من أسوأ فتراتها، إذ تعتمد، في غالبها، على اسمها وتاريخها فقط (كثير من المكتبات المصرية القديمة هي مكتبة ودار نشر في الوقت نفسه). ويمكننا هنا أن نستدعي مكتبة الأنجلو المصرية التي أسسها صبحي جريس عام 1928 واختصت بنشر وتوزيع الكتب الجامعية والكتب الأجنبية. ومكتبة النهضة المصرية التي أُفتتحت عام 1930 ونشرت لعباس العقاد وطه حسين وزكي نجيب محمود ومحمد حسين هيكل وآخرين. ثمة أيضاً مكتبات متخصصة مثل مكتبة المتنبي التي تأسست عام 1970 والمتخصصة في بيع كتب التراث والقواميس، ولا يتردد عليها الآن إلا علماء الأزهر والقلة المهتمة بكتب التراث. ومكتبة البابي الحلبي (تأسست سنة 1859 على يد السوري أحمد الحلبي تحت اسم «الميمنية») التي اشتهرت في الماضي بإصدار «ألف ليلة وليلة» و«رجوع الشيخ إلى صباه»، وغيرها من العناوين الشهيرة، أصبحت تعتمد، هي الأخرى، على طلاب الأزهر الذين ينقبون بداخلها عما يحتاجون إليه من عناوين يعلوها الغبار.

استنساخ وشبهة احتكار

يرى كثير من المثقفين المنحازين للنمط القديم من المكتبات، خاصة المكتبات المتخصصة في كتب التراث والمعاجم والموسوعات وخلافه، أن المكتبات الحديثة ساهمت في تهميش المكتبات القديمة دون أن تقدم بديلاً مشبعاً. يحب هؤلاء أن يتهموا المكتبات الحديثة بأنها مستنسخة من بعضها البعض، تعرض العناوين الجديدة فقط، ولا تهتم بالصناعة الثقافية الثقيلة، وتسهم في تسييد الكتابات الخفيفة.
وهي اتهامات صحيحة جزئياً فقط، فنجاح المكتبات الحديثة أنعش صناعة الكتاب ككل، وأفاد الكتّاب خاصة من الأجيال الجديدة لأقصى حد، إلا أنه، وبشكل غير مباشر مثّل تهديداً للمكتبات القديمة والمتخصصة، لأنها «أي المكتبات الحديثة» طرحت صيغة أكثر جاذبية لفكرة بيع الكتاب وخلقت معها شرائح جديدة لم تكن تلتفت كثيرا للكتب المكتوبة بالعربية، في حين ظلت المكتبات القديمة تعاني من قلة الإقبال عليها.

لكن هؤلاء المتهِمين، يتناسون، أن الشرائح التي اجتذبتها المكتبات الصالونية على النمط الغربي، هي في معظمها شرائح مختلفة تماماً عن المتعاملين مع المكتبات القديمة والمتخصصة، والتي تعاني بضاعتها من الكساد حتى قبل ظهور المكتبات المعولمة. كما يتناسون أن المكتبات القديمة رفضت مواكبة الزمن، إذ عليها أن تطور من نفسها على النحو ذاته دون أن يعني هذا أن عليها أن تغير من نوعية كتبها.

غير أن الأمر لا يقتصر فقط على المنافسة بين المكتبات الحديثة، والمكتبات التقليدية، لكنه يمتدّ أيضاً لمنافسة شرسة بين المكتبات الحديثة وبعضها البعض، حيث يصح الآن تقسيم هذا النوع من المكتبات إلى مكتبات مستقلة مثل «كتب خان»، و«بدرخان»، و«البلد» مثلاً، ومكتبات كبرى ذات فروع متعدّدة مثل سلاسل مكتبات الشروق وديوان، وبطبيعة الحال تستحوذ المكتبات الكبرى على جزء لا يستهان به من السوق الأمر الذي قد يشكل خطراً على المدى البعيد على المكتبات الأصغر. غير أن أصحاب المكتبات المستقلة لا يقرأون المشهد بالضرورة على هذا النحو، فالكاتب إيهاب عبد الحميد صاحب مكتبة «بدرخان» بالشراكة مع المخرج علي بدرخان يوافق على أنه « لدينا حتى الآن سلسلتان كبيرتان من المكتبات، هما الشروق وديوان، وهما تتنافسان فى سوق محدود للكتب، من هذه الزاوية يمكن اعتبارهما «خطراً» على المكتبات الصغيرة، لكن من زاوية أخرى فإن ظهور المكتبات في حدّ ذاته يوسع من قاعدة القراء، باعتبار أن «الوفرة» يمكن أن تخلق «الحاجة»، لذا فزيادة عدد المكتبات الكبيرة تسحب بيد من السوق، لكنها تعطى باليد الأخرى للسوق نفسه. لذا أنا شخصيا أسعد مع افتتاح المكتبات الجديدة، وإن كنت أقلق من افتتاح مكتبات فى مناطق متخمة بالمكتبات، أثار قلقي مثلا أن تفتح مكتبة الشروق على بعد خمسين مترا من مكتبة ديوان الزمالك. لكن عموما السوق تحكمه عوامل أخرى، وحسابات عديدة».

لا يشعر عبد الحميد إذاً بالخطر من سلاسل المكتبات الكبرى رغم شراسة المنافسة، إلا أن آخرين، معظمهم من المتابعين، يشعرون بالقلق من نزعة «احتكارية» محتملة، خاصة إذا علمنا أن سلسلتي مكتبات الشروق وديوان تملكهما شركة واحدة! وثمة شائعات في الفترة الأخيرة مفادها أن هناك شركة ألمانية كبرى تدرس حالياً إمكانية دخول سوق بيع الكتاب العربي، عبر شراء/ إنشاء سلاسل من المكتبات على امتداد الوطن العربي، وعلى مسؤولية الشائعات ستكون القاهرة نقطة الانطلاق الأولى.
لكن مهلاً، أليس من السابق لأوانه استخدام لفظ «الاحتكار» عند الحديث عن سوق في بدايات علاقتها بثقافة بيع الكتاب على النمط الحديث؟!

نُشِرَت المقالة في جريدة السفير اللبنانية بتاريخ 11 يونيو 2010

أساطير العائلة تعيد الابنة إلى الريف


 ناظم السيد

بيروت- 'القدس العربي':

 بعكس الحيّز المكاني الذي جرت وتجري فيه الرواية الحديثة في غالبية نماذجها، فإنَّ منصورة عز الدين ذهبت بروايتها إلى الريف مباشرة. لم ترصد الروائية هجرات الريفيين إلى المدن، تلك الهجرات التي شغلت الرواية والسينما في مصر منذ 'ثورة يوليو' إلى اليوم، بل ذهبت إلى الريف لرصد حياة الناس قبل خروجهم من هذا الريف، قبل احتكاكهم أصلاً بالمدينة. حتى الأبناء الذين ذهبوا للعيش في القاهرة أو طنطا، والذين يشكلون شخصيات محورية في هذه الرواية، لا يتم رصد حياتهم في هذه المدن. تكتفي الروائية من حياة هؤلاء بذلك الجانب الذي يوقظه الريف، أي رصد حياة الطفولة لهؤلاء أو حركاتهم حين يزورون الأهل في مسقط الرأس والمكان الأول للاصطدام بالعالم.
لكن الريف كمكان تجري فيه أحداث الرواية، لا يجعل من هذه الرواية رواية ريفية، لا يضعها ضمن الأدب الذي اشتغل على الريف كقيمة في طريقها إلى الزوال كما في النماذج اللبنانية من مارون عبود إلى ميخائيل نعيمة إلى أنيس فريحة وإميلي نصر الله (أعطي نماذج لبنانية لأن اطلاعي عليها أوسع من التجارب المصرية أو غيرها من التجارب العربية، ولأن الرواية الريفية اللبنانية تشكل مفصلاً اساسياً في الرواية العربية تماماً كالشعر اللبناني الذي استلهم الريف كنوع من الحنين كما لدى شعراء الهجر، وصولاً إلى نتاج الأخوين منصور وعاصي الرحباني على صعيدي الغناء والمسرح). لا، الريف هنا مجرّد ذريعة للسرد، حجة لقول حكاية وتأليف حبكة.
إنه وسيلة القص وليس غايته كما سبقت الإشارة في الأعمال التي جعلت من الريف أيقونة وفردوساً مفقوداً وفكرة عذراء. ما يدلل على أن الريف هنا مجرّد مكان للقص هو أن الحدث الروائي ليس الريف وقيمه الجمالية والطبيعية والأخلاقية والحياتية عموماً، وإنما العائلة التي يجري رصد مصائرها فرداً فرداً من الآباء إلى البنين. العائلة بوصفها حدث الرواية تخرج هذا العمل من تصنيف الرواية على أنها ريفية ولا سيما أن السرد غالباً ما تركز على هذه العائلة وأفرادها كأن السرد يجري في الداخل من غير أن يقيم شأناً كبيراً للبيئة المحيطة إلا ما لزم أو صعب تجاهله (انتحار لولا مثلاً خالة البطلة سلمى بسبب حملها من دون زواج).

سلالة ومصائر

إذاً، تعيد منصورة عز الدين في 'وراء الفردوس' تأليف حياة عائلية تفرقت بالزواج والإنجاب ومشاغل الحياة والعمل وتبديل أماكن العيش وتراكم الزمن. من السهل القول إنها سيرة ذاتية تعيد فيها المؤلفة سرد حياة عائلتها. لكن سهولة كهذه يجب ألا تغري الناقد أو القارئ في ظل غياب معطيات حياتية عن المؤلفة. لهذا من الأسلم تناول الرواية على أنها عمل متخيل مستقل عن حياة الكاتبة حتى لو تقاطعت أحداث معينة مع حياة الكاتبة، غير غافلين عن عبارة فلوبير الشهيرة 'مدام بوفاري هي أنا'، مقابلينها بشغل رولان بارت على الشخصية الروائية، معتبراً أن 'الكائن في الرواية هو كائن نصي'. والحال، فإن عز الدين تسرد سيرة عائلة من خلال سلمى ابنة رشيد التي تزور بيت أهلها لتبدأ عملية مراجعة لتاريخ العائلة، من العم جابر الذي بنى مع والدها مصنعاً للطوب الأحمر، قبل أن تقرر الحكومة إغلاق مثل هذه المصانع، فأبدله بمصنع للطوب الطفلي، والعم سميح المشكوك في نسبه إلى أبيه بحسب ما توحي الرواية، وهو الأقل ثروة بين أشقائه، والعمة نظلة التي تزوجت ولم تفقد بكارتها فعادت إلى بيت أهلها لتمضي بقية حياتها في بيت شقيقها رشيد عاشق الشرب والنساء والإسراف واللهو، والخالة لولا التي حبلت من شخص مجهول وانتحرت بالزرنيخ، وصولاً إلى حكمت طليقة العم جابر الذي تزوج بدلاً منها بشرى زوجة خادمه صابر الذي قضى في معمل الطوب (إضافة إلى الجدة رحمة، والخالة أنوار، والخال مصطفى الذي تزوج من امرأة ثرية تدعى نهاد تخجل من حياة الريفيين، وظيا زوج البطلة سلمى وطليقها لاحقاً وهو بريطاني من أصل باكستاني). ثم هناك الجيل الثاني من العائلة أي هيام أخت سلمى التي تزوجت رجلاً يعمل في قطر ولبست العباءة، وخالد شقيق سلمى الذي راح يميل للتدين كرد فعل على سلوك والده، وأنوار الشقيقة التي تحضر في الرواية بلا أي صفة أو حياة، وهشام ابن العم جابر والذي نام مع جميلة صديقة سلمى منذ الطفولة وقرينتها إذا صحَّ الوصف، والتي تشكل مع سلمى بطلتي الرواية، سلمى التي تلعب دور حافظة الأحداث وراويتها ومؤولتها وحاملتها على معانيها المتعددة، وجميلة ابنة الخادمة بشرى (زوجة العم جابر لاحقاً) والخادم صابر الذي تمزق لحمه في مصنع الطوب. تلعب جميلة دور البطلة الظل. إنها ضمير سلمى وصوتها الباطني وهاجسها ومطاردتها ومحتلة الجزء العميق من لاوعيها.

تقصّي الأحلام

توظف سلمى في 'وراء الفردوس' الأحلام كمادة روائية أساسية. نحن أمام شخصيات تحلم وتعيش أحلامها ثم تحلم بما عاشته حقيقة. الحلم هنا مادة السرد وذخيرته. لهذا يتوسّع عالم الحلم في الرواية ليشمل الخرافات والأساطير الريفية من أرواح وجن، كما يشمل أغاني شعبية يرددها الصغار عادة، من غير إهمال علم النفس الذي يحضر من خلال جلسات العلاج التي خضعت لها سلمى لدى طبيبة مختصة. سنكتشف مع توالي السرد أننا أمام عالم يختلط فيه الواقع بالحلم. سيظلُّ هذا الاختلاط يتنامى ليبلغ أخيراً ذروته: هل فعلاً ما جرى كان يجري حقيقة أم أنه مجرّد تهويمات تحدث في رأس البطلة سلمى. إن استخدام الحلم والأساطير والحكايات وعلم النفس في الرواية شكلت أقنعة وأدوات أتاحت للروائية التأليف والإنشاء بدل الأرشفة والتوثيق. أتاحت لها إجراء هذه المسافة عن الواقع.
قد تكون 'وراء الفردوس' من الأعمال الروائية القليلة التي تنتجها امرأة من غير أن تخضع لهذا الشرط. ليس في الرواية تلك الأنا النسوية التي تشكل عادة بؤرة السرد ووسيلته وغايته. ليس هناك أيديولوجيا نسوية تتصدّر العمل الأدبي وتعميه أحياناً. لا يعني هذا أن المرأة ليست حاضرة كقيمة اجتماعية أو إنسانية. بالعكس. لكن حضوراً كهذا لا يختلف كثيراً عن حضور الرجل. مثلاً، انتحار الخالة لولا لا يختلف كثيراً عن موت الخادم صابر، وتديّن الشقيقة هيام لا يختلف عن تديّن الشقيق خالد، وتخلي هشام لا يختلف عن تخلي جميلة. هكذا فإن الحياة تقسّم حوادثها على الذكور والإناث بالتساوي، بعيداً عن موقع الرجل وموقع المرأة في مجتمع شرقي وريفي أيضاً.
كذلك تلفت لغة صاحبة 'ضوء مهتز' و'متاهة مريم' في هذه الرواية. إنها لغة سردية في المقام الأول، بعيدة عن البلاغات الشعرية والجمــاليات الإنشائية.
لغة بسيطة، سهلة، مباشرة، يأخذ فيها الحكي (من حكاية) مساحة واسعة، مثلما يشكل الحوار فيها ميزة المتكلمـــين وطبقاتهم وصفاتهم وثقافتهم. إنها لغة منضبطة عاطفياً: دراما بلا تراجيديا، وألم بلا تفجّع.

نُشِرَت المقالة في جريدة "القدس العربي" في سبتمبر 2009.

أهو الفردوس حقاً؟!


د. شيرين أبو النجا

كأن تشريح الذات بلا هوادة، عبر تحليل مفردات اللاوعى الانساني ـ ذلك الجانب المظلم المخيف ـ كان منذ البداية الهاجس الروائي الذي يسيطر على منصورة عز الدين. فقد بدأت تستكشف الطريق لذلك الجانب المختبىء البعيد في محموعتها القصصية «ضوء مهتز» (2001) ومن ثم وضعت الأساس في روايتها الأولى «متاهة مريم» (2004)، تلك الرواية التي قامت فيها مريم بقتل قرينتها أملا في الخلاص من ذلك الهاجس، إلا أنه مع كل جريمة قتل ترتكبها (أو بالأحرى تكتبها) منصورة يعود ذلك اللاوعى إلى احتلال المشهد بأكمله، مراوغا للواقع بكل وعيه المادي الثقيل والمثقل بآخرين، مفارقا له وأحيانا ساخرا منه. إذا كانت مريم بحثت ـ حتى أضناها البحث ـ عن مخرج لمتاهتها في السراية فإن سلمى في «وراء الفردوس» (دار العين، 2009) تحاول أن تتجاوز درجات السلم الثمانية للبيت الكبير، في محاولة لتثبيت صورة الفردوس المليء بأزهار الخوخ والخالي من أى طبقات اجتماعية كما تذهب الحكاية الصينية، ولأن الفردوس في هذا العالم المادي مفقود يقينا، فإنها تتجاوز الفردوس لتصل إلى ما ورائه رغما عنها. وبكل دلالات الاختباء التي يحملها ظرف "وراء" ينقب اللاوعى المختبىء عن مفرداته بنفسه، وكأن الذات قد انشطرت إلى قسمين، قسم يراقب ويسرد، والآخر ينقب بهيستيريا عن مكنونه لتخرج رواية "وراء الفردوس". 

يبدو البحث في مكنون اللاوعى هاجس أدبي انساني يتملك الكتاب بشكل عام، لكن القليل منهم هو الذي يتمكن من طرح مفرداته للقارىء بسلاسة عبر بنية روائية محكمة تنهل من كل عناصر العمل بشغف حتى يستحيل فصل مفردات اللاوعى المطروحة عن تلك الشخصيات في تلك الأماكن بتلك الأفعال. فتتحول الشخصيات في حركتها داخل النص، وبالتالي السرد، إلى منظومة ترمز إلى حركة اللاوعى الدائمة وتفاعله مع الواقع الثقيل. بذلك يأتي المشهد الأول محملا برمزية تؤطر الرواية بأكملها، في قرية بدلتا النيل قريبة من مدينة طنطا تنزل سلمى رشيد سلالم البيت "كنمرة هائجة"، "يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبي الضخم الذي يحمله" (ص 7)، ثم "سكبت قليلا من الكيروسين على الصندوق، وأضرمت فيه النيران دون ذرة من تردد" (ص 8). قررت سلمى حرق الصندوق الذي يحوي كل الأوراق التي تركها الأب رشيد اعتقادا منها أن الهدم الكامل يولد بناء جديدا فقد "كانت تراقب الصندوق وهو يتآكل كأن حياتها هى معلقة بفنائه وتآكله.. يتآكل أمامها رشيد، سميح، جابر، رحمة، ثريا، جميلة، هشام، ولولا ويحترقون. تحترق هى معهم كى تبدأ من جديد بروح شابة وذكريات أقل ألما" (ص 8). 

يؤسس هذا المشهد للسردية كاملة بشكل مفارق تماما، في حين تحاول سلمى التخلص من ماض طويل محمل بذكريات أليمة وبصور سلبية عن الذات في مواطن الاخفاق يتحول الصندوق المحترق إلى صندوق باندورا الذي يخرج منه التاريخ كاملا: تاريخ العائلة، تاريخ الحب، تاريخ الجسد، تاريخ الحراك الطبقي داخل القرية ومن القرية إلى المدينة، تاريخ تحول تلك القرية من الزراعة إلى الصناعة، تاريخ التربة الزراعية التي تم تجريفها لصالح الثروة السريعة، تاريخ الجنون، تاريخ الكتابة...كل التاريخ الذي تحاول سلمى أن تتخلص منه عبر انشاء الفردوس الخاص بها. ينفتح الصندوق على كل الذكريات، وهو ما يحوله إلى تقنية موظفة بشكل بارع تدفع كل اللاوعى إلى الاعلان عن نفسه، وهو الاعلان الذي يضع سلمى على الحافة بين الواقع والحلم. تتخذ تيمة الحلم مكانا رئيسا أيضا في الرواية، إذ تحاول سلمى التحرر من الذكريات عبر الأحلام، وتحاول تعويض الواقع الثقيل في الأحلام كذلك الحلم الذي رأت نفسها فيه تقتل جميلة صديقة الطفولة بدم بارد، لتجد جميلة تقف أمامها في الواقع بعد فترة وجيزة، وهى تستشف ما سوف يحدث في الأحلام أيضا كالحلم الذي فسرته لها عمتها نظلة فيما يخص ضياء زوجها.

تعيش سلمى بكل وجدانها في الأحلام، وتستعين على تفسيرها بأشخاص عارفين أو بكتب متخصصة، وهو الانغماس الذي يرمز إلى طرد للواقع سعيا لانشاء ماوراء الفردوس. الا أن هذا الانغماس في الحلم الذي يجعلها منفصلة تماما عمن حولها (تزداد حدة الانفصال بسبب شعور البارانويا الذي يوهمها أنها خارج المنظومة الاجتماعية والعائلية) مع تعملق الذكريات التي لم تحترق مع الصندوق يجعل سلمى تكتب في خواطرها: "أسير في الشوارع المكدسة فلا أرى شيئا. لا أبصر البلد التي شابت فجأة لأنني مشغولة فقط بذلك الجنون الذي ينمو بداخلي ومتوحدة تماما معه. أشعر أني أعيش يوما واحدا يتكرر بلا نهاية، أنا في حالة dejà vu دائمة.....أغمض عيني فأرى عوالم أخرى، أبصر عالما متوهجا، أشجاره حمراء ونباتاته كذلك، بحاره وسماواته خضراء بدرجات متفاوتة، اللون الأزرق فيه هو مجرد ظلال للونين السابقين. هو فردوس ملون كما أسميه، أهرب إليه فأخرج من ذاتي وخيباتي، أصير أخرى، لا يربط بينها وبين شخصيتي الحقيقية أقل القليل" (81 ـ 82).

يزداد هروب سلمى عبر تركها لذاتها في الفردوس ومحاولة إعادة صياغة الآخر. مرة أخرى تنجح الكاتبة في دمج الرمز بالسرد. تعمل سلمى محررة في جريدة أدبية، و "كانت لا تجد أى صعوبة في التدخل في نصوص الآخرين، غير أنها حين حاولت فجأة أن تشرع في كتابة رواية خاصة بها، وجدت نفسها في مأزق حقيقي" (86). بدأت تسلي نفسها "بتحريف وتشويه قصص الآحرين" (87)، فأرادت أن تكتب رواية عن عائلتها من هذا المنظور: منظور فني يراقب. كانت هذه هى مشكلة سلمى، ترى الأشياء والبشر من منظورأحادي البعد، منظور يصور لها ما تريد، وهو ما يظهر بعد ذلك في حكى جميلة عن نفسها.

للوهلة الأولى تبدو جميلة وكأنها الصورة المناقضة لسلمى، الا أنه بالتمعن في لاوعى جميلة يدرك القارىء أنها تنويعة مختلفة على شخصية سلمى، ربما تكون كل الشخصيات في العمل ليست الا تنويعات لنفس الفكرة: الهروب أو البحث عن الفردوس المفقود. جميلة هى ابنة صابر العامل الذي وهب حياته اخلاصا لرشيد وجابر في مصنع الطوب، وهى صديقة سلمى الحميمة، وهى أيضا ابنة بشرى التي شقت ملابسها يوم علمت بخبر موت زوجها فاشتهاها جابر وتزوجها، مفضلا إياها على زوجته حكمت التي طلبت الطلاق إثر هذه الزيجة. وهى أيضا جميلة التي وقعت في حب هشام ابن جابر ثم اكتشفت أنها لم تكن سوى علاقة عابرة في حياته مما ساهم في احساسها بالدونية. أرادت أن تهرب من حياتها السابقة، لم تبحث عن ما وراء الفردوس مثل سلمى، ولم تنغمس في الحلم، بالرغم من أنها "كانت ترغب فيما يشبه الانتقام، غير أن انتقامها لم يكن يعني الحاق الضرر بالآخرين، إنما فقط الارتقاء بنفسها، كى تصبح أفضل منهم. كانت غاضبة ومهانة. وعرفت جيدا كيف تحول غضبها إلى طاقة دفع للأمام" (214 ـ 215). أرادت جميلة أن تنسى ما فعلته بها الفروقات الطبقية، التي جعلتها "شخص غير مرئي، فائض عن الحاجة، ودخيل على عائلة قوية مترابطة"، عكس سلمى التي "لم تكن في حاجة لاثبات شىء سواء لنفسها أو للعالم المحيط بها" (214). انطلقت جميلة إلى الأمام مخلفة ورائها كل الماضي ـ الذي لم تنساه ـ وأنجزت كل ما كان يتعين على سلمى فعله. في حين هربت جميلة في تحقيق الذات هربت سلمى في الهوس بالذات ومحاولة تصوير الآخر، أو بالأحرى تشويهه.

كل نساء "وراء الفروس" يبتدعن وسائل للهروب (أم مقاومة؟) من ذواتهن أو من أجسادهن، طبقا لما يلائم المنظومة الذكورية التي يترأسها رمز الأب. وإذا كانت سلمى قد أخفقت في هذه المحاولة بكل الأشكال ـ حتى أن جسدها فرض ارادته ودمر زواجها ـ و "في أعماقها لم هناك سوى جحيم من الأفكار المتضاربة، والتخيلات والهواجس التي لا تستطيع التفريق بينها وبين حياتها الواقعية" (219)، فإن بعض الأخريات قد نجحن في الهروب ووجدن لهن موقعا مرضيا عنه في عالم العائلة الصغير عبر توظيف كافة وسائل التعايش والتواطؤ. فالعمة نظلة مثلا التي لم تدع زوجها يقترب منها هربت إلى عالم الشيخة شمس وحفظت القرآن وهو ما وفر لها مكانة اجتماعية، أما بشرى ـ والدة جميلة ـ التي اعتقدت يقينا أن صابر ـ زوجها الذي قضى في مصنع الطوب الأحمر ـ يأتيها مع كل قمر مكتمل، كان من الطبيعي أن يحل جابر محله في ليلة مشابهة، وإن ظل طيف زوجها يظهر بين الحين والآخر، حتى أنه توقف عن الظهور لجميلة التي أسلمت جسدها لهشام ولم تبال بسطوة الأب، أما لولا ـ  شقيقة ثريا وخالة سلمى ـ فقد انتحرت بشرب الزرنيخ بعد أن ظهر بطنها ولم تعلن اسم الرجل (تلمح الكاتبة أنه قد يكون رشيد والد سلمى)، وفيما يتعلق بهيام ـ شقيقة سلمى ـ فقد أعادت انتاج المنظومة الذكورية عبر التنكر لذاتها الأنثوية التي كانت عليها وفقا لرغبة الآخرين، كانت تمثل صورة المرأة الملاك الشهيرة في الأدب الفيكتوري. يرتبط فعل ورد الفعل الجسد الأنثوي بالأب الحاضر الغائب، وفي حين تتوافق كل النسوة معه ـ كل بطريقتها ـ تبقى سلمى خارج المنظومة تماما: جامحة مثل والدها رشيد.

سلمى "لم تعد راغبة في الحكى أو الكلام الذي طالما أحبته وانحازت له ضد الصمت. تكتفي فقط باغماض عينيها والتحليق في ملكوت خاص. صارت تغمض عينيها كثيرا. تغمضهما فتغرق في فردوسها الملون بألوان قوس قزح" (218). الا أنها في هذا الملكوت ـ وراء الفردوس ـ لم تتمكن من التخلص من آثار انفتاح صندوق باندورا، فمع كل تلك الأحكام التي أصدرتها على الآخرين، ومع كل ذلك الاستسلام لرثاء الذات، ومع كل هذا الجنون الكامل الذي يسعى إلى الانسلاخ عن كل ما حوله اعتقادا أنه طريق النسيان، تبقى سلمى أسيرة نفس الفكرة: الهروب.

في كل ما حكته سلمى لطبيبتها النفسية (وربما لذاتها) لم تذكر حكاية "بدر الهبلة" (وهى نموذج متوافر في كل قرية مصرية تقريبا) المتخلفة عقليا، والتي يقيدها والدها بالجنزير الحديد في السرير الضخم خوفا عليها من أى اعتداء جنسي من هؤلاء الذين قد يستغلون جنونها. كان جل هم بدر هو أن تغافل والدها وتفك الأصفاد الحديدية بمساعدة جابر، وهو ما كانت تنجح في فعله حتى اختفت تماما عند زواج بدر ببشرى، الفعل الذي اعتبرته خيانة لها. من كل هذه الذكريات المزدحمة لا يبقى الا قصة بدر الهبلة على لسان سلمى حين تفيق من الحادث الذي وقع لها. وبالرغم من أنها كتبت الرواية التي كانت تسعى جاهدة لانجازها، وسلمت نسخة منها لجميلة، الا أن الأصفاد الحديدية التي تكبل عقل وروح سلمى تبقى مستعصية على كل تلك المراوغات، فلا يبقى بعد الحادث الا ذكرى "بدر الهبلة" ومحاولتها الدؤوب في التخلص من قيودها وهو ما يتوازى مع محاولة سلمى أن تكتب عن عائلتها وأن تنأى بعقلها عن الذكريات.

تبدأ "وراء الفردوس" من الذات التي تحاول أن تنسلخ وتنفصل عن واقعها (ماضيها وحاضرها) وتنتهي بالذات الراقدة بدون حراك في سرير بمستشفى وهى لا تزال غارقة في هوس التخلص من القيود، "وجدت نفسها مشدودة إلى سرير معدني بارد في غرفة ضيقة مشبعة برائحة الأدوية والمطهرات" (221). تبدو سلمى في النهاية وكأنها تنويعة أخرى على شخصية "بدر الهبلة"، مما يجعل الرواية تنتهي بشكل مفارق، وبشك عما إذا كان ذلك المكان وراء الفردوس هو النعيم أم النار. فمحاولة الوصول إلى ما وراء الفردوس تشبه محاولة العودة إلى مرحلة العقل الخالي من أى انطباعات أو ذكريات أو تاريخ أو حتى معرفة، وهو المعروف فلسفيا باسم "تابيولا رازا"، ولم يكن سوى افتراض فلسفي بحت. ربما يتجلى جنون سلمى في سيطرة هذه الفكرة عليها، وقيامها بتطوير صورة ذلك الفردوس المنعزل، وهو ما يجعل النهاية ـ "عندما فوجئت بجسدها كأنما يطير في الهواء قبل أن يسقط مرتطما بالأرض" (221) ـ مشهدا حرفيا. فسلمى التي ظلت تحلق في ملكوتها الخاص كان لابد أن عود للأرض ولو بهذه القسوة، وهو ما يجعل وراء الفردوس مكانا وهميا يتخذ منه العقل تكئة للهروب من المواجهة: مواجهة الواقع المادي الثقيل وقبول وخز الألم.

نُشِرَت المقالة في مجلة "الكلمة" في سبتمبر 2009

Saturday, September 15, 2012

A review of Maryam's Maze




Mansoura Ez-Eldin’s new novel, which challenges deeply held views about Middle-Eastern women, is a far cry from chick-lit, writes Mohammad Al-Urdun.

WRITING this novel left Egyp­­­tian author Man­soura Ez-Eldin wracked by doubts.
Not just because it was her first novel, but because in it she challenges some deeply held views about women.
Readers in the Middle East, she feared, weren’t completely at ease with such an unconventional novel from a woman – even in Egypt with one of the most progressive literary scenes in the region. There were still taboos.
Over the past few years Ez-Eldin has made a name for her bold, experimental writing. Since moving to Cairo from a village by the Nile, she’s been feted as one of Egypt’s fastest-­rising thirtysomething women writers. It is no surprise she’s caught the eye of several international publishers.
Yet Ez-Eldin still frets that she may have gone a step too far with Maryam’s Maze.
“Arab readers aren’t used to this style from an Arab writer – especially from a woman,” she says. “I felt like I’d committed a crime.”
As things turned out, Maryam’s Maze was praised for being “avant-garde” and “eerily gothic” and Ez-Eldin for her “fearlessness” in testing new ground.
She’s one of the women writers who have pushed themselves to the forefront in Egypt, a country rocked by western and Islamist forces, and by conflicts in Iraq and Palestine. So when they grapple with gender, sex, family and everyday life, what they produce is far from glossy chick-lit.
That’s not to say Ez-Eldin writes in overt political tones. She produces a style of her own. In Maryam’s Maze she has created a smoke-and-mirrors
psychological thriller with an eerie twist.
Maryam is a young woman who wakes to find her life turned upside down, her lover vanished and her closest friend disappeared.
Every little thing seems slightly out of place until it dawns on her that all she has left are fragments of memory to piece back to together amid a rising terror that she has gone completely mad. Whether she has remains an open question. Ez-Eldin trails a series of clues and tosses in some confounding questions: is Maryam mad, the victim of a terrifying altered re­ality or is she perhaps dead and returned as some kind of ghost to walk the streets? The questions are never quite answered.
“I love to take risks by trusting the reader to make up their own mind,” says Ez-Eldin.
The secret, she finally let on, is in the Egyptian mythology she learned at her grandmother’s knee in a tiny village by the Nile. In Maryam’s Maze she conjures a spirit-­double (known as a Qarin in Islamic folklore) which lives in the shadows of Maryam’s life, hellbent on usurping her.
She uses this device to explore metaphorically the issues of identity and memories she feels are at the heart of Middle Eastern politics in Iraq, Palestine and Egypt, where young people are torn between the West and traditional, often Islamic influences.
The cohesion and optimism of post-colonial Egypt of the 1950s and 1960s has given way to cynicism with the pro-American government of Hosni Mubarak and an identity crisis that has left people searching for a new way.
“When I began to write I was totally occupied with questions of identity, memory, the human condition and insanity,” says Ez-Eldin. “I was trying to understand how the dreams of the Nasser era became so meaningless to the new generations.”
The novel is set against the background of the patriarchal society that presses on Egyptian women. Maryam’s Maze also asks some awkward questions of the nature of the oppression.
“On many levels oppression begins in ourself. We can be our own worst oppressors,” says Ez-Eldin who insists she is not a feminist.
“To be honest, I was much more interested in human beings in general,” she says. “In many ways Maryam could be from any part of the world.”
Nonetheless, it’s the special Egyptian twist which makes this such an intriguing story and Ez-Eldin such a hot prospect.

• Maryam’s Maze.
By Mansoura Ez-Eldin. American University in Cairo Press

This review was published in Camden New Journal on May 8, 2008.

ست شمعات





 منصورة عز الدين

البيت مثلما وصفه لي بالضبط!

بناء طيني محاط بسياج من أعواد القش تظلله شجرة توت ضخمة وتحيط به أشجار كافور ويقبع منعزلاً بعيداً من العمران. وقفتُ أتأمل بابه الخشب العتيق، استغرقتني الكف المطبوعة عليه... وضعت كفي عليها، فلم تتطابق معها. بصعوبة، انتشلت نفسي وطرقتُ الباب.

طرقة واحدة على استحياء، تلتها طرقات أخرى بوقع أشد، حتى فتحت لي. كانت كما تخيلتها تماماً: سمراء، نحيلة، مطفأة النظرة، تربط رأسها بعصابة سوداء، وترتدي جلباباً فضفاضاً باللون نفسه، لم أعرف ما ينبغي عليّ قوله ولا كيفية تبرير زيارتي المفاجئة لها. لحسن الحظ وفرت عليّ أي كلام.

« استنيتك كتير». قالت.

• إزاي عرفتي إني جاية؟

- هو قال إنك أكيد هتيجي.

• ردت بتجهم، ثم أنزلت لمبة الكيروسين المعلقة بمسمار إلى الحائط، أطفأتها بنفخة من فمها، وقالت:

-         نور ربنا كفاية.

نظرتْ إلى السيجارة التي أشعلتُها، وأشاحتْ بوجهها بعيداً... تشاغلتْ بالعبث في ثنيات ثوبها الأسود الفضفاض، وإن ظلتْ تتابعني خلسة، وترمق شعري الأسود المتناثر بلا انتظام فوق كتفي، وملابسي السوداء القصيرة، ونهمي للسيجارة التي أمتصها.

سألتها عن الغرفة، فأشارتْ إليها. فتحتُ الباب فباغتتني الحيطان العارية، ورائحة بخور نفاذة. أغلقتُ الباب خلفي، خلعتُ حذائي، وخطوتُ حافية على الحصيرة الخوص النظيفة.

كانت الغرفة بلا نوافذ وخالية إلا من سرير خشب، ومنضدة صغيرة فوقها شمعدان فضي به ست شمعات وبجواره بعض الكتب القديمة ذات الأوراق المصفرة. غبار أبيض كان يغطي كل شيء. حاولت مسح بعضه بيدي، فلم أفلح، توقفت عندما تذكرت تحذيراته لي من أن أحاول تعديل أي شيء في الغرفة، أو أحكي لأي شخص عما مررت به فيها. شددّ علي أيضاً ألا أغادرها إلا بعد مرور يوم كامل على دخولي لها، وألا أنطق بأي كلمة وأنا فيها. «تجربة ستؤثر فيكِ كثيراً» قال بهدوء وثقة.

بدأت أشعر بالتوتر وبعض الندم لمجيئي إلى هنا، فأشعلت سيجارة ثانية علّها تمدني ببعض الهدوء، وتمددتُ فوق السرير.

دسستُ وجهي في الوسادة، هرباً من رائحة البخور فوجدتها صارت أكثر تركيزاً. أبعدت وجهي، وجلست مستندة بظهري إلى قائمة السرير. شعرت كأنني أسمع ضحكاته الصاخبة تتناثر على أرضية الغرفة، شحذت قواي محاولة تجميعها وصبها في أذني لتتسلل إلى المخ مباشرةً. شعرتُ بحضوره معي، وبلمساته، وشممتُ رائحة التبغ الممزوجة بأنفاسه الحارة. استحضرتُ نبرة صوته الهادئة وكلماته التي ينطقها متمهلاً كأنه يبخل بها على من يحادثه.اندهشت من حضوره الكثيف في المكان.

فجأة بدأت أسمع أصواتاً متداخلة لأشخاص أعرفهم الآن أو عرفتهم في الماضي، كانوا كأنما يتجادلون بعنف وعصبية، ويتردد اسمي في حديثهم من وقت لآخر. كنت عاجزة عن فهم ما يقولون، أضحت الكلمات مجرد أصوات منطوقة بلا معنى أو دلالة محددة. خفتت أصواتهم تدريجياً، من دون أن تصل للصمت التام. بقى وشيش خفيف يحف المكان ويدل على وجودهم غير المرئي.

وحده اسمي كنت أسمعه بوضوح حين يذكرونه. مع حلول المساء، أُنيرت الشمعات الست كأنما من تلقاء نفسها. لم أشعر بالجوع أو العطش، كما لم أعد في حاجة للتدخين. أغمضت عينيّ متجاهلةً الهمهمات الخافتة التي لم تنقطع. مرت كل تفاصيل حياتي أمامي كشريط سينمائي. كانت ذاكرتي مشحوذة، كأنها احتفظت بأدق التفاصيل التي عشتها، مع التركيز على لحظات الإخفاق أو الخطأ التي أخذت تُستعاد في ذهني المرة تلو الأخرى، وعلى عكس توقعي لم تخّلف بداخلي أي ألم أو ندم. كنت كأنني واقعة تحت تأثير مخدر ما جعل ردود أفعالي بطيئة، وأزال أي توتر أو خوف، أو عاطفة.

هادئة تماماً، خلعت ملابسي وتمددتُ شبه عارية فوق الفراش الخشن، أراقب حياتي، تتكرر أمامي ببطء وبلا نهاية. غفوت فجأة لفترة لا أعلم مداها، في اغفاءتي كنت كأنما أسمع صوته أيضاً، وحين أفقت وجدتني مرتدية ملابسي بالكامل، وجسدي يؤلمني في أكثر من موضع، انتبهت إلى أن الغرفة جد مختلفة عن السابق، أبصرت نافذة تتوسط الحائط عن يميني، ولم يكن هناك أثر للشمعدان بشموعه الست، ولا للكتب القديمة بجواره، المنضدة الخشبية نفسها لم تكن موجودة. خمنت أن هناك من نقلني إلى غرفة أخرى. اعتدلت في جلستي وأنا أتساءل عن مصدر الألم الخافت في جسدي. قمت ببطء، ارتديت حذائي، وخرجت بتثاقل.

كان البيت يتباعد عني. ثمة مطر خفيف، وظلام يخطو متردداً. أحكمتُ وضع شالي الأسود على كتفي، مددتُ كفي أمامي فسقطت عليها بعض قطرات المطر. ضممتُ قبضتي، وخطوتُ أولى خطواتي في طريق العودة.



أبريل 2010
من مجموعة قصصية تصدر قريباً بعنوان "نحو الجنون"..