Tuesday, September 11, 2012

ملاحظات على هامش الأدب والثورة


منصورة عز الدين


كنا، نحن الكتّاب الجدد، نقول: لسنا مثل من سبقونا. ليس لدينا ما نخسره.
لم نخسر "حلماً جميلاً" لأننا ببساطة كنا بلا أحلام. عشنا منشغلين بالفرار من كوابيس خلفتها أحلامهم المجهضة. وفي غمرة هذا الانشغال اليائس مرت حياتنا من دون أن نحياها. انقضى جزء كبير منها بلا أحداث حقيقية.
ثم فجأة وجدنا أنفسنا في خضم حدث مزلزل. ثورة خضناها ونحن نتدرب على النطق بحروف اسمها ونتعلم فهم معناها ومغزاها. الجيل الذي لطالما هرب من الكلمات الكبيرة والمشاعر العميقة، وتحاشى العاطفة والحنين في الكلمات والأفعال، تنازل طوعاً عن عدميته، وانخرط مع الجموع بحثاً عن غد أفضل. جيل عرف معنى اليأس جيداً، وأدرك أنه كالخوف، يأكل الروح. لذا كان من المنطقي أن يتشبث بحلم الثورة ما إن لاح في الأفق.

هي ثورة خيال. تقول صديقة فأؤمن على كلامها وأحدثها عن صعوبة أن تنكشف الحجب،  بحيث يحدق المرء بكل حواسه في الجحيم وقد فُتِحت أبوابه. صعوبة أن يتحول الالتباس إلى حقائق واضحة. أن تجد نفسك فريسة لوابل من الرصاص الحي والمطاطي وقنابل غاز تترك في نفسك وجهازك التنفسي أثراً لن يمّحي. مأسور في شوارع تحولت إلى فخاخ مرعبة. هناك من سقطوا على مقربة منك غارقين في دمائهم. ثمة قتلة رأيتهم يرتكبون جرائمهم مبتسمين ببرود، و"مواطنون شرفاء" تعاموا عن مذابح تجري على بعد خطوات منهم.

في آخر نوفمبر الماضي، كان ثمة مذبحة في شارع محمد محمود المؤدي إلى ميدان التحرير. الشوارع القريبة من الميدان كانت هادئة هدوءاً خادعاً كأنها تتواطأ لإقناع نفسها قبل الآخرين أن لا شيء يحدث. المارة هنا وهناك يواصلون روتينهم المعتاد. وحده، الهواء المثقل بالغازات المسيلة للدموع ومعه دوي الطلقات النارية، كانا يفضحان القتلة ويعريان الجريمة الوحشية.
بدا "محمد محمود" غارقاً في الدخان الأبيض لقنابل الغاز، ومرتعشاً تحت ثقل القصف العنيف من قوات الأمن لمتظاهرين مثابرين ذوي عزيمة هائلة.
في لحظات مماثلة، تحمل الأشياء معانىَ مغايرة عمّا ألفناه، يكتسي كل شيء بحمولات رمزية مكثفة. يُعاد تعريف الشجاعة والبطولة، ويواجه كل فرد دخيلة نفسه بلا أقنعة ويقترب من حقيقته العارية.

تصبح الحياة، في حد ذاتها، نَصاً فنياً جديراً بالتأمل. على الرغم من الألم والأسى يبرق في الذهن سؤال: كيف نترجم هذا النص إلى فن يليق به؟ كيف يمكن أن نعاود الكتابة بالمكر القديم بعد أن تورطنا إلى هذه الدرجة في الحدث الدائر؟ كيف يمكننا أن نخترع لغة موازية لما عايشناه؟ الفن ماكر شرير، لا مكان فيه للميوعة العاطفية، أو التورط المبالغ فيه أو المديح المجاني. لا يليق بالثورة "السنتمنتالية" المفرطة ولا النحيب الساعي للابتزاز العاطفي. تحتاج إلى فن يشبها. جسور، مقتحم، ومباغت لا يتسول منها شهرة لكاتبه أو بطولة وهمية تسحب الضوء عن الأبطال الفعليين، ملايين الجنود المجهولين الذين كتبوا، ولا زالوا يكتبون بدمائهم الطاهرة ولحمهم الحي نص الثورة.

قد يبدو سؤال الكتابة ترفاً في أوقات كالتي نعيشها، لكني أراه في القلب مما يحدث حولنا. فالكلمات هي تميمتنا ضد العدم، ضد النسيان. ما أحوجنا إلى التذكر في أوطان مفخخة تحترف النسيان وعدم الإكتراث. أوطان تلونت في 2011 بثورات مبدعة وخلاّقة تتهددها أخطار شتى.

باغتني سؤال الكتابة الإبداعية في قلب الأحداث الدامية في شارع محمد محمود، وكان قد مضى على بدء الثورة المصرية قرابة السنة. كنت أسير بنصف وعي محاطة بضجيج قنابل الغاز وطلقات الخرطوش ورصاص القناصة. خلال نصف ساعة رأيت جثث أربعة متظاهرين غارقة في دمائها محمولة إلى المستشفى الميداني. كان مشهداً صادماً، أصعب من كل ما سبق بما في ذلك أحداث جمعة الغضب بحرائقها وعنفها. لم أكن أسأل نفسي عن كتابة المقالات أو اليوميات، إذ أنني واظبت على متابعة الثورة بالمقالات منذ بدايتها. بدأ الأمر ببساطة ودونما حيرة أو ارتباك. ضُحى يوم 29 يناير 2011 عدت إلى بيتي مهدودة الجسد بعد أن قضيت اليوم السابق (المعروف بجمعة الغضب) في الشارع مع غيري من المتظاهرين. تعرضنا للضرب بقنابل الغاز والرصاص المطاطي والحي، رأيت المصريين البسطاء يواجهون قوى الأمن الغاشمة دون رهبة أو خوف من الموت، وفي المساء اشتعلت المدينة بنيران الحرائق قبل أن تنزل مدرعات الجيش إلى الشوارع. كان الموت يتجول بيننا والنيران تهدد بالتهام مدينة عريقة بمن وما فيها. ما أن ولجت إلى بيتي، وبعد الاطمئنان على طفلتي الصغيرة، وجدتني ألجأ إلى الورقة والقلم لأكتب بينما أبكي تفاصيل ذلك اليوم العنيف. من دون تفكير كنت كأنما أقول إن الكتابة هي سلاحي في مواجهة القهر والظلم. كتبت من غير أن أفكر هل سيُنشر ما أكتبه ولا أين سيُنشر؟ في منتصف الكتابة تلقيت مكالمة هاتفية تطلب مني مقالاً عن جمعة الغضب للنيويورك تايمز، وهو ما كان. بعدها تواصلت المقالات المتابعة لمنحنيات الثورة والموثقة لانعطافاتها والناقدة لها إذا لزم الأمر. كنت أشعر أن هذه الكتابات مكملة لمشاركتي في التظاهرات على الأرض، ولا تقل عنها في الأهمية.
غير أن ما لفت نظري أني صُمت عن الكتابة الإبداعية طوال عام كامل؛ هجرت روايتي التي كنت بدأت في كتابتها قبل شهرين على بدء الثورة، وركنت المجموعة القصصية التي كنت قد انتهيت منها في أحد الأدراج القصية، ولم أدفع بها للنشر إلاّ قبل شهر واحد. وأعتقد أن هذا غير مستغرب، فالكتابة الإبداعية تخضع لشروط أخرى، والطريق إلى جحيمها مفروش بالنوايا الطيبة.

كثير من الكتابات التي نُشرت عن الثورة في مصر خفيف ولا يرقى لمستوى الحدث، بعضها لا يضيف جديداً لمن تابعوا الحدث عبر شاشات الفضائيات، فما بالكم بمن شاركوا فيه؟ معظمها حسن النية هدفه دعم الثورة والتوثيق لها وفضح استبداد النظام السابق، لكن كما قلت سابقاً النوايا الحسنة لا تكفي وحدها في ما يخص الفن.

من جانب آخر تسابق أدباء كثيرون لإعلان أن أعمالهم تنبأت بالثورة قبل وقوعها، كأنه مطلوب من كل كاتب أن يكون متنبئاً؟ أو كأن فعل التنبؤ (بفرض صحته) سيمنح نصوصاً رديئة قيمة أدبية تفتقدها؟!
ويطالب آخرون المبدعين بمواكبة الثورات بسرعة بالإبداع المعبر عنها.

 ينسى هؤلاء وأولئك أنه بينما كانت الطبول تُقرَع لبدء الحرب العالمية الأولى كتب كافكا روايته "التحول أو المسخ"، وفي خضم آتون هذه الحرب وُلِدت "المحاكمة" لم يجد كافكا نفسه مضطراً لأن يوثق في إبداعه لمجريات الحرب الواقعية، لكن كابوسية عالمه تطل علينا كأنها وجه آخر لكابوسية الحروب والمآسي البشرية في عالم يفقد عقله وإنسانيته.
أما مواطنه ياروسلاف هاشيك فقارب في روايته "الجندي الطيب شفيك" الحرب نفسها من زاوية الكوميديا السوداء التي حولتها إلى مهزلة كاملة الأوصاف وأظهرت عبثيتها ولا معقوليتها أكثر مما كان يمكن لمئات الصفحات من الكتابة الدعائية المباشرة أن تفعل.
ومن جانبه صمت نجيب محفوظ لخمس سنوات بعد "ثورة" يوليو 1952 انطلاقاً من وعيه بأن الكتابة الإبداعية عن حدث مماثل تتطلب مسافة تتيح للكاتب تأمله والإلمام بوجوهه المتنوعة وتأثيراته غير المرئية.

أرجو ألاّ يُفهَم من كلامي أني ضد الكتابة الإبداعية عن الثورة الآن. فهذا بعيد عمّا أعنيه، لأن في النهاية الفن قرين للحرية، كما أن العمل الأدبي المنجز هو الفيصل. والمسافة المطلوبة قد تكون مسافة زمنية أو مسافة وجدانية. فقط ما أتخوف منه، بعد الإطلاع على عدد من الأعمال التي نُشِرَت في مصر، هو التعلل بالثورة لمنح المشروعية لنصوص ركيكة تنتمي للبروباجندا أكثر من انتمائها للفن. أتخوف أيضاً من أن نعود لطرح أسئلة قديمة تجاوزها الزمن. أكتب هذا وفي بالي احتجاج الناقد محمود أمين العالِم على الحزن في أشعار صلاح عبد الصبور في زمن السد العالي ومطالبته إياه بأن يكتب عن الجمعيات الزراعية والتأميم وبناء السد! يعود كلام العالِم لذاكرتي كلما قرأت لأحدهم، في مقام نقده لرواية ما: هل هذه الكتابة ملائمة لزمن الثورات؟! أو قرأت لآخر يتساءل: متى يواكب الإبداع الثورة؟! كأن المسألة مرتبطة بالضغط على زر معين: كن فيكون!

لكن في كل الأحوال، الثورة قد تكون مناسبة كي يطرح كل كاتب على نفسه أسئلة حول علاقة الفن بالواقع وبالمجتمع، مناسبة لوضع كثير من المسلمات الذاتية موضع الشك والتساؤل. وفي ظني أنها بدأت بالفعل في تحريض عدد من كتاب الأجيال الجديدة في مصر على طرح أسئلة مماثلة.

كتبت قبل سنوات أن الاختلاف الأساسي بين الكتّاب الجدد والأجيال التي سبقتهم، يكمن بالأساس في اختلاف زاوية النظر والرؤية. فالأصوات الأبرز في الكتابة الجديدة في مصر تكتب في معظمها من موقع اللا منتمي. ففي حين كان معظم الكتّاب السابقين يتناولون المجتمع وقضاياه كمنتمين له يعبرون عنه، نجد أن كثيراً من الكتّاب الجدد يتمسكون بوضعية الفرد اللامنتمي التي تتيح لهم التعامل مع مجتمعهم بحياد تام أو بسخرية شديدة الأمر الذي يساعدهم على التحليل البارد لمجتمع شيزوفريني يعيشون فيه مدافعين عن فرديتهم في مواجهة ضغط الجماعة. ينطبق الأمر ذاته على علاقتهم بما اصطُلِح على تسميته بـ«القضايا الكبرى»، فمع بداية جيل التسعينيات على سبيل المثال شاع الحديث عن أن كتّاب هذا الجيل لا يكتبون إلا عن ذواتهم باعتبارها الشيء الذي يعرفونه في زمن سقوط الحكايات الكبرى، وعن أنهم يخاصمون الأيديولوجيا والقضايا الكبرى، وهي مقولات تمرد عليها كثير من كتّاب هذا الجيل نفسه في ما بعد، ومنهم منتصر القفاش الذي كتب في شهادة سابقة له « الأمر لا يرتبط بتقسيم القضايا إلي صغرى، أو كبرى، مهم أو غير مهم، فهذا التقسيم يعيدنا إلى ذات عارفة ملمة بكل التعريفات والتقسيمات، فكل القضايا أو الأسئلة تتعامل معها الروايات الجديدة على أنها حكاية من ضمن حكايات عديدة، لا فضل لها أنها تتصدر صفحات الجرائد أو وسائل الإعلام، فإذا كانت القضية قضية سياسية مثلا، وتشغل ما يسمى بالرأي العام، فإن حضورها في الرواية يكون من منظور أنها ابنة تأويل دائم».

ظاهرياً، قد تبدو السمات السابقة مناقضة لحدث مهم وسردية كبرى كسردية الثورة، لكنّ مزيداً من التدقيق يقودنا إلى ملامح كثيرة مشتركة. فالثورة المصرية، خلال بدايتها على الأقل، بدأها وشكل خطابها الأساسي شباب منفتح على العالم الواسع ينظر إلى نفسه باعتباره جزءاً لا يتجزأ منه، كما بدا واضحاً في الشعارات واللافتات. دافع هؤلاء أيضاً في المقام الأول عن الفردانية وحرية الأفراد في مواجهة الجماعة/ السلطة القاهرة. وثاروا على السلطة الأبوية ممثلة في صورة الزعيم الذي نصب نفسه أباً مهيمناً وحوّل المجتمع بمؤسساته إلى عائلة تقتل الأفراد على مذبحها، واللافت أن ثيمة قتل الأب والتمرد على سلطة العائلة ثيمة مركزية في الكتابات الجديدة في مصر.
لغة هذه الكتابات، في معظمها، اتسمت بالسخرية المرة، ومقاطعة المجاز والزخارف اللغوية. اتسمت أيضاً بالقسوة، بل والعنف وكسر التابوهات والتجرؤ على المسلمات وهو ما لمسناه في لغة الثوّار.
كيف لا وشباب الثوّار عاشوا الواقع نفسه الذي عاشه شباب الكتّاب وتأثروا معاً بالمؤثرات نفسها. قضوا معظم سنوات عمرهم في مجتمع راكد شبه ميت، لا يتغير فيه شيء، وإن حدث تغيير يكون للأسوأ.

قُدِمت هذه الورقة في مؤتمر EURAMAL 10 الذي عُقِد في باريس في مايو 2012، ونُشِرت بالألمانية في جريدة NZZ السويسرية.

No comments:

Post a Comment