Tuesday, September 11, 2012

الوجه الآخر لثورة يناير: الشعب يريد تحرير اللغة




منصورة عز الدين
مساء الخميس 10 فبراير غادرت بيتي مسرعة للّحاق بما ظننته احتفالات بتنحي مبارك. كنت قد قضيت النهار بكامله في ميدان التحرير، وفي حوالى الخامسة مساءً عدت إلى بيتي، لكن عندما تتالت أخبار وتكهنات عن أن مبارك سوف يعلن تنحيه عن السلطة في خطابه الذي سوف يلقيه بعد قليل، قررت الرجوع إلى الميدان للاحتفال مع المحتفلين هناك لأن المكان أصبح أيقونة ورمزاً للثورة رغم أنها تعدّته لتنتشر في كل أنحاء مصر.
في طريقي إلى هناك، شعرت أنني في مصر أخرى غير التي أعرفها. الهواء بدا مختلفاً لم أشم فيه رائحة العوادم المعتادة، ولم ألحظ في الشوارع تلك الروح الكئيبة اليائسة التي سيطرت خلال السنوات الماضية. بدا الأمر كأن عالماً قديماً ينزاح مفسحاً الطريق لعالم آخر جديد. الجميع في حالة نشوة وابتهاج منتظرين خطاب مبارك وقد تخيلوا أنه سيكون الخطاب المكلل لنجاح الثورة. في التاكسي انساب النشيد الوطني السابق «اسلمي يا مصر» من جهاز الكاسيت مذكراً بمصر الليبرالية قبل حكم العسكر، ومن البعيد حيث ميدان التحرير تسربت إلى أذنيّ إيقاعات الهتافات والأغاني الحماسية. في الميدان نفسه كانت الأجواء احتفالية أكثر منها أجواء نهار. ثمة استرخاء لا تخطئه العين، وشبه تيقن من أن جهد الأسبوعين السابقين سيكلل بالنجاح بعد قليل. في هذه اللحظة بدت الثورة كأنما تحولت إلى عيد: ثمة أضواء أعطت للمكان رونقاً خاصاً، وأغانٍ احتفالية وحماسية، وأحاديث تحاول التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
بعد ما يقرب من الساعتين بدأنا نتململ ساخرين من احساس مبارك ونظامه المتبلد بالزمن. خفنا ألاّ نتمكن من الاستماع للخطاب بوضوح وسط صخب المكان، فقررنا البحث عن أقرب مقهى على أن نعود بمجرد الانتهاء من الخطاب للاحتفال مع المحتفلين. وكان أن تحلقنا حول عربة تاكسي فتح سائقها أبوابها الأربعة لنستمع من جهاز الراديو فيها إلى الخطاب المخيّب للآمال الذي أطلق عليه أحد الواقفين ساخراً «حديث الذكريات»، كون الرئيس المخلوع أخذ يحدثنا فيه عمّا قدمه للوطن منذ شبابه. قرابة العشرين شخصاً، معظمهم لا يعرفون بعضهم بعضاً، تحلقوا في ذاك المساء بأعصاب عارية منتظرين سماع جملة محددة وواضحة وضوح جملهم ومطالبهم، لكنهم استمعوا بدلاً من هذا إلى مجرد لغو وثرثرة مراوغة تحاول الالتفاف على المعنى والقفز فوق الحقائق الجلية.
على مقربة مني وقف شاب في أوائل العشرينات، يرتدي سترة جلدية على أحدث صيحة وبنطالاً من الجينز الأميركي ويعتمر «كوفية» فلسطينية بدت كإكسسوار يمنحه مظهراً ثورياً من دون أن يعني بالضرورة انتماءه إلى النمط الثوري القومجي القديم. كان مهتاجاً نافد الصبر وهو يتابع لغو مبارك الذي بدا لنا بلا معنى. «لخّص»، هكذا كان يردد محتداً بين لحظة وأخرى، قبل أن يبدأ في تفنيد كل جملة ينطق بها محيلاً إياها إلى معناها الحقيقي، كأنما يترجم لغة فاسدة متواطئة إلى أخرى واضحة، واثقة، تسمي الأشياء بمسمياتها، لغته هو والجيل الذي ينتمي إليه. قبل أن ينتهي الخطاب صاح بقوة وفي عينيه كل تصميم الدنيا «سنموت في الميدان، لا بل سنزحف الآن إلى قصر العروبة». نطق جملته كأنه وحده من يملك قرار استمرار الثورة من عدمه. مع انتهاء جملته المتزامنة مع نهاية الخطاب، بدا ميدان التحرير من خلفنا كأنما يشتعل بفعل الصراخ الهستيري الذي انطلق كرد فعل على استهانة الرئيس المخلوع بالثائرين وعدم أخذه مطالبهم بجدية كافية. جاء رد الفعل عفوياً ومتناغماً من الجميع تقريباً. انقسموا بسرعة إلى فريق سيظل مرابطاً في الميدان، وآخر سيزحف نحو «قصر العروبة»، وثالث سيحاصر مبنى الإذاعة والتلفزيون. شيء ما في تصميم هذا الشاب وفي ثقته وتناغم رد فعله مع رد فعل كل الموجودين، جعلني أدرك بشكل غامض أن نهاية مبارك ونظامه باتت أقرب مما نتخيل، وأن ثمة لغة جديدة تولد من رحم الثورة.
***
كنت أقول إن الشاب المتحدي لمبارك بندية لم أرها من قبل، كان يترجم (بالأحرى يحرر) لغة مبارك، رادّاً إياها إلى معانيها الحقيقية دونما أقنعة أو أكاذيب، ويُخيل إليّ الآن أن هذا ما كانت تقوم به الثورة ككل. فإلى جانب مطالبها المعلنة بدولة ديمقراطية مدنية قائمة على العدالة الاجتماعية، حقق الثوار - بخطابهم المتماسك والعقلاني - هدفاً آخر هو تحرير اللغة مما علق بها في مصر من فساد وإفساد على مدى عقود طويلة.
ذاك أن ثورة 25 يناير، أو انتفاضة الغضب كما يحلو للكثيرين تسميتها، لم تكن موجهة فقط ضد نظام قمعي فاسد عمل على اخراس الشعب وتهميشه وإفقاره، إنما كانت أيضاً ثورة على لغة فاسدة مراوغة (تحمل المعنى ونقيضه) وإنشائية سادت على مدى عقود. فبعد لغة شعاراتية منبتّة الصلة بالواقع ومحملة بيقينية غير محتملة سيطرت في عهد عبد الناصر، جاء عصر السادات مدشناً الدرجة الأعلى من توظيف الخطاب الديني في السياسة، إذ لعب الرئيس «المؤمن» بمهارة على لغة الخطاب الديني. كما استفاد، وهو هاوي التمثيل في شبابه، من نبرات صوته ولغة جسده إلى أقصى درجة، وقبل كل هذا نجح في ترسيخ القيم الريفية في المجتمع بأكمله، لتحل مؤسسة العائلة محل الدولة ومؤسساتها وليصبح هو «رب العائلة المصرية» مُعلياً من قيمة العيب وأخلاق القرية على قيمة القانون.
أما مبارك فلم يكن هو وحكمه الممتد على مدى عقود ثلاثة على درجة كافية من الإبداع والابتكار كي يأتي بجديد. استفاد فقط من تركة سلفه واصلاً بها إلى مستويات جديدة، وهو ما بدا واضحاً خلال أيام ثورة 25 يناير، خاصة لجهة محاولة الإعلام الموالي لمبارك تصويره في هيئة الأب كبير العائلة المصدوم من عقوق أبنائه (الشعب الثائر) والحريص على «أمن واستقرار» الأم/ الوطن.
على منوال السادات نفسه استلهم مبارك تمثيلية الديمقراطية المزيفة والأحزاب الصورية، مروجاً عبر إعلامه مقولة أن مصر تعيش «أزهى عصور الديمقراطية» في عملية إفساد مستمرة بلا كلل للّغة، بحيث تحولت اللغة السائدة في مصر إلى لغة فاسدة متواطئة، بل أصبح الفساد عصب الدولة ومؤسساتها. ثقافة الفساد هذه سيطرت على كل مجريات الأمور، لذا لم يندهش كثيرون حين علموا بكل قضايا الفساد التي تم تسريبها بمجرد سقوط مبارك.
لقد أثبت عصر مبارك بما لا يدع مجالاً للشك أن اللغة أيضاً يمكنها أن تصير شريكاً في الفساد، تتواطأ معه وتتمادى في مراوغاتها تاركة الحقائق تتخبط في عتمتها. عادة ما تأبى اللغة التأثر السريع بالتحولات الاجتماعية، لكن ثمة شواهد كثيرة، في الخطاب السياسي والاعلامي السائد في مصر، تبين أثر تجليات الفساد في تشظي اللغة حيث تتناثر الكلمات وتتحول إلى مدلولات متناقضة. هذه الشواهد قد تتبدى واضحة أو تظل بينية ومراوغة. لنتأمل مثلاً مصطلحات مراوغة المدلول مثل «اعادة جدولة الديون» و»المستثمرون المتأخرون في السداد» إذ تحاول هذه المصطلحات تجميل الفساد أو على الأقل التقليل منه. هذان المصطلحان كانا يستخدمان بغزارة للحديث عن رجال الأعمال اللصوص ممن هربوا بملايين وأحياناً بمليارات البنوك المصرية ممن كانوا يوصفون بـ«المستثمرين المتأخرين في السداد» بدلاً من اللصوص الهاربين بأموال البنوك، أي أن ثقافة الفساد السائدة كانت تبتدع لغة خاصة بها تتظاهر بالموضوعية فيما تمتلك مراوغاتها وألاعيبها.
افساد اللغة تم بمنهجية وإصرار عبر وسائل متعددة منها إضفاء معانٍ جديدة على التعبيرات اليومية، أو توقف الكلام عن كونه ضمير اللغة، أو عدم الاستخدام الصحيح للكلمات والتلاعب بالألفاظ ووضعها في سياق غير محايد.
هذه الآليات تم استخدامها بكثافة خلال أيام الثورة، مضافاً إليها كل ارتباكات وتوترات ومآزق النظام الذي تم فضحة بقوة أمام العالم، لنخرج في النهاية بجمل مرتبكة متهافتة تحمل المعنى ونقيضه في الوقت نفسه.
***
شهدت ثورة 25 يناير صراعاً بين خطابين. الأول حيوي، حديث، ومنفتح على العالم، والثاني تلفيقي متناقض ومرتبك. وكشفت عن فجوة كبيرة تفصل بين الشباب الذين بدأوا الثورة وبين النظام الحاكم الذي عجز، وعلى رأسه مبارك، عن فهم لغتهم وعقليتهم، وغرق في اتهامات أخرجها من خزانة الماضي السحيق، بالعمالة والخيانة والتآمر على الوطن بأجندات أجنبية. وبرزت السخرية كسلاح استخدمه الثوّار بمهارة وقسوة لدحض كل هذه الاتهامات وتسخيف قائليها وإظهارهم كمن يعيشون في كهوف تخرجهم عن روح العصر.
لعب النظام وإعلامه على فكرة الخوف على مصر وأمن الوطن المهدد، وهي فكرة إن نجحت في مخاطبة فئة من جيل الآباء والأمهات في الطبقة الوسطى، فإنها لم تجد آذاناً صاغية من الشباب ومعهم بقية الثوّار الذين انضموا اليهم مع الوقت. لم ينتبه النظام وإعلامه الرسمي إلى أن الأجيال الجديدة تحمل صورة أخرى عن مصر وعن الوطن ككل، صورة كفّ معها الوطن عن أن يكون ذلك الصنم الذي تدعونا الأنظمة الديكتاتورية إلى تقديم الحرية قرباناً على مذبحه. فمصر وأمنها واستقرارها استُخدمت حجة لقمع الشعب لعقود، وتناسى من لجأوا إليها أن مصر (الوطن) ليست مجرد بقعة أرض ذات موقع عبقري، ولا هي التاريخ والآثار فقط، إنما وبالأساس هي الشعب. هي المصريون لأنهم كأفراد هم من يصنعون الوطن ويخترعونه كفكرة وكأرض حقيقية صالحة للعيش عليها والتضحية من أجلها?. الوطن ككل هو المكان القادر على توفير الأمن والحياة الكريمة والحرية لأبنائه، أو هذه على الأقل فكرة كثيرين من الأجيال الجديدة عنه. مصر بالنسبة إلى الثوّار عنت شيئاً مختلفاً عما عنته للنظام والمتحدثين باسمه، الثوّار (مع اختلافات بالطبع بين فئة منهم وأخرى) رأوا مصرهم المتمنّاة والمحلوم بها كدولة حديثة ديمقراطية تحترم مواطنيها، ولا تُستخدم كفكرة مطلقة يتم جلدهم بها. والنظام لم يرَ في مصر سوى مبارك/ الفرعون الضرورة والملهم المخّلِص، أو على الأقل هذا ما حاولوا فرضه من خلال الايحاء للشعب بأنه إما مبارك ونظامه أو الفوضى المطلقة.
وطوال أيام الثورة لم ينجح النظام في فك شيفرات لغة الشباب ولا فهم المفاتيح التي يمكنه من خلالها التأثير عليهم، خاصة مع فجيعته النابعة من أن كل العنف والهمجية لم ينجحا في التخويف. وعلى الجانب الآخر كان الثوّار يتلقون إشارات النظام ومفردات «خطابه» ويقومون على الفور بتفكيكها والسخرية منها في لعبة اقتربت أحياناً من طقوس «التجريس» الشعبي بصورته القديمة وتحول معها ميدان التحرير في جزء منه إلى بديل لمسرح الشارع أو ساحة كرنفالية واسعة لأناس حُرموا طويلاً من امتلاك الشوارع والميادين بعيداً من سطوة الأمن.
***
في خطابه الأول، بدا مبارك عاجزاً عن فهم أبعاد ما يحدث، كما بدا غير مدرك لحجمه الحقيقي، فغرق في جمل إنشائية مستلّة من خطاباته السابقة. وبوجه متجهم وسحنة مهدِدة وصف الثورة بأعمال شغب تهدد القانون، ولم ينس التذكير بتنويع آخر للحن «أزهى عصور الديمقراطية» الشهير حين أعلن أن هذه التظاهرات ما كان لها أن تتم لولا حرية الرأي والتعبير في عهده. وعلى خلاف زين العابدين بن علي الذي قال لشعبه «فهمتكم» بما تحمل من اعتراف بعدم فهمه لهم من قبل، أظهر مبارك درجة أعلى من اللؤم والمراوغة حين ذكر أنه يعي التطلعات المشروعة للشعب، ولم ينفصل عنها يوماً، أي أنه يفهم تطلعات الشعب وهمومه منذ بداية عصره، ما يعني أنه تغابى عن فهم مغزى الثورة ومبرر قيامها، بل أضاف أن هذه التطلعات لن يحققها اللجوء الى العنف، كأن الشعب الذي سقط منه العشرات في هذا اليوم تحديداً (جمعة الغضب) وتعرض لهمجية غير مسبوقة هو من قام بالعنف.
صلف مبارك في الخطاب وإصراره على عدم الاعتراف بأخطائه، وعلى التمسك بكليشيهات من قبيل القلة المندسة وانحياز نظامه للفقراء، وكذلك إصراره على عدم الاعتذار عن سقوط شهداء، هذ الصلف كان الوقود الذي ساهم في استمرار شعلة الثورة وتقويتها. فمع كل خطأ لمبارك أو رمز من رموز نظامه كان سقف مطالب الثوار يرتفع وجذريتها تتزايد. في هذا الخطاب الأول بدا مبارك كـ»بطل» تراجيدي تخلّف عن الزمن الحاضر وفقد القدرة على فهمه أو الإنصات له. كان كأنما يبحث بين الوجوه الغاضبة الثائرة والمتحدية عن «شعبه» الذي يعرفه، ويقول عنه لقادة الغرب، حين يطالبونه بمزيد من الديمقراطية، «أنتم لا تعرفون الشعب المصري كما أعرفه».
في خطابه الثاني، وربما لأنه تيقن من كونه لا يتكلم لغة الثوار ولا هم يتكلمون لغته، ركز على الفئات المحايدة والمتعاطفة مع الثورة دونما نزول إلى الشوارع والميادين. لعب على عواطفهم ومارس ابتزازاً عاطفياً يصل إلى درجة التسول، وهو يتحدث عن رغبته في أن يموت ويُدفن على أرض مصر! كما لعب على الوتر الحساس لدى المصريين في ما يخص احترام كبار السن، وقدم نفسه من جديد وبدرجة أكبر كرب العائلة المصرية الضامن لأمنها واستقرارها والمكلّف تكليفاً دونما سعي منه لهذه «الرسالة» وهذا العبء. نجح هذا الخطاب إلى درجة كبيرة في التأثير على قطاع كبير من المصريين ممن رأوا في مبارك لحظتها شيخاً مهزوماً استجاب لمطالب ابنائه وقرر عدم ترشيح نفسه بعد انتهاء مدته وسيعمل على حدوث انتقال سلمي للسلطة.
«ماذا يريدون أكثر من هذا؟» كان هو السؤال الذي ردده كثيرون صباح اليوم التالي على خطاب مبارك الثاني. لكن المفارقة التي لوحظت بقوة أنه في اليوم التالي لكل خطاب من الخطابين الأولين لمبارك كان النظام يرتكب جريمة أبشع من سابقتها. فعقب خطابه الأول، وبعد الانسحاب المفاجئ للشرطة وأجهزة الأمن، تم اطلاق السجناء وانتشرت أعمال السلب والنهب التي قام بها بلطجية النظام وأفقدت الشعب الثقة في مبارك ونظامه كما لم يحدث من قبل. وعقب خطابه الثاني حدث الهجوم الهمجي بالجمال والخيول وقنابل المولوتوف على المتظاهرين في ميدان التحرير في ما عُرِف بالأربعاء الدامي، فكنا كأننا امام عصابة بالمعنى الحرفي للكلمة يديرها أكثر من شخص كل منهم يتصرف بطريقة مناقضة للآخر، ومن الطبيعي أن تكون الفوضى هي النتيجة الحتمية.
كان لأحداث الأربعاء الدامي وجه ايجابي إذ أبطلت جزئياً تأثير الابتزاز العاطفي الذي مارسه مبارك في خطابه الثاني على كثيرين. لكن الإبطال شبه الكامل لهذا التأثير جاء بعد أيام على يد وائل غنيم أحد من دعوا الى الثورة في البداية عبر صفحة «كلنا خالد سعيد» على الفيس بوك. إذ كانت دموعه وهشاشته في برنامج «العاشرة مساءً» هما التميمة التي فكت سحر الابتزاز العاطفي الذي قام به مبارك ونجح من خلاله في تأليب بعض البسطاء على الثائرين. قدم وائل غنيم في ظهوره التليفزيوني الأول هذا نموذجاً جديداً للبطولة هو النقيض والضد لمفهوم البطولة في تراثنا العربي. ونال بهذا تعاطفاً كاسحاً.
وبالعودة الى خطابات مبارك فإن الخطاب الثالث، الذي أطلق عليه الشاب بالقرب من ميدان التحرير «حديث الذكريات»، كان الأكثر حرقاً للأعصاب وإثارة للملل، إذ غرق في ما يشبه حواديت تذّكر بـ«عطاء» الرئيس المخلوع لمصر وشعبها، في الوقت الذي انتظر منه الجميع جملة واحدة مفادها أنه سوف يتنحى. في هذا الخطاب تجرد مبارك من صلفه وكبريائه وتحدث، وفقاً لكلماته، «حديث الأب لأبنائه وبناته»! مستعيداً استراتيجية كبير العائلة المصرية بطريقة يحسده السادات نفسه عليها. ما تعهد به مبارك في هذا الخطاب، ربما كان ليهدئ الخواطر لو تم في الأيام الأولى للثورة، لكنه كعادته أخطأ تقدير الموقف واختيار التوقيت، بحيث تسبب كل خطاب/ خطأ من أخطائه في زيادة تصميم المحتجين وتأجيج شعلة الغضب في داخلهم. ومع كثرة هذه الأخطاء وصبها كل مرة في صالح الثوّار كان من الطبيعي أن تنتشر بعد سقوط مبارك نكتة مفادها أن «الثورة نجحت بفضل توجيهات السيد الرئيس» أي أخطائه!
***
قادت خطابات مبارك الطريقة التي تعامل بها الإعلام الرسمي مع الثوّار. إذ بعد الخطاب الأول كرر إعلاميو النظام خلف الرئيس المخلوع اتهام المحتجين بالشغب وتعريض استقرار البلاد للخطر والنزوع للعنف. وبعد الخطاب الثاني تبنوا جميعاً ومعهم عمر سليمان نظرية القلة المندسة، وأن الثورة بدأها شرفاء تم استغلالهم في ما بعد من جانب من سرقوا الثورة من عملاء لديهم أجندات أجنبية.
شهدت هذه الفترة أعلى درجات التخبط والتناقض والتضحية بالمعنى، بحيث تحول كلامهم إلى محض لغو. فـ«الخطاب» الذي واجه النظام الثورة به حينئذ كان خطاباً رثاً ومتناقضاً ومضللاً إلي درجة مفزعة.? ?كان من الطبيعي أن نسمع جملتين متتاليتين على لسان مسؤول أو إعلامي أو? «?خبير استراتيجي?»: الجملة الأولى تمدح الشباب الذين بدأوا الثورة وحماسهم وغيرتهم على الوطن،? ?والجملة الثانية تتهم الثورة بأنها ذات أجندات أجنبية وتمت سرقتها من جانب? «?مخربين?» يتآمرون على مصر. ?أحياناً? كانت الجملة الواحدة تحمل احتراماً? ?للثوّار من الشباب وإدانة للثورة في الوقت نفسه?. ?حتى ليخال للسامع أن اللغة تتضرع صارخة من أجل احترام المعنى وإعمال العقل?.?
تحدث «الخطاب» الرسمي عن أجندات أجنبية للثوار،? ?وعن عمالتهم لإيران وحماس،? ?وحزب الله،? ?وإسرائيل،? ?وأميركا في وقت واحد?! ?اتهمهم بخيانة «الوطن» مقابل وجبة كنتاكي ومائتي يورو، وظل يردد هذه الاتهامات الساذجة، عبر أبواقه، مرة بعد الأخرى، كأن التكرار سيحول الترهات والأكاذيب إلى حقائق?. ?هو انعدام الخيال لا? ?غيره الذي سمح باستدعاء ترسانة الاتهامات البالية من خزانة الماضي،? ?دونما اعتراف بأنهم أمام ثورة شعبية حقيقية تعبر عن إرادة الشعب بكل أطيافه وبأنه ينبغي التعامل معها علي هذا الأساس،? ?بدلاً? ?من تجاهلها والنظر إلى المصريين كشعب من المرتزقة والخونة?. ?وهو انعدام الضمير ما دفع إلى اختلاق الأكاذيب أو اللجوء إلى أنصاف الحقائق في أفضل الأحوال لتزييف الوعي وتقليب البسطاء ضد الثوار الباحثين عن? ?غدٍ? ?أفضل مهما كانت التضحيات?.?
على الجانب الآخر جاءت لغة الثوّار والمحتجين، لغة شابة واثقة، ساخرة، وواضحة في الوقت نفسه، تسمي الأشياء بأسمائها. على أرض الواقع تبلور الخطاب ونضجت المطالب بشكل فاجأ الجميع بمن في ذلك الثوّار أنفسهم. أتذكر أن بيان المطالب الأولى الذي تم تداوله على الفيس بوك قبل 25 يناير بعدة أيام لم يكن لينبئ أبداً بما تحقق بعدها على أرض الواقع. فعلى رغم تسمية الحدث المزمع القيام به بـ«ثورة 25 يناير»، كانت المطالب المكتوبة بسيطة مقارنةً بما طالبت به الثورة ثم أنجزته في ما بعد. أحد أبرز المطالب وقتها كان «رفع الحد الأدنى للأجور»، وهو الأمر الذي استفز صديقاً لي فأعاد نشر البيان على صفحته مسبوقاً بجملة «يا جماعة الخير الثورات لا تطالب برفع الحد الأدنى للأجور إنما تطالب بالسلطة»!
لكن ما رأيناه في ساحة التحرير يوم 25 يناير وفي السويس وأماكن أخرى كان باهراً بحق. لخص شعارا «الشعب يريد اسقاط النظام» الفصيح والبسيط في آن، و»سلمية... سلمية»، هدف الثورة ورسالتها الأخلاقية معاً. كان هناك تصميم على عدم العنف والتمسك بالسلوك المتحضر مهما بلغت وحشية النظام وهو ما حدث، وما أكسب الثورة المصرية تعاطف العالم واحترامه. احتوى ميدان التحرير والشوارع المحيطة به نهار جمعة الشهداء مثلاً على قرابة الـ5 ملايين متظاهر. كانت المعنويات مرتفعة للغاية، وقلب وعقل الجميع كانا مع من زحفوا نحو «قصر العروبة». كان ثمة تخوف مضمر من أن يواجههم الحرس الجمهوري بعنف تنتج عنه مذبحة جديدة، إلا أن المشهد هناك كان أحد أروع مشاهد الثورة كلها، إذ ألقى الثوّار وروداً كانوا يحملونها معهم نحو الحرس الجمهوري المحيط بالقصر. وما إن فعلوا هذا، حتى رد الحرس تحيتهم بأفضل منها، وقام بتوجيه فوهات مدافعه نحو القصر بعد أن كانت موجهة نحو الثوّار!
لكن هل كان الثوّار بلا أسلحة؟ الحقيقة أنهم كانوا مسلحين بقوة الخيال واللغة وقبل كل شيء بسلاح السخرية الحادة البالغة القسوة والذكاء في آن. عبر أغنيات ذكية مرحة، واسكتشات تمثيلية نقلوها من ميدان التحرير إلى الفضاء الافتراضي، ولافتات طريفة، ونكات لاذعة، نجحوا في التمثيل الرمزي برموز النظام وعلى رأسه مبارك. لعبوا على الثغرات والتناقضات في خطاب السلطة المهترئ، ألفوا أناشيد ونكات، عن الأجندات الأجنبية والقلة المندسة ووجبات كنتاكي، انتشرت بسرعة رهيبة، ولم يجد النظام المرتبك لا القدرة ولا الخيال الملائمين للرد عليها أو التعامل معها. بطاقة الجنون الخلاّق والخيال المتحرر من الثوابت والكليشيهات القومية القديمة نجح أبناء العولمة والفضاء الافتراضي في صياغة خطاب يشبههم، ولفرط ذكائه وطرافته قام بتعرية تهافت الخطاب الرسمي وركاكته كما لم يحدث من قبل. أعرف طبعاً أن الثورة المصرية تجاوزت من خططوا لها، واستطاعت الوصول إلى كل الشعب بكافة أطيافه وطبقاته وتياراته، إلا أن من اضطلعوا بالجانب الأكبر في ما يخص الترويج لها والحفاظ على جدة لغتها وصوتها هم هؤلاء الشباب.
وكما كشفت لغة النظام عن تناقضاته وارتباكاته، وكشفت لغة الثوار عن جدتهم وتجاوزهم لأفكار راسخة في المجتمع المصري مثل قيم العائلة والبنية الهيراركية، وما يسمى بأخلاق القرية، فإن لغة الجيش بدأت غامضة ومحايدة قبل أن تشرع مع توالي الأيام في إرسال إشارات تطمينية للشعب. لقد انسجمت لغة الجيش تماماً مع المنحى التصاعدي لموقفه: فطوال أيام الثورة اعتاد المصريون أن يستقبلوا من المجلس الأعلى للقوات المسلحة رسائل قصيرة غامضة على هواتفهم النقالة من قبيل: «نناشد المواطنين الشرفاء تضافر جهودهم لنصل معا بالوطن إلى بر الأمان»، «نهيب بالمواطنين تهيئة المناخ المناسب لإدارة شؤون البلاد...». لا توضح الرسائل ما بر الأمان المطلوب وكيفية الوصول إليه في ظل عنف السلطة اليومي والمجاني، ولا ما هو المناخ المناسب، ولماذا على الأخوة المواطنين وحدهم تهيئته؟!
لكن مع الوقت تخلت لغة الجيش عن حذرها وصارت أكثر وضوحاً وتعاطفاً مع الشعب، وإن ظلت على نفس درجة الهدوء. «تفّهم المجلس الأعلى مطالبكم وتم تكليف الجهات المعنية لتحقيقها في الوقت المناسب». هذه آخر رسالة وصلتني على هاتفي المحمول أثناء كتابة هذه السطور، و«مطالبنا» واضحة ومعروفة، فالثورة قامت من أجل دولة مدنية حديثة، والجيش أول من يدرك هذا، إذ يُحسب له أنه كان أكثر تواصلاً مع اللغة الجديدة التي أرساها الثوّار وحاول فهمها وتعلمها بسرعة على عكس مبارك ونظامه، وإلا ما معنى أن يفتح المجلس الأعلى للقوات المسلحة صفحة رسمية له على الفيسبوك بعد نجاح الثورة لنشر بياناته والتواصل مع شباب الفيسبوك عبرها؟!
... في النهاية وبعيداً عن تواطؤات اللغة وألعابها وخياناتها، تبقى الأيام القادمة الأهم والأخطر في عمر ثورة 25 يناير، إذ ستوضح لنا هل فهم الجيش لغة الثوار ومطالبهم بالفعل أم إذا كان يماطل من أجل الحفاظ على بقايا النظام؟
كُتِبت المقالة في فبراير 2011، ونُشِرت في مجلة كلمن، العدد الثاني، ربيع 2011.

No comments:

Post a Comment