Tuesday, September 11, 2012

أكثر من شهرزاد


 منصورة عز الدين

في عالم تسيل فيه الدماء كالماء، وتُزهَق الأرواح بلا حساب تفتنني الفكرة الخيالية التي مفادها أن الكلمة يمكنها أن تنقذ حياة إنسان، وأن الثقافة قادرة على قهر السلطة المطلقة.

الحكاية المروية ببراعة قادرة على حقن الدماء، والحفاظ على الممالك، وفك السحر الأسود. هذا بالضبط ما تخبرنا به "ألف ليلة وليلة"، ذلك الكتاب المكرس بكامله لمديح فن الحكي، والاحتفاء به بوصفه الفعل الأكثر امتاعاً وجلباً للتسلية والعِبرة.

يحلو للكثيرين حصر شهرزاد في دور المرأة المراوغة التي تتنتقم لبنات جنسها من شهريار الدموي، بعض هؤلاء يتمردون عليها ويعتبرون حيلتها ضعفاً وهو تمرد مشروع تماماً بطبيعة الحال.

لكن في ظني أن شهرزاد الليالي تتجاوز هذه القراءة الضيقة، لأن حكايتها أبعد من العلاقة/ الصراع بين الرجل والمرأة، إذ تتعداها لآفاق أرحب تتمثل في سلطة المعرفة وقدرتها على التغيير.

"المعرفة مُحرِرة"! هذا هو الدرس الأهم للّيالي من وجهة نظري. وشهرزاد تقدم، وفق هذه القراءة، أمثولة المثقف الذكي في مواجهة السلطان الجائر، إلاّ أن قدرة المعرفة على التحرير لا تتوقف في ذلك النص الثري على شهرزاد وحدها، إنما تكاد تتكرر في كل حكاية من حكايات اللّيالي، إذ تتناسل "الشهرزادات" ويتعدد الرواة البارعون في سرد حكايات مخلِّصة.

هكذا تبدو اللّيالي، أشبه بمرايا مخاتلة تعيد عكس ثيمات وأمثولات متشابهة، يكرر بعضها بعضاً أحياناً، وتترك القارئ لاهثاً يتمرى فيها لاستخلاص ليس المتعة فقط، وإنما بالأساس الحكمة والعظة، وإلاّ لماذا كانت جملة "حكاية لو كُتِبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن يعتبر" جملة مفصلية توصف بها الحكايات العجيبة والمهمة؟ العبرة إذن هدف أساسي للحكي جنباً إلى جنب مع الإمتاع.

ما أن نطأ، كقراء، عتبة اللّيالي مطمئنين إلى أن شهريار ابتلع الطُعم ووقع أسيراً لغواية ما تسرده شهرزاد، حتى نقابل سحر الحكي في حكاية التاجر والجني. فثلاث حكايات لثلاثة شيوخ ستفتدي التاجر، المحكوم عليه بالموت من جانب الجني، وتمنحه حياة أخرى لأن كل شيخ طلب من الجني أن يهبه ثلث دم التاجر إذا أعجبته  الحكاية المروية له. وهو ما كان.

وفي حكاية الملك يونان والحكيم دوبان تغدو المعرفة/ الكتاب وسيلة الحكيم للقصاص من غدر الملك. فالملك المتأثر بوشاية وزيره يقرر قتل الحكيم مع أنه كان سبب شفائه.

لا يتأثر يونان كثيراً باستعطاف دوبان المنطوي على وعيد مبطن: "ابقني يبقك الله، ولا تقتلني يقتلك الله"! لذا يحتال الحكيم على الملك إذ يتيقن من أنه عازم على قتله، فيهديه كتاباً مسموماً مقنعاً إياه بأنه كتاب سحري. يقلب الملك الغر صفحات الكتاب متلهفاً، وحين يجد الصفحات ملتصقة يبلل اصبعه بيده ليفرقها، فيسري السم في جسده ويموت من فوره.

 من صفحة لأخرى نقرأ أمثولة المعرفة المحرِرة بأشكال مختلفة. نقابلها أكثر من مرة في حكاية "حاسب كريم الدين" إحدى أمتع حكايات الليالي وأكثرها إثارة للخيال، كما نستشفها بين سطور رحلات السندباد السبع. ونتلمسها عبر معكوسها في حكاية حسن البصري. هكذا نجد أنفسنا أمام أكثر من شهرزاد، وأقصد بهم الرواة العديدين الذين حملوا عبء الحكي عنها مراراً، وسمحوا لها أن تتخفى وراءهم، وتصنع منهم قرناء لها ومرايا تعكس صورتها بلا انتهاء.

نُشِرت المقالة في زاويتي الأسبوعية بمجلة "الصدى" الإماراتية.

No comments:

Post a Comment