Friday, January 3, 2020

دانيلو كيش ودور الأدب





منصورة عز الدين

كثيرة هي الكتب الجيدة التي قرأتها في 2019، غير أن اكتشاف العام بالنسبة لي تمثَّل في الكاتب اليوغسلافي/ الصربي دانيلو كيش، الذي أعيش مع أعماله منذ أكتوبر الماضي، متنقلة من كتاب لآخر، مندهشة من خصوصية عوالمه ومن قدرته على تغيير تقنيات كتابته والتلاعب بها، دون أن يؤدي هذا إلى فقدانه لمسته الخاصة الرابطة بين نصوصه والمميزة لها، بحيث يتعرف عليها القارئ ويستشعر أسلوبه إن قرأ فقرة واحدة منها.

فكيش كاتب أسلوبي، تقترب نصوصه، في كثير من الأحيان، من كونها قصائد نثر، تحميها قتامة عالمها وهول ما تحكيه وعنفه من الانزلاق إلى الغنائية أو السنتمنتالية، وتعادل جماليات الكتابة وجودة النثر العنف والقتامة، فتحيلهما إلى فنٍ خالص يبصِّرنا بأهوال العالم المعاصر وفظاعاته ويمنحنا فهمًا أعمق للطبيعة الإنسانية.

في السادسة من عمره، نجا دانيلو وأسرته من مذبحة ارتكبها القوميون المجريون المتحالفون مع النازي، لكنه ظل يعتبر هذه المذبحة بداية حياته الواعية، كيف لا وقد شهد في هذه السن المبكرة جثث الضحايا (من بينها جثث أصدقائه) ملقاة في الشوارع وأمام البيوت؟! وحين بلغ التاسعة من عمره، اقتيد والده إلى أوشفيتز؛ حيث لقى حتفه هناك.

سيظل طيف هذا الأب ماثلًا في نصوص ابنه، وسيشكِّل مصدرًا للإلهام ومنبعًا للكتابة، ما يذكرنا بكافكا وبرونو شولتز، اللذين يتقاطع معهما كيش على أكثر من مستوى، غير أن علاقة كل كاتب من هؤلاء بأبيه وطريقة استلهام الابن لهذه العلاقة تختلف جذريًا.

رغم أن السياسة لها التأثير الأوضح على حياة صاحب "حديقة، رماد"، إلّا أنه لطالما فضَّل أن يكون إخلاصه الأول للفن حتى حينما قارب موضوعات ذات طبيعة سياسية، فعل هذا بشروط الفن لا السياسة.

ففي كتابه "ضريح لبوريس دافيدوفيتش" استعاد كيش قصص سبعة من ضحايا الـ"كومنتيرن" أو حركة "الشيوعية الدولية" في النصف الأول من القرن العشرين، واعتمادًا على الأرشيف والمدونات المحفوظة، أحال قصص شخصيات واقعية إلى قصص قصيرة تدين للفن أكثر مما تدين لأصلها الواقعي، وفي هذا درس لكل من يرغب في مقاربة التاريخ الحديث بمقتضيات الفن.

عن هذا الكتاب، كتب يوسف برودسكي، في تقديمه للطبعة الإنجليزية: "ربما تتمثل الخدمة الوحيدة التي تقدمها تراجيديا حقيقية، بتركها ضحاياها والناجين منها على حد سواء، عاجزين عن الكلام، في كونها تصقل لغة المعلقين عليها. أقل ما يمكن قوله عن "ضريح لبوريس دافيدوفيتش" أنه يحقق فهمًا جماليًا حيث يفشل علم الأخلاق. البراعة اللغوية لا يمكنها طبعًا أن تشكِّل طوق نجاة في قرننا المغامر، لكنها على الأقل تخلق إمكانية للرد، بدونها سيُقدَّر على الناس أن يظلوا عبيدًا لتجربتهم.
بكتابته لهذا الكتاب، يقترح دانيلو كيش ببساطة أن الأدب هو الأداة الوحيدة المتاحة لاستيعاب ظاهرة يمكن أن يخدر حجمها لولاه الحواس وتستعصي على الإدراك البشري.
"ضريح لبوريس دافيدوفيتش" كتاب قاتم جدًا، وتتمثل نهايته السعيدة الوحيدة في أنه قد نُشِر".

أخيرًا، تبقى أمنية أن يهتم الناشرون  العرب بترجمة أعمال هذا الكاتب العظيم إلى العربية.

*نقلًا عن أخبار الأدب.



Thursday, January 2, 2020

مأوى الغياب: رحلات سردية في عوالم خفية





إبراهيم الحجري*

انزاحت الكتابة القصصية العربية الجديدة، في كثير من ملامحها، عن الخط التقليدي الذي رسمه الرواد، وهيأت له الأدبيات النقدية المؤسسة التي واكبت مراحل التشييد الأولى، واعتبرها الجيل الأول للكتابة القصصية عموداً للسرد القصصي يجب الامتثال له ما أمكن، حفاظاً على الخصوصية الجنسية (من الجنس الأدبي)، وامتثالاً للمعايير المحددة نقدياً بشكل مسبق، حتى لا تحيد الكتابة عن الخطوط الفاصلة المرسومة بين الأجناس والأنواع، والتي كانت صارمة آنذاك.
وقد استفادت التجارب الجديدة من الانفتاح الذي عرفته مجالات الكتابة واختصاصاتها، وخاضت مغامراتها في التجريب، استناداً إلى المرونة التي بدأت تعرفها نظرية الأجناس الأدبية عقب المرحلة البنيوية، وخفوت نداءات الشكلية، والصفاء النوعي، والحدود الفاصلة والواصلة بين الأصناف، ومع هبوب رياح التغيير على مستوى المرجعيات، والمفاهيم، والتصورات، والأدوات، المصاحبة لمرحلة ميلاد وسيط جديد؛ سيعصف بكل المرتكزات التي كانت تقوم عليها المنظومات الفكرية والإبداعية والتواصلية في المرحلة السابقة، بشكل تدريجي.
وما كان للإبداع القصصي العربي أن يظل بمعزل عن هاته الحركية، خاصة في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعرفها المنطقة العربية، تزامناً مع التغييرات المتلاحقة والسريعة التي تجتاح العالم على مستوى النظم، التمثلات، والقيم، والعلاقات. الشيء التي استدعى من القصاصين ضرورة الالتفات إلى موضوعات أخرى بديلة، وأفكار مغايرة، ونماذج طريفة، وبنيات شكلية وجمالية تستجيب للذائقة، وتعبر عن حالات التبدل والاختلاف، وقوالب متنوعة قادرة على استيعاب المعاني الجديدة، والتصورات المحايثة، وإيصال الرسائل النقدية المنشودة.
1.    أفضية غريبة وشخصيات غامضة:
لا بد أن يهيئ القارئ نفسه للتعامل مع مكونات سردية مختلفة عما ألف استقباله في المجاميع القصصية التقليدية أو شبه التقليدية، وإلا فإن تقبله لعوالم هذا النص، ومادته لن يكون عملاً سلساً على الإطلاق، ذاك أن المتن القصصي في "مأوى الغياب"، يشيد عناصره استناداً إلى رؤية فلسفية متفردة تعمل على السفر في المضمرات، والغيبيات، والمسارات الفاصلة بين الحقيقة والخيال، بين اليقين واللايقين، بين الواقع والافتراضي، بين الذاتي والجمعي، بين الطبيعة وما فوق الطبيعة، فبدت عملية القراءة والكتابة معاً، أشبه بسفر داخل دوامة ملغومة، غامضة لا حدود لها، ولا فواصل، ولا ملامح، ولا ماضياً، ولا مستقبلاً، وكأن أحداث القصص المتضمنة في النصوص تقع على حافة جرف هار لا قرار له، يقوم بها شخصيات لا وجود لهم إلا في أخيلة الرواة، وليس "هناك في الواقع، ما يدل على وجود سابق لهم"[1]، بل إن الرواة أنفسهم سراب لا يدرك، ضمن حركية زمنية مضطربة، دائرية، لا يمكن القبض عليها، وكأن الزمن توقف، أو هو يجري بسرعة قصوى إلى حد أن الشخصية تراه لا يبرح مقامه. إنه الزمن الصفر المغرق في فراغيته، والمحيل على خواء غير مقيد البتة.
أما المكان فهو هلامي، غير مدرك، مجرد غارق في زئبقيته، مكان خارج الأمكنة، مكان يشبه المكان الذي صوره ابن عربي (الزمن مكان سائل والمكان زمن متجمد)، يقول السارد: (قال لي المكان دون كلمات منطوقة: "لا وجود لجغرافيا بريئة. الأرض محملة بما جرى فوقها من فجائع. أحشاؤها حبلى بطبقات من ألغام الذاكرة". أنصتُّ إلى الكلمات المفترضة، وهي تستحيل أفكاراً فورية في ذهني، ومشاهد أمام عيني، فلم أعرف إن كان ما أراه خلف الظاهر هو ماضي المكان أم مستقبله. أدركت فقط، أن كل خطوة أخطوها فيه، تدفعني إلى استعادة تاريخ شخصي وجمعي كان مدفوناً في أعماق ذاكرتي)[2].
يتجاوز منسوب الخيال، في المتتاليات القصصية، حدود الواقع من أجل الوصول إلى مُثل أعلى. وضمن هذا التفوق على مستوى التمكن من الفضاء، نكتشف حركية دؤوبة، أشبه كما تكون بميكانيكا الموائع التي تعتبر أساس هندسة البناء المكاني. وتتيح هذه السيولة اللزجة للفضاء، بنوعيه الداخلي والخارجي، أن يكون متنقلاً، وأن يتحرك وفقاً للأحاسيس البشرية، والتغيرات في وترددات الإيقاع السردي.
 واستنادا إلى ذلك، فالقصص لا مكان ولا زمان ولا شخصية فيها بالمعنى المتداول لهاته المكونات في الأدبيات النقدية السردية، فهي عناصر تتكئ على مرجعية فلسفية تتخذ من الخيال، والتهيؤات، والغريب، والغامض، والمتحول، والماسخ، والشك، والهجاس، والطلسم، والمجرد، والمقموع، والمهمش، والضلال، والتيه، والحلم، والغيبوبة، والجنون.... يقول السارد: (التصميمات تميمة. الرسومات المتكررة طلسم يحوي سحراً أسود. الدفاتر الملآى بالحروف والكلمات لعنة لا سبيل لحجب تأثيرها. وكلها يسلبني عقلي. يتآمر علي ويموه الوجود أمام عيني. لا سبيل سوى الانغماس فيها، وإنتاج الآلاف منها)[3].
تؤسس الكاتبة منصورة عز الدين عالمها السردي؛ انبثاقاً عن رؤية تجريبية واعية، وتُراكِم فيها بحساسية مرهفة، وحرص شديد على تقديم تصور مخالف لطبيعة السرد، ونوعية المواضيع المنتقاة التي تعالجها، وابتكار قوالب غير مطروقة، تليق بنظرتها الجمالية المفكر فيها، مع سبق الإصرار والترصد، عملاً بفكرة المشروع السردي المتناغم الذي يدافع عن رسالة، أو تصور للعالم، أو نهج في الكتابة يرتبط بالتحولات الإنسانية التي يحفل بها العصر، منسجمة مع طرحها الفكري، ووعيها المنهجي في تمثيل الواقع، والذات، والعلاقات البشرية، وهواجس الفرد وإكراهاته، وطموحاته، وأسئلته، وهي أمور مستعصية ترى الكتابة هنا، أن عناصر السرد التقليدي عاجزة عن استيعابها، وتصويرها، ورصدها بالبلاغة المتوخاة، والوضوح المفترض.
تنصرف القصص إلى اعتبار شخصية الراوي، أو العامل الذات مدخلا لولوج العوالم الإنسانية، أو الأنا المتعدد بصفته جامعا للذوات، ومسكونا بالآخرين، أناسا، وأمكنة، وأزمنة، ثم بعدها، يسرح السرد في متاهات مفتوحة على الإنسان في عمقه، وتعدده، وعلى التاريخ في بداياته السحيقة، وامتداده الطبيعي في اتجاه المستقبل الغامض، وعلى الأفضية الموجودة، والمنكوبة، والخربة، والتي لم يعد لها وجود إلا في بطون كتب التاريخ، والأعمال الروائية الكبرى، والأساطير المؤسسة للفكر البشري، وحتى تلك التي لم يعد لها ذكر، بل حتى تلك التي قد توجد في المستقبل الافتراضي. يقول الر اوي في قصة (ابنة السراب): "لا أعرف حتى إن كان من أضللهم آخرين أصلا، أم أنهم إياي، وقد انقسمت، وتكاثرت. فهم مثلي، أطفال الوهم وصناعه. غير أنهم بخلافي، أول ضحاياه"[4]. ويضيف في موقع آخر: (على الرغم من كل شيء، ليس هناك أجمل من أن يسكن أحدنا أحلام الآخرين وخيالاتهم. يمنحه هذا قوى فوق بشرية، غير أن الاطلاع على الأسرار والذكريات مربك، إذ يقترن بإحساس بالذنب والمسؤولية، كأن المطلع شريك في أخطاء الآخر وجرائمه إن وجدت)[5].
لا يرتبط مفهوم الشخصية، في هذا المتن القصصي، بتمثيل الإنسان، كما هو الشأن في السرد التقليدي، بل إن هذا المفهوم يتسع ليشمل الكائنات، والجمادات، والأفكار، والأمكنة، والأزمنة، والأشياء المنسية، والعناصر الهلامية، وغيرها، مكسّرة بذلك، النمط السائد على مستوى البناء القصصي، ومتحررة من قيود الأدبيات النقدية، والتصورات المرجعية المؤطرة للممارسة السردية، وكأنها تنظر لتصور آخر، وتقترح أفقا مغايرا لتجريب الكتابة، والانفتاح على القوى الغامضة في الإنسان والكون، تلك التي يخشاها الجميع ويتهربون منها.
 ويحسب لمنصورة عز الدين، في هذا الصدد، جرأتها على مواجهة مثبطات ارتياد هاته العوالم، واقتحام المجهول من الفراغات المبثوثة في كيان الفرد والمجتمع، وتكسير النمط السائد في الكتابة والتفكير والحكي، يقول الراوي على لسان الشخصية الرئيسة: (ربما رجوت أن يكون ما أراه أمامي سرابا، ولهذا فقط، بزغ اسم "جنية السراب" في ذهني؛ متحديا اعتلال ذاكرتي، ومتغلبا عليه. صارت تلك الجنية فجأة، هاجسا مستحوذا علي. انبعثت أمامي كطيف لا يمل من خلق نفسه، وتبديدها قبل إعادة خلقها من جديد... بدا كل ما يخصها ساطعا في ذاكرتي، وسط محيط شاسع من النسيان. لا تكف رفيقتي الطارئة هذه، على التلاعب بعقلي وعيني. رأيتها كطبيبة ساحرة ومتحولة أبدية تقودني إلى المجهول)[6].
          وبما أن الشخصيات تتشكل من مادة زئبقية يصعب القبض عليها، وتتبدل على مدار تشكل مسار السرد، فإنها جاءت بلا هوية محددة تقيد حريتها، ومن البدهي أن تكون بلا أسماء شخصية، ولا ملامح تميز شكلها لدى المتلقي، ولا مسارات معروفة في حياتها اليومية الواقعية، ولا انتماء جغرافيا، فهي كائنات شديدة التحول، وإن لاحت في توصيفاتها، أحيانا، ما يشير إلى الطبيعة البشرية، تقول الراوية- الشخصية معبرة عن هذا الوضع الفني والأنطولوجي: (لا اسم لي، ولا هوية حتى لو ألصقوا بي آلاف الأسماء والهويات. الكثرة، في حالتي، نعني الانتفاء. الهوية تتشكل في الثبات واليقين، وأنا عدوة الثبات واليقين. أنا المتقلبة الملتاثة الساحرة المتحولة. من لا وصف لها حتى ولو استرسلت في تعداد أوصافها، من لا شكل لها حتى لو تدثرت بآلاف الأشكال)[7].
يبدأ الحكي بمغازلة فكرة شاردة داخل كيان ما، قد يكون العامل الذات، أو قد يكون غيره، ثم سرعان ما تنعطف المسارات، وتتشعب، كلما فتح الرواة كواليس داخلية تقبع في القاع السري للأنا المفردة أو الجمعية، وكلما سلطوا الأضواء على عتمات تسكن أركان الأحاسيس، والمشاعر، وكلما غاصت نحو المجاهيل الجوانية للفرد، من رغبات، ومخاوف، وأحلام، وغيبيات... متجهة نحو الغرفة المظلمة في الكون، أو تلك البقاع السكونة بالالتباس والغموض، والمحو، والنسيان، ذاك التاريخ الذي لم يكتبه أحد، أو الذي لا يرغب في كتابته أحد، أو لا يعرف بوجوده أحد.   
2.    رحلات سردية في عوالم خفية:
تشبه المحكيات القصصية، في (مأوى الغياب)، أسفارا ورحلات في عوالم مجهولة، وجغرافيات منسية، قد لا تكون موجودة أصلا إلا في خيال الراوي، لكن القارئ بمجرد ما أن يتماهى مع هاته الرحلة، أو تلك، حتى يجد نفسه يركب متاهة غامضة تشبه السكر حد الثمالة، إذ تقوده عربة الحكي المجنونة من دوامة إلى دوامة، ومن مجهول إلى مجهول، ومن غيهب إلى غيهب، دون أن تكون لديه الشجاعة الكافية على التوقف، والعودة، والنجاة بنفسه، من عاصفة حمقى، أو هستيريا جنون محقق، أو موت وشيك... يقول السارد على لسان الشخصية: (لا ينتمي إلى مأواي هذا، إلا أصحاب العقول المراوغة. عاشقو الغموض والالتباس. من يحدسون بخطو الأشباح في صمت الليل، ويقدرون الأوهام ويحتقرون الحقائق، من يؤمنون بالخيال، ويقدسون الأوهام والضلالات)[8].
تفتح الكتابة السردية هنا، ممرا بين جغرافيتين مفارقتين: جغرافيا الشك، وجغرافيا اليقين، وتسير بمسافريها على حافة اللامعقول، واللاثبات، واللاموجود، واللامنطقي، مصورة أخيلة الظل، وبقايا الخراب، وصور الأطياف، وهياكل الهوام، وذبذبات الهواجس والأفكار المنسية، وطنين ذاكرة متهدمة، وخيالات تاريخ مطمور حدث أو لم يحدث، والأمكنة المتلاشية، والمحطات العابرة، وكأنها تستتبع ما انفلت من الشياطين المسترقة السمع، الهاربة من رجوم السماء، بعد تجسسها على العالم العلوي، أو كأنها تتحسس شكل الخطاطات الكونية التي كانت، أو التي ستكون، أو التي لن تكون أبدا، وتتخيل الصور الأولية لصراع الإنسان مع ذاته، ومخاوفه، وهواجسه، وغموض العالم من حوله، متهجيّة أصداء التشكل الأول، والخرابات المتتالية التي اجتاحت المدن، والعمارة، والحضارات، وتاريخ الأفكار، والنظريات، والجغرافيات، والطبيعة، وكل شيء من حولنا، بل حتى ذاك المدعو باللاشيء، يقول السارد: (استدرت خلفي، فلم أجد مدينتي. تلاشى الطريق الذي اتخذته وصولا إلى هذه البقعة. تقلص عالمي إلى حيز أشغله، وصخرة أقف عليها، وهوة تنتظرني، وما عدا هذا محض فراغ. بدا الأمر كما لو أن العالم محبوس بعيدا عن ناظري. تخبئه عني أسوار خفية. ما أراه حولي، وما أتحرك فيه ليس العالم كما ألفته، وحدست به، بل نسخة داكنة منه مغمورة بالظلال والفرقعات الغريبة)[9].
          تنطلق الرحلة السردية القصصية من الذات، من الفجوة التي يعرفها الرواة جيدا، أو تلك التي يتحاشاها الرواة عادة، وتدخل من أصعب الممرات والمسارب دون خوف أو قلق، مستندة إلى منطق المجابهة، والمواجهة، والثبات في الجبهات القصية، وغيرها من الصفات التي يتميز بها الشخوص المسافرون، غير أن الرحلة لا تحدد وجهتها منذ البداية، على غير عادة الرحالين، بل يكون هدفها الأسماء هو الانطلاق، مطلقة الحبل على الغارب، وتاركة الأمر للحالات والتحولات الفجائية التي تحملها الطريق/ المتاهة، وكأنها رحلة تعرف منطلقها ولا تعرف مقصدها، وهكذا يكون رهان الكتابة، وشعريتها المتفردين لصيقين بقدرة الرواة على اختلاق فسحات فجائية ضمن مسارات مغلقة، وابتكار حلول للتوسع، والمواصلة في نهايات وشيكة، وممرات معتمة، وأفق غامض جدا، إذ على قدر سير رحل الكتابة، يسير رحْل القصة، ورحْل السفر، ورحْل الآفاق، ونكون بالتالي، إزاء قصة تتمدد آفاقها المنسدة أصلا، كلما واصلنا المسير، وتعمقنا في تشعبات السفر مع الكتابة والحياة.
3.    نزوع فلسفي تأملي يستبطن العمق البشري:
يتسم مشروع الكتابة السردية لدى منصورة عز الدين، بالممارسة الواعية التي تجعل فعل السرد، مصحوبا بالتفكير التأملي، وطرح الأسئلة الملحة، والاستبطان النفسي في الذات وفي ملامح الآخرين، ومساءلة القضايا الشائكة. والأدهى من هذا كله، الغور في البواطن المعتمة، والسرحان في المتاهات الرهيبة التي تظل على هامش التفكير، والتناول، يقول السارد على لسان الشخصية الرئيسة: (أنا شقيقة الفراغ، جنية الخلاء والعراء، رائية الوحيدين والتائهين والضائعين على دروب لم يختاروها في المقام الأول. أدرك أكثر من غيري، أن الطريق ليس الطريق، والنهر ليس النهر، والشجرة ليست الشجرة. كل في حالة صيرورة مستمرة. الزمان يتجلى في المكان، والمكان يبتكر الزمان. وأنا في العراء، أرسم- بمساعدة صهد الظهيرة- لوحات سرعان ما تكتشف العين زيفها، ويلاشيها القرب)[10].
 لذلك، فنصوص المتتالية القصصية لا تكون جاهزة إلا عند انتهاء آخر سطر في النص، إيمانا منها، بأن عملية الكتابة ليست خطاطة جاهزة، بل هي سيرورة متحولة؛ تساعد على فهم العالم الملغز، وتشفير أسرار الكون، وتستدعي الانتباه إلى التفاصيل أثناء المسير بين دهاليز الأفضية والشخصيات والأزمنة المتداخلة، مانحة نفسها أفقا فسيحا للإنصات للعالم السري، ولوشوشات الكائنات اللامرئية، والشخصيات الإنسانية المكلومة التي تئن داخليا، وحشرجات الكائنات المنسية، واستنطاق الأماكن الخربة، والسراديب الملغومة، وتوصيف عوالم الخوف، وأنقاض الحروب، والدمار، والحطام الذي يخلفه الصراع البشري، وأسئلة الموت، والضعف، والمسخ، والانتقال إلى عوالم أخرى مشابهة للأرض أو نقيضة لها.
تتسلح الكتابة السردية بالمعرفة الإبستمولوجية، وجينالوجيا الحياة البشرية، وحفريات التاريخ المنسي، ومتون الأساطير المؤسسة للثقافة الإنسانية، وأسرار المعتقدات الوضعية والسماوية، وتيارات الفلسفة الحديثة والقديمة، واتجاهات الفنون والآداب، كي تؤسس وجهتها المختلفة، التي تقوم على أساس المغايرة، والتجريب، والارتهان إلى الموضوعات اللامطروقة، المرتكزة على الخيال، والاستبطان الصوفي، والنزوع إلى مساءلة الدواخل والأعماق، بما فيها من ظل، وظلام، وسرمد، ورهاب، وافتتان، وغموض لذيذ، وفجائع مستترة على مدى تاريخ لا يعرفه أحد، ممتد، وسحيق... استنادا إلى أدوات مرجعية فلسفية يتيحها التفكير الفلسفي التأملي الاستبطاني، المرافق لفعل الكتابة، والمحايث لمراحل تشكلها الجنيني.
تصنع المتتالية القصصية مادتها السردية من مطاردة خيالات الرواة والشخوص، بل حتى القارئ، ومداهمة الجوانب الحساسة في ظلالهم السكونة بالخوف، والرهبة، والاشمئزاز، محوّلة هاته التهيؤات، وأحلام اليقظة، والأفكار المشوشة، والتصورات المتخلى عنها في النفس، والعوالم الساكنة في اللاشعور، لتعيد الاعتبار لأعماق النفس، وتجعل منها عبر فعلي الكتابة والقراءة، أفقا للتفكير في ما يخجل، ويخيف، ويشوش، ويفتن، ويرهب، ويحير، الفرد، والمجتمع معا، ويثير الفوضى في المشاعر، والأحاسيس، ويربك التوازن الذهني لديهما، وكأن الكتابة بذلك، تسعى، فيما تسعى إليه هنا، إلى تنبيه غفلة الكائن البشري، ولفت اهتمامه إلى المستحكمات الحقيقية في مساراته الحياتية المتشعبة، وصرفه، عبر أسلوبيْ التشخيص والموْضعة، باستدراج ذكي للمتلقي للتفاعل مع هاته العوالم التي تشكل، في الحقيقة، جزءا مغيبا منه.
ولتتحقق شعرية التشييد الموضوعي للمتن القصصي، تستند الكتابة السردية إلى المرونة المطلقة على مستوييْ التحول، والانتقال، سالكة السلاسة المفرطة في تحدي منطق العالم والأشياء، وكسر القوانين، والحدود المنتظمة للعلاقات بين العناصر الكونية واللغوية، إلغاء المسافات بين العوالم، والكائنات، والأفكار، فكان السرد يتطور حرا طليقا، مثل نسر جامح، كأن تصير ذات الراوي طائرا، أو مكانا جغرافيا، أو فكرة شوهاء، أو خرافة قديمة، أو حدثا غير معروف، أو حتى لا شيء، يقول الراوي في قصة (ابنة السراب): (أعيش في الفراغ اللانهائي. تنعشني الامتدادات الخالية من البشر، ومن يشبههم. حين يظهرون أتسلى بالتلاعب بأبصارهم، وبالتحول من حال إلى حال: أكون صخرة طائرة في الهواء، شلالا يندلق مكن السماء للبحر، جبل جليد يخفي خط الأفق عن بحارة يقتلهم الحنين إلى اليابسة. في أوقات فراغي، أصير ما يحلو لي: شجرة، عصفورة، نمرة جبلية، بقعة ماء على طريق مهجور، أو واحة في صحراء هي الكون"[11].
وينعكس هذا التوجه الفني الذي تنهجه الكتابة السردية في "مأوى الغياب" بالضرورة، وبشكل تلقائي، على بنية الشكل القصصي، إذ تعمد الكاتبة إلى كسر الأشكال التقليدية المكرسة، وتحرص، بوعي، ومع سبق الإصرار والترصد، على خلخلة النسق التقليدي المؤسس لسردية القصة، سواء على مستوى تمثيل الشخصية، أو تجسيد الفضاء السردي، أو اختيار جهات التبئير، أو تدبير الخط الزمني، أو تشييد القضاء والأحداث السردية، أو خريطة تشكيل العالم وفق التوازنات المدركة بين عناصر السرد. وكل ذلك يدخل في نطاق الدفاع عن مشروع رؤية للعالم، وبناء أطروحة فكرية تتهكم مما صار إليه العالم من خراب قيمي، ودمار على مستوى الجماليات والإنسانيات، الشيء الذي يجعل من الكتابة والقراءة معا، فعلين ملهمين، مسليين، يشكلان أفقا للهرب من جحيم الانهيارات المرئية واللامرئية، والفظاعات المتواصلة في زمن أخرس، تقول الساردة- الشخصية: (أستعيد هذه الصورة الحية، فأسأل نفسي: أين توارتا الحياة؟ أين غابت عني؟ ولماذا تركتني في هذا الخواء الممتد؟)، ص. 88.
تصبح الكتابة بالنسبة للعالم الموصوف في القصص، نوعا من التطهير (Catharsis)، والغسل، اللذين يطرآن على الذات والعالم، من خلال تمثيل عوالم أخرى بعيدة عن العالم السائد، المليء بالشر، والبغي، والفظاعات، خاصة لما ترتبط في النصوص، بمقاومة الموت، والتفكير في النهايات المحتملة، القادمة بلا أدنى ريب، والرغبة في ترك بصمة ما، وأثرا ما يدل على مرور الفرد من هنا، ما دام التاريخ نسّاء، والمكان قابل للانهيار، والزمان سريع التبدل، نزوعا نحو البحث المضني عما يشبه حجر الفلاسفة، أو إكسير الحياة (Elixir of life)، إذ إن تجعل الكتابة عبثية الحياة محتملة، بواسطتها فقط، نستطيع تلطيف الطابع التدميري للموت، صحيح أن الإنسان مخلوق متناه، وعابر، غير أن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني المحدود في الزمان والمكان[12]. ويبدو الموت، لأول وهلة، غير عادل، لأنه يأتي، في الغالب، بعد نضج الأفراد ذهنيا وجسديا، لكنه، في العمق، فعل ديمقراطي يساوي بين جميع الناس، لا يقهره سوى الكاتب الذي يعطي حياته بفعل الكتابة تحديدا عمرا إضافيا. فإذا كان الموت يجمع بين اليقين والشك حيث نعرف يقينا إننا سنموت، فإننا لا نعرف متى ولا كيف؟ بل لا نصدق في العمق أننا سنموت!)[13].
وتشي المتتالية القصصية بالرهاب من فكرة الفناء التي تقبر الكثير من الأحلام، وتجهض العديد من المطامح، والأماني، وتضع حدا لعدد لا متناه من المشاريع، والأعمال، وتؤجل مسارات كانت في بداياتها، وإلى الأبد، رابطة إياها خصيصا، بفئة الكتاب، الذين يفاجئهم الموت، فيجهز على كثير من الأعمال، ويوقف، بغير رحمة، ما كانوا بصدد إنجازه، وكأنها ترثي حال الإنسان الذي يرحل إلى العالم الآخر دون أن يكمل مخططاته، ومهما استطال به العمر، سيظل قاصرا على أن ينجز كل ما كان يفكر فيه قيد حياته. نحن نعرف جيدا أن الموت يقين، لكننا نصرّ على تصديق كذبة الحياة. لذلك، فالكتابة والموت إذا، فعلان فرديان لا ينوب أحدنا فيهما عن الآخر[14]، يقول الراوي على لسان المؤلف الضمني: (ما أكتبه يخيفني لأنه يثبت كل ما رأيت من أهوال. يحييه، ويكرره بلا نهاية، فلا يمحي من ذاكرتي. قد يكون ما يروعني أني حين أكتب ما شهدت عليه أستشعر جمالا خفيا كامنا فيه. تخونني اللغة، تسحبني إلى جمالياتها. أقرأ فأجد الخرائب جذابة، والموت اليومي مصاغا بدقة بارعة تنقيه، وتعزل الوجع بعيدا، تطرده من المشهد، ولو مؤقتا)[15].
تخوض الكاتبة منصورة عز الدين تجربة كتابة مختلفة، لا يزاحمها، في هذا السبيل المختار بوعي ومعرفة، كثيرون. يساعدها في هذا الاختيار الوعر، قدراتها الفذة على تطويع اللغة، ومهاراتها الفطرية والمكتسبة في ترويض المساحات والأفضية والمجالات، من خلال إعادة عجن كتلتها، وتمثيل جغرافياتها الممتدة في أشكال، وخطاطات، ومفردات، ومفاهيم، وهيروغليفيات، وطلاسم، وتصورات مجردة، وإحداثيات غير مدركة، وتصاميم خيالية، ويدعمها أيضا، شساعة خيالها الخصب، وصبرها على عوامل القسوة التي يقودها إليها هذا المسار، وجرأتها على اقتحام مجاهيل النفس، ومحاورتها، والسفر بها، وعبرها إلى عوالم غامضة تسكن البواطن السحيقة للنفس، فضلا عن تشبعها بالفلسفات الحديثة، والتيارات السيكولوجية المعاصرة التي تشرح لاوعي الفرد، للوصول إلى كنه هواجسه، وتفك مستغلقات ذاته الموحشة التي يعرفها، أو لا يعرفها. وهي، بناء على ذلك كله، تقدم للقارئ طبقا سرديا مغايرا، يحفل بالجدة، والراهنية، وصوتا إنسانيا مبدعا له فرادته، وخصوصيته اللتين تستعصيان على الابتذال والاجترار والتقليدانية.

 *ناقد وروائي من المغرب
* نقلاً عن جريدة القدس العربي.




[1] - مأوى الغياب، دار ممدوح عدوان، دمشق، سوريا ـ دار سرد، بيروت، لبنان، 2018م، ص. 74.
[2] - مأوى الغياب، ص. 33.
[3] - مأوى الغياب، ص. 78.
[4] - مأوى الغياب، ص. 61.
[5] - مأوى الغياب، ص. 84.
[6] - مأوى الغياب، ص. 47.
[7] - المصدر نفسه، ص. 59.
[8] - مأوى الغياب، ص. 13.
[9] - مأوى الغياب، ص. 25.
[10] - مأوى الغياب، ص. ص. 63- 64.
[11] - مأوى الغياب، ص. 59.
[12] محمد توفيق السهلي، حسن الباش: المعتقدات الشعبية في التراث العربي، دار الخليل، دمشق، سوريا (دون تاريخ)، ص. 139.
[13]- سيغموند فرويد: الحرب والحضارة والحب والموت، ترجمة الدكتور عبد المنعم الحنفي، مكتبة مدبولي، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2010. ص. 35.
[14]- أمل مبروك: فلسفة الموت، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2011. ص. 112.
[15]- مأوى الغياب، ص. 133.