Tuesday, December 19, 2017

منصورة عز الدين: روايتي وليدة الضجر من الكتابة التقليدية



يعتقدُ فرانز كافكا بأنَّ الكتاب الذي لا يكسرُ جليد الرأسِ ليس جديراً بأن تُضيع الوقت في قراءته، فعلاً بأنَّ ما لا يخرجُ عن المألوف ولا يُحطّم أشكالاً سائدة ولا يُشاغبُ أنماطاً تقليدية لا يُضيفُ لك شيئاً، ولا يثير أسئلة حبلى بنزوع معرفيّة. وهذا ما تراهن عليه الروائية المصرية منصورة عز الدين كلما تباشرُ بكتابة عمل جديد.
لاقت «أخيلة الظل» آخر إصدارات منصورة عز الدين احتفاءً على مختلف المستويات، وذلك لما اتّصفت به الرواية من خصائص أسلوبية مميّزة والتماسك البنائي. وفيما يلي حوار لـ»الجمهورية» مع صاحبة «جبل الزمرد» حول تجربتها الروائية وقراءتها للمشهد الروائي المصري.


أجرى الحوار: كه يلان محمد



1- يقول مارسيل بروست إن السبيل الوحيد لحماية اللغة هي مهاجمتها هل يمكنُ وصف روايتك الأخيرة  بأنها ثورة على الشكل التقليدي للرواية أو محاولة لاكتشاف أفق جديد في صياغة الأدب الروائي على غرار ما عمله الغيطاني في (الزينى بركات)؟

-        أظن أن وصفًا مماثلًا يُترَك أمر البت فيه للنقاد والقراء، ما أعرفه أن "أخيلة الظل" وليدة الضجر من الكتابة التقليدية ومن عودة البعض لأسئلة فنية عفا عليها الزمن.

2- تتواردُ في سياق رواية (أخيلة الظل) عباراتُ توهم بإشراك المتلقي في إنجازها لماذا يُمنحُ هذا الدور المركزي للقارئ؟

-        في رأييّ أن المتلقي شريك أساسي في أي نص. بمجرد صدور العمل يصبح ملكاً لقرائه، وكل قارئ يقوم بتأويله على طريقته ووفق ثقافته ومرجعياته الخاصة. شراكة القارئ مع الكاتب ليست خصيصة ما بعد حداثية كما قد يتراءى للبعض، كُتَّاب قدامى من ثقافات مختلفة انتبهوا لهذه الشراكة وخاطبوا قراءهم المفترضين، كل بأسلوبه، يحضرني الآن مثلاً الجاحظ وثربانتس.
في حالة "أخيلة الظل" المتلقي أكثر من شريك، هو فاعل لا غنى عنه في إنتاج النص. الرواية مقدمة منذ سطورها الأولى باعتبارها لعبة. لعبة تخييل؟ أم لعبة افتراضات؟ سيان. المهم أن اللعبة تحتاج إلى طرفين، إذ ليس بإمكان الكاتب أن يلعب منفرداً. هو في حاجة إلى تواطؤ القارئ وتسامحه. عليه أيضاً أن يتوارى قليلاً ويتخلى عن مركزيته المفترضة في انتاج النص، حتى ولو كان هذا التواري مجرد احتيال ومراوغة. فكما يقول جان بودريار: "لا ينبغي أبداً أن يكون اللاعب أكبر من اللعبة نفسها وإلا لفظته". منطق اللعب يفرض وجود شركاء متواطئين على قواعد معينة للعبة، كما يفرض مساواة – ولو متوهمة – بينهم. ربما لهذا لم تُكشف هوية من يدير اللعبة ويحركها: كاميليا؟ أم أولجا؟ أم راوٍ آخر خفي؟
مركزية المتلقي كانت أيضاً محاولة لخلق درجة من الألفة معه لتقليل ارتباكه أمام لعبة التبادلات والمرايا في النص. هذا غير أن الإيهام الأساسي في العمل يتمثل في افتراض أن معظمه يقع في منطقة ما قبل الكتابة، في أحلام اليقظة والتخيلات والأحلام. فكاميليا تحلم بأولجا، وأولجا تتخيل كاميليا وآدم رافضةً أن تكتبهما لأنها لم تعد تؤمن بجدوى الكتابة.
لكن بعيداً عن كل هذا، أظن أن الكتابة - في وجه من وجوهها - فعل قراءة. الكاتب يقرأ العالم ويُئوِّله ويقيم العلاقات بين عناصره بينما يكتب. في المعاجم العربية القديمة مثلاً من معاني مفردة "قرأ": جمع الشيء وضمه بعضه إلى بعض. وهذا في ظني يصلح تعريفاً أيضاً للكتابة عموماً ولكتابة الرواية على وجه الخصوص. في "أخيلة الظل" الكتابة خلق صلات وعلاقات بين أشخاص (وأشياء؟) لا علاقة ظاهرة بينهم.

3- من الملاحظ تفاعلُ نصك الروائي مع الفنون الأخرى لا سيما فن السينما والفن التشكيلي وأيضا الموسيقى هل يأتي هذا نتيجة لإعتقادك بأنَّهُ لم يُعد هناك خطوط فاصلة بين تلك الفنون والأدب؟

-        هذا الأمر يأتي عفوياً، ربما لقناعتي بأن لا خطوط فاصلة بين الفنون والأدب. الفن التشكيلي والسينما والمسرح والفوتوغرافيا مكونات أساسية في تكويني ككاتبة. في مراحل مبكرة من طفولتي أرشدتني السينما إلى كثير من القراءات. عبرها تعرفت على كثير من الكتاب وقرأت لهم، هذا غير غرامي بجمالياتها الخاصة وجماليات الصورة بشكل عام. علاقتي بالفوتوغرافيا معقدة منذ بدايتها، لطالما أدهشتني الصور الفوتوغرافية وأخافتني في الوقت نفسه. عبرها انشغلت مبكراً بفكرة توقيف الزمن؛ إماتته وتثبيته. من ناحية أخرى ذاكرتي بصرية بالأساس، بل أجازف بقول إن لغتي نفسها كذلك. المشهدية بارزة في كتابتي من أول قصة كتبتها، إلهامي يحضر في هيئة مشاهد أو صور مقتطعة من سياقها، بعضها لأشياء أو أحداث مررت بها – ولو عابراً – ثم أكتشف لاحقاً تأثيرها عليّ وقدرتها على تحفيز مخيلتي.
أما بالنسبة للموسيقى، فحضورها نابع بالأساس من طبيعة شخصيات الرواية والتقنية المختارة لكتابتها. فـ"أخيلة الظل" تستعير نوعاً من التزامن الموسيقي لتشكيل العلاقة بين شخصياتها.

4- الشخصيات الأساسية في الرواية لا تشغلها سوى الذكريات وتدوينها كأنكِ أردت بذلك توصيل رسالة وهي أن الإنسان محصلة للإشارات الصادرة من بئر الماضي على حد تعبير كونديرا هل هذا صحيح؟

-        "أخيلة الظل" - في مستوى من مستوياتها - مبنية وفق منطق الصورة، إذ تضمر بداخلها ما تتمركز حوله الفوتوغرافيا من تثبيت للزمن. التثبيت في الرواية ليس تاماً بطبيعة الحال، لكنه أقرب لتوقفات عند لحظات/ ذكريات بعينها، والتركيز عليها باعتبارها مركزية في تشكيل ذوات الشخصيات ورؤيتها لنفسها وعلاقتها بالعالم. كأن الذات مضت في طريقها مع حركة الزمن فيما وقف ظلها أمام نقطة بعينها في الماضي محدقاً فيها ومتأملاً نفسه خلالها. العلاقة بالماضي مركزية في كتابتي منذ البداية، "متاهة مريم" كانت – بشكل ما - حوار مريم مع أشباح ماضيها، وفي "وراء الفردوس" ثمة محاولة سلمى المستحيلة للانسلاخ عن الماضي والقطيعة معه، و"جبل الزمرد" يمكن النظر إليها كمحاولة لاختراع ماضٍ متوهم يُنظَر للرجوع إليه باعتباره المخلِّص والمصحح لكل الأخطاء.
من هذا المنطلق أتفق مع مقولة كونديرا، ومع رؤية ماركيز الخاصة بأن حياتنا هي ما نتذكره منها. الإنسان محصلة كل أفعاله وكل ما مر به، ونحن لا نعي الأفعال والأحداث بشكل جيد إلّا حينما تمضي، ويصير بيننا وبينها مسافة تتيح لنا إمكانية الرؤية والاستبصار فيها.

5- شهد فن الرواية في مصر مراحل مُتعددة إذ كان وراء كل مرحلة اسم أدبي بارز الآن كيف تقييمين  منجز الروائي المصري؟

-        من الصعب تقييم منجز الرواية المصرية في عجالة، فكما ذكرت ثمة مراحل متعددة واتجاهات ومدارس متباينة. هناك أيضًا كُتَّاب منسيون رغم أهمية ما قدموه. بالنسبة لمشهد الرواية المصرية الآن أراه حيويًا وصاخبًا، لكن ينقصه الفرز النقدي. ففي خضم الصخب وغياب النقد تتوارى أصوات مهمة خلف الضجيج. من ناحية أخرى لا تهتم كثير من دور النشر المصرية بتوزيع إصداراتها بشكل جيد خارج مصر، وتكتفي بالقارئ المصري، وهذا حجَّم من انتشار الرواية المصرية عربيًا باستثناءات قليلة.


·       نقلاً عن جريدة الجمهورية اللبنانية.

Monday, December 4, 2017

رواية المصرية منصورة عز الدين «أخيلة الظل»: عوالم موازية مدهشة بطلتها الكتابة







المثنى الشيخ عطية


لنتخيل رواية تكتب شخصياتُها مؤلفَها مثلما يكتبها، دون كبير جهد في «بحثها عن المؤلف»، وبمتعة تبادل الأدوار، وإيجاد «ألف ممر وممر» لعبور الشخصيات والمؤلفين خلال بعضهم، وللدرجة التي «نمسك فيها باللحظة السحرية حيث يمتزج الضوء بالظل كأنهما شيء واحد». ولنسمح لأحلام يقظتنا، وكما تفعل الحياة بخلط جيناتها، أن تشطح أكثر من ذلك بتذكر أو بابتكار الحكايات التي تصور طفولتنا، والاتجاهات التي نفترض أنها سلكتها تحت تأثيرات فرض معتقدات أهلنا وأفعالهم عليها، أو جهلنا بنتائج ما ترتكب براءاتنا. ولنسمح، كشخصيات أو مؤلفينَ أو قراء، لأنفسنا أن تقود نفسها بحرية في هذه الاتجاهات، ولا بأس علينا، بقليل من الغش في تغييرها، إن لم نستطع تحمل حزنِ فشلنا في منع وقائع حدوث ما سيعصف بحيواتنا، مثل أن تتلقى طفلة «ركلة محكمة» من قدم أب غاضب.
ولنطلق أيدينا أجنحة تحلق في سماوات لا حدود لها، وبين غيوم نشكلها وفقاً لما يدهش عيون من يشهدنا، طالما كانت لدينا فطرة قدرة التخيل البسيطة بحكم تكويننا، أو يد القدرة اللغوية التصويرية المثال، للغوص في أعماق دواخلنا حتى الإذهال.

تلك هي بعض أحاسيس متعة قراءة أو عيش رواية «أخيلة الظل» الجديدة للكاتبة المصرية منصورة عز الدين، التي يرافق أصابع كتابتها لها ظلٌ ساحرٌ يتشكل قريناً متحولاً بعفوية المطابقة والتغير، كيفما تحركت إضاءات الرواية أمام أعيننا، من أجل إشراكنا بمتعة خلقها. وهذا البطل الموازي هو: الكتابة، في لحظة صراعها مع فنائها.

في البدء، لم تكن الكلمة، بل ربما كان جوهر الفراغ الذي لا تسمع فيه حتى صوت فتح صفحةٍ بإصبعيك اللطيفين من كتاب الطاو، وفقاً لتقديم الرواية من الكاتبة، أو صوت يقظة جفنيك من كابوس نصبه لك كافكا وأنت جالس تتأمل متحفه تحت سماء براغ، التي تشكل سحبها عنك شخصية تبتكرها أحلام يقظتك: «في البدء كان هناك مقعد خشبي» في الباحة الأمامية لمتحف كافكا على ضفة الفلتافا»، تجلس عليه كاميليا، بطلة الرواية الأولى، الكاتبة، «في أقصى درجات هشاشتها وصدقها مع ذاتها». وآدم، بطل الرواية الأول، الكاتب، الغريب عنها، والذي «لم يكن هو نفسه بالضبط، بل نسخة منقحة عنها، عالقة في مخاوف الطفولة وهواجسها.»



ولنبسط «القصة بالغة التعقيد» التي وصفتها الكاتبة هكذا في عنوان أحد فصول روايتها، ببطلين يدعونا لتخيلهما راوٍ مجهول لا نستطيع الجزم إن كان هو كاميليا نفسها، بعد اكتشافنا خلال القراءة أنهما بطلان متخيلان من شخصية تكتبها كاميليا. هي شخصية كاتبة روسية تعيش في براغ: «وليكن اسمها أولغا»، تكتب عن شخصيتيْ كاتبين غريبين يلتقيان في هذه المدينة، هما كاميليا بطلة قصة أولغا، وآدم، حفيد بطلة قصتها التي تكتبها. وتقصيهما أولغا عن التسجيل كتابة، وفقاً لكاميليا، ولا تكتبهما، لأنها تريد لهما الحياة في صخب أفكارها، وأن يبقيا سراً حميماً، لا كتابة عمومية تستهدف قراء لا تعرفهم ولا يربطهم بها سوى كلمات لم تعد تؤمن بجدواها. بل تواصل الكتابة عن «طفلة ناجية من مذبحة»، تختارها من مذابح «سيفو» التي جرت ضد السريان والآشوريين، عام 1915، وتختار لها اسم «آميديا، تيمناً بزوجة نبوخذ نصر، تلك التي شيد لها حدائق بابل المعلقة كي تذكرها بتلال وجبال مسقط رأسها، فلا تشعر بالغربة أو الحنين المرضي وهي معه في موطنها الجديد». ونكتشف أن هذه الطفلة كما أرادتها مخيلة الكاتبة هي جدة آدم، التي فصمها عن واقعها شهودها للمجزرة.

وندرك، خلال مواصلتنا قراءة «أخيلة الظل»، أننا نقرأ «ألف ليلة وليلة»، لكن بنسخة عز الدين الخاصة المبتكرة، التي تفتح لنا فيها من خلال البداية ببطليها الكاتبين، ومراسلاتهما، وتحت عناوين مثقفة، غنية وأخاذة. قصص حياة شخصيات الرواية المتشابكة بعلاقاتها مع البطلين، في لعبة افتراضات ذهنية تقوم بها الشخصية المحور في الرواية، حيث «يخطر لكاميليا في هذه اللحظة أن تضيف لعبة جديدة لألعابها الذهنية اللانهائية: اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها». ولنكتشف أيضاً، خلال هذا التداخل، ما نقوم به نحن كبشر في واقع أحلام يقظاتنا، لمواجهة مخاوفنا، ولاحتمال آلامنا، ولحل تعقيدات حياتنا، ولإضفاء متعٍ حرمتنا منها تحريمات أسلافنا، كي نفكر بعمق أكثر في أوهامنا، نوازعنا، أفعالنا ومصائبنا، وربما لكي نتسامح أكثر مع أنفسنا، ومع الآخرين الذين نخضعهم جوراً لانطباعيات أحكامنا.

ولا تفعل ذلك عز الدين، من خلال بساطة شكل بنية الرواية الظاهرة كفصول، وكسرد من راوٍ عن شخصيات؛ ولا من تعقيدات البنية الداخلية في لعبة أحلام اليقظة بخلق العوالم الموازية؛ ولا بالثقافة العميقة التي تستخدمها خيوط حرير شفافة لكنها صلبة في نسج الرواية، وتستخدم فيها كتاب الطاو الصيني المقدس، وفلسفة اللغة في لسان العرب؛ وهاويات كوابيس كافكا، والموسيقى، الفن التشكيلي، السينما، وثقافة الأماكن… بل أيضاً تفعل ذلك بسحر التصوير اللغوي، الأخاذ والمؤثر بعمق، لمشاهد النفس الداخلية الغارقة في الخوف والحسرة والندم، ولمشاهد المجازر بأهوالها التي تتجاوز ما يحدث من قصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، والقنابل الفراغية والكيماوية، ومن ذبح وتقطيع وحرق، إلى ما يقصف روح الشاهدين الناجين من هذه الأهوال. كل هذا يقطع صلتهم ولغة تواصلهم بواقعهم، وبالبشر المحيطين بهم؛ ولمشاهد المكان، التي يرتقي فيها وصفه الجميل إلى عيش روح المكان، ونبضه كحياة تتفاعل وتؤثر في الشخصيات، بدءاً من لون المقعد الخشبي حيث «الأخضر بدرجاته هو اللون المفضل لكاميليا: لون الحياة الجديدة وجسد أوزيريس وعيني حورس في الميثولوجيا الفرعونية، والجشمت ــ حجر كاميليا الأثير ـــ لا مثيل لاخضراره. لو قدر لها أن تبعد عينيها عن المسافة بين قدميها المتباعدتين قليلاً لأدركت أن اللون الداكن للمقعد الخشبي، علامة وغمزة عين من القدر». وثمة مرور بالبيوت والحدائق والأنهار والبحار والصحاري والغابات والسهول والجبال، إلى المدن التي ترتسم مثلها مثل الشخصيات كعوالم موازية متغيرة بعمارتها وألوانها وفقاً لإحساس شخصياتها بها.

وأكثر من ذلك، على خلاف ما تكونه الروايات الباردة المخططة المقاسة بالمليمتر، تجرؤ عز الدين على نشر أجنحة إبداعها، في قيادة روايتها بعفوية، وترك الحرية للحميمية، ولشخصياتها أن تعبر وأن تطور نفسها، وأن تختار مساراتها. وهذا مثلما تفعل بطلتها الكاتبة كاميليا، التي «لا يمكنها الجزم بمصير بطلها النهائي، قد يفاجئها ــ أثناء الكتابة ـــ مقترحاً عليها مساراً آخر للأحداث… ما عليها سوى الصبر ومواصلة الكتابة والإنصات لهمس بطلها كما كانت تنصت لرفاق الطفولة الخياليين، وتخترع لهم حكايات مستقلة، ثم تستلهمها لاحقاً لاختراع حيوات بديلة ــ عن حياتها مع أبويها ــ تقصها على صديقات الدراسة.»

ولا يعني هذا بأية حال فقدان سيطرة الكاتبة على حرية سير الكتابة، وعلى نوافذ وأبواب وممرات التداخل المفتوحة، التي تجعل الرواية تتحرك كما الحياة، في تمازج مورثاتها، وإذهال نفسها بالتنوع والفرادة؛ فإضافة إلى التحكم بالرواية من خلال البنية، تبتكر عز الدين الختام الذي يلمّ أبعادها، بتدوير انفتاح نهايتها على بدايتها، وبانسجام حلو مع فلسفتها في تعدد مرايا الكائن وأشكال ظلاله.
وهذه في نهاية المطاف رواية ذات عذوبة مفرطة، عميقة وجديرة بقراءة متأنية، تُدخل الكتابة بطلاً، وتتسم في هذا كله بخصائص فنية رفيعة. ومثلما يحسد كثير من الروائيين غابرييل غارسيا ماركيز على روايته «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، يمكننا الزعم أن «أخيلة الظل» جديرة بإثارة حسد تلقائي مشروع لدى روائيين أفذاذ، تمنوا لو أنهم سبقوا عز الدين إلى كتابتها.

منصورة عز الدين:
"أخيلة الظل"
دار التنوير، القاهرة 2017
174 صفحة

نقلاً عن جريدة "القدس العربي".. 11 نوفمبر 2017.

Saturday, December 2, 2017

رضوى عاشور.. الرواية كوثيقة تاريخية





منصورة عز الدين


في سيرتها الجميلة والكاشفة "أثقل من رضوى"، تحكي الروائية الراحلة رضوى عاشور أن جدها عبد الوهاب عزام، اختار لها اسمها تيمناً بجبل رضوى في المدينة المنورة؛ ذلك الجبل الذي ضربت به العرب المثل في الثقل والرسوخ حين قالت: "أثقل من رضوى".
كأن الجد المثقف، باختياره هذا الاسم، كان يتنبأ بشخصية حفيدته والمسار الثري لحياتها. كانت نبؤءة أكثر منها رجاء.

مع الوقت صارت الحفيدة مثلاً ليس فقط في القوة والرسوخ، بل وأيضاً في ثراء وتعدد مجالات الإسهام. تنوع متناسق يذكر بأنغام لحن موسيقي شجي، إذ لا يمكن فصل الروائية عن الأكاديمية عن المناضلة عن الأم والحبيبة حين نتحدث عن رضوى عاشور، إنها وجوه متداخلة للشخصية نفسها، وجوه نلمح ظلالها بينما نقرأ عملاً روائياً لصاحبة "خديجة وسوسن"، رغم أنها من الكاتبات اللاتي يجدن إخفاء آثار حياتهن الشخصية داخل ما يكتبن.
الكتابة، بالنسبة لرضوى عاشور "محاولة للتعامل مع الهزيمة" و"لاستعادة إرادة منفية"، لذا من الطبيعي أن يكون الرصد والتوثيق، لمنع تجريف الذاكرة الجمعية، هاجساً يتكرر من عمل لآخر.

من الطبيعي أيضاً أن يصير التاريخ والرواية خيطين مضفورين معاً، بحيث تقترب الرواية من كونها وثيقة تاريخية، وتكتسب لغتها في أكثر من موضع نبرة المؤرخ الناظر من مسافة إلى ما يدور حوله حتى لو اشتبك معه وشارك فيه.

في رواياتها ذات البعد الوثائقي، نجدها تضفر المتخيل بوقائع التاريخ بمهارة، لا يخايل التاريخ القارئ من بعيد ولا يأتي كخلفية تتحرك عليها الشخصيات، بل يبين واضحاً مركزياً، كأن التأريخ غاية السرد ومنتهاه.

في حوار معها، تقول صاحبة "ثلاثية غرناطة" عن روايتها "الطنطورية" إنها: " رواية تمزج المتخيل بالوثاثق، والأحداث المفصلية في الرواية كلها حقيقية، فعندما أتحدث عن تاريخ هذه المرأة، فإني أتحدث عن الطنطورة. أتحدث عن قرية معينة ومعروفة في تاريخ فلسطين وجغرافيتها، حين أتحدث عن امرأة شاتيلا أدخل بعض الشخصيات الحقيقية، حيث يظهر أنيس الصايغ في النص، والدكتورة بيان نويهض الحوت مؤلفة كتاب "صبرا وشاتيلا"."

الكلام السابق يكشف منهج صاحبته في مقاربة التاريخ وتطويعه لمقتضيات الفن الروائي، كما يمكننا فهم عالمها الإبداعي ورؤيتها لفن الرواية ودوره، بدرجة أعمق، إذا تذكرنا مقولتها: "كل الروايات تاريخية بمعنى من المعاني"!

"أرجع قليلاً إلى الوراء لأن الدقة مطلوبة، والحكاية لا تخصني وحدي" هذا ما جاء على لسان "الناظر" راوي "قطعة من أوروبا"، الحكاية فعلاً لا تخصه وحده، بل أكاد أقول لا تخصه أصلاً، فحياته الخاصة شاحبة بالمقارنة مع ما يدونه عن وقائع وشخصيات تاريخية. الناظر الرائي والمراقب مشغول برسم بورتريه لقاهرة الخديوي إسماعيل بعمرانها وأماكنها وشخوصها البارزة، كأنه يعيد الحياة إلى ما أندثر وتوارى، وحين يحكي عن نفسه يقاربها كأنها أيضاً لا تخصه، فثمة مسافة بينه وبينها، بينه وبين طليقته شهرزاد وبناته الثلاث.

الناظر هنا هو قناع للكاتبة، قناع يدلنا على رؤيتها لدورها ورسالتها. هذا الدور وهذه الرسالة يمكن تلمسهما بين ثنايا كتابها الأخير "أثقل من رضوى"، ففي فقرة بالغة الدلالة تكتب أنها تريد لسلمى سعيد أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت أحمد عرابي، "وأريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم وهي صبية في العشرينيات أُطلِق عليها النار في هذا المكان، وأريد ألا ينسى أولادها ولا أحفادها ولا أحفاد أحمد حرارة ومالك مصطفى وماري دانيال وأشقاء جابر صلاح أن أهلهم والمئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا في هذا المكان، كانوا وهم يصنعون له تاريخاً جديداً، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه أو حكوا حكايات منقوصة".


نقرأ هذا، فنفهم أنها كتبت دائماً لتقود قراءها إلى التواصل مع تاريخ مسكوت عنه، كتبت دائماً رغبةً منها في سد ثغرات الحكايات المنقوصة وسعياً إلى إكمالها.

* شهادة نُشِرت بمجلة "الدوحة" في عدد يناير 2015. 

Saturday, October 7, 2017

أخيلة الظل: التمويه على المخاوف والأشباح



جهينة خالدية


تخيلات كثيرة، أحلام غرائبية، تأملات في تشكيلات السحب.. وآلام لا تسكنها أحياناً إلا إغماضة الجفون، مخايلة قلعة معلقة بين السحب أو غياب عن الوعي
شخوص منصورة عز الدين يعيشون في أخيلتهم وينسجونها من حكايا بعضهم البعض. كاميليا تحكي لآدم وتحلم بالكاتبة الروسية أولجا، أولجا تحكي قصة كاميليا وتلهث خلف آميديا.. ساندور يعيش في عالم أولجا ويغرق في هواجسه وفي ماضيه.. آدم كوستاكي يحدس بكاميليا.

في أخيلة الظل تقدم عز الدين رواية تجريبية جديدة، "نوفيلا" كما تسميها في حوارها المصور مع "بوابة العين": "نوفيلا قائمة على لعبة افتراضات وتخيلات وهي أشبه باستثمار لأحلام اليقظة ولعبة ظلال، واختراع شخصيات وخلق علاقات متبادلة بينها ومن خلال كل هذا تناقش الرواية أفكار عن الفن والرواية والكتابة".
تقول عز الدين "عندما بدأت بكتابة أخيلة الظل، ظننت أنها بعيدة عن كل مشكلات الواقع العربي في هذه السنوات وكانت كرئة أتنفس منها أثناء الكتابة، ولكنني فوجئت أن الآلام التي تشهدها المنطقة تظهر بطريقة مراوغة في أحداثها ومن خلال شخصياتها المتخيلة لأكتشف أنها تسكنني".

لغة منصورة ولمساتها السردية حاضرة في كل صفحة. هي التي اتقنت المزج ما بين الخيال والواقع والقفز فوق الأزمنة وبين الأمكنة المختلفة، وهي التي أغرتها ألعاب السرد وامتهنتها.




عز الدين التي تدخلنا في عملها في متاهات لن نحبذ الخروج منها، نضيع فيها ونتواجه مع خساراتنا ووحدتنا وغربتنا عن نفسنا وعن محيطنا.. في "أخيلة الظل" نلاحق ظلالنا وندفع بخيالنا داخل أخيلة شخصيات أخرى.. نعيش تبديدهم لذكرياتهم وخوفهم لنكتشف أنه خوفنا. هكذا بلا جهد كبير، نتقمص شخوصاً أخرى، ونطلق العنان لمخيلتنا محاولين تنبأ خطوة منصورة التالية.. كيف سترسم حياة جديدة لشخصيتها تلك؟ كيف ستضعها هناك في حديقة براغ وتجعلها تنطق بآلام الماضي.. من هو الكاتب الحقيقي ومن هي شخصيته المفترضة؟ نسأل ونلهث خلف الأحداث بحثاً عن الأجوبة، نجدها أحياناً ونفتقدها في أحيان أخرى ونحن نتأمل منصورة عز الدين تهدم كل سيناريو متوقع حاولنا رسمه معها.


ظلال رواية عز الدين ستلاحقنا لفترة ليست بقصيرة، وستلاحقنا قناعة آدم أن "الظل مرآة يرى الضوء فيها وجهه ممعناً في غيابه" وإدمان كاميليا على الاختباء خلف الكلمات "بحماقة لا تتنازل عنها، كانت ترغب في الاختباء خلف الكلمات، في اختراع عوالم وخلق حيوات وأقنعة تتخفى وراءها وتموه على مخاوفها وأشباحها.. بالنسبة لها لا صحبة أجمل من صحبة الشخصيات المتخيلة".

نقلاً عن بوابة العين الإماراتية

Thursday, October 5, 2017

أخيلة الظل: اللعب بالكتابة ومعها





د. عزة مازن



في روايتها الأحدث "أخيلة الظل" (2017) تمارس الروائية والقاصة منصورة عز الدين تجربة الكتابة عن الكتابة، أو "ما وراء الكتابة" metafiction ، فتتشابك خيوط السرد ومصائر الشخوص وحكاياتهم، ويتحول الجميع إلى شخوص في قصص وحكايات يكتبها البعض، وتبقى أحلامًا معلقة في أذهان البعض، خيوطاً متشابكة تحركها الكاتبة أو يلهو بها راو متوار خلف نسيج الحكايات. تكتب شخوص الرواية بعضها بعضًا وتفكر إحداها في الكتابة على أنها "في جوهرها، مطاردة للسراب ولعب معه، بل واختراع له".

تلقي الكاتبة بالخيوط المتشابكة في الفقرة السردية الأولى " ليست صورة، بل ركلة محكمة"، لتكسر الإيهام بأن ما تكتبه ليس رواية في إطارها المتعارف، فتعلن بداية اللعبة – لعبة الخيال- ثم تترك خيوطها تنفرج وتلتقي وتتقاطع في الفقرات التالية، ويجد القارئ نفسه متورطًا في اللعبة، يلهث وراء السطور، رغبة في فصل الظلال المتشابكة والمتداخلة، من يكتب من، ومن ما هو إلا طيفًا في حلم أحدهم أو وهمًا في عقل آخر؟ تُستهل الفقرة بالقول: "تخيلوا معي مقعدًا خشبيًا في الباحة الأمامية لبيت على ضفة "الفلتافا"، قريبًا من جسر تشارلز". على المقعد يجلس رجل وامرأة "وحيدان في ضحى مشمس. هي قادمة من القاهرة في زيارة لواحدة من مدن أحلامها، وهو وصل من "سياتل" قبل يومين للمشاركة في مهرجان أدبي بمدينة لا يمل من التجول فيها". يمتهن الاثنان الكتابة ويحاولا التواصل بعبارات مكرورة عن الطقس، بعدها تحكي المرأة، دون انتظار لرد فعل من رفيقها: "هذه زيارتي الأولى، لكن هل ستصدقني لو أخبرتك أنني أرى "براغ" في حلم متكرر، وأنها في الواقع، مطابقة لما سبق وحلمت به؟" وتواصل فتحكي عن قصة تكتبها في حلمها وتشارك في أحداثها: "عن كاتبة روسية تعيش في "براغ"، تكتب بدورها عن طفلة ناجية من مذبحة. يسكن مع الكاتبة الروسية عازف بيانو". وتستغرق المرأة في تفاصيل الحلم: "كان ثمة أيضًا عجوز يسير بلا انقطاع، جيئة وذهابًا، على جسر تشارلز، فيما أتابعه من شرفة الكاتبة الروسية في بناية تشرف على الفلتافا." وسرعان ما يكسر السرد الإيهام ليشرك القارئ في عملية الكتابة ذاتها: "ماذا لو اخترنا للقاهرية الجالسة في الباحة الأمامية لمتحف كافكا، اسم كاميليا! وللرجل القادم من "سياتل" والمستكين بجوارها منصتًا لكلماتها اسم آدم"! ويخبرها الرجل بحلمه في أن يصبح كاتبًا، بعد أن قرأ في صباه قصة للافكرافت. وتمعن لعبة الخيال في التأكيد على ذاتها وتشابك خيوطها: "لن يبدو الأمر غريبًا لو افترضنا أن آدم هذا حفيد لاجئة شرق أوسطية تزوجت بحارًا يونانيًا، وانتقلت معه من ميناء لآخر، حتى استقر بهما المقام في "سياتل"، فكما تعرفون كل شىء مباح في لعبة الافتراضات، وما نحن بصدده مجرد لعبة".

في الفقرة السردية التالية "فليكن اسمها أولجا"، تؤكد الصيغ الاحتمالية على استمرار اللعبة، بينما يوهم السرد القارئ ببداية انفراج تشابك خيوط الحكايات، وهي في الحقيقة تزداد تعقيدًا وتشابكًا. فليست الحكايات المتشابكة حلمًا في ذهن كاميليا، أو رواية تسعى إلى كتابتها، إنما أولجا هي التي تغرق في أحلام يقظة لانهائية. "تتمحور أحلام يقظتها حول شخصيتين متخيلتين: رجل اختارت له اسم آدم وتخيلته مقيمًا في سياتل، وامرأة اسمها كاميليا واحتارت في تحديد مكان عيشها". بعدها تقرر أولجا "أن القاهرة هي البقعة الملائمة". يواصل السرد أن "آدم وكاميليا، كما خايلاها، يمتهنان الكتابة والتقيا مصادفة في براغ... يتعامل كل منهما مع الآخر كبئر يلقي فيها أسراره وخيباته، كما يفعل غريبان يثقان في أن طرقهما لن تتقاطع ثانية". يبقى آدم وكاميليا قيد خيال أولجا "لا تكتبهما، لأنها أرادت لهما الحياة في صخب أفكارها، أرادتهما سرًا حميمًا، لا كتابة عمومية تستهدف قراءً لا تعرفهم، ولا تربطهم بها سوى كلمات لم تعد تؤمن بجدواها". تنتقل أولجا إلى ملف على حاسوبها الشخصي لقصة تكتبها من فترة، عن طفلة ناجية من مذبحة. تتداخل قصة "آميديا"، الفتاة الناجية من المذبحة، مع قصة آدم لتصبح هي جدته الناجية من مذبحة حربية.



على مدى سبعة عشر فصلًا، يحمل بعضها قصصًا تكتبها كاميليا، وأخرى يكتبها آدم، وتتشابك مع حكاية عازف البيانو، رفيق أولجا في السكن، وقصة زوجها السابق، الذي يعشق السير بلا هدف، يتماوج السرد بين الإيهام والغوص في قلب الحكاية وبين كسر الإيهام والعودة إلى لعبة الخيال والافتراضات. بعد فترة من الرسائل الالكترنية المتبادلة يدعو آدم كاميليا إلى بيته في سياتل. وهنا يكتسب الاثنان صفات واقعية، كما يقول السرد، "لم يعودا شخصين يتحركان في الفراغ، أو طيفين يهيمان في خيال كاتبة ستينية غارقة في أحلام يقظتها". ولكن سرعان ما يعود السرد ليربك القارئ من جديد. ففي فصل بعنوان "حيث بدأ كل شىء" يعود السرد إلى البداية: "من مقعد خشبي، في باحة متحف على ضفة الفلتافا، بدأ كل شىْ". يعود التنويه بأن الحكايات خطوط متشابكة في خيال كاميليا: "حين حكت لآدم في لقائهما الأول ذاك عن حلم متكرر ترى فيه أنها تكتب قصة – وتشاهدها وتشترك في أحداثها – في الوقت نفسه، اهتم بما ذكرته عن كاتبة روسية وعازف بيانو يحدق في أصابعه، ولم يلتفت إلى كلامها عن عجوز يذرع جسر تشارلز، جيئة وذهابًا، بلا انقطاع".

تدور دوامات السرد، وتبتلع الحكايات بعضها البعض، تتشابك خيوطها وتنفرج لتعود لتتشابك من جديد، وتبقى الحكايات ظلالًا في أذهان كاتبيها وأحلام يقظتهم، لا يكتبونها، وكأنما يأبون كشف أسرار تخصهم وحدهم. في القطار العابر لسيبريا يدون فلاديمير، الرسام وزوج أولجا السابق العاشق للسير، أفكارًا وشذرات للاستفادة منها في تدوين رحلته لاحقا. ولكنه لا يكتب، إنما "بعدها بسنوات، يجد نفسه عاجزا عن فهم " لماذا دائمًا للظلال حضور أكبر من أصولها في مخيلته، وللصدى الأفضلية على الصوت". يٌعد فلاديمير مسودة كتاب "بدأه بفصل سرد فيه ذكرى القبض على الضوء متحدًا بالظل...". في مفتتح الكتاب يُعَبر فلاديمير عن أزمة الكاتب مع الظلال المتراكمة والمتداخلة، عن حيرته على التخوم بين الوهم والحقيقة، وربما يفسر كلامه عنوان الرواية "أخيلة الظل": "النار أم الوهم والدخان. أم ملتاعة تتغذى على ذاتها وتطلق ابنها حرًا في الفضاء، هشًا على وشك التلاشي. وأنا أحلم بحياة من وهم ودخان ينعكسان على مرآة مغبشة، فتتلاشى الحدود وتختلط". ويظل آدم "لسنوات مسكونًا بظله"، الذي اكتشفه في حوض الاستحمام، حين كان طفلًا صغيرًا، "بل ربما لم يفلت من أسره قط". وفي إهداء قصته "ناسك في غابة" إلى كاميليا يكتب آدم: "الظل مرآة يرى الضوء وجهه ممعنًا في غيابه"!
على مدى السرد تتماوج الظلال وتتداخل وتذوب في بعضها البعض، وتصل إلى ذروتها حتى "يخطر لكاميليا... أن تضيف لعبة جديدة لألعابها الذهنية اللانهائية: اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها". وتتحول الكتابة إلى لعبة "دوخيني يا ليمونة"، التي تستعيدها كاميليا في ذاكرتها، يستمتع فيها الكاتب/الكاتبة بالاستسلام "لدوار مغلف بظلال وأخيلة متداخلة. تغيب عن واقعها وذاتها وتفقد ذاكرتها لبرهة، تقترب فيها من لحظة الإفاقة من التخدير بعد العمليات الجراحية...". تعلق كاميليا: "ما أجملها من حالة"!

في الفصل الأخير بعنوان "انتهى قبل أن يبدأ" يكشف السرد أنه "على مقعد خشبي في باحة متحف على ضفة الفلتافا قريبًا من جسر تشارلز انتهى كل شىء، تلاشى قبل أن يبدأ". لم يتواصل الحديث بين الرجل والمرأة، التي "لا تدل ملامحها على عرقها أو جنسيتها". يقرأ الرجل كتابًا تتشابك فيه خيوط الحكايات السابقة، وتواصل المرأة "التفكير في حلم يسكنها، تكتب فيه قصة – وتشاهدها وتشارك في أحداثها...". ويبقى الجميع ظلالًا في حلم راو أو كاتب مجهول، ربما يخشى الكتابة أو يهابها، أو يجدها بلا جدوى في عالم تفوق أحداثه ما يصل إليه الخيال، ولكنه يستمتع بلعبته الذهنية، لعبة الخيال والظلال.

"أخيلة الظل" كتابة عن الكتابة، تلك اللعبة الذهنية التي تتداخل فيها الظلال ويختلط فيها الواقع بالأحلام والأوهام. استطاعت منصورة عز الدين، ببراعة مدهشة، أن تجذب القارئ، تشحذ عقله، وتورطه في لعبتها وتجربتها الإبداعية المثيرة.

نقلاً عن مجلة الإذاعة والتليفزيون

Wednesday, October 4, 2017

أخيلة الظل لمنصورة عز الدين: خيالات الطفولة وآمالها




سومر شحادة



في روايتها "أخيلة الظل" (التنوير 2017) تلجأ الكاتبة المصرية منصورة عز الدين إلى تَخيّل الواقع، عبر سلسلة افتراضات لا تنزع عن الحكاية واقعيتها، وإنّما تراها بعين الخيال. في كتابة تجريبية تتخذ من القارئ شريكًا في صناعة النص، إما بإيهامهِ أنّه ضمن فريق متجانس من الرواة، أو بتقديم حكاية مفككة تتجمّع في ذهنهِ ووفقًا لتأويلاتهِ وارتدادات أزماته الشخصية. لا يشكل هذا النوع من الكتابة اختبارًا لكاتبهِ وحسب وإنّما كشفًا لذات قارئهِ، فالرواية التي تنشغل بأشكال الفن المختلفة. أبطالها كتّاب، وهامشيوها موسيقيون ورسامون؛ تظهر كما لو أنّها صدىً لمذابح قديمة ومجتمعات مستلبة، لا يصنع الفرد فيها قدرهُ الخاص وإنّما يصنعهُ الآخرون. بين الخوف والرغبات بين وحشة التخلي وإرادة العيش أو النسيان، بين الخذلان الخالص ويقظة الهواجس، تشرق أخيلة الظل حيوات مستعارة تنوء بالخيبات ومسارات تشكلها.

من مقعد خشبي في حديقة قرب جسر تشارلز في براغ، تبدأ الرواية، عبر حوار ينشأ بين امرأة مكتنزة تنظر إلى الفراغ بين قدميها ورجل يحدق في الأرض بعينين متجهمتين. يلتقيان أثناء زيارة لمتحف كافكا، كاميليا كاتبة من القاهرة وآدم كاتب من سياتل، بالإضافة إلى أولغا وهي كاتبة روسية تسكن وعي كاميليا وتسكن كاميليا وآدم شاشة حاسوبها. تُسند الكاتبة مسار أبطالها إلى عقد تعود إلى الطفولة؛ وتمثل مصائر العديد من الشخوص مجرد ارتدادت مؤلمة وغير واعية لسلوك مورس عليهم أو سقطوا فيهِ وهم في طور التشكّل النفسي. إذ تتعرض كاميليا في عمر الخامسة إلى ركلة من والدها، لقد كتبت من أجل فهم ذلك الحدث المنتمي إلى طفولتها، وأخذت كتابتها شكل تبرير للركلات المعنوية التي تعرضت لها خلال حياتها. بينما حلم آدم بأن يصبح كاتبًا منذ قرأ قصة لـ "لافكرافت". وتعلّم في قبو معتم أنّ قهر الخوف يكون بالاستسلام لهُ، يدفعه خوفه من ظلّه في حوض الاستحمام إلى الكتابة عن "مدينة للخوف" تشبه أرضًا مسكونة بالظلال. وقد أكسبه القبو رهابًا يتمثل في عجزه عن إرضاء النساء، واعتقاده أنّ نفاذ الصبر والغضب سمتان ملازمتان للنساء في المواقف الحميمة، وذلك بعد تجربة مخزية مع فتاة تكبره بسنوات.

تزور كاميليا آدم بعد مئات الرسائل الإلكترونية. في المنزل، وروز منشغلة بدفع أرجوحة فارغة، تجد كاميليا آدم مختلفًا، وتعرض الراوية عقدة طفولية ثالثة تعود لزوجته، حيث فقدت روز أختها أثناء اللعب، وخبأت تلك الحقيقة التي حطمّت قدرتها على الإنجاب. اعتقدت كاميليا أنّ آدم يستغلها من أجل صنع إثارة في حياتهِ الزوجية، لتدرك أنّ زوجة صديقها ما تزال تواجه سؤالًا أصمًا وهو:"هل دفعتُ الأرجوحة أقوى مما ينبغي"؟ السؤال الذي لم يغير حقيقة أنّ سقطة مميتة واحدة قتلت حياتين.

تتعاقب فصول الرواية، وتتناوب الكاتبة عز الدين في حكاية كلّ من الكتّاب الثلاثة عبرهم أنفسهم. إذ تروي أولغا حكاية آدم بدءًا من آميديا جدته، الناجية من مذبحة "سيفو" بحق السريان والآشوريين. وتروي حكاية كاميليا، بعدما كشف كلّ من آدم وكاميليا حياته للآخر، بسلاسة وعفوية. تسمي دولت ابنتها تيمنًا بممثلة أدت دورًا إلى جانب أحمد سالم. لكن تبقى الطفلة محط ازدراء من أمها، التي لم تتوقف عن الإيحاء لابنتها بأنّ التحف المتبقية من إرث عائلتها أكثر أهمية من البنت نفسها، في إحدى السهرات تغفل كاميليا عن نار أشعلت شعرها، يغمر منير رأسها بصدرهِ كي يُطفئ النار، ولتشتعل رغبته بها، وتنتهي بهما زوجين وقد انفصل عن زوجته فريدة أمثولة دولت للمرأة. تتمرد كاميليا على والدتها وتهزأ بزواجها، من صورة الفتاة غير الفاهمة للتركيبة الطبقية التي تدور والدتها في فلكها، تضطر إلى الإجهاض. وتطلب من منير أن يكلمها وهي في سرير المستشفى، فيقص عليها حكاية قبلاتهما المسروقة على شرفة طليقته. هكذا راح النص المصاغ بلا مبالاة الآخرين يحتفي بلحظات شاعرية تربت على الوحشة المتنامية في وجه القارئ. لتكون الرواية لا مجرد لعبة افتراضات، حسبما قدمت لها الكاتبة، بل لعبًا حساسًا يسعى إلى ترويض القسوة أو إدانتها عبر تصوير مآلاتها. خصوصًا، بتحول كاميليا من امرأة مندفعة إلى أخرى، لو عايشت يوم القيامة لوصفته "بمجرد يوم غير ملائم للخروج".

تتسم الرواية بمشهدية عالية، تختزل الكاتبة سنوات عبر مشاهد كأنّها مأخوذة من فيلم سينمائي صامت لا أهمية للكلمات سوى بقدر الحاجة لتأويلاتها في المستقبل. تعيش أولغا مع عازف بيانو، دفعه هجران أمه إلى التقرّب من امراة متزوجة كي تحكي له عن ابنها، قبل أن يكتشف الزوج العلاقة التي جمعتهما. وتختلط بعد سنوات في رأس ساندور "عينا أولغا المتسعتان لذة واستمتاعًا بعينين قديمتين اتسعتا هلعًا". يعاني ساندور إثر هجوم الزوج عليه وهو برفقة زوجة الأخير، من كسور في الأصابع، ويفقد القدرة على العزف، يتأمل مستقبلًا مبتورًا دفعه والده للاعتقاد بأنّه معلّق بأصابعه. تقحم الكاتبة بين الفصول المنضبطة حكاية قائد، وتروي حكايته على نحو درامي وتقليدي، إذ يتراوح مصيره بين المجد والأفول، ينهار دوره كـ "منقذ" وهو الدور الذي لطالما ألفه الطغاة. ويكتشف أنّه تحول إلى ألعوبة بأيدٍ مجهولة، ولم يبقَ من تاريخهِ سوى رجفة الماكيير الذي يجهزه لتصوير خطابات مطلوب منه تأديتها. في حين، لا يكترث له حراسه كما لو أنّه "هواء".


من اللافت في الرواية الإشارة إلى لغة الجدة، آميديا، وارتباطها الوثيق بالذاكرة، بالألم والرحيل، إذ تتعلم الإنكليزية في الدير كي تمحو ذاكرتها عن المذبحة. وفي المنفى، وهي عجوز بانتظار موتها، تتطلع إلى عيني روز، التي تعرف معنى الألم، وتدخل مونولوجًا طويلًا باللغة الآشورية، كأنّها  عبر اللغة تهرب من وطنها، وعبر اللغة تعود إليه.

نقلاً عن جريدة العربي الجديد
1 أكتوبر 2017

أخيلة الظل: تداخل الأصوات والأزمنة

      



  د. محمد سمير عبد السلام 

"أخيلة الظل" رواية حديثة للروائية المبدعة منصورة عز الدين، صدرت عن دار التنوير للنشر بالقاهرة سنة 2017، وتحتفي كتابة منصورة عز الدين بالتجريب في كينونة الساردة، والشخصيات، وتجاوز مركزية الإشارات، والعلامات، والمتواليات، والوحدات في النص السردي؛ فالوجود التاريخي – في البنية المحتملة للحكاية – في كتابة منصورة عز الدين، ينطوي على حضور تصويري آخر، أو نسخ، وتشبيهات تتداخل – بصورة أولية – مع لحظة النشوء الأولى في العالم؛ فخيال الظل – كشكل فني – يصير تأويلا سرديا للذات عبر وفرة من الظلال المكملة، والمؤسسة للوجود الفني الداخلي الآخر.

إن الساردة تفكك بدايات الوجود من خلال الكشف عن احتمالاته الفنية، وتشبيهاته؛ فالذات تتطور في صيرورة التمثيلات الفنية، أو الظلال، أو الأطياف التصويرية المستعادة من تاريخ الفن، والشخصيات الأدبية؛ وهو ما يذكرنا بتداخل الصورة مع الحقيقي، أو استباقها له في فكر جان بودريار؛ فالنشوء الجمالي للشخصية يعزز من تداعيات الكتابة، وصيرورة العلامات التي تفكك مركزية لحظة الحضور، وبنى الشخصيات المحتملة، وشكل علاقة الساردة بشخصياتها؛ فالشخصية – في رواية منصورة عز الدين – تقع ضمن شبكة لا مركزية من التداخلات الحكائية التفسيرية التي تقع بين وعي الأنا، ووعي الآخر، أو الآخرين؛ فالساردة تقدم لنا موقفا سرديا يجمع بين الكاتبة كاميليا، والكاتب آدم بالقرب من متحف لكافكا في براغ، ثم تشير إلى شخصية أولجا الفنية في وعي كاميليا؛ تلك الشخصية كاتبة روسية تقيم مع ساندوز عازف البيانو؛ وهي شخصية احتمالية في أخيلة اليقظة التي تسبق عملية الكتابة في وعي كاميليا، ثم تشير الساردة إلى أن كاميليا نفسها تقع ضمن أخيلة الكتابة المتعلقة بوعي أولجا؛ وكأن المجازي يختلط بنشوء الحقيقي المحتمل نفسه في صيرورة إبداعية تتجاوز الوظائف التقليدية للراوي، وإشاراته، ووجهة نظره التي لا تنفصل هنا عن تداعيات الكتابة، واستبدالاتها، ووفرة الرواة المحتملين في النصوص السردية الوليدة، أو متواليات الأخيلة، وشخصياتها المتشابكة.

إن الساردة لا تدعي – في خطابها – العلم بصيرورة شخصياتها الفنية؛ وكأنها تحاول القبض على لحظات إبداعية متناثرة من تجدد الحضور، لا بداياته، أو زمنه الخاص، وإنما تفسيراته السردية المحتملة، أو المضاعفة، والمتجاوزة لحدود الساردة نفسها؛ ومن ثم تعزز الرواية من التداخل ما بعد الحداثي بين النصي، والواقعي، وتجاوز بنية الحكي، وإشاراته التي تحتفي بالواقع الافتراضي، والسخرية من الحدود، والبدايات، والنهايات الحاسمة في النص السردي، ومتوالياته.

وتومئ عتبة العنوان / أخيلة الظل إلى هذا الاتجاه؛ فالظل مفتتح للنسخ التصويرية الفنية المحتملة للشخصيات، ويعزز من اللعب، وتمثيلات النصوص الفنية الوليدة، ووفرة الرواة المحتملين فيها؛ ويقوم الظل أيضا ببعث الرؤى، وأطياف الفن، والشخصيات الأدبية؛ مثل الفراغ في فلسفة الطاو، والسياق الحلمي لحكاية أليس، أو علامة الجميزة، وعلاقتها بحتحور في الحضارة المصرية القديمة، أو السيدة دالاوي في رواية فرجينيا وولف، أو بطل جاتسبي العظيم لسكوت فيتسجيرالد، وانبعاث صوت ماريا كالاس كتمثيل لنموذج الأمومة في وعي العازف، أو الممثلة كاميليا، وعلاقتها بأحمد سالم، وعلاقتها التشبيهية بنشوء كاميليا / الكاتبة الافتراضي في النص.

إن الانبعاث الفني لمثل هذه الشخصيات، يوحي بتجدد النسخ التصويرية للذات من جهة، والاحتفاء بالتجدد الإبداعي المتجاوز لخصوصية الوجود التاريخي في فعل الحكي من جهة أخرى؛ فالساردة تستقبل لحظات التداخل بين إنتاجية وعي الأنا، وإنتاجية وعي الآخر / المحتمل، أو النصي، وتحتفي بوفرة الظلال التي تسبق لحظة الكتابة، وتداعياتها، واختلاطها باتساع الوجود، وتعيد تمثيلها في سياقات تأويلية متجددة، تسخر من ثنائية الشخصية، والظل، أو الحضور الفني المحتمل في وعي الآخر؛ وقد تتداخل الأصوات، والأزمنة؛ لتقاوم بنية التدمير في العالم الداخلي لبطل القصة الوليدة "ناسك في غابة" التي كتبها آدم؛ وهو شخصية فنية في الرواية؛ وهو ما يذكرنا بمدلول التصوف عند كازانتزاكيس؛ إذ إن صوت الأنا يحمل بداخله الأسلاف، وكذلك النزوع إلى تداخل بنى الأصوات، والأزمنة في مسرح جروتوفسكي الطقسي؛ وما يستدعيه من تجريب في مستوى الكينونة، ومساءلة الحضور النسبي للذات.

وترتكز رواية منصورة عز الدين على أشكال متنوعة من اللعب، والسخرية، واستنزاف المركز؛ فالسكون اللانهائي في فلسفة الطاو، يستنزف صخب الحرب، وتاريخ التعارض بين الأنا، والآخر، والنهايات الآلية الشيئية العبثية للإنسان؛ ويبدو هذا واضحا في الاتساع الكوني للصوت في شخصية بطل قصة ناسك في غابة لآدم، وفي تخييل صورة جدته، واستنزاف الأزرق المجرد لصخب فلاديمير الزوج السابق للكاتبة أولجا؛ فمشيته الميكانيكية العبثية التي تذكرنا بشخصيات بيكيت، وعوالمه، تذوب في أخيلة الأزرق، وسماويته المحتملة التي تؤكد التناقض، وتتجاوز بنية الصخب في عالمه.

وتستنزف الساردة بنية الحكي نفسها من داخل التجدد الدائري للتشبيهات، وأشكال الوجود التصويري الأولى داخل الكينونة، وتأويلاتها المستمدة من تاريخ الفن، ونصوص الأدب، والذاكرة الجمعية، واستخدام لغة السرد الاحتمالية التي تفكك خطاب الراوي حول شخصياته، ومساءلة تشكلها في بنية خاصة؛ إذ تبدو كأثر جمالي، وفاعل في الحكاية المحتملة في آن.

ويطلق جون بارث على مفهوم الاستعادة الممزوجة بالسخرية "أدب الاستنزاف"؛ ويشير المفهوم – عند بارث – إلى استنفاد أشكال، أو قدرات معينة في التفكير الأدبي؛ ويمثل له باستخدام بورخيس للطريق الثقافي ضد نفسه؛ لإنتاج عمل فني جديد؛ فمن أساليب بورخيس خلط الحلم بالواقع، والتعليق علي هذا الخلط في قصته "طولون الأكبر". (راجع، بارث، أدب الاستنزاف، ضمن كتاب الرواية اليوم، تحرير: مالكوم برادبري، ت: أحمد عمر شاهين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1996، ص 64، و70، و71).

هكذا تتجاوز ساردة منصورة عز الدين طرائق الإدراك التقليدية، وتستنزف الحكي في لحظات التجدد الفني المحتمل للشخصية؛ في الظلال، والأطياف، والصيرورة النصية، والكونية المتجاوزة لمدلولي الكينونة، والرؤية؛ فالساردة تلتقط لحظات من الحضور الحلمي التصويري، وتحولاته، واستبدالاته الممكنة، لا تاريخه، أو بداياته، أو حدوثه؛ إذ يلتبس دائما بالغياب، أو التجلي كأثر في وعي الآخر، وتأويلاته.

*التجريب في وظائف الراوي:

ترتكز ساردة منصورة عز الدين – في أخيلة الظل – على التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جيرار جينيت؛ إذ تقدم الشخصيات المتنوعة من الداخل، وتسهب في وصف الأخيلة، وأخيلة اليقظة، والذكريات، وعلامات الوعي، واللاوعي، وكثيرا ما تصف مستوى ما قبل الكلام، وفق تعبير روبرت همفري عن رواية تيار الوعي عند وولف، وجويس؛ ورغم هذا التقديم للشخصيات من الداخل، فإن الساردة تمنحنا الإشارات بأن هذه الشخصيات تقع ضمن فعل الكتابة؛ فكل منها يكتب الآخر، أو يقوم بتخييله، أو هو جزء من تخييل مضاعف؛ أي كتب بواسطة شخصية تقع ضمن وعي شخصية أخرى؛ ومن ثم فهي تمارس تناقضا إبداعيا بين تقديم الحضور الداخلي النسبي للشخصية، وتفكيك بنية ذلك الحضور؛ بالكشف عن الجانب الافتراضي فيه، وهوامش الغياب في أطياف الكتابة، وظلالها التخييلية، أو المستعادة من تاريخ الأدب، والفن.

تصف الساردة لقاء آدم، وكاميليا في سياق يراوح بين واقع احتمالي، وطاقة إبداعية خفية مستمدة من كافكا، وشخصياته؛ وكأن الواقع يختلط بفاعلية التراث الثقافي الاستعارية المحتملة.

ويتضمن خطاب كاميليا – المقدم بواسطة الساردة – أنها تكتب في حلمها قصة تشترك في أحداثها عن كاتبة روسية تعيش في براغ، تكتب عن طفلة ناجية من مذبحة، ويسكن معها عازف بيانو، وعن عجوز يسير بلا انقطاع.
لقد بزغت الشخصيات الفنية من وعي، ولاوعي كاميليا في لحظات التشكل الأولى لرواية، ولكننا نلاحظ الاستمرارية ما بعد الحداثية في تشكيل العمل عبر صيرورة من الأخيلة، ومشاريع للكتابة تتجاوز وعي الساردة، ووعي شخصياتها؛ فكاميليا جزء من أخيلة الكاتبة أولجا التي اختارت أن تعيش بطلتها في مدينة شرق أوسطية، واختارت لها القاهرة، وهي تشبيه للممثلة كاميليا في وعي الأم، كما تعيد تمثيل النزعة الأنثوية المناهضة لخطاب الأب؛ وكأنها تجدد شاعرية الأنوثة في انبعاث علاماتها النصية ضمن التاريخ التفسيري لنشوئها المجازي.

إن الساردة تحاول القبض على تشابك العلاقات الاحتمالية في وعي ولاوعي الشخصيات التي تتراوح بين الحضور الفني الافتراضي، والتجدد في الأخيلة المتداخلة بين الأنا، والآخر، وأطياف الذاكرة الجمعية، دون بدايات، أو نهايات؛ فكثيرا ما تتجاوز الشخصية العدم في لحظة التوحد بالفراغ الإبداعي التمثيلي الذي يجمع بين سكون الطاو، وعودته الدائرية، وتداعيات الكتابة، واستبدالاتها التمثيلية.

تمارس الساردة استباقا، وتخييلا للشخصيات، والأحداث الاحتمالية في النص؛ فهي تستبق تطور الشخصية عبر متواليات سردية حلمية تأويلية، تذكرنا بالوظيفة التأويلية للسرد في فكر بول ريكور، وتفكك التطور المنطقي للوظائف، والوحدات السردية عبر فعل التخييل، والوعي باحتمالية الشخصية، ووجودها التصويري، وتجددها خارج الخطاب الحكائي؛ إذ تقع في علاقات متداخلة، تقاوم البدايات، والنهايات.

وقد تجمع الساردة بين حلم اليقظة، ومستوى ما قبل الكلام في استبطانها للشخصيات النصية الافتراضية؛ فكاميليا تعيد تخييل البهجة في واقع يشبه الحلم، وهي تمسك بطفل، وتعاين الكرنفالات الراقصة، والموسيقى، والخيول التي ترقص، ومرح الأطفال، والناس الذين يستمعون القصص، ثم تنتقل إلى المستوى الأعمق من اللاوعي؛ إذ تواجه عربة تجرها الخيول، وتنتزع منها الطفل، وقد نجد هوة تلتهم أجزاء من جسدها مثل الكبد، والرحم، والقلب، تقترن بها صورة طفل في السماء؛ وهو ما يذكرنا بالإيروس، والتدمير عند فرويد، وتشير البطلة إلى حلم السقوط اللانهائي الذي يؤجل بنيتي السقوط، والطيران معا؛ وكأنها تستنزف النهايات، وتسخر من مركزية مدلولي الموت، والحياة في صيرورة الكتابة؛ إنه سقوط مؤول للتجدد الفني، وللمراوحة بين الحضور، والغياب في تحولات الصورة.

ويربط فرويد بين الأحلام التي يرى الحالم – فيها – نفسه يطير، أو يسقط، أو يموج في الهواء، والألعاب الحركية في الطفولة، وهي تجمع بين الفزع، واللذة. (راجع، فرويد، تفسير الأحلام، ت: د. مصطفى صفوان، مراجعة: د. مصطفى زيور، دار المعارف بالقاهرة، ص 397).

إن كاميليا تؤجل بنيتي السقوط، وموت الطفل في مسافة من اللعب، والحضور الفني المضاعف؛ فالساردة تؤول الشخصيات من خلال تشابكها الجمالي، وتحتفي بتعدديتها النصية؛ فآدم يقوم بتخييل جدته التي نجت، وهي طفلة من الحرب، ويكتب قصة لها راو عن ناسك في غابة، وأولجا المتخيلة تقوم بتخييل كاميليا، وتكتب قصة لها راو عن آميديا؛ ومن ثم يتضاعف الرواة في الكتابة التي تفكك الانفصال الافتراضي بين الساردة، والشخصية في النص الروائي.

*تداخل الأصوات، والأزمنة:

يشير الظل إلى وفرة الصور المحتملة، وإلى الحضور الفني الآخر، أو الغياب / التدمير في وعي، ولاوعي آدم، أو يصير تأويلا سرديا لعلاقة الفناء بوفرة الوجود التصويري المتجد، وأزمنته المتنوعة، وأصواته المتداخلة؛ فعقب تدمير قرية بطل قصة آدم "ناسك في غابة"، نعاين حضوره الفني المضاعف، وتشبيهاته، وتداخل صوته مع أصوات تمثيلية إبداعية أخرى محتملة؛ مثل راع في زمن سحيق، أو امرأة ريفية تترقب – بخوف – فيضان النهر، أو جندي صيني مات فرسه، وينادي على قائده؛ ليبلغه بقدوم الأعداء، ثم تنفك العلاقة بين التدمير، وأخيلة اليقظة التي تتمركز حول لاعبة أكروبات جميلة.

إن صوت البطل جمعي، وكوني، يستعصي على الحدود، والتاريخ الخاص؛ إنه يؤول الوجود الإنساني من داخل أطيافه الفنية، وأصواته المتجددة في الفراغ، والأزمنة المتداخلة في لحظة الحضور؛ والتي تؤكد التصور ما بعد الحداثي المتجاوز لمركزية التسلسل الزمني في الفن.

للصوت – إذا – حضور جمالي متجدد، وهوامش بشرية كونية عميقة، تمارس تمثيلات علاماتية مجازية متجددة في حالة من اللعب.

وتشير لاعبة الأكروبات إلى نوع من السكون / الخدر الذي يذكرنا بمدلول الأنيما عند
 باشلار، والتأملات الأنثوية المتجاوزة لتاريخ التعارض بين الأنا، والآخر؛ ويؤكد ذلك التصور حلم آميديا بصفاء السماء الفيروزية، وسكونه المتجاوز للموت الصاخب في ذاكرتها.

*اللعب:

ترتبط العلامات في وعي، ولاوعي كاميليا بعلاقات جمالية لعبية تشبه تشبيهات كاميليا نفسها، وظلال شخصيات النص الروائي؛ إذ تربط بين شخصيات مارك شاجال المحلقة، وسفينة غارقة، وبين مارلين مونرو، وكارثة، وبين لوسيان فرويد، وثلوج لانهائية.

هل توحي تموجات الشخصيات الفنية – في لوحات شاجال – بانبعاث أخيلة الأنوثة؟ أم أنها توحي بامتداد السباحة الهوائية المتجاوزة للنهايات في ألعاب الساردة، وأحلامها؟


تواصل الساردة – إذا- ألعاب الكتابة، واستبدالاتها التصويرية / السردية التي تبعث الحياة الفنية المتجددة في توحد الشخصيات بالصور المستقبلية المتداخلة مع التراث الثقافي، وعلامات الأدب، والفن الحية.

نقلاً عن جريدة "الحياة".. 4 أكتوبر 2017