Sunday, June 17, 2018

منصورة عز الدين: مأوى الغياب






العنوان الفرعي لهذا العمل، من القاصة والروائية المصرية منصورة عز الدين (صاحبة «ضوء مهتز»، «نحو الجنون»، «جبل الزمرد»، وراء الفردوس»، و»أخيلة الظل»)، يشير إلى «متتالية قصصية». إنه، بالتالي، يفتح السرد على امتياز التعدد (في الموضوعات والشخوص والأمكنة والأصوات)، ولكن ضمن التتالي (الذي يحيل، بدوره، إلى صيغة تعاقب غير مشدودة الوثاق، عن سابق قصد فني بارع). لا تكتفي عز الدين بهذا المسار، الشاقّ لتوّه، بل تذهب به إلى منطقة  إسباغ الفانتازيا على متخيلات مكتسية أصلاً بالغرابة؛ في مستويات الشعور والسلوك والتواصل والتفاعل لدى البشر، أسوة بحركة الرموز والمعاني المتلاطمة في عناصر الجماد والكائنات والطبيعة.
هنا فقرات من نصّ بعنوان "أوديسا الفراغ":   
"أول وآخر ما أتذكره أنه في مكان ما في هذا العالم المخاتل كان ثمة جبل وغابة وبحر، وأنني تهت بينها. لا أعرف أصلاً إن كنت أنا الشخص نفسه الذي وقف حائراً للحظات بين الخيارات الثلاثة. أو ربما أنا إياه، لكن هذه الذكرى برمتها محض اختلاق، وسرعان ما ستتلاشى كما تلاشت أمنيتي الحارقة بالانقسام إلى ثلاث ذوات تتجه كل واحدة منها وجهة مختلفة للأخرى، قبل التلاقي عند نقطة ما، والاندماج في كيان واحد محمّل بخلاصة خبراتها ومشاهداتها، حتى إنْ لم يعِ تفاصيل ما مرّت به الذوات المكوّنة له.
فيم كنت أفكر لحظتذاك؟
ربما رجوت أن يكون ما أراه أمامي سراباً، ولهذا فقط بزغ اسم "جنية السراب" في ذهني متحدياً اعتلال ذاكرتي ومتغلباً عليه. صارت تلك الجنية فجأة هاجساً مستحوذاً عليّ. انبعثت أمامي كطيف لا يمل من خلق نفسه وتبديدها قبل إعادة خلقها من جديد. بدا كل ما يخصها ساطعاً في ذاكرتي وسط محيط شاسع من النسيان".

دار ممدوح عدوان، دمشق ـ دار سرد، بيروت؛ 2018.


نقلاً عن جريدة القدس العربي

Friday, June 15, 2018

مأوى الغياب لمنصورة عزالدين: الانفلات من محددات الواقع المألوف




محمد سليم شوشة

في سرد المجموعة القصصية "مأوى الغياب" للكاتبة المصرية منصورة عز الدين عدد من السمات الفنية المحددة لخصوصية هذا السرد، ويمكن أن تكون في تقديرنا مدخلا للتسلل إلى هذه الغابة القصصية، التي لها مساربها وممراتها وطرقها الخاصة والمختلفة، التي قد تبدو غريبة وغير مألوفة بالنسبة لما هو سائد من إنتاج قصصي راهن. المجموعة القصصية كلها ترتبط بحالة واحدة من التجريب تجعل القصص متقاربة إلى حد بعيد، وإن تنوعت الأحوال التي تقاربها واختلفت من قصة إلى أخرى.

لدينا إجمالا ما يمكن وصفه بأنه حال عامة من الهروب من الواقع والانفلات من محدداته الصارمة، المرتبطة بالمكان والزمان والحدث أو الحوار والعلاقة بالآخر. لدينا دائما ذات تنفلت بدرجة كبيرة نحو المطلق والعام، ويكاد يكون انفلاتها كاملا من الواقعية بمعناها الشكلي، أي أن القصص تدور في عوالم مغايرة من كافة جوانبها لما هو دارج في السرد، فالمكان والزمان والحدث والحوار وغيرها من عناصر القصّ تتجاوز كلها اكتساب العلامات والإشارات المحددة، لواقع معهود أو متفق عليه خارج السرد أو ما يمكن تسميته بالمدرك خارج السرد أو الداخل ضمن المساحة المشتركة من الإدراك بين المبدع والقارئ. فإذا قلنا إن الغالب على كثير من السرد القصصي والروائي أنه يلجأ إلى الاستناد أو الاتصال بالمدرك خارج السرد/الخطاب القصصي، وهو العالم المعهود بأنه دولة معينة مثلا أو مدينة معينة وشوارع معينة، ولو بأسماء غير معروفة وهكذا، فإن السرد في "مأوى الغياب" يختلف عن هذا تماما، فنجد أن النص القصصي أو خطاب المجموعة كلها يصنع واقعه المغاير والمتجاوز تماما لهذا المتفق عليه مسبقا مع القارئ، قبل القراءة والولوج للسرد لتصبح هذه العوالم مطلقة وأكثر تحررا من المحددات الجغرافية أو الثقافية لغاية التركيز على الذات الإنسانية المأزومة، أو فريسة الحيرة وصريعة الأسئلة حيال هذا الوجود بشكل عام. فيمكن القول بأن هذا السلوك الفني أو هذا النمط من تجاوز الواقع في "مأوى الغياب" حقق عددا من الأهداف والقيم الجمالية والدلالية، أبرزها ما ذكرت من الرغبة في التركيز على ذات إنسانية عامة ومطلقة مشتتة، وفي حال من الحيرة من طبيعة هذا الوجود، وتمتلك قدرا كبيرا من الأسئلة وبواعث الدهشة حيال هذا العالم المخاتل أو المراوغ. النقطة الثانية أن هذا الانفلات من محددات الواقع بشكله المعهود والمتفق عليه مع القارئ منح السارد القدرة على أن يحلق بعيدا مع معانٍ كلية وأسئلة وجودية، وقضايا فلسفية كثيرة بقدر كبير من التحرر والأريحية، وكذلك تمكن السرد من مقاربة حال وما وراء الظاهر والغوص مع تعاريج ومنحنيات الشعور وطبقاته الخفية وصلة الإنسان الشعورية تحديدا بعناصر الوجود الأخرى ومحاولة اقتناص لغة الداخل أو اللغة غير المنطوقة وأسئلة الذات لنفسها أو بالأحرى المحاورات الممتدة للذات مع نفسها ومع بقية عناصر الوجود. الناتج الثالث لهذا الانفلات من محددات الواقع الذي حققته المجموعة هو، ارتهانها بقدر كبير من الغرائبية الجديدة أو الواقعية السحرية الجديدة أو غير النمطية، ولهذا فإن النموذج الإنساني الذي يصادفه المتلقي في هذه القصص هو نموذج غرائبي، فهو قد يكون إنسانا عاديا وعصريا وليس فيه شيء لافت في بعض المواضع أو الأحداث من القصة ثم نجده بعدها يملك من المرونة ما يمكنه من أن يكون مثل السندباد أو البحارة في العصور الوسطى أو يمتزج بشخصيات تاريخية معروفة أو غير معروفة أو نجده يقترب فجأة من نموذج أسطوري يصارع عالما مخاتلا ويحاول القبض عليه بإدراكه ووعيه أو يصارع للانفلات التام منه والهرب بشكل حتمي، لكن عملية الهرب تبقى معلقة وغير محسومة أو فاشلة. على نحو ما نلمس في هذا الاقتباس: "بدا العالم من حولي ثقيل الوطأة بسمائه وغيومه وجباله الماثلة من بعيد على جزر لا أعلم إن كنت سأبلغها أم لا. كل شيء كان يجثم على وجودي الذائب ويضغط عليه. تراءى لي الهواء ثقيلا والماء معتما، وكنت أنا خالص الشفافية. الكون كله يخترقني، ينفذ من خلالي ويطوحني يمينا ويسارا. يبعثرني ويتلاعب بي".

 كل عناصر الوجود في عوالم قصص المجموعة جديدة تماما، لا الجبال هي الجبال أو السماء أو البحار أو البشر، كله وجود مخاتل ومراوغ. المكان والزمان واللغة، كلها أشياء متشكلة بالوهم ونابعة من إحساس هذه الذات ومرتهنة بهذه الأحوال الكثيرة والمتغيرة التي تقاربها القصص، ولهذا هي دائما في حال من التبدل والتغير، وكلها أشياء تجعل القارئ غير قادر على توقع ما ستطرحه عليه القصص، فيكون دائما جاهزا للمفاجآت وفي أعلى مراتب التحفز والتشويق. وفي المجموعة كذلك تمتد حال من مناوشة الماورائيات والغيبيات متمثلة في تصورات عن الإله أو القوة الأعلى أو ربة الطلاسم التي تتكرر في عدد من القصص، وهي نموذج للقيمة العليا التي يمتزج فيها السر بالغرابة باللغة المراوغة والمراوحة بين الفهم وغيابه التام. فنكون أمام واقع تم تشكيله على نحو أسطوري جديد، والأسطورة في النهاية هي شكل من التفسير للوجود، أو محاولة تقديم تصور قريب ومتأت للعقل والمنطق الإنساني. والذات الإنسانية التي تسكن هذه القصص أو تعيش عوالمها هي ذات مسكونة دائما بالدهشة والحيرة، وبحثها عن الفهم ومحاولة التفسير لا ينقطع، وهو الأمر الذي يمنح هذه القصص قدرا كبيرا من الحركية والقلق، ويجعلها أبعد ما تكون عن الطمأنينة والسكون.

في عدد من قصص المجموعة تبقى الذاكرة رغم نسبيتها أحد أهم محددات الهوية ومعرفة الذات، ولا تتلبس بها الحال ذاتها من المراوغة الكاملة والمخاتلة الدائمة، فهي لها أهميتها وقيمتها وتفرض نفسها دائما، رغم تفاوت الإحساس بها على نحو ما يكون من تفاوت مع بقية مفردات هذا الوجود. وإن كانت الذات الساردة في بعض الأحيان تبدو في حال من الصراع مع الذاكرة التي تشبه وحشا مراوغا يمنح أو يمنع وقت يشاء، وهذه الذات لا تجد سبيلا لمقاربة نفسها أو بقية عناصر الوجود غير التفتيش في الذاكرة، وتلمس العلاقات والروابط بين ما تراه هذه الذات وما تسترجعه الذاكرة. والجميل أن الذاكرة تأخذ أسماء مختلفة تنوع من أشكال حضورها في قصص أخرى، ففي قصة "بحيرة الزئبق" نجد ما اسمها الشاشة الذهنية لنكون هنا، إما ناتجين مختلفين عن أشكال الحضور الأخرى، فالذاكرة هنا في حال من التوهج والصحو المغايرة عن كونها مجرد ثقب أسود، تسميه الذات ذاكرة، أو كونها كائنا مراوغا، ولكن الشاشة كذلك تحمل في دلالة عصرية لتكون لغة السرد هنا تتراوح بين القديم والجديد، أو العصري وتمزج بينهما، وتبقى هذه الشاشة كذلك غير متوهجة، أو في حال صحو دائم وكرم كبير في منح الذكريات والاسترجاعات، لأنها دائما قابلة للانطفاء أو التعطل عن العمل.

وأتصور أن مقاربة سيميائية تقوم على رصد علامات دالة بعينها وترتيبها ومحاولة قراءتها في المجموعة كلها، وعبر كل القصص أو في مجمل الخطاب السردي، سوف تكشف كثيرا من الأنساق الفاعلة في إنتاج القيمة الجمالية والدلالية في هذا السرد، مثلما نجد مع دلالة الذاكرة. وعلى سبيل التمثيل كذلك نجد أن كلمة الجبل بالتحديد حاضرة بقوة، وهي تتراوح بين القدرة على الإخفاء أو الشموخ وأحيانا تكون على النقيض من المعنى الأول، حين يحمل الجبل شيئا عليه مثل القلعة في قصة "قلعة الشمس"، فكلمة الجبل عبر توظيفات قصص مجموعة "مأوى الغياب" لها تكشف عن طاقات دلالية واسعة، تصل إلى حد التناقض أحيانا، بما للجبل من قدرة على إخفاء أشياء وراءه، وحجب الرؤية التي دائما ما يبحث السرد أو يركض وراءها، بينما في حالات أخرى يحمل الجبل الأشياء، فيؤدي دور الإبراز والتوضيح، ويكون دليلا على الشموخ والثبات أو يكون معادلا للحقيقة في نصوعها ووضوحها. الأمر ذاته يتضح في توظيفات كلمات مثل الواحة أو البحر والنهر والأشجار بأنواعها، وكذلك تجليات اللون في هذه المجموعة تكشف عن ثراء كبير وحضور بارز. وقصص المجموعة في الحقيقة لا تقارب الإنسان وحسب على نحو ما هو معهود مع أغلب الكتابات السردية، ولكن بعضها يقارب أحوال عناصر أخرى مثل النهر في قصة "عيون مغلقة على حلم قديم" أو مقاربة الشجرة بوصفها ذاتا مركزية، كما في قصة "شجرة تشبه لؤلؤة"، وهو ما يجعل القصص تطرح حالا من التماهي والتداخل بين الإنسان وكافة عناصر الوجود الأخرى، وهذا النسق البنائي/السردي من التداخل بينها يجعل عوالم قصص المجموعة مفتوحة على حال من الغرائبية والطرافة وتجعل القصص تبني عوالمها الخاصة التي تنفلت بشكل كامل من نمطية الواقع وتركيبته المعهودة، وهو الأمر الذي يؤثر على زاوية الرؤية لهذا الوجود، ويجعل القصص تغوص مع أحوال شعورية جديدة تماما، على نحو إحساس الشجرة مثلا بالمتحركين حولها أو من جانبها من البشر، أو إحساس الشجرة بالأفق ورؤيتها للبحيرة التي خلفها أو أمامها وغيرها من الأشياء المحيطة بها، أو إحساسها بمن يتسلقونها، ليكون القارئ أمام أحوال شعورية مغايرة، ولها وجاهتها أو منطقها الذي يفترض وجودها ويفترض لها القدر الكبير من العناية والأهمية. ولنكون في مواضع كثيرة عبر هذه الغرائبية أمام عوالم تقترب كثيرا من سحرية العوالم، التي أنتجتها غرابة أدب العصور الوسطى، وفق نمط جديد في الإنتاج، فنحس كما لو كنا أمام عوالم وموجودات "رسالة الغفران" لأبي العلاء المعري أو عوالم "ألف ليلة وليلة" وغرائبيتها أو عوالم "الكوميديا الإلهية" لدانتي، فنجد بحيرة تصطاد أو تتربص بكل ما يقترب منها وتقتنصه، ما عدا الطيور فهي تبقى مجمدة في وضع الطيران فوق البحيرة، ليكون هذا الوجود الذي تطرحه عوالم القصص أكثر رحابة من الذات الإنسانية، وينفتح على اصطخاب وتصادم شعوري عام تتداخل فيه كافة هذه الذوات التي تبدو، كما لو أنها كانت مجهولة أو مُهْمَلَة خارج سرد مجموعة "مأوى الغياب". فنجد الواحة في لحظة من قصة "بحيرة الزئبق" هي المعادل للذات أو أن ثمة تماهيا للذات مع الواحة في لحظة اختفائها أو خوائها، مثلما هو حاصل في هذا الاقتباس: "شعرت بانزعاج شديد كأنما الواحة التي لم أبصرها إلا لدقائق ماضيي وهويتي الشخصية، ومن ثم تركني اختفاؤها ضائعا ومشردا ويتيما".

في المجموعة، الصادرة عن داري سرد وممدوح عدوان للنشر والتوزيع، ثمة كذلك نوع من انفتاح القصص على بعضها لتنتج الدلالات والعوالم القصصية، وفق نسق تعاوني أو تأكيدي، فعلى سبيل المثال تطرح إحدى القصص "ربة الطلاسم" التي يبدو حضورها مركزيا في هذه القصة بينما تتكرر في قصص أخرى ليكون هذا التكرار شكلا من القدرة على ترسيخ وجود هذا الكائن المفترض، أو المتخيل أو ناتج الخيال، فيكون هناك شكل من الامتداد للشيء أو للذات المعينة داخل أكثر من قصة، وهو أمر يكسر من حدة غرابة هذه الذات المنتجة عبر الخيال، ويصنع لها هذا الامتداد في الحضور درجة من الألفة والاقتراب التدريجي منها. والأمر نفسه نجده مع تلك البحيرة الغرائبية التي تشل حركة الطيور فوقها، فتتكرر في أكثر من قصة، وهي بحيرة زئبق أو بحيرة مسحورة وغير محددة على نحو أكيد، بل يبقى وصفها على درجة من الانفتاح على المطلق، سواء في ما يخص مكانها أو مرجعيتها، فهي قد لا تزيد عن كونها ناتج الذاكرة المراوغة التي لا تمنح وصفا حاسما لاسترجاعاتها ونواتجها أو لذكرياتها وتصوراتها للأشياء والمواقف المتشابهة، أو التي يستدعي بعضها بعضها وفق نسق التناظر.

 من المهم في ظني تأكيد أن هذه العوالم الغرائبية التي تنتجها قصص المجموعة تأتي في إطار سرد مشهدي مكتمل وواضح للمخيلة، رغم سرعة تحولات الذات من تبديات وتصورات مختلفة، فكأننا أمام ذات أقرب للشبح أو الساحر القادر على تجاوز هيئته إلى هيئات أخرى، وهذه التحولات في الحقيقة تأتي في إطار روح شعرية محفوفة بالمغامرة، وبقدر من التحرر الرومانسي أحيانا حيث تكون حركة هذه الذات من متجول مغامر ومسحور بالوجود إلى راعي ماعز في مناطق جبلية، أو من رسام فنان ونحات إلى أسير مسجون أو فريسة حبيسة أي ظاهرة أو خطر مفاجئ، فكل هذا يأتي في إطار مشهدية مشوقة وسحرية تكسر أفق توقع القارئ على الدوام، وتجعله يتحرك حركات موازية لهذه الذات الجوالة والمفعمة بالحركة. وكل هذا يؤكد على قيمة دلالية تكاد تكون هي الأبرز بين ما ينتج سرد المجموعة من معان، وهو هيمنة الديناميكية على هذا الوجود وغياب الثبات، على أن الطريف وفق ما يطرح السرد من سؤال ضمني عن قيمة هذه الحركية الدائمة، وهل هي ضد المعرفة وضد الوقوف على حقيقة الأشياء وجوهرها أو هويتها؟ أم أن الحركة هي أصل الوجود وهي أكثر ما يبرز حقيقة الأشياء ويجعلها جلية؟ فسؤال الدهشة من هذه التبدلات حاضر بشكل ضمني في كافة القصص، وهو ما يعد إنجازا جماليا لهذه القصص التي استطاعت أن تهمس بأسئلتها، بدون صخب أو مباشرة، حيث كفل هذا الهمس وغياب التصريح مساحة واسعة للمتلقي ليكون شريكا في إنتاج المعنى والتفاعل مع القصص في كل مستويات بنائها، سواء الجمالي وملامح هذه العوالم والتفاعل معها ومع نقلاتها المفاجئة أو مع القيم الدلالية والشواغل والأسئلة المباشرة والضمنية بشكل خاص. وإجمالا يمكن القول بأن سرد مجموعة "مأوى الغياب" يجسد مغامرة مختلفة لذات تركض وراء هويتها المراوغة أو الغريبة، أو التي تستعصي على الفهم وتبحث باستمرار محددات واضحة وثابتة لهذه الذات، وهو ما لا يتحقق أبدا رغم تجسد هذه الذات في موجودات صلبة وأكيدة الحضور في أحيان كثيرة، ومن هنا فإن هذه المغامرة ورحلة البحث عن المعرفة لا تنتهي. 

نقلاً عن جريدة القدس العربي.
14/6/2018

مأوى الغياب لمنصورة عز الدين: الكتابة كخطيئة أصلية



"كان جسدي، حروفي وحركاتي، لغتي وأنفاسي، متوناً متروكة للعابرين"


أميمة صبحي


لنصوص المجموعة القصصية الثرية "مأوى الغياب" تعدد يضعك أمام تفسيرات مختلفة وقراءات متشعبة. اقتبست منصورة عز الدين في بداية المجموعة اقتباساً قصيراً من جاك دريدا، لكنه يلقي بضفافه على كل نصوص المجموعة، يقول: "ذلك أن إله الكتابة هو أيضا، وبتلقائية، إله الموت".

هكذا تلعب الكاتبة مع الكلمات لعبة سردية ممتعة، تكتب ثم تنفض ما كتبته وتحيله إلى موت مؤقت، لتعيد إحياءه مرة أخرى في نص تالٍ. اللعبة هنا ليست ثنائية، بل ثلاثية الأبعاد. يتبدل اللغز الذي حاكته اللغة ما بين الجبل والغابة والبحر أو ما بين العناصر الأرض والماء والهواء في عالم تحكمه ربة الطلاسم وتؤطره الطبيعة. يبدأ العالم كتاريخنا. سديم يستحيل إلى ضباب يتكاثف على مهل وكائن ينفصل عنه شيء ما كأن نواة دقيقة هي جوهره قد هجرته. كبدايتنا عندما نتلمس طريقنا للتعارف على عالمنا الجديد ومحاولة نسج حروف لنكون كلمات تصلنا بالآخر

لتحوت، إله الحكمة ومخترع الكتابة في الميثولوجيا الفرعونية، إهداء خاص وتمدد داخل قصص المجموعة الصادرة مؤخراً عن دارَي "سرد" و"ممدوح عدوان للنشر والتوزيع". تحوت الذي خلق نفسه بقوة اللغة، ترك أرق الكتابة والحكي خلفه. يقدم نفسه هنا كمنقذ من التماهي مع السراب والنسيان. على الرغم من مقاومة ربّة الطلاسم وإقامتها صرحاً بطريقة مخالفة له: "فاللغة قناع، والكلمات فخاخ، والمسميات خديعة"، لكننا نعود للعبة التفكيك مرة أخرى وإحالة كل هذا للموت وعملية الميلاد من جديد. إلا انك ستتمكن من الرؤية شرط أن تكون غريبا "سيجود الحجر بأسراره على الأكثر غفلة عن كل مميزاته، على من سيبقى غريباً أينما حل، فوحده الغريب يقدر على الرؤية".

تقرأ "مأوى الغياب" بروح لاهثة، لكنك لن تصل إلى اليقين على طول الكلمات، وكأن الكتابة هي الخطيئة الأولى، وما تلاها هو محاولة تصحيح وطلب الغفران. فالزمن سائل لا يمكنك القبض عليه "لم أدرك ما الزمن، كما لم أعرف من أين واتتني هذه المفردة". نسير ونسير مع الشكوك ولا نصل لأصل الأشياء. شخصيات بلا أسماء، تبحث عن كينونتها وأصلها في أعمق ما قد تصل إليه، فتحيل هواجسها إلى العناصر الأولية التي كونتنا وشكلت ماهيتنا. تبدو لي كقصة الإنسان منذ بدء الخليقة وتصوير عذاباته وانتقالاته بين حالات متعددة ومتشعبة قد تختلط بروحه ذاتها. فيبدو العالم وكأنه اختراع طازج اخترع للتو داخل عقل كاتب يجتهد ليجد الكلمات المناسبة. سماء تظهر وتختفي وصخرة معلقة في الهواء يتسرب منها شلالات تخيف بحارة عابرين على حافة العالم، تتجسد لهم أينما اتجهوا وحين يئسوا قرروا الاتجاه نحوها متوقعين أنهم هالكون، لكنهم فوجئوا بأنها وهم وعبروا من خلاله كما يعبرون بهواء. تقول منصورة "كلما صعدت للأعلى غامت رؤيتي للعالم. خيل إلى أن الأبعاد والظواهر الجغرافية يعاد تشكيلها. فالبحر في الأسفل ليس هو البحر، والغابة ليست بغابة، والسماء تختلف عن كل تخيل ممكن لها". كلما اقتربت، ابتعدت، في مطاردة لسراب لن تصل إليه أبدا.

يتملكنا هاجس المراقبة على طول المجموعة. فالشخصيات مراقبة كما إنهم يتلصصون على بعضهم البعض وعلى أنفسهم "أشعر أن هناك من يراقبني، من يقترب مني" أو "أكثر ما يضايقني إحساسي أنها تراقبني وتعد عليّ أنفاسي". كما أنهم يراقبون محيطهم فيجدون جلبة غير مرئية لا يمكن تحديد كنهها ولا مركز انبعاثها. تتلاشى الطرق والمدن من خلفهم على الرغم من اتخاذهم لها سبلا للوصول لبقعة معينة. فتتقلص العوالم في زئبقية غامضة.

تنفتح مغاليق السرد قرب النهاية كاشفة عن قطع اللغز الذي جمعت الكاتبة أجزاءه على طول المجموعة. في قصة "لا فريسة ولا صياد" تقول الشخصية "كانت كل قطع اللغز مفرودة أمامي وفي متناول يدي ومع هذا فاتتني الخلاصة البديهية الكفيلة بأن تقودني إلى سري الغائب عني". حيرتها وراء كينونتها خيلت لها أن البنايات طافية في الهواء لا راسخة فوق الأرض، فاعتقدت أنها أوهام بصرية. تبحث عن صورتها الحقيقية في انعكاسات الجداول والأنهار، لكنها تجد وجهها يرمقها من الأسفل فتفكر في إلقاء حجر ليختفي وجهها خلف دوامات المياه المتحركة وتتأكد إنها الأصل وليس انعكاسا.

تتلاعب ربة الطلاسم بذاكرتها كأنها تلهو ككل الآلهة العاطلين عن العمل فترى نفسها امرأة فوق جبل أو رجلاً تائهاً داخل غابة أو مبحراً في سفينة. حتى تفيق من نوم عميق أو موت مؤقت، يُعاد ميلادها من جديد في ظل تجويف حجري وهاجسها الأوحد هو الهبوط إلى سفح الجبل. إنها النهر حيث بدأت الحياة وحيث ستنتهي.

وتواصل الكاتبة لعبتها الجادة المحرضة على القراءة في "من خشب وهلاوس"، تقول الشخصية "كنت أقطع الأشجار حين داهمني ذلك الشعور لأول مرة... شعرت أنني مخلوق من الخشب". هكذا يمارس رجل فعلاً اعتيادياً ربما مارسه بشكل يومي منذ الأزل لكنه نفذ لعمق روحه واستطاع الولوج للرائحة الطازجة الفاتنة، فشعر أخيرا أنه في موطنه. على عكس العنصر المائي، هنا الذاكرة حاضرة رغم قدمها. شجرة عجوز ترمز إلى الأرض ذاتها، الأم التي تطعم وتهتم بالبشر، فيقدم الطعام والشراب لرفيقيه قبل اختفائهما. كما يتذكر كل شيء، القصف، القنابل، والانفجارات المتتالية والزلازل. مسكون بأنقاض وصرخات فزع وجثث ملقاة في الشوارع.

يتحد مع تحوت ويغرق نفسه فيه. ويستعيض عن فقدان صوته بالتدوين فيخط آلاف الكلمات في اليوم بلغة اخترعها بنفسه ويسجل على جسده التاريخ. واقفا يتأمل أفقاً لا يبوح بشيء وسماء غائمة على الدوام "لم يعد الدوار يضايقني، تأقلمت معه". يقول "ما أكتبه يخيفني لأنه يثبت كل ما رأيت من أهوال، يحييه ويكرره بلا نهاية... أتذكر الشوارع الخاوية والبيوت المهدمة وآثار الحريق على المباني العامة. في الأيام الأولى كان المشهد صاعقاً ثم بدأت اعتاد عليه بحيث تكاد الحياة السابقة عليه تخبو من ذاكرتي وكلما أنطفأت، ازدهر الخراب بداخلي". لكن حتى تلك الشجرة العجوز الصلبة لا تصل أبدا لليقين وتتشكك فيما تراه، تتساءل أهو الصواب؟ وكيف تعرف أن رؤيتها للواقع هي الأقرب للحقيقة والجوهر؟

وفي "طلسم أخير" تستمر ربة الطلاسم في خداعنا. تتلون وتغير ماهيتها فتقول إنها اختارت الحجر لكنها أقرب إلى اللامرئية، تضيف "كان جسدي حروفي وحركاتي لغتي وأنفاسي متونا متروكة للعابرين... كنت فكرة خطرت للحجر وتسربت منه إلى العالم المحيط به". تنفتح على براح الكون ولا تكف رأسها عن الدوار عندما تشعر بالقيد. فراغ لكنها ليست فارغة إنما مليئة بالحياة. تخاف من قصف ما، وتجري في الدهاليز مختبئة وتخاف من فئران تشاركها وتنقل المخطوطات والوثائق المهمة إلى القبو.

تقول إنها تحب السيرك والسحرة وقد تحولت هي نفسها إلى ساحرة ربما اخفت كتاب "ألواح الزمرد" المنسوب لتحوت داخل متونها. كانت تنبهر بألاعيب السحرة وما أن تبدأ فقرة الساحر تتماهى معها بكيانها كله، ويسلب لبها سحر إخفاء الخداع كما صارت تجيده تماما. وتحيل كل هذا الدمار للساحر الذي استطاع قراءة عقلها وعرف إنها كتبت "ربة الطلاسم" في ورقة اخفتها عنه. "خيل إلي أنني لو نجحت في تضليل الساحر لما تمكن أحد اقرانه من إخفاء عالمي القديم... منذ ليلة الغارات رفضت سكنى البيوت، وتواءمت مع العراء". "ارتحلت مع الريح على طريق مهجور... لبرهة شعرت بالتحرر من أسر الحجر. عدت أثيرية من جديد".

إنها صاحبة الألف وجه، ربما تكون الشخصية الوحيدة التي تعرف منذ البداية كينونتها وتتلاعب بها وتتلون وتقدم السراب للعالم بخبث لتستمتع بالهواجس والشكوك التي تدور حوله. إنها الربة المعاقَبة المنفية التي لا تعبأ بشيء ولا تكترث للذاكرة. رفضت التدوين والكتابة ولم تنحن لتحوت. ربما ذهب عقلها خلال انتظارها بين الصخور وركودها في الطرقات الترابية بين بساتين الفاكهة، تقول إنها والنار شيء واحد وتغرق في الهلاوس والأسى. فقدت إحساسها بالاتجاهات وتعطلت بوصلتها الداخلية، لكنها لا تكف عن هدم بنائها وإعادة البناء في صيرورة دائمة وتعدد لا نهائي "بحيث أبدو كمهلوسة تنقض ما سبق وغزلته، كملتاثة سحبت العالم معها إلى مستنقعات الجنون".

الثلاثة تائهون بطرق مختلفة، تسيطر عليهم الهلاوس ولا يقتربون إلا ليبتعدوا من جديد. وكأن الغرق في الفوضى هو الطريق الأمثل للتعرف على ذواتنا والاستمرار في المزيد منها؛ "كنا في حاجة إلى التيه كي نعرف، والآن وقد فعلنا، لن يفيد الانتقال من مكان لآخر، فكل الأماكن سواء".

نقلاً عن جريدة "المدن" الإلكترونية.
7 /4/2018