Friday, November 25, 2016

السهو والخطأ: بشر كالسُكَّر في فراغات الشاي







منصورة عز الدين

في مجموعته القصصية "السهو والخطأ"، الصادرة مؤخراً عن دار الكتب خان، يبدو الكاتب حسن عبد الموجود منشغلاً بتخليق الغرابة من قلب العادي واليومي. حيوات شخصيات القصص عادية في الغالب وأفعالهم بسيطة ويومية، لكن الغرابة تطل من كل زاوية وجانب. يمكن ردها أحياناً إلى هلاوس ناتجة عن خلل نفسي ما وأحياناً أخرى ترد احتمالية السُكر أو تعاطي الحشيش على البال، لكن في الغالب، لن يكون مفيداً الانشغال بمصدر الغرائبي أو مبرراته الفنية، فالكاتب ينجح في إقناعنا بأن مفارقة الواقع المعتاد هو عالم شخصياته، وعلينا تقبله والتواطؤ معه قبل أن نحاول فك شيفراته، بل علينا أحياناً ألّا نحاول فكها والاكتفاء بتمثُّل عالمها المشابه لعالمنا والمختلف عنه في آن.

ما يوحي لي بالملاحظة الأخيرة، أن عبد الموجود في أكثر من قصة، يزيد الغموض ويضاعف الإبهام بجملته الختامية بدلاً من أن يقدم عبرها طرف خيط يقود إلى تأويلات محتملة، كأن غايته التلاعب بتوقعات القارئ الباحث عن معنى محدد.

تضم "السهو والخطأ" 16 قصة متناغمة كأنها وجوه عديدة لحالة واحدة، ما يخلِّف إحساساً بأننا أمام متتالية قصصية، حتى وإن اختلف الأبطال وتنوعوا بين بشر وطيور (غربان تحديداً) يحرص الكاتب على أنسنتهم بدءاً من جملة مفتاحية تلي العنوان مباشرةً في قصة "غربان" وهي: "نحن الغربان جمعنا عاقل."، فالكاتب عبر هذا الجملة لا يتحايل فقط على قاعدة لغوية تقضي بتأنيث جمع غير العاقل، بل بالأساس يضفي العقل على الغربان ويتعامل معها ككائنات مفكرة لا تختلف في مشاعرها وردود أفعالها عن البشر.

أنسنة الغربان هذه تقابلها "حيونة" البشر في قصة "جماعة النباتيين المتطرفة" التي تأتي أقرب لديستوبيا في صورة مدينة يسكنها بدناء كسالى ينتهي بهم الأمر إلى أكل بعضهم بعضاً لرفضهم التحول إلى نباتيين. في هذه القصة لا يحمل البدناء أسماء بل أرقام.

هؤلاء البدناء آكلو اللحوم عاشوا في مدينة معزولة ومنقطعة عمّا حولها بغابات كثيفة يصعب اختراقها، هذه العزلة إن كانت راسخة ومشيَّدة بإحكام هنا، موجودة وإن بدرجات مختلفة في كل قصص المجموعة تقريباً. فالوحدة تكاد تكون ماثلة برأسها في كل قصة، كأن الجميع محكوم بانعدام التواصل مع الآخرين، أو كأن استخدام اللغة مقصور على مونولوجات داخلية غير منطوقة في عقل الشخصيات، وحتى في الحالات القليلة التي تنطق فيها شخصية ما بجملة أو سؤال، يكون الرد عليها تكريساً للقطيعة وانعدام التواصل.

في قصة "السُكَّر في فراغات الشاي" مثلاً يعيش البطل في عالم خاص به، يرى ما لا يراه الآخرون. يشاهد مباراة فاز فيها المنتخب الوطني من وجهة نظره، لكن الجرائد تحدثت عن "هزيمة كارثية للمنتخب"، كما أنه متأكد من أن بطل مسلسل ما مات في الحلقة الأولى، في حين يؤكد زملاؤه في العمل أن هذا لم يحدث، وهو طوال الوقت مشغول بجار لا نعرف على وجه اليقين إن كان موجوداً بالفعل أم أننا أمام بطل فصامي! تتكاثف عزلة هذا البطل بكونه يعيش في مدينة صحراوية جديدة، وهذا ملمح يتكرر في غير قصة.

اللافت أن من يبدو معترضاً على العزلة وباحثاً عن التواصل (مع جنسه على الأقل) هو الكلب في قصة "كلب يدخن" الذي أصبح أكثر هدوءاً واستقراراً مع وليفته الجديدة  في فيلا ذات حديقة: "شاهدناه وشاهدنا، في طرف الحديقة، وبجواره كلبة تشبهه تماماً، وجرى ناحيتنا وتحركنا نحوه، وبدأ يتقافز حولنا بجنون للحظات، ثم جرى باتجاه عروسه، نظرا إلينا لحظة من بعيد، ثم غابا في بيت بجوار الأشجار."

وفي قصة "تمرين على رفع اليد"، المدير لا يكاد يرد على البطل الذي يعاني من الوحدة، وثمة مطعم فكرته "عدم الاستجابة" لطلبات الزبائن، حيث لا رد على الأسئلة وكل شخص يجلس وحيداً إلى طاولة. وهدف المطعم كما جاء في ورقة تعليماته: "إشعارك بأهمية التواصل عن طريق إغراقك في الوحدة."

أما في قصة "شجرة نائمة"، فيكتب الراوي: "لم يتحدث أحدنا مع الآخر، كل منا يفكر مع نفسه...." فتبدو الجملة كأنما تنطبق على كل شخصيات المجموعة لا شخصيات هذه القصة فقط.


فأبطال "السهو والخطأ" أشبه بـ"السكر في فراغات الشاي". أي أنهم ذائبون غير مرئيين من الآخرين، وحتى لو تمت رؤيتهم فهذه الرؤية اللحظية يتبعها التجاهل أو تأكيد القطيعة.

زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.

Friday, November 18, 2016

المغتربون: طيف الهولوكوست وحرب تسكن الذاكرة




منصورة عز الدين



أخيراً يمكن لقراء العربية أن يقرأوا الروائي الألماني ف. ج. زيبالد بلغتهم، حيث صدرت مؤخراً روايته "المغتربون" عن دار التنوير، بترجمة ممتازة لأماني لازار. وككل أعماله تدفعنا "المغتربون" لإعادة النظر في مفهومنا عن الرواية كنوع أدبي تم التوافق، بشكل أو بآخر، على قواعده وسماته.
فزيبالد، الذي يعد أحد أهم كتاب العالم، قدم دوماً اقتراحاً خاصاً لفن الرواية، يحمل بصمته هو، ويولِّف بينها وبين المقال وأدب الرحلات والسيرة الذاتية والصور الفوتوغرافية والرسوم الإيضاحية، في تناغم لافت.

بقراءة أي عمل لزيبالد تحضرني مقولة فالتر بنيامين: "كل الأعمال الأدبية العظيمة إما أن تلغي نوعاً أدبياً أو تخترع آخر."، كما أجدني حائرة في تحديد مقدار ما يدين به هذا العمل أو ذاك للواقع ومقدار ما يدين به للتخييل والاختلاق، لكن الانشغال بهذا الأمر يبدو عبثياً خاصةً في ضوء نصيحة زيبالد نفسه لتلاميذه في جامعة "إيست أنجيليا": "علينا عدم الوثوق في "الحقائق" الواردة بالأعمال التخييلية، إنها – في النهاية – وهم". وهذا صحيح، فحتى الحقائق والتفاصيل المستمدة من الحيوات الواقعية تكتسي بلمسة مخاتلة ما إن يتضمنها عمل تخييلي ما، وزيبالد ماهر جداً في وسم كتابته، مهما بلغت واقعيتها، بمسحة شبحية مفارقة للواقع، وهي مهارة لا ينافسه فيها من الكتاب المعاصرين سوى خابيير مارياس.

في روايته هذه، المقسمة إلى أربعة أقسام، يقتفي زيبالد أثر أربعة مغتربين مثقلين بذاكرة مهلكة وهم: د. هنري سلوين الليتواني الأصل الذي انتحر في النهاية بإطلاق النار على نفسه، وبول بيرايتر المدرس المفضل للراوي في مدرسته الابتدائية بألمانيا والذي أنهى حياته بالتمدد أمام قطار، وآمبروز أدلفارت خال والدة الراوي المهاجر إلى أمريكا، قبل الحرب العالمية الأولى، حيث عمل لدى عائلة يهودية ثرية وأصبح وصيفاً ورفيق سفر لابن العائلة كوزمو، والذي التحق بإرادته بمصحة للأمراض العقلية في إيثاكا مقبلاً بلا تردد على جلسات العلاج بالصدمات الكهربائية كأنما يرغب في التماهي مع كوزمو في مصيره، حيث كان الأخير قد أصيب بمرض عقلي مدمر في أواسط العشرينيات. أما المغترب الرابع فهو ماكس فربر الذي تعرف عليه الراوي في مانشستر حين انتقل من ألمانيا لإنجلترا، فنان تشكيلي لن يكتشف الراوي أنه يهودي ألماني إلا متأخراً، وتتداخل حكايته مع حكاية أمه لويزا التي اختفت مع أبيه في غياهب معسكرات الاعتقال النازية بعد أن نجحا في تهريب ابنهما ماكس إلى إنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره.

وإذا كان معظم الكُتَّاب يجهدون لإقناع القراء بأن شخصيات وأحداث رواياتهم متخيلة، فإن زيبالد يبذل ما في وسعه للإيحاء بأنه يكتب عن أشخاص حقيقيين لا متخيلين، وأنه هو نفسه راوي "المغتربون" الذي يقوم بدور أقرب لدور المحقق الصحفي في جمع المعلومات ممن عرفوا هذه الشخصيات عن قرب ونقلها على الورق في سرد يمزج بين السيرة (سيرة الراوي المتطابقة مع سيرة حياة زيبالد وسيرة لويزا كما وردت في مذكراتها) وأدب الرحلة (سواء في رحلات الراوي للتنقيب في ماضي شخصياته وزيارة الأماكن التي عاشوا فيها، أو اليوميات التي دونها آمبروز لرحلاته مع كوزمو) وبين التخييل والأحلام والتفاصيل الواقعية الصرفة. كل هذا مدعوم باستخدام الصور الأرشيفية بطريقة صارت مسجلة باسم صاحب "أوسترليتز".

تثبت "المغتربون"، مثل أعماله الأخرى، أن زيبالد المولود قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعام، لم يبرأ قط من آثارها، إذ بقى ظلها ماثلاً في وعيه ومخيلته، تماماً مثلما ظل شبح الهولوكوست مخيماً على أعماله باعتباره النص المضمر الجامع بينها.
من يقرأ روايات زيبالد يشعر بأن الحرب العالمية الثانية لم تنته بعد، بل لا تزال مشتعلة في الذاكرة الجمعية، وكما كتب في مفتتح الفصل الأول: "من كُتبت لهم النجاة أهلكتهم الذاكرة." فالذاكرة مهلِكة لدى زيبالد وشخصياته سواء من شارك منهم في جيش النازي أو من قُتِل في معسكر اعتقال أو من نجا ظاهرياً، لكنه واصل حياته بذاكرة حرمته الطمأنينة حتى انتهى به الأمر إلى الانتحار أو استدعاء الجنون والارتماء في أحضانه.

وإذا كانت الحرب لا تزال ماثلة على هذا النحو، فمن الطبيعي أن ترى عينا الراوي المدن كخرائب، تماماً كمدن طفولته. يكتب: " منذ زرت ميونيخ لم أشعر بشيء مرتبط بكلمة "مدينة" بشكل شديد الوضوح مثل وجود أكوام الأنقاض، وجدران أكلتها النيران، وفجوات النوافذ التي يمكن للمرء أن يرى من خلالها الهواء الفارغ". هكذا أيضاً ستركز عيناه على آثار الدمار حين يصف مانشستر الستينيات: "في موس سايد وهولم كان يوجد عمارات كاملة مكسوة أبوابها ونوافذها بألواح خشب، ومناطق برمتها كل ما فيها مهدم."، "قد يتصور المرء أن المدينة هُجرت منذ أمد طويل، وتُرِكت الآن كمقبرة كبيرة أو ضريح". "مدينة مغبرة بالسخام، كانت تنجرف نحو الدمار بثبات."
خارج مركز المدينة بالمثل سيستوقفه كل ما هو مهجور مثل: "حي اليهود المهجور"، "مصانع الغاز المهجورة". وستبدو له "المراكب القليلة وسفن الشحن الجاثمة متباعدة على جوانب الأرصفة مهشمة بصورة غريبة ذكرتني بكارثة سفن جسيمة."
إنها الحرب حين تحتل الوعي، وتلوِّن الرؤية للعالم حتى بعد انتهائها بعقود.

***

مثل روايات زيبالد الأخرى، تحتوي "المغتربون" على طبقات عديدة تحتاج إلى النبش والتدقيق، فالعمل - الذي يبدو لأول وهلة واضحاً ومباشراً - حافل بالإحالات والتلميحات والتناصات المتوارية. لو لم ينتبه إليها القارئ لن يقل استمتاعه أبداً بالنص وتقديره له، لكن الانتباه لها يكشف عن مدى عمق أسلوب زيبالد في الكتابة، كما يخبرنا أن اللعب الفني، حين يقدمه أحد كبار الكتاب، يأتي رهيفاً لماحاً بلا تبجح أو مبالغة كما يفعل متوسطو الموهبة.

في القراءة الأولى للعمل لفتت نظري تفصيلة "رجل الفراشات" وظهوره الخاطف من فصل لآخر، أدركت أنها ليست تفصيلة مجانية، لكنني لم أتمكن من سبر غورها، حتى قرأت مراجعة لاري وولف - في النيويورك تايمز - للرواية حيث أوضح أن رجل الفراشات المقصود هو الروائي الروسي فلاديمير نابوكوف، فأعدت قراءة الرواية مرة أخرى مقتفية أثر هذه التفصيلة لأكتشف أن حضور نابوكوف في "المغتربون" لا يتوقف عندها.
فحين يفرج د. سلوين الراوي على صور رحلته إلى كريت يكتب الأخير: "الدكتور سلوين في سروال يصل حتى الركبة مع حقيبة كتف وشبكة لصيد الفراشات. واحدة من اللقطات ماثلت، حتى بتفاصيلها، صورة لنابوكوف في الجبال فوق جشتاد اقتطعتها من مجلة سويسرية قبل بضعة أيام". وفي الفصل الثاني، حين التقى بيرايتر بلوسي لاندو لأول مرة كانت تقرأ السيرة الذاتية لنابوكوف. وفي الفصل الثالث، الخاص بآمبروز أدلفارت، يلعب رجل الفراشات دوراً أكبر حيث يظهر كشخصية عابرة تخايل آمبروز وهو في المصحة بإيثاكا (حيث عاش نابوكوف لسنوات طويلة)، إذ اعتاد آمبروز رؤية كهل يحمل شبكة صيد فراشات، وأطلق عليه لقب: "رجل الفراشات". وكانت آخر كلمات آمبروز في يومه الأخير: "لا بد أنني نسيت بينما أنتظر رجل الفراشات."، حين سأله د. إبرامسكي عن سبب عدم حضوره لجلسة العلاج.
أما في الفصل الأخير الخاص بماكس فربر فيظهر "رجل الفراشات"  طفلاً في مذكرات لويزا لانزبرغ، والدة فربر، التي أشارت لرؤيتها لسيدين روسيين مهذبين للغاية، كان واحد منهما يتحدث بجدية مع فتي في العاشرة كان يطارد الفراشات. وأضافت لاحقاً عن ذاك الطفل الروسي: "رأيته كرسول للفرح، عائداً من ذلك اليوم الصيفي البعيد ليفتح صندوق عيناته ويخرج الفراشات الأكثر جمالاً".
وقد أوضح لاري وولف في مقاله، المشار إليه سابقاً، أن هذا المشهد يتناص مع ذكرى، جرت في كيسينغن بألمانيا، وأوردها نابوكوف نفسه في مذكراته. لكن ما الذي يجمع نابوكوف بمغتربي زيبالد وكائناته المعذَّبة؟
الكاتب الروسي قضى فترة لا بأس بها من حياته مع أسرته بألمانيا كلاجئين سياسيين، ويعد من أشهر الأدباء المهاجرين. أخوه سيرجي قُتِل في معسكر اعتقال نازي عام 1945، وزوجته فيرا كانت يهودية فقدت وظيفتها عام 1936 بسبب تصاعد العداء للسامية في ألمانيا فاضطرا للمغادرة إلى باريس قبل أن يستقرا في النهاية بالولايات المتحدة، تحديداً في إيثاكا حيث انتهت حياة آمبروز أدلفارت بينما ينتظر رؤية "رجل الفراشات" وقد صار كهلاً.
بالنظر إلى حياته على هذا النحو، يبدو فلاديمير نابوكوف كأنه شخصية خارجة لتوِّها من إحدى روايات زيبالد، أو قرين أدبي له، يستحضر طيفه هنا كما استحضر أشباح ستاندال وكافكا وكازانوفا في روايته المدوِّخة "فيرتيجو".

أشرت سابقاً إلى أن زيبالد يمزج السيرة الذاتية بالتخييل وأدب الرحلة، وأرغب فقط في توضيح أنه حتى في حالة كتابته لما يكاد يتطابق مع سيرته الذاتية المعروفة لمحبيه، نجده لا يتخلى عن "غيرية" تميز كتابته، وأعني بها مسافة محسوبة بدقة يضعها بينه ككاتب وبين ما يكتب عنه، ربما يساعده فيها هنا أنه يتقمص دور المحقق أو الصحفي جامع المعلومات عن شخصياته باللجوء إلى من عرفوهم عن قرب، متيحاً لنا أن نرى مغتربيه في عيون وسطاء وفي عينيه وعبر كتاباتهم هم عن أنفسهم (في حالة آمبروز ولويزا)، والملاحظ أنه طوال الوقت يحرص على أن يحكي هؤلاء الوسطاء بضمير الأنا، أي أنهم يقدمون ذواتهم فيما يقدمون المخفي من سيرة الشخصيات الرئيسية. كما أن ذات الكاتب تختلط بذوات شخصياته وتتداخل معها، كيف لا وهو مثلهم مثقل بعبء الذاكرة ومغترب في إنجلترا التي انتقل إليها منذ نهايات الستينيات حتى وفاته عام 2001!
فابن الجندي في جيش النازي يبدو كأنما كتب للتكفير عن جرائم مواطنيه ولمداواة الذاكرة الجريحة عبر النبش فيها أولاً وإخراج كل ما حاولت مداراته والتواطؤ على نسيانه إلى العلن.

نقلاً عن زاوية "كتاب" بجريدة أخبار الأدب.


Friday, November 11, 2016

أبناء الأيام: مكر التاريخ وذاكرة غاليانو



منصورة عز الدين


"خوفي الأكبر هو أن نعاني جميعاً من فقدان الذاكرة، كتبتُ لاستعادة ذاكرة قوس قزح الإنساني المُعرّض لخطر التشويه." جملة الكاتب والصحفي الأورجواياني إدواردو غاليانو هذه مفتاحية للدخول إلى عالمه، ولفهم دوافعه ومحفزاته للكتابة على النحو الذي يكتب به. فالكتابة عنده ليست فقط تميمة ضد النسيان، بل آلية مقاومة أيضاً.
قد يبدو توصيف كهذا أقرب للكليشيه، لكن أسلوب غاليانو المتفرد يعيد له اعتباره وجدته ويحقنه بمعانٍ ودلالات إضافية. كيف لا وصاحب "ذاكرة النار" نجح في تحويل التاريخ إلى فن خالص؟! كأننا مع كل قراءة لعمل من أعماله نجد أنفسنا أمام تطبيق عملي لرؤية فريدريش دورنمات الخاصة بـ"الفن حيث لا يتوقعه أحد"، حتى وإن كان هذا التطبيق لم يخطر على بال دورنمات حين كتب عبارته هذه في سياق آخر.

في كتابه "أبناء الأيام"، الصادر عن دار "دال" بترجمة للمترجم الكبير صالح علماني، يحمل غاليانو كعادته صوت المنسيين ويمنحه قوة وحيوية تصلان به إلى مدى أبعد. يذكِّر بهم، وينتشلهم من الصمت والعراء ليضعهم في سياقات ملهمة ومحرضة على إعادة النظر في ما نتعامل معه كمسلمات.
الكاتب في حالة غاليانو، موسوعي مطلع على الدفاتر المنسية بل وحتى غير المدونة، كأنه نقلها عن آخر رواتها الشفاهيين. يُبرِز الشقوق والثغرات في حوائط التواريخ الرسمية، ويقدم سرديات بديلة تحتفي بتنوع البشر وتعدد ثقافاتهم، وتعيد الاعتبار لحضارات قديمة توارت وأُبيد ممثلوها، وأُحرِقت كتبها المقدسة ونواميس حكمتها، لا لشيء إلّا لأن مصالح السادة المسيطرين ارتأت أن هذه هي الوسيلة المُثلى لفرض سطوتهم وتغليب روايتهم التي تضمر أن ثقافة واحدة مهيمنة هي السبيل الأوحد للتقدم، وأن لا حضارة خارج حدودهم.

جاء "أبناء الأيام" أشبه بروزنامة بكل أيام العام، ولكل يوم اختار غاليانو حدثاً تاريخياً، وقع فيه، ليسرده أو يشير إليه في صورة شذرة مكتوبة بفن. منذ البداية ندرك أن ما ينتقيه صاحب "مرايا" ينتمي، في أغلبه، للتاريخ المغيَّب والمُتجَاهَل، ففي اليوم الأول (1 كانون الثاني/ يناير) يكتب: "ليس هذا اليوم هو أول يوم في السنة عند المايا واليهود والعرب والصينيين وآخرين كثيرين من سكان هذا العالم. تحديد هذا اليوم اخترعته روما، روما الإمبراطورية، ثم باركته روما الفاتيكان، ويبدو من المبالغة القول إن البشرية بأسرها تحتفل بهذا التجاوز لحدود الأعوام. ولكن أجل، لا بد من الاعتراف: الزمن شديد اللطف معنا، نحن الرحالة العابرين فيه عبوراً سريعاً، وهو يمنحنا الإذن بأن نعتقد أنه يمكن لهذا اليوم أن يكون الأول بين الأيام، وكي نعتقد أنه يوم بهيج مثل ألوان محل خضار وفاكهة."

كذلك لن يكون مفاجئاً أن الحدث الذي سينتقيه غاليانو لثاني أيام السنة هو سقوط غرناطة. "إنه انتصار محاكم التفتيش المقدسة. فغرناطة هي آخر مملكة أسبانية كان يمكن فيها للمساجد والكنائس والكُنس أن تتجاور".

شذرات الكتاب تبدو أحياناً كأقاصيص تتوفر لها كل شروط وسمات الأقاصيص الجيدة، وتعبر في أحيان أخرى عن آراء في الفن أو الأدب أو السياسة، غير أنها تحافظ دوماً على اللماحية والذكاء.
فيوم 29 كانون الثاني (يناير) يخصصه المؤلف لذكرى ميلاد أنطون تشيخوف ويعنونه بـ"صامتاً أقول": "اليوم وُلِد أنطون تشيخوف، في عام 1860. كتب كمن لا يقول شيئاً. وقد قال كل شيء."
كما يخصص يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) لمحمد بو عزيزي الذي صارت النار التي أحرق بها نفسه شعلة بحجم العالم العربي، "المشتعل بأناس ملوا من كونهم لا شيء."

على امتداد صفحات الكتاب، نتعرف على  آنخيلا لويج، التي كانت "واحدة من آخر السكان الأصليين في تييرا دل فويجو، هناك في أقصى العالم، والأخيرة التي تتكلم لغتهم. وحيدة كانت تغني آنخيلا، ولا لأحد كانت تغني، بتلك اللغة التي لم يعد هناك من يتذكرها".
وعلى شعب الأونا الذين كانوا يعبدون في أزمنة مضت عدة آلهة. الإله الأعلى بينهم يدعى "بيماولك" بمعنى "كلمة". وعلى إليسا لينش وهي تحفر الأرض بأظافرها كي تدفن زوجها في أرض كانت أرضه. ونتحسر على كتب المايا - الحافظة لثمانية قرون من الذاكرة الجماعية – وهي تُحرق على يد الراهب الفرانسيسكاني دييغو دي لاندا، قبل قرون في فناء دير ماني في يوكاتان.

غير أن واحدة من أكثر شذرات الكتاب لفتاً للنظر هي تلك الخاصة بيوم 8 تشرين الأول (أكتوبر) وهو اليوم الذي اُغتيل فيه ثاباتا في المكسيك عام 1919، وقُتِل فيه أغوسطو سيسر ساندينو في نيكاراجوا عام 1934، وحوصِر فيه جيفارا عام 1967 قبل أن يٌقتل في اليوم التالي. "الثلاثة سقطوا بالرصاص غدراً في كمائن (.....) والثلاثة عوقبوا لأنهم رفضوا أن يعيد التاريخ نفسه." كما يكتب المؤلف. كأن التاريخ، بمكره المعتاد، يسخر من تمردهم ورفضهم تكراره لنفسه. ما يذكرنا على الفور بجملة غاليانو الشهيرة: "التاريخ لا يقول "وداعاً" أبداً، بل يقول: أراكم لاحقاً!"

 زاوية "كتاب" نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب".....