Friday, September 20, 2019

أسلافي: الهامسون خلف حائط مصمت






منصورة عز الدين


يحلو للكثيرين تشبيه فعل الكتابة بوضع رسالة في زجاجة ورميها في البحر أملًا في أن يلتقطها شخص ما. بالنسبة لي، الكتابة أشبه بالوقوف وحيدة، خلف حائط صلد ومصمت، للكلام أو الهمس أو الصراخ، مع يقين بأن لا أحد في الجهة الأخرى. ما يدفعني للمواصلة أمنية خافتة بأن يكون للحيطان آذان، كما يقال.

أسلافي، أو من آمل في الانتماء إلى سلالتهم، هم المعتصمون مثلي خلف حوائط مصمتة، مَن التهمتهم الشكوك نفسها، مَن واصلوا الهمس والكلام والصراخ وخبط رؤوسهم في جدران؛ يخدشونها فتنخدش أرواحهم معها، دون ضمانة بأن هناك؛ على الجانب الآخر من ينصت لهم أو يهتم بكلماتهم.

أفكر أحيانًا في أننا ربما لن نتحرر ككتاب لنكتب ما يخصنا حقًا، لا ما يُتوقع أو يُنتَظر منا، إلا إذا آمنا بأن الكتابة الحقة هي الكتابة للا أحد، للفراغ، للعدم. أكتب هذا، فأتذكر الروائي المجري ساندور ماراي، فحين اضطر لمغادرة وطنه بسبب معارضته للنظام الشيوعي الذي حكم المجر بعد الحرب العالمية الثانية، وجد نفسه أمام خيارين: أن يكتب بالإنجليزية التي يجيدها، أو أن يستمر في الكتابة بلغته المجرية مع متغير جديد مفاده أن كتبه ممنوعة من النشر أو التوزيع في مسقط رأسه.

اختار ماراي الكتابة للفراغ بلغته الأم في غياب شبه كامل لقرائه. فعل هذا لأنه خشي إن كتب بالإنجليزية أن ينزلق إلى تفصيل كتاباته على مقاس ذائقة أجنبية تبحث فيها فقط عن هجاء للشيوعية أو تنظر إليها كوثيقة اجتماعية عن بلد يقبع خلف الستار الحديدي للكتلة الشرقية. دفع صاحب "كازانوفا في بولزانو" عقودًا من العيش في ظل النسيان والتجاهل ثمنًا لاختياره هذا، وربما لم يتخيل مطلقًا، وهو يطلق رصاصة على رأسه في سن التاسعة والثمانين هربًا من المرض والاكتئاب والوحدة، أن أعماله سيُعاد اكتشافها خلال سنوات قليلة من انتحاره لتُترجم للغات عديدة وتلقى ما تستحقه من تقدير لتضعه، في مصاف أهم كُتَّاب العالم في القرن العشرين.

أتذكر أيضًا ميخائيل بولجاكوف بخياله الجامح وغير المألوف. من بين كُتَّاب كثيرين أقدِّر موهبتهم، وحده بولجاكوف من جعلني أومن بأن "المخطوطات لا تحترق"، وأن للأدب طريقته الخاصة في تخطي القمع والرقابة والبقاء شاهدًا عليهما وفاضحًا لهما. أحرق الروائي الروسي مخطوطة روايته الأهم "المعلم ومارجريتا"، ثم أعاد لاحقًا كتابتها من الذاكرة، لتنشرها أرملته عقب رحيله بربع قرن، بعد أن عاش لسنوات يخبئ مخطوطات أعماله في الأدراج لاستعصاء نشرها في ظل نظام قامع لن يتحملها أو يتسامح مع كاتبها. لذا كان من الطبيعي أن يقيِّم بولجاكوف أعماله وفقًا لاستحقاقها الإخفاء بعيدًا في ظلمة درج ما مع ما سبقها من مخطوطات، عرفنا لاحقًا عبر "المعلم ومارجريتا"، أنها لا تحترق مهما حاولت النار إفناءها.

كما هي العادة عند الحديث عن العائلات والأسلاف، ذِكر بولجاكوف يقودني في الحال إلى نيقولاي جوجول بهجائه الحارِق المُعادَل بسخرية لا تُبارَى. كان أيضًا، وعلى طريقته الخاصة، من سلالة اليائسين المرتابين المتشككين في جدوى التواصل عبر الكلمات، ومع هذا برعوا في تفجير أقصى الطاقات التعبيرية للغة، وشيَّدوا بالكلمات قصورًا وكاتدرائيات وأبراجًا وبيوتًا تمد العابرين بها بالدفء والسلوى.

حَرَق جوجول مخطوط الجزء الثاني من رائعته "الأنفس الميتة"، وبما أنني قضيت بعضًا من أمتع أوقاتي في قراءة جزئها الأول، فالفضول بخصوص المحتوى المحتمل للمخطوطة المحروقة يتملكني من وقت لآخر، لكن فضولي يمتزج بالامتنان حين أتذكر درس بولجاكوف: "المخطوطات لا تحترق". ففي الهواء المتخلل لتاريخ الأدب والمنتشر في ثناياه تظل نبرة جوجول حاضرة، لترشدنا وتشحذ مخيلتنا كي نسعي لترميم ما احترق وتخيل سيناريوهات مفترضة لعملٍ ضاعف غيابُه من حضوره.

أما كافكا فيأتي على رأس هؤلاء المتشككين اليائسين، ويروقني -كلما خطرت لي تفصيلة طلبه من صديقه ماكس برود حرق أعماله غير المنشورة- الاعتقاد بأن لمخطوطات كافكا إرادة خاصة دفعتها لرفض الاحتراق والإيحاء لبرود بالرضوخ لما تريده هي.

تطول القائمة لتشمل أبا العلاء المعري، التوحيدي، امرأ القيس، طرفة بن العبد، النفري، المؤلف المجهول (المؤلفين المجهولين؟) لـ"ألف ليلة وليلة"، طه حسين، عبد الفتاح كيليطو، خوليو كورتاثر، إرنستو ساباتو، كارلوس فوينتس، جين ريز، بورخيس، خوان رولفو، فاطمة المرنيسي، جاك دريدا، زيبالد، لاو تسي، تشانج تسو وآخرين. بدون هؤلاء وغيرهم لكانت حياتي قاحلة، ولكان يأسي أشد وأكثر تدميرًا.

هل قلتُ من قبل إن الكتابة فعل يأس؟! نعم، كررتُ هذا مرارًا. هي أيضًا "موت الكلمات" كما سبق وكتبتُ في "جبل الزمرد"، غير أن ما فاتني قوله، هو إنها فعل حب قبل أي شيء آخر، ومثلها في هذا القراءة. القارئ بدوره ينتمي، عبر القراءة، إلى عائلة وسلالة ينتقيها من بين الكُتَّاب والشخصيات الفنية. يغلِق القارئ كتابًا ما بإحساس من التقى لتوه بأقارب وأصدقاء لم يكن يعرف بوجودهم، بإحساس من ساعده مؤلف ما على التعرف على أعمق هواجسه ومخاوفه وعلى العثور على جزء من ذاته لم يكن يفطن قبلًا إلى غيابه.

أقول لنفسي أحيانًا: ربما في يوم ما، يغلق قارئ أو كاتب كتابًا لي، وقد وجد فيّ أو في شخصية من شخصياتي الفنية نسيبًا لروحه. ربما لم يكن الجدار الذي أهمس خلفه صلدًا بما يكفي لكتم صوتي، ربما كانت للحيطان آذان بالفعل، وربما حتى استحال الجدار بحرًا يحمل كلماتي في زجاجة مجازية إلى مَن سيختارون لي، وفق ذائقتهم وأهوائهم، سلالة ونسبًا، كما سبق واخترت لنفسي أسلافًا وضعتهم معًا في عائلة مفترضة دون استشارتهم في خطوة يمكن تصنيفها في خانة اجتراء الخلف على السلف وتعسف الحاضر على الماضي.

نقلًا عن موقع تكوين.. 2 سبتمبر 2019


قالت إن «جبل الزمرد» سردية مضادة لألف ليلة وليلة! منصورة عز الدين: الكتابة لعب مع المستحيل





عفاف على



إذا كانت الأسئلة هى البطل الرئيسى فى الكتابة، فإن رواياتها تخرج عن الأسئلة المألوفة، لا تطرح أسئلة ما بعد الموت وهو السؤال الذى يشغل معظم الكتاب والفلاسفة، ولكنها مشغولة بطرح أسئلة ما قبل الحياة.. إنها الروائية  منصورة عزالدين التى تبدو كتاباتها دائما حائرة بين الواقع والخيال، بين العقل والجنون. احتفاؤها بالكوابيس والأحلام لا يقل عن احتفائها بالواقع، فالأحلام عندها الطريق الوحيد للدخول إلى اللاوعى وفضح مكنونات الذات، تصعد جبال الحواديت بنفس طويل، وتعيد كتابة وحكى ما سكتت عنه جدتها شهرزاد، الموروث الشعبى عندها أداة طيعة تنجح فى توظيفه وإسقاطه على واقعنا السياسى.. عن مشروعها الروائى كان لنا معها هذا الحوار:


فى روايتك «جبل الزمرد» استعرت بعض الأدوات من ألف ليله وليلة ومزجت بين الواقعى والغرائبى. كيف نجحت فى مد خيط التناص دون الوقوع فى التقليد؟


ينبغى أن يقدم التناص جديدًا، وألّا يقلِّد النص الأصلى، بل أن يفككه ويكشف ثغراته ويلعب عليها لطرح أسئلة تخص الكاتب وتنبع من انشغالاته هو، أى أن يكون التناص سبيلًا لتقديم سردية مضادة للنص القديم تجعلك تنظر إليه بعين مختلفة. أنظر بحذر وتشكك إلى النصوص التى تحاكى لغة «ألف ليلة» مثلًا، أو تستعير بنيتها أو منطق التخييل فيها بامتثال دون محاولة للتمرد على هذا العمل الإشكالى الحافل بالصراعات والتناقضات والتركيب.«جبل الزمرد» سردية مضادة لألف ليلة وليلة، وكان هذا طموحى حين بدأت كتابتها، رغبت فى أن يكون لروايتى أسئلتها الخاصة ولغتها المختلفة، وحتى نمط تخييلها المغاير عن مخيلة الليالي. كان هدفى تفحص العلاقة بين الشفاهى والكتابى، انطلاقًا من أفكار جاك دريدا و«محاورة فايدروس» لأفلاطون، ولم أجد أفضل من درة النصوص الشفاهية المتوارثة كى يكون تكئة لهذا التفحص. أردتُ أيضًا التوقف أمام مفهوم التحريف والعلاقة بين «الأصل» (المفترض) وصوره المختلفة، وكانت «الليالي» نقطة انطلاق مثالية لهذا الهدف أيضًا، وللتأكيد على هذا يكفى تأمل الفروقات بين الطبعات المختلفة منها، أو لنقرأ طبعة محسن مهدى مثلًا ، ونحاول المقارنة بينها وبين الطبعات ذات الحكايات المضافة.


 الشخصيات الرئيسية فى الرواية نساء.. ما مدلول ذلك فى فلسفتك فى الكتابة؟


فى وجه من وجوهها، تضمر «جبل الزمرد» نزعة لتأنيث العالم، لا يتعلق الأمر فقط بأن الشخصيات المحركة للأحداث والممثلة للتحول والتغيير، بل والزلزلة، فى عوالم الرواية نساء، بل يمتد هذا إلى بنية العمل والمسكوت عنه فيه.


 فى رواية «أخيلة الظل» قلت إن «الكتابة هى محاولة لنحت تمثال ثلج عند خط الأستواء».. ألا يدخل هذا التعبير فى دائرة الجنون وأنت تعرفين النتيجة مسبقًا؟


هذا الرأى يخص إحدى شخصيات العمل، ومع هذا يمثلنى ويعبر عن نظرتى أنا الأخرى للكتابة. هى فى نظرى سعى شاق وممتع فى آن بلا نقطة وصول نهائية، يشبه الأمر تسلق جبل تعرفين سلفًا أن لا سبيل لبلوغ قمته، لأن هذه القمة مجرد سراب. لا أرى هذا أمرًا محبِطًا، بل على العكس أراه محفزًا على التجويد والسعى الدءوب، واللعب مع المستحيل.


 فى «وراء الفردوس» صور أثيرة تنهض على مفردات الجنان التى تجرى من تحتها الأنهار لكنك جعلت هذه الصور متوازية مع صورة البيت الريفى القديم.. ما تعليقك؟


لا أرى أن هذا التأويل يمثل الرواية. البيت الريفي؛ المنزل الأول وبيت الطفولة فى «وراء الفردوس» لم يكن فردوسًا حقًا، بل كان يضمر الجحيم فى داخله. الرواية تخضع مفردة الفردوس للمساءلة بشكل ضمنى وتتفحصها وتوحى بنسبيتها وقدرتها على أن تحتوى على نقيضها. لو كان الماضى وبيت الطفولة فردوسًا لما مثَّل كل هذا العبء النفسى على البطلة؛ سلمى رشيد، ولما بدأت الرواية بحرق سلمى للصندوق الذى يضم أوراق العائلة (ذاكرتها؟).


 «كاتبة الحافة - المنضبطة والصارمة».. هكذا وصفتك الكاتبة عبلة الروينى.. ألا ترين أن هذا الوصف يقيد الخيال ويحد من الرومانسية وهما من أدوات الكاتب؟


الوصف يعبر عن رؤية الصديقة العزيزة عبلة الروينى لشخصيتى كإنسانة وكاتبة، ومن وجهة نظرى أنه لا يوحى بتقييد للخيال أو بانضباط مبالغ فيه، لأنه يشتمل على الموازنة بين نقيضين هما العيش والكتابة على الحافة، بما يعنيه هذا من مغامرة ومخاطرة وبين الانضباط والصرامة اللتين أراهما ضرورة لأخذ النفس بجدية شرط أن يشتملا على قدر كبير من المرونة. عن نفسى تعجبنى مقولة بورخيس: «أكتب بجدية الطفل الذى يلهو» لأنها تدمج بين الجدية ولهو الأطفال، وتصلح لتوصيف علاقتى بالكتابة.


 كيف تحافظين على إبداعك من شبهة التصحيف وهو المأزق الذى يعانى منه معظم المبدعين الصحفيين؟


إن كنت تقصدين بهذا عدم الانزلاق إلى اللغة الصحفية التقريرية، فربما يكون ما ساعدنى أنى أكتب فى جريدة أدبية، مما يعنى أن اللغة المستخدمة أقرب للغة الأدب منها للغة الصحافة. الأمر الآخر، أنى مولعة باللغة العربية وصلتى قوية بكتب التراث والمعاجم القديمة، قراءة صفحات من «لسان العرب» ومؤلفات الثعالبى والجرجانى وابن جنى والشعر القديم وكتب الجاحظ والتوحيدى عادة يومية عندى، لا يعنى هذا تكلف لغة تراثية أو فصاحة متكلفة منقطعة الصلة بنبض العصر الحالى، بقدر ما يعنى تنمية ذائقة لغوية ودراية دقيقة بتاريخ المفردات وبدرجات التباين الطفيفة بين المترادفات، وتعزيز الحساسية الأسلوبية الخاصة. لكن من جهة أخرى، وعلى عكس الشائع أرى أن العمل فى الصحافة أفاد لغتى وضاعف من دقتها خاصة أننى أحرر قسم الكتب فى الجريدة منذ 2003.


 النقاد يصفون أسلوبك فى الكتابة بـ«الغرائبية».. هل لأن الواقع أصبح ضيقا، أم هو تمرد على الأدب الرفيع بمفهومه القديم؟


أتحفظ على التصنيفات والخانات الجاهزة، لأنها تؤدى فى الغالب إلى الاستسهال. تصنيف مثل الغرائبية (ينطبق هذا على أى تصنيف آخر) يملك من السطوة ما يمنع قراءة النصوص من داخلها، بمعنى أنه حين توصف كتابة كاتب ما بأنها غرائبية، وحدث أن كتب هذا الكاتب رواية واقعية ستجد من يصنفها كرواية غرائبية بحكم العادة، لأن ما استقر فى الذهن أنه يكتب كتابة غرائبية أو مفارقة للواقع. التصنيف فى هذه الحالة يسبب نوعًا من انعدام الرؤية. من جهة أخرى، غلبة الكابوسى أو الغرائبى على كثير من نصوصى ينبع من رؤية فنية تنحاز للتخييل والتركيب وتفكيك الواقع وإعادة تركيبه، لا علاقة للأمر بضيق الواقع من عدمه. فى ما يخص التمرد على الأدب الرفيع، فرغم تحفظى على المصطلح، أرى أن الغرائبية لا تتعارض معه، وإلّا كنا أخرجنا كتابًا مثل كافكا وبورخيس وكورتاثر وبولجاكوف من إطار ما يُسمَّى بالأدب الرفيع. أتذكر أننى كنت قد أشرت قبل سنوات إلى التمرد على ما يطلق عليه «الأدب الرفيع"، ولكنى لم أقصد بهذا الغرائبية نفسها، وإنما اتساع دائرة الإلهام لتشمل الـ"بوب آرت» وأنواع أدبية لطالما طُرِدت من جنة «الأدب الرفيع».


 باعتبارك من جيل الكتاب الجدد ما رأيك فى مقولة «نحن لا نكتب إلا عن ذواتنا لأنها الشئ الوحيد الذى نعرفه» هل هى منصفة للإبداع أم ظالمة له؟


لا أومن بالتصنيفات الجيلية ولا بتقسيم الكتاب عبر معيار السن، لكن فى ما يخص هذه المقولة، فمنذ بدأت الكتابة وأنا أكتب على النقيض منها، فى أعمالى الإبداعية لا أكتب سيرة ذاتية، وشخصياتى الفنية مخترعة فى معظمها، هذا بخلاف أن التخييل الجامح شرط أساسى فى الكتابة التى تلفت نظرى كقارئة. وبعيدًا عن هذه المقولة، اعتاد هيمنجواى أن يقول «اكتب عن ما تعرف"، فى حين يرى آخرون، وأنا منهم، أن على الكاتب أن يخوض فى غير المألوف له، ودوره أن يعرف ويبحث ويتعلم جديدًا كل يوم.بالعودة للمقولة الأولى التى أشرتِ إليها فى سؤالك، أنا لا أحكم على من ينطلق منها، فقط أقول إنها لا تمثلنى ولا تعبر عن كتابتي. وبشكل عام لا أفضل الكتابة انطلاقًا من أفكار جاهزة مسبقة. بطبيعة الحال، كل كاتب ينطلق من ذاته؛ مما يؤثر فيها ويستفزها أو يحركها، لكن هناك من يبتعد عن نقطة الانطلاق الأولى هذه لخلق عوالم أوسع وأكثر تركيبًا، وهناك من يجيد الحفر فيها (أى فى ذاته) للوصول إلى مشتركات إنسانية تمس البشر جميعًا ويتمكن الآخرون من رؤية انعكاساتهم فيها، فى حين أن هناك نوعًا ثالثُا يكتب من شرنقة الذات دون حتى إجادة رؤيتها أو التبصر فيها. الفيصل هنا يكون عبر قراءة النصوص نفسها والحكم عليها من داخلها والابتعاد عن الأحكام العامة والمطلقة قدر الإمكان.


 وما أخطر ما يهدد هذا الجيل الجديد؟


أخطر ما يهدد أى كاتب، بغض النظر عن مسألة الأجيال هذه، الارتكان للمألوف وعدم وضع أفكاره عن الكتابة موضع الشك والتساؤل من وقت لآخر، وعدم السعى لتطوير الذات، وإهمال القراءة والبحث.


 الوسط الأدبى والصحفى ذكورى جدًا.. هل تعانين من هذا الكمد؟


أعيش وأعمل فى عزلة اختيارية شبه كاملة عن الوسطين الأدبى والصحفي. ما يهمنى وما انشغل به بالأساس نصى الخاص. أنا واعية بالطبع للعقلية الذكورية السائدة فى كافة الأوساط فى مجتمعنا، وتفكيكها إبداعيًا وفنيًا من منطلقات الكتابة عندى، فالرد الأمثل عليها يأتى عبر الإبداع ومن خلال تنقية الذات من شوائب الفكر الذكورى، وليس بالتشكى والبكائيات. 


 عن مجلة "الإذاعة والتليفزيون".. 25 يوليو 2019.


Tuesday, August 13, 2019

The Limbo of Sounds





By: Mansoura Ez-Eldin


"Cities, like dreams, are made of desires and fears, even if the thread of their discourse is secret, their rules are absurd, their perspectives deceitful, and everything conceals something else.”

(Italo Calvino - Invisible cities)




Back in 2004, when I traveled to Munich, it was my first time to go abroad. I was familiar with western culture through reading, watching movies, and having many western friends, so I dare say there was no culture shock except for the absence of noise.

Munich seemed to me a mute city. Of course there’s no such thing as a mute city, but this was what I felt at the time.

For me, the silence of Munich was intense, thick, and deep. I was almost able to touch it. It had a color, a scent, and a flavor. It was emerald green, cinnamon scented and with a tart-sour taste that resembled unripe peaches.

What bothered me was that I’ve always hated any cinnamon-related stuff and green peaches have always called up all sorts of unpleasant memories. So, it was natural to feel a bit uncomfortable, even though I loved that beautiful metropolis.

When I recall my first encounter with Munich now, I realize that Munich is not mute. It has its share of clamor and noise. I revisited it twice afterwards and immersed myself in its sounds, colors, and scents. I had my very own version of the city, a version that helped me to learn more about the sound and fury of Cairo; my noise-inventing machine of a city.

Since childhood, most of my fears had originated from sounds. For me, every sound was a coded message; every noise was pregnant with possibilities; terrifying possibilities.

I’ve always lived waiting for something to happen. I’ve always been expecting an earthquake to hit my world; an earthquake of chaos and noise or maybe dead silence.
I always had a sharp memory. At some points in my life, I preferred to live there; I mean in my memories. I knew full well that nostalgia falsifies the past, but I loved to be immersed in the scenes, fragrances, and tastes of my childhood.

This is the way my memory works; it provides me with a stream of scented, flavored, visual memories. For a mysterious reason, it chooses to eliminate sounds and voices, especially when it comes to foreign cities. I tend to totally forget the sounds of these cities and remember only silent streets, squares, gardens, and markets.

But Cairo can’t be soundless. Every city has its own talent, and my bittersweet old city is very talented in inventing noise.

While walking the streets of Cairo, I love to imagine it as a limbo of sounds and chaos, a black hole that attracts every voice and whisper to recycle them into cries or laughter, ambiguous music or moans of agony, according to its own state of mind. I like to think that this is the way in which the city conveys what it feels.

It is hugely inspiring to think of Cairo as a human being who could express her joy and sorrow eloquently to whoever might be able to decipher her codes.

I’ve always believed that one of my roles as a writer is to interpret these feelings, to make sense of them and turn them into a sensible, logical language.

I’ve always aspired to master the secret language of my city, or to be more precise, I’ve always longed to be one with my city.

In an old dream, I merged with Cairo. We formed one mythical creature, but, at the same time, I was completely aware of my individuality. The sounds of my city were like an audio background to my dreamy world. I wanted my voice to blend in well with this audio background that usurped my mind long ago, but in vain. My own voice stayed aloof and unreachable.

In the landscape of my dream, my life was an abandoned island, my memory was a haunted house, a dark haunted house inhabited only by ghosts and deafening sounds, and Cairo was a stony space with no plants, birds, or human beings.

In my mind, my magnificent city with its great history and glorious past was reduced to moans and cries of agony. These moans were not a figment of my imagination, they were truer than life itself. They were trailing behind me, trying—maybe—to remind me of the suffering of non-existent others.

Some details leave no traces in the mind, other details haunt it. My dream haunted me. I felt as though its audio background inhabited my soul and mind for good.

Every time I reconsider that dream, I recognize Cairo’s true mixed sounds of clashes, chants, screams, and in it laughter.

The noise of bullets and violence died away. It no longer exists in reality, but it lingers in my subconscious and refuses to fade easily away.

Sometimes I ask myself: Where did Cairo’s clamor, during the last few years, go? How did my memory manage to get rid of it?

It was not a chimera. It can’t be swallowed by the void. There must be a limbo of sorts that attracts only sounds and traps them there, in its cold dark bottom.

Much to my chagrin this imaginary limbo could be my soul.



* This text was written for "Shanghai Writing Program 2018", and was translated into Chinese, German and French.

* "The Limbo of Sounds" was first published by "Arablit".

Wednesday, July 10, 2019

Die Stadt der Gespenster







            von: Mansoura Ez-eldin (Mansura Essedin)
                       
(Ausschnitt aus dem Roman: "Die Odyssee von Meriam")

Übersetzung: Magdi Gohary, Christine v.dem Knesebeck



Wie im Halbschlaf läuft Meriam durch die Strassen der Stadt. Sie weiß nicht mehr, ob die Welt um sie her wirklich ist oder nicht. Alles scheint weit entfernt und tief in ihrem Inneren verborgen zu sein. Die Menschen, die Teil ihres Lebens waren, haben sich in Geister verwandelt, die sie von Zeit zu Zeit besuchen und sie dann plötzlich, ohne jegliches Mitgefühl, im Zustand der Verzweiflung und Verwirrtheit zu verlassen.

Wie abwesend läuft Meriam weiter. Sie zieht ihre Kleider enger um ihren Körper. Fest tritt sie mit den Füssen auf das Pflaster. Sie zwingt sich irgendwelche sinnlosen Worte auszusprechen, um sich selbst davon zu überzeugen, dass sie noch existiert, dass sie auf der Welt ist, einer Welt, die sie vom ersten Augenblick an ausgestoßen hat.

Sie war ein krankes Kind, dem Tod näher als dem Leben. Ihr Magen spie alles, was hinein kam, durch ständiges Erbrechen oder Durchfall wieder aus. Nerges musste ihr dann eine große Dosis Glucose verabreichen um zu verhindern, dass das Leben aus ihren Körper entwich.

Neulich hat Meriam diese Flüssigkeit auf ihrer Zunge geschmeckt, jedes Mal, wenn sie ein Getränk oder eine Speise zu sich genommen hatte. So als ob sie ihr ganzes Leben nichts anderes geschmeckt hätte. Ein Leben, das in Splitter zerfallen war, die nicht zusammenpassen wollten. Ein Leben, das nur diesen durchdringenden Geschmack zurückließ.

Sie hatte es sich ausgesucht, alleine ohne alle Bekannte leben zu wollen. Aber ist sie wirklich diejenige, die sich für diesen Weg entschieden hat?! Kann eine Familie wie die ihrige die Tochter alleine leben lassen, ohne nach ihr zu fragen oder sie zu besuchen? Wo ist diese Familie überhaupt? Und warum fand Meriam, während sie den Ort besuchte, der doch der ihre sein sollte, keine Spur dieser Familie? Niemand dort erkannte sie und sie erkannte ebenfalls niemanden. Sie ging wie ein Geist… leichtfüßig, schwebend, getragen von dem leichtem Wind, der dort immer weht.
Sie suchte jeden Zoll des Dorfes vergeblich nach Nimr, Nerges, Kausar und Saleh ab, nach den Spuren von Josef und Sofia. Die Villa der Familie El Tagi existierte nicht mehr. Der Friedhof, den sie gut kannte und auf dem, wie sie dachte, ihre Lieben begraben lägen, schien nicht der gleiche zu sein. Alles schien das schreckeinflößende Gegenteil von dem, was sie von früher erinnerte. Meriam fühlte sich mit dem Nichts konfrontiert... ein neuer Adam, der ins stürmische Meer ging nachdem Gott ihn verlassen hatte.
Sie setzte sich zwischen zwei Reihen von Gräbern, lehnte sich mit dem Rücken an eines, zündete sich mit zittrigen Händen eine Zigarette an und begann zu rauchen. Vielleicht würde sie sich so ein wenig beruhigen.

Der Duft von Pfefferminze und Basilikum erinnerte sie an Sofia. Wider Willen musste sie lächeln, als sie in ihrer Phantasie Sofia laufen sah, mit ihren schmutzigen Papieren* und mit Zweigen von Basilikum und Pfefferminze in den Händen, begleitet vom Geräusch ihrer Schritte und dem eindringlichen Geruch des klebrigen Kakteensafts, der ihre Hände und Kleider beschmutzt. Wo ist sie jetzt? Liegt sie in ihrem dunklen Loch oder hat sie ein anderes Grab gefunden, vor dem sie der Schlaf überkam? Oder läuft sie jetzt auf Wegen voller Abfall, auf denen sie schmutzige Papiere aufheben kann und keiner daran Anstoß nimmt? Dort wo nichts und niemand ist, das würde zu ihr passen.

Meriam ist sich sicher, dass sich alles, worauf sie sich stützt, in Nichts auflöst. Was sie aber nicht mehr weiß, ist: Wer sind sie, die sie überallhin verfolgen und sie auffordern zurückzukehren, sich ihnen anzuschließen...und sie anzuerkennen. Sie wünschte sich, sie würde einen langen Alptraum haben. Er sollte damit enden, dass sie in einem warmen Bett aufwachte und ihren Angehörigen die verwirrenden Einzelheiten ihres Traums erzählte.

Yehia tauchte in ihren Gedanken auf. Sie bat ihn darum, sie nicht mit den erbarmungslosen Fragen allein zu lassen. Er soll zurückkommen und ihr Beistand leisten. Sie wusste aber, dass er auf Seite der anderen steht, gegen sie. Sein Schicksal war mit dem Schicksal der anderen verbunden, ihre Existenz ist seine und ihr Verschwinden bedeutet, dass auch er niemals da war.

Sie stand eilig auf, schüttelte den Staub von ihrer Kleidung, richtete mit ihren Händen ihr Haar und lief langsam aus dem Ort hinaus.

* * *

Die Gegenstände und die Erinnerungen, die weit weg sind, verschwinden nicht wirklich, sondern dringen in uns ein, werden von unserem Blut aufgenommen und verschmelzen so mit unseren Zellen, dass sie uns täuschen. Sie spiegeln uns vor, dass das Erinnerungsvermögen sie vollständig gelöscht hätte. Plötzlich dann werden wir von ihnen überrascht, wenn sie wie einzelne Splitter herausfallen. Die Erinnerungen erscheinen als einheitliches Ganzes ohne klare Einzelheiten... Ein Zustand, der uns traurig oder sehnsüchtig oder glücklich macht, ohne dass wir jemals an seine Quelle gelangen können. 

So kann der Duft von Pfefferminze und von Basilikum Sofia mit Haut und Haar zurück bringen, und eine Rauchwolke an Youssuf erinnern. Ein grimmiger Gesichtsausdruck lässt sofort die Züge von Nerges und ein Beerdigungszelt die friedliche Seele von Saleh auftauchen. Aber was wird Meriam hinterlassen, wenn ihr Ende gekommen ist? Was bleibt von ihr im Bewusstsein von höchstens zwei oder drei Menschen?

Meriam bewegt sich in einer Stadt aus Papier. Nur Gebäude und Strassen aus Karton, die darauf warten von etwas Gegenwind völlig weggefegt zu werden und die Ruine freizulegen, die in ihrem Wesen verborgen liegt.

Riesige Holzwürmer nagen an allem...raffinierte Holzwürmer, die sehr langsam am Herzen der Dinge nagen, damit sie von niemandem entdeckt werden.

Die Stadt ist in leichtes Dunkel gehüllt. Meriam bewegt sich darin ohne zu wissen, was um sie herum geschieht... Ihr Gehirn arbeitet schnell und chaotisch aber es ist unfähig zu begreifen. In diesem Augenblick war sie nicht nur mit dem Verschwinden von Yehia oder dem Schicksal von Radwi beschäftigt... Sie suchte nach dem, was tiefer darunter lag... Was trieb alle in den Wahnsinn. Ist Sofia erst wahnsinnig geworden und danach all diese Dinge? Oder ist der Wahnsinn der Ursprung und alles andere ist bloß ein Produkt der Phantasie?

Yehia hat sie in seine Welt geholt. Er hat sie von allem getrennt, mit dem sie sich verbunden gefühlt hatte. Er wollte ihre Seele erobern. Er brachte sie zu all dem, was sie als schweres Verbrechen ansah. Bei ihm hat sie keine Sekunde inne gehalten, um zu überlegen, was geschah... Sie hat nichts von der Wirklichkeit um sie her bemerkt. Wenn sie an ihre gemeinsame Beziehung denkt, fühlt sie sich, als ob sie sich beide in einer tödlichen Leere bewegt haben.

Am ersten Tag in seinem Haus hat sie sich wie eine Schlafwanderin bewegt. Vorsichtig berührte sie die Gegenstände, ging von der Küche in den Salon, dann in sein Arbeitszimmer, klopfte an die Möbel, während er sie verwundert beobachtete.

Das Gefühl, das sie beherrschte und von dem sie sich versucht hatte zu befreien, war aber der Geruch des Todes in Yehia selbst... Ein Geruch, der von ihm ausging, ihn umhüllte und ihn mit einer geheimnisvollen Aura umgab. In ihrem Leben mit ihm hatte sie den Tod in einer Weise eingeatmet, die sie nie verstanden hatte.

Alles, was sie heute mit einander verbindet, sind verschwommene, ungeordnete, von einander losgelöste Erinnerungen. Manchmal erinnert sie sich an viele Einzelheiten, die sich zu vollständigen klaren Szenen zusammenfügten. Was sie aber nie herausfand, war, ob diese Szenen und Ereignisse wirklich stattgefunden hatten oder nicht? Ihr Gedächtnis wird von Yehias kindlichem Lächeln und seinem klugen, beobachtenden Blick überschwemmt. Aber sie fragt sich erneut: Wenn es diesen Menschen gibt, wo ist er dann hingegangen?

Gestern in der Wohnung in Abdin, beim Stöbern in alten Unterlagen in der hölzernen Kiste von Sofia, fand sie die Heiratsurkunde des Ehepaares Meriam Youssuf El Tagi und Yehia Elgindi. Das Foto in der Urkunde hatte dieselben Merkmale, die ihr Gesicht jetzt hat: dunkler Teint, schulterlanges kohlschwarzes Haar und schwarze Augen. Weit entfernt von Meriam, wie sie sie kannte, mit ihrem braunen langen Haar, ihrer feinen Nase, ihrem honigfarbenen, versonnener Blick, den sie von Sofia geerbt hat. Das Foto von Yehia entsprach aber dem, woran sie sich erinnerte.
Was sie aber wirklich erstaunte, war die Existenz einer Heiratsurkunde überhaupt... Sie ist und war schon immer überzeugt, dass sie Yehia nicht geheiratet hatte und dass ein solches Dokument nicht existiert hatte.

Am Anfang ihrer Beziehung hatte sie davon geträumt, nackt in seinen Armen zu liegen. Er war ebenfalls nackt. Während er sie heftig umarmte, ging die Tür auf und Youssuf, Nerges, Kausar, Saleh, Zainab und fremde Kinder kamen herein und riefen ihren Namen. Sie schrie „Oh, meine Schande... Oh, meine Schande“. Sie wiederholte diese Worte verzweifelt und melodramatisch, während sie versuchte, sich zuzudecken  Meriam spürt, dass dieser Traum ihre Beziehung zu Yehia noch immer bestimmt und sie deutet.

Wenn sie mit ihm zusammen war, fühlte sie sich immer von jemandem beobachtet, der ihre verzweifelten Versuche, sich im Leben zu integrieren, verspottete. War er ein Redakteur dieser Zeitung? Warum fand sie dort keine Spur von ihm und wie hatte sie ihn dann getroffen?
Meriam kennt keine Antwort auf all diese Fragen. Sie muss in den Zustand der Verlorenheit hinnehmen und sich auf die einfachsten Dinge stützen, deren sie sich sicher ist.

Die Wohnung von Yehia war nicht groß...seine Räume waren geordnet, nichts dort war der Phantasie überlassen, es gab wenig freien Platz. Yehia war bemüht, die Räume mit Möbeln vollzustellen. Als ob diese Möbelstücke den Ort festzurren würden und ihn daran hinderten abzuheben und zu verschwinden. Die Wände waren voll mit Bildern und Fotos.

Manchmal hatte Meriam das Gefühl, als ob ein kleines Kind an ihrem gemeinsamen Leben teilgenommen hätte. Aber sie erinnerte von diesem Kind nur seine blonden Haare und seine honigfarbigen Augen. War das ihr Kind? Aber sie war nie schwanger oder hatte nie eine Geburt, das hätte sich in ihrem Innern eingegraben. Außerdem war an ihrem Körper keine Spur davon zu sehen.

Wer ist wohl dieses Kind? Gehörte es nur zu Yehia alleine? Meriam beschleicht das Gefühl, dass die Lösung dieses Lebensrätsels zuallererst in der Hand von Yehia liegt und weiter in der von Radwan. Und dass das plötzliche Verschwinden der beiden sie tötet... Gibt es einen Zusammenhang zwischen beiden?

Sie versuchte mehrmals vergeblich Yehias Haus zu finden. Ihres Wissens wohnte er in einer bestimmten Straße (auf der Nilinsel, Anm. d. Übers.) in Manial. Als sie in der Strasse aber in Richtung des Hauses ging, in der seine Wohnung sein sollte, fand sie zu ihrem Erstaunen ein anderes, ihr unbekanntes Gebäude vor, an dem sie niemals vorbei gegangen war. Sie überwand ihre Verwirrung und fragte den Türhüter nach der Wohnung von Yehia. Der Mann sah sie angewidert an, als ob sie etwas verbrochen hätte und verfluchte die leichten Mädchen. Kurz davor bewusstlos zu werden, schleppte sie sich von ihm weg.

Die Strassen verwandelten sich für sie in bösartige Wesen, die sich in einem furchterregenden, sich wiederholenden Spiel gegen sie verschworen. Das Spiel lief immer vollkommen gleich ab. Es glich einem großen Labyrinth, das von geschickter Hand angelegt war, damit Meriam sich in ihm verlief. Meriam vermied es, auf den Straßen dieser gespenstischen Stadt zu laufen, deren Licht spärlich war, woran auch die Laternen nichts ändern konnten.

Früher hatte Meriam die Straßen der Stadt in- und auswendig gewußt. Sie hatte es geliebt, in ihnen zu flanieren. Mit liebevollem Blick hatte sie den Staub auf den Häusern und den Bäumen und die Wolken von Abgasen angesehen. Sie hatte auch die Plätze der Bettler gekannt. Jetzt stand sie einer anderen höllischen Stadt gegenüber, die versuchte, Meriam das Leben zu rauben. Sie erkannte keinen der Einwohner, so als ob sie alle durch andere Wesen ersetzt worden wären, Wesen, die versuchten die Stadtbewohner zu imitieren, damit das Spiel nicht durchschaut würde und jeder in seinem eigenen Labyrinth gefangen blieb. Oder warum kennt Meriam jetzt keinen ihrer Lieblingsplätze mehr? Warum sind alle, die sie kannte, verschwunden und haben sie in dieser Leere zurückgelassen?

„Das problematische Weib“ so hat Yehia sie genannt. Wieso sind ihre Rollen jetzt vertauscht? Er hat sich in einen Menschen aus Quecksilber verwandelt, der zwischen ihren Finger zerrinnt. Er war davon überzeugt, sie würde ihn auf jeden Fall vernichten. Jetzt ist sie sich nicht mehr sicher, ob er es ernst meinte oder ob es nur Spaß war? Sie wiederum hatte in seiner Nähe den Eindruck, er bringe sie dem Tod näher. Einem sanften und freundlichen Tod, an den man sich gewöhnen könnte. Meriam hatte ihm gegenüber nie ein schlechtes Gewissen wegen dieses Gefühls. Es war von ihrem eigenen Willen nicht abhängig.

Der Todesgeruch, da täuschte sich Meriams Nase nicht, strömte aus seinem Körper, trotz seiner Lebendigkeit und seiner Lebensbejahung. Im Gegensatz zu Youssuf liebte Yehia das Leben und setzte sich mit ihm auseinander. Er versuchte auch Meriam mit allen Mitteln dahin zu bringen. Er wusste, dass sie aus einer Familie stammte, die aus Toten bestand. Tote, die nichts anderes waren als neblige Erinnerungen, hinter denen keine lebendigen Menschen zu vermuten sind und die sich in Vorspiegelungen verwandelten: in den Duft von Pfefferminze und Basilikum, in ein Beerdigungszelt, in einen  grimmigen Gesichtsausdruck und in Rauchwolken von Haschisch-Zigaretten.

Meriam versuchte den Tod philosophisch zu nehmen, aber sie fiel in seine geschickt aufgestellten Fallen. Sie redete sich ein, der Tod lebte in Yehia und dachte nicht daran zu überlegen, ob er vielleicht in ihr sein könnte? Die kindlichen Augen Yehias brachten Meriam ihrem unausweichlichen Schicksal näher. Die zwanzig Jahre Altersunterschied zwischen ihnen hätten ihr viele interessante Geschichten bescheren können, die sie angeregt und begeistert angehört hätte. Sie hätten ihre Vorstellung, Yehia sei nur ein Synonym für den Tod, der über ihrem Leben steht, verdrängt.

Jetzt geht Meriam oft auf den Straßen der Innenstadt spazieren, die sich wie die Arme eines Tintenfischs ausstrecken. Sie verlangsamt ihren Gang vor den Plätzen, an denen sie früher zusammen waren und schaut sich die Gesichter der Gäste hinter den gläsernen Vitrinen der Kaffeehäuser an. Sie erkennt aber niemanden von ihnen, obwohl sie diese Plätze so oft besucht hat. Sie bleibt auf ihrem nicht enden wollenden Weg, ist aber von Furcht erfüllt, wenn sie nachts die Kasr El Nil Straße betritt. Auf der Kreuzung mit der Sherif Strasse spürt Meriam, dass all ihre Furcht vor diesem Viertel Kairos berechtigt ist. Denn dieser Teil von Kasr El Nil sieht so aus, als ob er einer Horrorgeschichte entstammt. Er ist geprägt von Dunkelheit und von seinen verfallenen Gebäuden, die wie Ungeheuer aus alten Sagen aussehen, und er ist menschenleer.

*) Sofia ist die geistig verwirrte Großmutter der Erzählerin, die alte Papiere sammelt.

Tuesday, July 9, 2019

قراءات الصيف



يرتبط مصطلح "قراءات الصيف" عادةً بالكتب الخفيفة، التي يمكن قراءتها على الشاطئ ولا تتطلب مجهودًا كبيرًا من القارئ، لكننا –عبر الاقتراحات التالية- حرصنا على أن تكون الجودة الفنية معيارنا الأساسي.


منصورة عز الدين
حلقات زحل:


القبض على لحظات التحول والفناء




في محاضراته عن الكتابة الإبداعية، بجامعة إيست أنجيليا، اعتاد ف. ج. زيبالد أن يحدث طلابه عن إغواء الأشخاص المهووسين وغريبي الأطوار وعن ما تحمله شخصياتهم من إمكانات فنية. لم يكن يقصد الجنون التام أو الظاهر، إنما نوع آخر من جنون خافت يصعب الإمساك به أو تحديد منبعه، حالة قريبة مما نصادفه لدى مجاذيب الريف.

وأظنني لست في حاجة لقول إن أعمال هذا الروائي المهم والأكاديمي المتبحر في تاريخ الرواية الأوربية، حافلة بهؤلاء الممسوسين بدرجة ما من درجات هوس مخاتل. ولا يخرج كتابه المهم "حلقات زحل" عن هذا الإطار، لكننا في حالته أمام شخصيات حقيقية عاشت يومًا وتركت أثرًا يجعلها جديرة بالتذكر والتأمل. من هؤلاء الطبيب توماس براون وإمبراطورة الصين الأرملة تسو-هسي المجنونة بالسلطة وألغيرنون تشارلز سوينبرن المولع بتدمير الذات وغيرهم. وأدبيًا يتوقف زيبالد أمام جوزيف كونراد وسيرته الثرية وشاتوبريان وفلوبير  وإدوارد فيتزجيرالد وآخرين.

في الكتاب الصادر مؤخرًا عن دار التنوير بترجمة متميزة للكاتب والمترجم أحمد فاروق، يصحبنا زيبالد في جولة معرفية بالأساس يتوغل فيها في طبقات الزمان ويربط حاضر معيش بماضٍ شهد ازدهارًا وأبهة أفلت ولم يتبق منها سوى أطلال وخرائب. يحافظ كعادته على ولعه بالخراب والتدمير وعلى لحظات التحول والفناء، ويعوض هذا بجمال أسلوبي يحيل المُدمَّر والمنخور بسوس الزمن إلى قطع فنية فريدة لأنها مصاغة بعين تجيد التقاط جماليات الخراب ويد بارعة في إحالته (أي الخراب) إلى مشاهد لا تنسى لأنها مشبعة بدلالات ومعان لا نهائية.
لا يكتب زيبالد عن الطبيعة والأراضي والمدن المختلفة من خارجها، بل ينسل إليها، يحل فيها ليطّلِع على ما تراكمه من ذكريات وأحداث انطوت بلا رجعة.

أهذا أدب رحلة؟! قد يتساءل قارئ حائر في تصنيف ما يقرأ، ونصيحتي له ألّا ينشغل بالتصنيف حين يتعلق الأمر بزيبالد، فإن كانت رواياته من الصعب وضعها في خانة بعينها أو تصنيف محدد، فإن هذا الكتاب المميز عصي على التصنيف بدرجة مضاعفة. مزيج من سرد سيري وتاريخي وكتابة مكان في أبهى صورها وتداعيات وتأملات لواحد من أهم العقول الإبداعية في القرن العشرين.


إلمت:


لغة النار والدخان


حين وصلت فيونا موزلي إلى القائمة الطويلة ثم القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر البريطانية 2017، كانت اسمًا جديدًا على المشهد الأدبي العالمي. كاتبة شابة أصبحت تحت الأضواء فجأة بروايتها الأولى، الأمر الذي حمَّس ناشرين من ثقافات مختلفة للسعي لترجمة الرواية. ومن حسن الحظ، صدرت الطبعة العربية لروايتها "إلمت" مؤخرًا (دار جامعة حمد بن خليفة للنشر) بترجمة ممتازة للشاعر والمترجم أحمد شافعي.

الرواية مكتوبة بحساسية فائقة، الطبيعة ملتحمة ببنية السرد برهافة، والعلاقة بين الأخوين (دانيال وكاثي) لافتة. شخصية دانيال تحديدًا من الصعب نسيانها، ينتهي القارئ من قراءة الكتاب وهو يفكر بمصير دانيال وهل ما حدث معه في النهاية استغلال له من شخص أكبر أم أن المسألة بالفعل لها علاقة بميول ورغبات أوحت بها المؤلفة بلمحات عابرة على امتداد الرواية؟!

منذ البداية نعرف أننا أمام مصائر تراجيدية وأن عالم الرواية وشخصياتها يتهددها الحريق ويتعقبها الدخان ورائحة الجمرات: "لا ظل لي. يعلق الدخان من ورائي، ويخمد نور النهار. أعد عوارض السكة الحديدية فتتسارع الأرقام. أعد المسامير والبراغي. أمشي قاصدًا الشمال. خطوتاي الأوليان بطيئتان، متململتان. لست على يقين من وجهتي، ولكنني ثابت على ذلك الخيار الأول. لقد اجتزت الباب وأغلق من ورائي."

هكذا تبدأ موزلي روايتها وقد منحت القارئ عقدتها وحدثها الأهم، ومع هذا تظل محافظة على درجة عالية جدًا من التشويق، بحيث يلهث القارئ خلف الشخصيات لمعرفة الإجابة على سؤال كيف حدث ما حدث، وليس ماذا حدث. وحتى بعد أن يعرف، سيعاود القراءة باستمتاع لجودة الأسلوب وبراعة الكاتبة في رسم شخصياتها الفنية وطبوغرافيا المكان الذي تدور فيه الأحداث.

"إلمت" رواية مؤلمة، لكنه ذلك الألم الذي يكثِّف إحساس قارئها بالآخرين ويزيد من قدرته على الرؤية. بنية العمل بسيطة ومحكمة في آن، وأهم ما يميزه ذكاء الكاتبة في التقاط الخفي في أكثر الأشياء عادية ومهارتها في الوصف وفي مزج القسوة بالرهافة؛ قسوة النار حين تتأجج لتلتهم ما يقابلها ورهافتها حين تصفو.





صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين:


الخطو في غياهب الجنون


النمساوي توماس برنهارد أحد أهم كتاب اللغة الألمانية في القرن العشرين واحد من الكتاب الحديين؛ إما أن يقع القارئ في هوى أسلوبهم مرة واحدة وإلى الأبد أو يأخذ موقفًا حادًا منهم ويتوقف عن القراءة لهم بعد المحاولة الأولى. عن نفسي، أعتبره من كتابي المفضلين وأغبطه دومًا على ثقافته الموسيقية والفلسفية الرفيعة. تتجلى هذه الثقافة بوضوح في كتابه "صداقة مع ابن شقيق فيتغنشتاين"، الذي صدرت طبعة جديدة منه، مطلع العام الحالي عن داري ممدوح عدوان وسرد، بترجمة المترجم القدير سمير جريس بعد مرور سنوات على صدور الطبعة الأولى. الكتاب  حفر مدوِّخ في مفهوم الصداقة والمرض وغياهب الجنون والعيش والإبداع على الحافة وضد كل ما هو سائد. من الكتب التي تبقى مع قارئها طويلًا.

في "صداقة من ابن شقيق فتغنشتاين"، لا يتوقف برنهارد عند صداقته بباول فتغنشتاين الذي يُعتبر الكتاب بمثابة تأبين أدبي له، إنما يتجاوز هذا كي يحلل مفهوم الصداقة والجنون ويشَّرِح عيوب ونواقص الوسط الأدبي النمساوي وتهافت المثقفين وجهل المسؤولين الثقافيين وحال الجوائز في عصره، على هذا الأساس يمكن أيضًا اعتبار الكتاب شهادة كاشفة على الحالة الثقافية والاجتماعية لأوروبا، أو على الأقل البلاد الناطقة بالألمانية، خلال فترة مهمة من تاريخها. يبدأ برنهارد في الحفر في فكرة ما ويواصل حفره فيها وعرضها بتنويعات عديدة كأننا أمام مؤلف موسيقي يسعى للبرهنة على أن التكرار ليس تكرارًا بالفعل، إذ يضمر في باطنه اختلافات وتنويعات لا نهائية. بشكل ما هي كتابة رأسية لا أفقية، إن جاز استخدام مصطلح مماثل.

يكتب برنهارد بقسوة وحِدة من عاش معظم حياته في براثن مرض عضال وبصفاء من حدق في وجه الموت والجنون وأقام على حافتيهما. هو يعرف جيدًا ما يتحدث عنه حين يكتب عن انقطاع التواصل الحتمي بين الأصحاء والمرضى بمرض لا شفاء منه.


كان ياما كان:


هل يمكن نقض الحكايات الخرافية بتبني منطقها الخاص؟


لطالما ألهمت الحكايات الخرافية الكتاب وأثارت مخيلتهم، بل واستفزتهم لكتابة سرديات مضادة لها عبر حقنها بالعنف والإيروتيكا أو هدمها وتلوينها بصبغة نسوية أو قوطية داكنة. قائمة هؤلاء الكتاب تشمل أنجيلا كارتر في مجموعتها "الغرفة الدموية" وهيلين أوييمي وآخرين. وفي مجموعته القصصية الأحدث "كان ياما كان" (دار العين) يدخل الكاتب محمد عبد النبي بدوره عالم الحكايات الخرافية ليعيد إنتاجها بما يتناسب مع رؤيته هو للعالم ولها، غير أن صاحب "شبح أنطون تشيخوف" يخطو خطوة أبعد حين يسعى لإنشاء بنيان يضم القصص معًا، كما أن هناك قصصًا لا ترتكز على أصل سابق، وإن كانت تحمل بدورها بعض سمات العوالم الخرافية ومنطق الحواديت.

حين ذكرت أن عبد النبي يدخل عالم الحكايات الخرافية، عنيت هذا حرفيًا، فالكتاب يبدأ بـ"مدخل" يدخل منه الكاتب ومعه بالتبعية القارئ عبر باب أمامي على هيئة غلاف كتاب أو غلاف أمامي على هيئة باب كبير. ثمة مراوغة منذ الجملة الأولى: "يبدو أنني كنت شاردًا أو ثملًا فلم أتبين العنوان". هذه المراوغة وعدم اليقين في تحديد حالة الراوي تعد القارئ لدخول أرض عجائب من نوع ما، أو على الأقل أرض حافلة بالتأرجح بين حالات من الصعب تحديد كنهها، يختلط فيها الواقع بالأوهام والأحلام بالخرافات.

وبالمثل نجد في النهاية مخرجًا، لكن إذا كان الدخول إلى أرض الحكايات سهلًا لا يتطلب سوى فتح باب لا نعرف ماذا يكمن خلفه، فإن الخروج منها أصعب بكثير حد أن الرواي يبدأ مخرجه بتساؤل: "هل نجوتُ أم غرقتُ؟" لم يعد التبلبل إذًا بين الشرود أو السُكْر، بل بين النجاة أو الغرق، فالحكايات عاصفة ضربت سفينة الراوي وحطمتها، ما يذكرنا بما قاله الأمير / الحطاب في قصة "قميص إنسان سعيد": "زهور الكلمات لها شوك يدمي الأصابع، أم تحسبين أن وضع الحكايات نزهة في بستان؟"

أثارت "كان ياما كان" في ذهني تساؤلين مفادهما: ما أهمية التناص إن لم يكن هدمًا للنص الأصلي؟! هل يمكن نقض الحكايات الخرافية بتبني منطقها؟!
السؤالان مترابطان كما هو واضح. بالنسبة للأول فهو ليس سؤالًا بقدر ما أعتبره قناعة فنية شخصية، فالهدم وإعادة تشييد بنيان جديد أو سردية مضادة بلغة النقد، مبرر التناص من وجهة نظري. أما السؤال الثاني، فكان معياري الأساسي خلال قراءة النصوص المتماسة مع أصل سابق؛ كلما ابتعدت عن بذرتها الأولى وتناقضت معها ارتقت فنيًا، لكن هذا طبعًا لم يكن المعيار الوحيد خاصة أن الكتاب يحوي قصصًا لا تعتمد على أصل سابق، وأننا لا يمكننا إغفال عناصر أخرى متمثلة في اللغة الرائقة السلسة للكاتب وعوالمه التي تأتيه طيعة وقدرته على ابتكار حكايات خرافية تشتبك مع أسئلة الواقع المعاصر، ومهارته في تحسس المناطق البينية المخاتلة بين الذكورة والأنوثة بلا مباشرة.

في المجمل استمتعت على وجه خاص بقصص "جنة الأقزام السبعة"، "كان ياما كان.. في بلد الجمال"، "قميص إنسان سعيد"، "قبل أن ينتهي السباق"، "رحلة عازف الناي"، أما قصة "مفقود في الترجمة" فتساءلت عن جدوى دسها في وسط النصوص، إذ بدت لي صالحة أكثر لتكون قصة/ مقدمة تسبق المدخل نفسه، بحيث لا تشوِّش على العالم المتجانس للكتاب أو "جزيرة الحكايات الخرافية" لو استعرنا كلمات المؤلف.


أعياد الشتاء:


جسد منفى وذاكرة موشومة!





تتناول رواية "أعياد الشتاء" للكاتبة نغم حيدر (دار نوفل/ هاشيت-أنطوان) طرفًا من التغريبة السورية برهافة ودون مباشرة أو صوت عالٍ. تتمحور رواية حيدر، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد 2019، حول لاجئتين سوريتين تتقاسمان غرفة واحدة في بلد اللجوء؛ ألمانيا، في انتظار الموافقة على قبول طلبي لجوئهما ومنحهما الإقامة: شهيناز فتاة الليل والعشيقة السابقة للضابط قتيبة، وراوية التي أُعتقِل أبوها المتعاطف مع الثوار بوشاية من جارتهما. تتعامل راوية مع اعتقال أبيها بحياد يقارب البرود، ولا تتقبل دأب أمها المثقلة بضيق ذات اليد وبتربية طفلين صغيرين على ملاحقة أي أخبار محتملة عن الأب المغيب في السجن. تنشغل راوية بتفاصيل حياتها في بلد اللجوء الذي أرسلتها أمها إليه طمعًا في توفير مصدر مالي ثابت للأسرة في مسقط الرأس الذي صارت علاقة راوية الوحيدة اتصالات هاتفية من أمها، ترسخ الانفصال بين طرفيها.
قد يوحي ما سبق بأننا أمام رواية سياسية صرفة، غير أن تقنية كتابة المؤلفة لروايتها تبعدها تمامًا عن المباشرة، وتجعلنا نتلمس ملامح البطلتين، المختلفتين تمام الاختلاف، تدريجًا.

يُحسب لنغم حيدر إخراج شخصية اللاجئ من الصورة النمطية التي عادة ما ترتبط بها، بحيث تُقدم في كضحية كاملة بلا أبعاد خارج كونها لاجئة. شهيناز وراوية وكذلك فهد وبدرجة أقل عرفان شخصيات حقيقة بنواقص وعيوب بشرية. ومن جهة مقابلة، قتيبة؛ الضابط/ الجلاد مقدم في الرواية أيضًا كشخصية لها جانبها الإنساني، في علاقته بشهيناز وبأمه وهو صغير وبأبنائه لاحقًا.

أخيرًا هذه الرواية القصيرة البسيطة ظاهريًا، مكتوبة بدربة ومكر كبيرين، فتقريبًا كل جملة، موظفة بحيث تدل على ملمح ما من ملامح البطلتين والماضي المدفون داخل كل منهما. تحب شهيناز الجميلة الغزلان معلومة مدسوسة بعناية في بداية العمل، ولاحقًا سوف نعرف أن الغزال مفتاح لفهم شخصيتها وعلاقتها بقتيبة ذي اليدين الملطختين بدماء الضحايا، فقد سبق ووصفها بـ"الغزالة التي سأصيدها وأحنطها".  وقرب نهاية الرواية توشم شهيناز غزالة على كتفها في واحد من أفضل مشاهد العمل، حيث يتوازي نغز الوشم مع ذكريات عنف قتيبة الجسدي تجاهها في لقائهما الأخير. هل يشير الوشم إلى رغبتها في وشم علاقتها به في ذاكرتها ورغبة في استعادتها إن سنحت الفرصة أم إلى التطهر منها عبر الألم الموازي لعلقتهما السادو-مازوخية؟

قد يكون الاحتمال الأول وجيهًا، بالنظر إلى أنها وافقت على فكرة العمل في الدكان العربي، بشرط أن تترك العمل وتعود إلى سوريا إن اتصل قتيبة أو أرسل خبرًا. لكن يظل الاحتمال الثاني قائمًا إن تذكرنا المقطع التالي: "يجب أن يحتوي الجسد كل هفوات المرء. إن أراد أن يثقب ذاكرته لينسى أفعاله فعليه أن يختار مكانًا ما من جسده ويدس فيه قطعة معدنية. لقد فكرت شهيناز مرة أنها قد ناورت كثيرًا. تقلبت. تلونت. هربت وعادت. صعدت وهبطت. ماتت وعاشت. ولهذا عليها أن ترسم على جلدها أيضًا طبعة لا تزول حتى بأسيد الندم الذي تصبه على نفسها."


بياصة الشوام:


حروف الهذيان


كعادته يمزج أحمد الفخراني، في روايته الأحدث "بيَّاصة الشوام" (دار العين)، الواقعي بالهذياني والمقدس بالعبثي الخالي من المعنى. يجيد الفخراني التقاط شخصية من الهامش بامتياز؛ سعيد الصبي في ورشة معلمه إدريس ببياصة الشوام، شاب بعين خاملة وبلاهة ترافق ملامحه وعدد لا نهائي من من الأسئلة، والأهم بأم مجنونة انتحرت ليحمله انتحارها بذنب لا خلاص منه ويدفعه، بشكل ما، لأحضان الجارة ثريا. شخصية الأم من الشخصيات التي لا تنسى في الرواية رغم أنها لا تظهر سوى في الصفحات الأولى، امرأة مزروعة في ركن النافذة كأصيص، مهووسة بتدوين كل شيء في كراسات، ثم تصعد إلى السطح لتمزق الكراسات ورقة ورقة وتطيرها، أوراق مكتوبة بحروف غريبة، يصفها الراوي بـ"حروف الهذيان"، وأجازف بقول إن أجزاء عديدة من الرواية مكتوبة بحروف الهذيان أيضًا. أما شخصية ثريا، فعلى الرغم من اهتمام الكاتب برسمها ومن كونها من الشخصيات الرئيسية، إلّا أنها جاءت أقرب للصورة المعتادة للمرأة الغاوية.

أما سعيد نفسه، فكان التحدي الأهم للكاتب كيف يعبر عن أفكار ومشاعر مركبة بلغة جزلة مثقفة في رواية مروية بلسان الأنا، في حين أن البطل لم ينل حظًا كبيرًا من التعليم؟! والحقيقة أن الحل الذي لجأ إليه الكاتب كان ناجحًا وطريفًا. فمع أنا الحكي كله يبدو للوهلة الأولى بصوت سعيد ولسانه، إلّا أنه سرعان ما يتضح أن سعيد يوكل مهمة الحكي إلى راوٍ مجهول ومتفاصح: "حتى الآن لا أعرف كيف سترويها، هل ستحذف معاناتي؟ أم سترضي نزعة القراء للمونولوج والدراما؟ أنا لا أعرف معناهما، ستضعهما على لساني، وسيذوبان كما تذوب سنة الأفيون الحلوة، لكن قل لي، من منا لا يرغب في أن يصعد فوق مسرح ويثرثر بمنولوج طويل وزاعق عن حياته؟"

هكذا سوف يظهر صوت سعيد عابرًا من وقت لآخر معترضًا على تكلف الراوي المنتدب بلغته نفسها، كما في جملة مثل: "أهناك أغبى من أن تجعلني أنطق بكلام كهذا؟" أو  أن يسرد الراوي فقرة مصقولة، يوضح في نهايتها: "لم يقل لي سعيد ذلك كله، اكتفى بما قاله للشيخ أعمى البصيرة: "ينعل أبوك"."

ينجح صاحب "ماندورلا" في حياكة ملحمة للهامشيين و"النكرات"، ملحمة محتشدة بالأسئلة والشكوك والهلاوس، تستدعي "اللص والكلاب" حينًا، وتذكِّر بأسطورة بيجماليون حينًا آخر، وكعادته ثمة دومًا سر ليس سرًا بالضرورة، ورحلة من نوع ما. ينحت سعيد تماثيله على نحو مخالف للمتوقع، يرى أنه وُهِب شهوة الخلق كإدريس، لكن الناس سيئو الطوية "تخبرهم أنك ستنحت عصفورًا، فيجيبونك أن فكرتهم عن العصفور قد اكتملت ولا حاجة بهم للمزيد. تقول لكن عصفوري شيء آخر. لماذا يغفرون شيئًا غريبًا كأصابع جميلة وفاتنة على جسد قبيح ولا يغفرون لي تماثيلي التي لا تشبه العصافير؟"

وعلى خطى سعيد، ينحت الفخراني شخصيات غير متوقعة، يبدون مقنعين عادة، وتنزلق عنهم عباءة الإقناع أحيانًا، لكنهم مثيرون للدهشة دائمًا.

من ناحية أخرى، فإن التمايزات بين البشر هنا ليست تمايزات طبقية بالمعنى المعروف، فجميعهم تقريبًا ينتمي إلى عالم البياصة، لكنهم ينقسمون على ليلها ونهارها: النهار للكادحين أمثال سعيد، والليل لملوك البياصة والمتحكمين فيها من البامبو ورجاله إلى ملك السمان وزبائن مطعمه.

تصلح أمثولة "النملة والملك" لتقريب فكرة التمايزات بين البشر المنقسمين في "بياصة الشوام" بين نمل وملوك؛ تظهر الأمثولة لأول مرة حين يسأل البامبو (ملك الليل) سعيد (النملة): ما أجمل حكاية سمعتها في حياتك؟ فيجيبه الأخير بأنها حكاية "النملة التي خاطبت الملك"، "لأنها لحدث لم يحدث، هذا ما يجعل الحكايات جميلة". الجملة الأخيرة، في رأيي، مفتاح مهم لفهم الرواية كلها، وهل هناك وسيلة لفهم رواية مكتوبة بحروف الهذيان ولا سبيل للتحقق إن كانت أحداثها قد حدثت أم لا سوى أمثولة كهذه؟

نقلًا عن أخبار الأدب.