Friday, September 20, 2019

قالت إن «جبل الزمرد» سردية مضادة لألف ليلة وليلة! منصورة عز الدين: الكتابة لعب مع المستحيل





عفاف على



إذا كانت الأسئلة هى البطل الرئيسى فى الكتابة، فإن رواياتها تخرج عن الأسئلة المألوفة، لا تطرح أسئلة ما بعد الموت وهو السؤال الذى يشغل معظم الكتاب والفلاسفة، ولكنها مشغولة بطرح أسئلة ما قبل الحياة.. إنها الروائية  منصورة عزالدين التى تبدو كتاباتها دائما حائرة بين الواقع والخيال، بين العقل والجنون. احتفاؤها بالكوابيس والأحلام لا يقل عن احتفائها بالواقع، فالأحلام عندها الطريق الوحيد للدخول إلى اللاوعى وفضح مكنونات الذات، تصعد جبال الحواديت بنفس طويل، وتعيد كتابة وحكى ما سكتت عنه جدتها شهرزاد، الموروث الشعبى عندها أداة طيعة تنجح فى توظيفه وإسقاطه على واقعنا السياسى.. عن مشروعها الروائى كان لنا معها هذا الحوار:


فى روايتك «جبل الزمرد» استعرت بعض الأدوات من ألف ليله وليلة ومزجت بين الواقعى والغرائبى. كيف نجحت فى مد خيط التناص دون الوقوع فى التقليد؟


ينبغى أن يقدم التناص جديدًا، وألّا يقلِّد النص الأصلى، بل أن يفككه ويكشف ثغراته ويلعب عليها لطرح أسئلة تخص الكاتب وتنبع من انشغالاته هو، أى أن يكون التناص سبيلًا لتقديم سردية مضادة للنص القديم تجعلك تنظر إليه بعين مختلفة. أنظر بحذر وتشكك إلى النصوص التى تحاكى لغة «ألف ليلة» مثلًا، أو تستعير بنيتها أو منطق التخييل فيها بامتثال دون محاولة للتمرد على هذا العمل الإشكالى الحافل بالصراعات والتناقضات والتركيب.«جبل الزمرد» سردية مضادة لألف ليلة وليلة، وكان هذا طموحى حين بدأت كتابتها، رغبت فى أن يكون لروايتى أسئلتها الخاصة ولغتها المختلفة، وحتى نمط تخييلها المغاير عن مخيلة الليالي. كان هدفى تفحص العلاقة بين الشفاهى والكتابى، انطلاقًا من أفكار جاك دريدا و«محاورة فايدروس» لأفلاطون، ولم أجد أفضل من درة النصوص الشفاهية المتوارثة كى يكون تكئة لهذا التفحص. أردتُ أيضًا التوقف أمام مفهوم التحريف والعلاقة بين «الأصل» (المفترض) وصوره المختلفة، وكانت «الليالي» نقطة انطلاق مثالية لهذا الهدف أيضًا، وللتأكيد على هذا يكفى تأمل الفروقات بين الطبعات المختلفة منها، أو لنقرأ طبعة محسن مهدى مثلًا ، ونحاول المقارنة بينها وبين الطبعات ذات الحكايات المضافة.


 الشخصيات الرئيسية فى الرواية نساء.. ما مدلول ذلك فى فلسفتك فى الكتابة؟


فى وجه من وجوهها، تضمر «جبل الزمرد» نزعة لتأنيث العالم، لا يتعلق الأمر فقط بأن الشخصيات المحركة للأحداث والممثلة للتحول والتغيير، بل والزلزلة، فى عوالم الرواية نساء، بل يمتد هذا إلى بنية العمل والمسكوت عنه فيه.


 فى رواية «أخيلة الظل» قلت إن «الكتابة هى محاولة لنحت تمثال ثلج عند خط الأستواء».. ألا يدخل هذا التعبير فى دائرة الجنون وأنت تعرفين النتيجة مسبقًا؟


هذا الرأى يخص إحدى شخصيات العمل، ومع هذا يمثلنى ويعبر عن نظرتى أنا الأخرى للكتابة. هى فى نظرى سعى شاق وممتع فى آن بلا نقطة وصول نهائية، يشبه الأمر تسلق جبل تعرفين سلفًا أن لا سبيل لبلوغ قمته، لأن هذه القمة مجرد سراب. لا أرى هذا أمرًا محبِطًا، بل على العكس أراه محفزًا على التجويد والسعى الدءوب، واللعب مع المستحيل.


 فى «وراء الفردوس» صور أثيرة تنهض على مفردات الجنان التى تجرى من تحتها الأنهار لكنك جعلت هذه الصور متوازية مع صورة البيت الريفى القديم.. ما تعليقك؟


لا أرى أن هذا التأويل يمثل الرواية. البيت الريفي؛ المنزل الأول وبيت الطفولة فى «وراء الفردوس» لم يكن فردوسًا حقًا، بل كان يضمر الجحيم فى داخله. الرواية تخضع مفردة الفردوس للمساءلة بشكل ضمنى وتتفحصها وتوحى بنسبيتها وقدرتها على أن تحتوى على نقيضها. لو كان الماضى وبيت الطفولة فردوسًا لما مثَّل كل هذا العبء النفسى على البطلة؛ سلمى رشيد، ولما بدأت الرواية بحرق سلمى للصندوق الذى يضم أوراق العائلة (ذاكرتها؟).


 «كاتبة الحافة - المنضبطة والصارمة».. هكذا وصفتك الكاتبة عبلة الروينى.. ألا ترين أن هذا الوصف يقيد الخيال ويحد من الرومانسية وهما من أدوات الكاتب؟


الوصف يعبر عن رؤية الصديقة العزيزة عبلة الروينى لشخصيتى كإنسانة وكاتبة، ومن وجهة نظرى أنه لا يوحى بتقييد للخيال أو بانضباط مبالغ فيه، لأنه يشتمل على الموازنة بين نقيضين هما العيش والكتابة على الحافة، بما يعنيه هذا من مغامرة ومخاطرة وبين الانضباط والصرامة اللتين أراهما ضرورة لأخذ النفس بجدية شرط أن يشتملا على قدر كبير من المرونة. عن نفسى تعجبنى مقولة بورخيس: «أكتب بجدية الطفل الذى يلهو» لأنها تدمج بين الجدية ولهو الأطفال، وتصلح لتوصيف علاقتى بالكتابة.


 كيف تحافظين على إبداعك من شبهة التصحيف وهو المأزق الذى يعانى منه معظم المبدعين الصحفيين؟


إن كنت تقصدين بهذا عدم الانزلاق إلى اللغة الصحفية التقريرية، فربما يكون ما ساعدنى أنى أكتب فى جريدة أدبية، مما يعنى أن اللغة المستخدمة أقرب للغة الأدب منها للغة الصحافة. الأمر الآخر، أنى مولعة باللغة العربية وصلتى قوية بكتب التراث والمعاجم القديمة، قراءة صفحات من «لسان العرب» ومؤلفات الثعالبى والجرجانى وابن جنى والشعر القديم وكتب الجاحظ والتوحيدى عادة يومية عندى، لا يعنى هذا تكلف لغة تراثية أو فصاحة متكلفة منقطعة الصلة بنبض العصر الحالى، بقدر ما يعنى تنمية ذائقة لغوية ودراية دقيقة بتاريخ المفردات وبدرجات التباين الطفيفة بين المترادفات، وتعزيز الحساسية الأسلوبية الخاصة. لكن من جهة أخرى، وعلى عكس الشائع أرى أن العمل فى الصحافة أفاد لغتى وضاعف من دقتها خاصة أننى أحرر قسم الكتب فى الجريدة منذ 2003.


 النقاد يصفون أسلوبك فى الكتابة بـ«الغرائبية».. هل لأن الواقع أصبح ضيقا، أم هو تمرد على الأدب الرفيع بمفهومه القديم؟


أتحفظ على التصنيفات والخانات الجاهزة، لأنها تؤدى فى الغالب إلى الاستسهال. تصنيف مثل الغرائبية (ينطبق هذا على أى تصنيف آخر) يملك من السطوة ما يمنع قراءة النصوص من داخلها، بمعنى أنه حين توصف كتابة كاتب ما بأنها غرائبية، وحدث أن كتب هذا الكاتب رواية واقعية ستجد من يصنفها كرواية غرائبية بحكم العادة، لأن ما استقر فى الذهن أنه يكتب كتابة غرائبية أو مفارقة للواقع. التصنيف فى هذه الحالة يسبب نوعًا من انعدام الرؤية. من جهة أخرى، غلبة الكابوسى أو الغرائبى على كثير من نصوصى ينبع من رؤية فنية تنحاز للتخييل والتركيب وتفكيك الواقع وإعادة تركيبه، لا علاقة للأمر بضيق الواقع من عدمه. فى ما يخص التمرد على الأدب الرفيع، فرغم تحفظى على المصطلح، أرى أن الغرائبية لا تتعارض معه، وإلّا كنا أخرجنا كتابًا مثل كافكا وبورخيس وكورتاثر وبولجاكوف من إطار ما يُسمَّى بالأدب الرفيع. أتذكر أننى كنت قد أشرت قبل سنوات إلى التمرد على ما يطلق عليه «الأدب الرفيع"، ولكنى لم أقصد بهذا الغرائبية نفسها، وإنما اتساع دائرة الإلهام لتشمل الـ"بوب آرت» وأنواع أدبية لطالما طُرِدت من جنة «الأدب الرفيع».


 باعتبارك من جيل الكتاب الجدد ما رأيك فى مقولة «نحن لا نكتب إلا عن ذواتنا لأنها الشئ الوحيد الذى نعرفه» هل هى منصفة للإبداع أم ظالمة له؟


لا أومن بالتصنيفات الجيلية ولا بتقسيم الكتاب عبر معيار السن، لكن فى ما يخص هذه المقولة، فمنذ بدأت الكتابة وأنا أكتب على النقيض منها، فى أعمالى الإبداعية لا أكتب سيرة ذاتية، وشخصياتى الفنية مخترعة فى معظمها، هذا بخلاف أن التخييل الجامح شرط أساسى فى الكتابة التى تلفت نظرى كقارئة. وبعيدًا عن هذه المقولة، اعتاد هيمنجواى أن يقول «اكتب عن ما تعرف"، فى حين يرى آخرون، وأنا منهم، أن على الكاتب أن يخوض فى غير المألوف له، ودوره أن يعرف ويبحث ويتعلم جديدًا كل يوم.بالعودة للمقولة الأولى التى أشرتِ إليها فى سؤالك، أنا لا أحكم على من ينطلق منها، فقط أقول إنها لا تمثلنى ولا تعبر عن كتابتي. وبشكل عام لا أفضل الكتابة انطلاقًا من أفكار جاهزة مسبقة. بطبيعة الحال، كل كاتب ينطلق من ذاته؛ مما يؤثر فيها ويستفزها أو يحركها، لكن هناك من يبتعد عن نقطة الانطلاق الأولى هذه لخلق عوالم أوسع وأكثر تركيبًا، وهناك من يجيد الحفر فيها (أى فى ذاته) للوصول إلى مشتركات إنسانية تمس البشر جميعًا ويتمكن الآخرون من رؤية انعكاساتهم فيها، فى حين أن هناك نوعًا ثالثُا يكتب من شرنقة الذات دون حتى إجادة رؤيتها أو التبصر فيها. الفيصل هنا يكون عبر قراءة النصوص نفسها والحكم عليها من داخلها والابتعاد عن الأحكام العامة والمطلقة قدر الإمكان.


 وما أخطر ما يهدد هذا الجيل الجديد؟


أخطر ما يهدد أى كاتب، بغض النظر عن مسألة الأجيال هذه، الارتكان للمألوف وعدم وضع أفكاره عن الكتابة موضع الشك والتساؤل من وقت لآخر، وعدم السعى لتطوير الذات، وإهمال القراءة والبحث.


 الوسط الأدبى والصحفى ذكورى جدًا.. هل تعانين من هذا الكمد؟


أعيش وأعمل فى عزلة اختيارية شبه كاملة عن الوسطين الأدبى والصحفي. ما يهمنى وما انشغل به بالأساس نصى الخاص. أنا واعية بالطبع للعقلية الذكورية السائدة فى كافة الأوساط فى مجتمعنا، وتفكيكها إبداعيًا وفنيًا من منطلقات الكتابة عندى، فالرد الأمثل عليها يأتى عبر الإبداع ومن خلال تنقية الذات من شوائب الفكر الذكورى، وليس بالتشكى والبكائيات. 


 عن مجلة "الإذاعة والتليفزيون".. 25 يوليو 2019.


No comments:

Post a Comment