Friday, October 21, 2016

البنت الأخرى ولم أخرج من ليلي: سر آني إرنو





منصورة عز الدين

تبدو الروائية الفرنسية آني إرنو كأنما تعرف ما تريده من الكتابة بالضبط، والأهم أنها تعرف كيفية تحقيقه، فوفقاً لجملتها الشهيرة "ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنىً وقيمةً، وجعله في النهاية لا يُنسى."، وهذا ما تقوم به، إذ تمنح لجروحها معنى وقيمة عبر الكتابة، ولا تكف عن تشريح الذات والعلاقات بنفاذ بصيرة يصل حد الاستبصار.
وأنا أقرأ آني إرنو، أتذكر جملة جوان ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب على الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، إنظر بعينيّ، غير رأيك!"

مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد على التخييل والبنية المركبة على عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين أن إرنو تكتب ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر دون حاجة إلى التخييل، كما تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين أو بالتأثير فيهم، وإن كانت تنجح في هذا، إذ يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها صوتاً.
تكتب عن علاقتها بأمها في "امرأة" فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض على جوهر العشق إن كان له جوهر.

في تقديمها لترجمتها لـ"الحدث" تصف الشاعرة هدى حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملاً لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة."
وفي تقديمها لترجمتها لـ"البنت الأخرى و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتى خُيِّل إليّ أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي."

أنا أيضاً ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب.
إلّا أن التماهي بيني وبين إرنو تضاعف أثناء قراءة "البنت الأخرى" (صدرت بالفرنسية في 2011) لسبب أساسي هو أني فقدتُ أختاً صغيرة مثلها، وكتبت عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن مجموعتي القصصية الأولى. الفارق أني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت" بعامين، ولم تعرف بأمرها سوى وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن لمن خنقتها الدفتيريا.

ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"، تبدأ آني نصها "البنت الأخرى" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت، وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا/ هي. وهو الالتباس المهيمن على النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ على الذهن حين نقرأ عنوان "البنت الأخرى" هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير أننا نكتشف لاحقاً أن الكاتبة تقصد نفسها بـ"البنت الأخرى"! فالذات تخلت عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلى الهامش.

علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقاً لإرنو، حيث لا يقرها سوى السجل المدني. "لكنك لست أختي، لم تكوني أبداً أختي. لم نلعب سوياً ولم نأكل سوياً ولم ننم سوياً. لم ألمسك أبداً، ولم أعانقك. لم أرَ أبداً لون عينيك. لم أركِ أبداً. أنت بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في فوتوغرافيا الأبيض والأسود."

المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره. "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."، لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف بوجوده، ما لم تره سوى كغياب تام مخبَّأ في قلبيّ الأب والأم باعتباره سرهما الأعظم؟
تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا عليها هي: "ليس لكِ وجود إلّا عبر بصمتكِ على وجودي. أن أكتبكِ هو ألّا أتعدى معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة."

اللافت أن آني إرنو تصف نصها، في أكثر من موضع، بالرسالة. وهو فعلاً رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو أن "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة بفوحان الشكوى، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلى أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك."

هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها، فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلى العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية على إنجاب طفل واحد فقط.

النص الثاني الذي يضمه الكتاب الصادر مؤخراً عن دار أزمنة، هو "لم أخرج من ليلي" الذي سبق أن صدرت طبعته الأولى عن المركز القومي للترجمة، وتسرد فيه إرنو قصة مرض أمها بـ"ألزهايمر" وتفاصيل إقامتها في قسم المسنين بمستشفى "بونتواز". الكتاب، الصادر بالفرنسية عام 1997، كُتِب على هيئة يوميات أثناء مرض الأم التي يعرفها قراء آني إرنو جيداً عبر نص "امرأة". في "لم أخرج من ليلي" يتعرف القراء على وجه آخر للسيدة دوشاسن هو وجه المرض والأفول، وعلى ملمح مختلف من علاقة الكاتبة بها.

سواء في "البنت الأخرى" أو "لم أخرج من ليلي"، تحافظ آني إرنو على سرها الخاص ككاتبة تجيد النفاذ إلى أعماق المشاعر الإنسانية بكل تعقيدها. وأخيراً تبقى الإشارة إلى المقدمة الكاشفة التي قدمت بها نورا أمين النصين، والتي تعد مدخلاً مثالياً للتعرف على إرنو وعالمها الأدبي.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب"...

Friday, October 14, 2016

ذبابة في الحساء: الحرب لعب أطفال وفأر التجارب يكتب الشعر






منصورة عز الدين

يفتتح الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك سيرته الآسرة "ذبابة في الحساء"، الصادرة مؤخراً عن الكتب خان بترجمة للشاعرة إيمان مرسال، بالتأكيد على عادية قصته ومألوفيتها. "قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة. لقد تشرد كثير من الناس في هذا القرن. أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة، سيكون مستحيلاً أن أدعي تميز وضعي كضحية، أنا أو أي شخص آخر، إذا أردت الصدق."

غير أن ما يكتبه يعد درساً في تحويل العادي والمكرر إلى فن خالص، واستخلاص الفرادة من قلب ما قد يحوله الكثيرون إلى كليشيهات.
واللافت أن سيميك قادر أيضًا على جعل من لم يمروا بتجاربه نفسها شركاء له فيها، كأنهم اختبروها وكانت جزءاً من تاريخهم الشخصي، ربما لأنه يلتقط التفاصيل الإنسانية البسيطة، ويعبر عن اشتهاءات البشر وآلامهم (أياً كانت مسبباتها) بصدق وبراعة.

يبدأ المؤلف كتابه بطفولته في بلجراد خلال الحرب العالمية الثانية، حيث الموت حدث يومي، والخراب في كل مكان، والقصف لا يكاد يتوقف، لكن ما يتوقف أمامه، هو ما يتجاهله الآخرون غالباً في كتابتهم عن فترات مماثلة.
قد يشعر البعض بأن سيميك يرصد سعادات الحرب وجماليات العيش في ظلها! لكن هذا ليس بالتوصيف الدقيق، ربما الأدق اقتراح أنه يقدم وجوهاً أخرى للحرب، ويبرهن على كيف يمكن للإنسان أن يخترع سعاداته الخاصة رغماً عنها وعلى هامشها. كيف يمكن له أن يتمرد على تأطيره في خانة الضحايا وينقل نفسه إلى خانة الناجين حتى ولو مؤقتاً.
تلك آلية مقاومة يبرع فيها الأطفال والاستثنائيون، وسيميك ماهر في تقمص الطفل الذي كانه وفي التعلم منه.

يقدم صاحب "المسخ يعشق متاهته" الحرب في أكثر من موضع باعتبارها لعب أطفال. حيث تتحطم القيود التقليدية وتتيح الفوضى للصغار مساحة للّهو. يكتب سيميك:
"وفر لنا زمن الحرب ملاهٍ للرياضة وزحاليق وبيوتاً خشبية وحصوناً ومتاهات يمكن العثور عليها في ذلك الخراب عبر الشارع. كان هناك جزء قد تبقى من الدرج، كنا نصعد بين الحطام وفجأة تظهر السماء! (.....) نجلس بسعادة بين أطلال غرفة طعام شخص ما بالدور الثالث، يأتينا من الشارع تحتنا صياح واحدة من أمهاتنا وهي تشير إلينا بينما ابنها يهرول إلى أسفل مجاهداً في تذكر أين كان يضع قدميه أثناء الصعود. كنا نلعب جنوداً، استمرت الحرب. نزلت القنابل. ولعبناً جنوداً."
وفي موضع آخر يكتب عن جلوسه في بيت جده لأكل البطيخ والتفرج على المدينة وهي تحترق. "يصر جدي أن أجلس بجانبه. يقطّع لي الجبن ويعطيني رشفة من النبيذ الأحمر بينما نصغي لأصوات الانفجارات المكتومة."

قد يخطر في بال قارئ ما تساؤل: هل فِلتر الزمن والمسافة بين المرء وبين أهوال الماضي هما المسئولان عن هذه النبرة المسيطرة على الكتاب؟
وهو سؤال مشروع، لكن أولاً، كلمة أهوال تبدو مبالغاً فيها وناتئة هنا، فسيميك يصور أحداث ماضيه، بحلوها ومرها، كما لو كانت مسرات وسعادات رسبتها الذاكرة، لا مكان عنده للتفجع أو الإنشائية. وثانياً، من الواضح أن المسألة لا علاقة لها ببعد المسافة الزمنية (ليست العنصر الحاسم على الأقل)، بل بسيميك نفسه وعينه المختلفة، فعلى امتداد الكتاب نلحظ عصاميته الفكرية وتشبثه بفرديته وحقه في العثور على صوته الخاص والتمسك بعينه المختلفة عن الآخرين. يمكن تلمس هذا بوضوح حين يحكي عن معاناته في تطوير شعره وسعيه للافلات من التكلف والتقليد وصراعه مع الكلمات واللغة. كما أن ما يذكره من أحداث وتفاصيل من فترات زمنية لاحقة، وبالتالي أكثر قرباً، مغلف بالمزاج نفسه.

***

أكثر ما يلفت النظر في "ذبابة في الحساء" إذن هو الإعلاء من شأن المتع الصغيرة والمسرات العابرة التي تخللت أصعب اللحظات ولونتها بلونها، كأن المؤلف مبرمج جينيًا على اقتناص الملذات في أحلك الظروف. أقول جينيًا لأن كثيرًا من أقاربه، ممن يذكرهم في كتابه، يشبهونه في إقبالهم على متع الحياة واقتناصهم لها وتحايلهم على المصاعب كل على طريقته الخاصة، وعلى رأسهم: والده المولع بالأطعمة الشهية والملابس الفخمة والحياة المرفهة، بغض النظر إن كانت إمكاناته المادية تسمح بها أم لا. والعم بوريس الذي كان بمقدوره "أن يجعل الأم تريزا تضرب بعصا البيسبول"، والذي كان بيته عامراً دائماً بالطعام والنبيذ الوفير. ونانا، خالة أمه، بطة العائلة السوداء ومبذرة الأموال باستهانة، التي كانت تتخذ من المسبات والألفاظ البذيئة وسيلة مقاومة.

من بين ملذات الحياة العديدة يحتل الطعام المكانة الأولى لدى سيميك. يرد لفظ الجنة وتعريفها أكثر من مرة في سيرته هذه مقترناً بأطعمة لذيذة، كما مثّل الأكل دوماً عزاءً مثالياً له، لذا خصه بفصل كامل، افتتحه بـ: "يمكن للمرء أن يكتب سيرته الذاتية عبر وصف كل وجبة استمتع بها في حياته، وستكون قراءتها أكثر متعة مما نقرأه عادة. بصدق، ما الذي تفضله، وصف أول قبلة أم الكرنب المطبوخ بإتقان؟"
وهذا ما يفعله تقريباً في هذا الفصل، إذ يكتب سيرة مختصرة لنفسه عبر أشهى الوجبات التي تناولها في حياته، ومنها: بوريك دوبروساف سيفيكوفيتش، وكيك الكريم، لفائف الكاسترد وغيرهما من أطعمة قضى يوم 9 مايو 1950 يأكلها مع صديق له متنقلين من مخبز لآخر، ومكرونة لينجويني مع الأنشوجة ونبيذ صقلية الأحمر.

رغم كل هذا، لا يتغافل سيميك عن صعوبة وضعه كلاجئ ثم كمهاجر، يرصد حاله البائس وملابسه الرثة خلال الفترة التي قضاها مع أمه وشقيقة في باريس في انتظار الهجرة لأميركا للحاق بأبيه، حيث قدمت له السينما عالماً خيالياً بديلاً عن واقعه المهترئ. ويذكر أن والده اعتاد ممازحته بسؤال: أين ستهاجر المرة القادمة؟ فـ"مازالت تجربة القرن العشرين في المنافي مستمرة. من هم مثلنا كانوا حيوانات تجارب. أغرب ما في الأمر، أن يقوم واحد من فئران التجارب بكتابة الشعر."


"ذبابة في الحساء" كتاب واجب القراءة، خاصة أن ترجمة إيمان مرسال السلسة، تتسم بأهم سمات الترجمة الجيدة: ألّا تشعر بوجود وسيط بينك وبين الكتاب، كأنه مكتوب بلغتك.

زاوية "كتاب" نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب"...

Friday, October 7, 2016

طُبِع في بيروت: تأريخ ساخر وحبكة بوليسية






منصورة عز الدين


في روايته الجديدة، "طُبِع في بيروت، الصادرة مؤخراً عن دار الساقي، يواصل الروائي اللبناني ولعه بالأبطال ملتبسي الهوية وبرصد لحظات الأفول سواء لعائلات عريقة أو لمجتمعات كاملة، راسماً كعادته شخصيات روائية يصعب نسيانها. وعلى رأس هذه الشخصيات فريد أو شَعر، الشاعر الخيالي العائش فوق الغيوم، وعبد الله وريث مطبعة "كرم إخوان" وزوجته الجميلة بيرسيفون ذات الأصول اليونانية.
حتى الشخصيات بالغة الهامشية مرسومة ببراعة لافتة مثل الناشر الأول الذي عرض عليه فريد أبو شَعر مخطوط ديوانه، ففي لمحة خاطفة نعرف أنه صاحب ذاكرة خرافية، يحفظ معلقة زهير بن أبي سلمى عن ظهر قلب، ضجِر وحاسم في رفض كتاب فريد قبل حتى أن يقرأه.

منذ بداية الرواية تتجلى السخرية التي يُقارب بها صاحب "مطر حزيران" بطله فريد: "في عز صيف لاهب استبد بمدينة بيروت في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، نزل شاب مرفوع الحاجبين المقوسين كأنه يومئ دائماً بقول لا، من باص للنقل المشترك لُصق على جانبيه إعلان "لا تنسوا المخطوفين والمغيبين قسراً ومعوقي الحرب"، وهو يحمل إلى جهة القلب من صدره دفتراً سميكاً غلافه أحمر، كمن يعلق بعنقه يداً مصابة بكسر أو بطلق ناري."
يوحي هذا المفتتح بأن حياة فريد تبدأ مع نزوله من "الباص" برفقة مخطوط كتابه، للبحث عن ناشر. ورغم أن وصف حاجبي البطل المقوسين يقربه من الكاريكاتير، إلّا أن الدويهي حريص طوال الوقت على ألّا تصل سخريته إلى هذا الحد، فينجح في كشف الجانب الهزلي من شخصية بطله دون المخاطرة بتسطيحه.

التباس الهوية هنا لا يتوقف عند فريد - المنتمي باللقب لعائلة بارعة في الشعر والأدب، قبل أن يكتشف أن أصوله مجهولة – بل يتعداه إلى عبد الله كرم، وريث المطبعة، إلّا أن التباس هوية الأخير اختياري وقصدي، إذ أسقط جده حرف الواو من اسمه "كرّوم"، "وبشطحة قلم صار ابن تاجر الحبوب الحلبي بالمفرق لبنانياً مسجلاً في حي المدور ببيروت من دون أن يكون قد سكن فيه يوماً. ادعى أنه ماروني لشعوره بأن طائفة السريان الكاثوليك التي ينتمي إليها أهله وتتكلم والده لغتها بطلاقة قلة قليلة لن يكون لها شأن يذكر في دولة لبنان الكبير الجديدة." هذا الالتباس المتكرر بطرق مختلفة، من عمل لآخر، أشبه بضربة مسددة بإحكام في وجه الطائفية ومهووسي الهوية النقية.

العنوان الواضح ظاهرياً، مخاتل في باطنه، وينطوي على مفارقة ساخرة، يكشف التمعن فيها عن تأويلات جديدة للرواية. يوحي الدويهي لقارئه على امتداد صفحات روايته وعبر عنوانها أنه يؤرخ للطباعة في بيروت روائياً، وربما قد يخلص قارئ ما إلى أن "طُبِع في بيروت" مرثية لطرق الطباعة القديمة ولتاريخ بدأ يندثر، لكن في ظني أن المسألة أبعد من هذا، وأن التأريخ للطباعة حيلة فنية وخلفية يؤثث بها الكاتب روايته للوصول إلى ما هو أبعد فنياً: التلاعب والسخرية.
ففي النهاية، ندرك أن ما "طُبِع في بيروت" هو النقود المزورة لا ديوان فريد أبو شَعر، حتى وإن كانت قد طُبِعت منه نسخة واحدة فاخرة. وصحيح أن حالة النشر الراهنة، كما تتبدى في الفصل الأول، لا تبشر بخير، غير أن المسألة لا علاقة لها بالرثاء، فالمشاهد مغلفة بالسخرية، وآداء فريد أبو شَعر وكليشيهاته ورومانتيكيته المختلطة بالسذاجة لا تسمح لنا بافتراض أن العالم سينقصه شيء لو لم يُنشَر ديوان "الكتاب".

ما يهم جبور الدويهي، هو إحكام الخط البوليسي لروايته وتمتين حبكته، ورمي التفاصيل والمفاتيح برهافة، لتتجمع الخيوط معاً في النهاية، ويتعمق الهزل والسخرية.

غير أن الكلام عن خط بوليسي في "طُبِع في بيروت" لا يعني أننا أمام رواية بوليسية، أو على الأقل ليست كذلك بالمعنى الشائع، وإن كان المؤلف يسجل ولع بيرسيفون بروايات "السلسلة السوداء"، وبالجملة المكتوبة على غلافها الأخير: "روايات رجال الشرطة فيها أكثر فساداً من المجرمين والمحقق المختص لا يحل اللغز دائماً، هذا إن وُجِد اللغز أو وُجِد المحقق." فإن هذه الجملة، في نصفها الثاني تحديداً، تتصادى مع "طُبِع في بيروت" في سخريتها، وفي أن المهم ليس حل اللغز وعقاب المجرمين، بل المعمار الروائي لهذا "اللغز"، والمزج بين أساليب وأنماط كتابية مختلفة، وشد خيوط الرواية معاً والمحافظة على تشويقها وهزلها الكاشف عن حماقات البشر، ففريد، الذي قضى خمس سنوات في السجن عقاباً على جُرم لم يرتكبه، يظن أنه بهذا أنقذ بيرسيفون ولم يش بها، كما اعتقد، خلال التحقيق معه، أن التهمة مجرد ذريعة للسطو على ديوانه.

زاوية "كتاب".. نقلاً عن "أخبار الأدب"..