Sunday, December 13, 2020

جبل الزمرد: حكاية هي اللعنة والتعويذة

 


أحمد منير


إن كان ولابد أن تتحفظ وتحاول جاهدا أن تخفي إعجابك الكبير بعمل ما، حتى تستقر وتهدأ من كثرة ما أثار بداخلك من دهشة وزخم جمالي وفني، فسيكون هنا في هذا العمل الذي يفاجئك بالدهشة من أوله حتى آخره. أكثر ما تقدمه الروائية البديعة منصورة عز الدين من فرادة وتميز في هذا العمل ثلاثة أمور حسبما أرى، أولها هو ليس فقط اختيار العمل الأبهى والأجمل والأكثر زهوا في تاريخ الحكي كي تشتبك معه، وأقصد طبعا "ألف ليلة وليلة" إنما هي حسبما أرى تتجاوز ذلك الاشتباك لصناعة جمال وزهو سردي مقابل لليالي نفسها، هي تنطلق من أرضية الليالي لا لتتماهى معها أو تغرق فيها، إنما كي تصنع جمالية حكايتها الفريدة مثلما فعل نجيب محفوظ في رائعته "ليالي ألف ليلة"، فكما خدعنا محفوظ وقدم لنا روايته على أنها ليلة من الألف، بينما انطلق يغرد ويعزف ليقدم حكايته الخاصة والفردية والتي لا تقل جمالا عن ليالي الألف، هكذا توهمنا منصورة أيضا أن حكايتها هي الحكاية الناقصة من كتاب الليالي، لنُفاجَأ بها تصنع حكايتها المتفردة من نفس عجينة حكايات الليالي بعد تفكيكها وإعادة خلقها لا بعثها، وهذا يدفعنا نحو الميزة الجمالية التالية وهي أن منصورة لم تصنع حكاية تطاول حكايات الليالي فقط وإنما صنعتها عبر لغة وأسلوبية تخص حكايتها وروايتها، لغة سلسة منسابة من السطر الأول للرواية حتى آخرها، لغة لا تشبه لغة الليالي ولكنها تخلق نفس السحر وتزخمك بنفس الزخم الخيالي، ثم إنها على مستوى السرد وإن اعتمدت على ميزات فنية وجمالية في أسلوب السرد المتناسل أو الحكاية التي تتوالد من الحكاية، لكنها صنعت خطيّ سرد متوازيين يتقاطعان ويتشابكان في النهاية لينتجا الحكاية النهائية التي تصنع هذه الحكاية الناقصة المزعومة، فتظل منصورة منذ سطر الرواية الأول تغزل الخيط تلو الخيط كي تجمع كل خيوط الحكاية متقاطعة في النهاية عبر زمنيْ السرد لتطلق تعويذتها الخاصة لتعيد بعث الحكاية المفقودة إلى كتب الليالي من جديد. الميزة الثالثة للرواية حسبما أتصور هو هذا الزخم الذي تقدمه على مستوى الأسئلة ومستويات القراءة، فالرواية يمكن قراءتها على أكثر من مستوى، لمن يريد فقط أن يستمتع بالحكاية التي تمزج ببراعة ما بين الواقعي والخيالي، وما بين الماضي والحاضر، وما بين اليقظة والحلم، وما بين السلف والخلف، كل ذلك في ضفيرة جميلة متواصلة، فقضية التواصل هي قضية محورية تقدمها الرواية كسبب رئيسي في اللعنة التي تلحق بالأميرة زمردة محط اللعنة وصاحبة الرواية المفقودة، حيث كان حلم وصل جبل قاف الأسطوري بالعالم والذي سعت له زمردة فكان سبب لعنتها، كما أن الرواية تطرح مستويات أخرى للقراءة وأسئلة وإشارات حول عدة قضايا مثل الوراثة واللعنات المتوارثة، وتحريف الحكايات وتناقلها، ومحورية الأنثى في خلق العوالم الخيالية والواقعية، والحدود الفاصلة ما بين الخيالي والواقعي، والأزمنة بماضيها وحاضرها ومستقبلها، وفكرة تناسخ الأرواح والعوالم المتوازية، والمزيد من الأسئلة التي تتناسل وتتوالد كما تتناسل وتتوالد الحكايات أيضا في الليالي وفي الرواية. الحكاية في الرواية هي اللعنة والتعويذة، وهي الداء والدواء، والأسئلة في الرواية كذلك، هي البداية والنهاية أيضا، فهي دائما بلا إجابات قاطعة ولا أقواس مغلقة، مثل جميع شخصيات الرواية البشرية والحية، والغارقة في لعناتها وشكوكها وأسئلتها وحيرتها المتواصلة، منذ الأجداد وحتى الأحفاد، ومنذ التاريخ وحتى الحاضر والمستقبل، لعنات وأسئلة حول ما كان يمكن أن يكون وما قد كان، وحول ما كان يجب وما وقع، وحول المأمول والحاصل، وحول وحول، في امتداد وتناسل للأسئلة المتشككة الضائعة في اللا يقين، فالرواية تتركك مع كل شخصياتها في حيرة ودهشة وكأنها بدأت بعد ما انتهت، كل ذلك عبر رحلات تبدأ ولا تنتهي، فالشخصيات كلها في رحلة، التاريخي منها والآني، فما بين رحلات بلوقيا والباحث عن الليل والراعي وزمردة ومروج ورحلات أهل جبل قاف وأحفادهم بين الجبال، ورحلات بستان البحر وهدير ونادية وكمال، ورحلات حتى الشخصيات التي لم تنتقل مكانيا لكنها ارتحلت ولا تزال من ماضيها إلى حاضرها داخليا مثل شيرويت الجدة، وكأن الرحلة هي أيضا لعنة مصاحبة ومكتوبة ومستمرة، وكأنّ ذلك إسقاطا ودفعا لرحلتك الواجبة أنت نفسك مع ذاتك ومع الرواية التي بدأت ويبدو أنها لن تنتهي. جبل الزمرد تستحق حصولها على جائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة الدولي للكتاب 2014، وهي رواية فارقة ومدهشة وتستحق القراءة والاحتفاء.

Friday, September 25, 2020

دوار. أحاسيس.. ف. ج. زيبالد

 


يعد الكاتب الألماني فينفريد جيورج ماكسميليان زيبالد (1944-2001) واحدا من أبرز الكتاب الذين تركوا بصمة واضحة في الأدب العالمي المعاصر. انتقل في منتصف الستينات للعيش في إنجلترا وعمل مدرسا للأدب الألماني في جامعة نوريتش بشرق إنجلترا. ولم يظهر نتاجه الأدبي إلا في نهاية الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الماضي وقد حظي باهتمام كبير في العالم الأنجلوساكسوني أي في إنجلترا والولايات المتحدة وخصوصا عبر تقديم سوزان سونتاغ لأعماله، قبل أن يحتفي به النقد الأدبي الألماني. وقد حصل على جائزتي هاينريش هاينه وهايتريش بول وأصبح عضوا في الأكاديمية الألمانية للغة والشعر. كتاب"دوار. أحاسيس" الصادر عام 1990 هو العمل الأدبي الثاني لزيبالد بعد ديوانه الشعري “بعد الطبيعة”، وهو أول عمل سردي تخييلي يكتبه بعد سنوات طويلة من الكتابة الأكاديمية عن الأدب الألماني والأوروبي. صدرت له باللغة العربية حتى الآن "المغتربون" و "حلقات زحل". المقتطف التالي من الفصل الثالث في الكتاب "رحلة اصطياف د. ك. إلى ريفا"، حيث يزور د. ك (كافكا) مصحة للعلاج بالماء ويتوصل خلال إقامته هناك إلى فلسفته الخاصة عن الحب:


مقتطف من رحلة اصطياف د.ك. إلى ريفا


ف. ج. زيبالد

ترجمة أحمد فاروق

 

ف. ج. زيبالد



"في أعقاب ذلك اليوم المحبط للغاية له ولسكان ديسينزانو على السواء، يقضي د. ك. ثلاثة أسابيع في مصحة د. "هارتونغن" للعلاج بالماء في "ريفا"، التي وصلها بالباخرة قبل حلول المساء. يقود خادم يرتدي مريلة خضراء طويلة مربوطة من الخلف بسلسلة صغيرة من النحاس الأصفر د. ك. إلى غرفته، التي يطل من شرفتها على البحيرة الراقدة في سكون تام مع حلول الظلام. الآن كل شيء أزرق في أزرق، ولم يبد أن ثمة شيئا يتحرك، ولا حتى الباخرة، التي غادرت الميناء وقطعت مرة أخرى مسافة بعيدة في الماء. في الصباح يبدأ بالفعل في ممارسة الروتين اليومي للمصحة. بقدر الإمكان يسعى د. ك. بين الحمّامات الباردة المختلفة

 


(3 (صور للحمامات الباردة)

 

والعلاج الكهربي الموصوف له إلى أن يغرق تماما في السكون، لكن معاناته مع فيليتشه ومعاناتها معه،



 (4)صورة أخرى لحوض استحمام)

 

تسقط عليه مرار وتكرارا مثل كومة مجمعة من شيء حي. في أغلب الأحيان عند الاستيقاظ، ولكن أيضا أثناء الوجبات، يحدث أنه يظن أنه مشلول ولا يعود يستطيع الإمساك بأدوات المائدة.

 

وبالمناسبة يجلس على يمين د. ك. جنرال مُسن، يصمت معظم الوقت، لكنه يدلي من حين لآخر بملحوظات عميقة ذكية. وهكذا يقول ذات مرة، مباشرة بعد أن يرفع بصره عن الكتاب المفتوح بجانبه، بأنه لو صح ظنه، فإن مجالا شاسعا ومليئا بالمعطيات الغامضة يمتد بين منطق لعب الأطفال في صندوق الرمل ومنطق التقرير الحربي، وهو على دراية بكليهما أكثر من أي شيء آخر. تحسم تفاصيل صغيرة، تفوت على إدراكنا، كل شيء! وحسب قوله، هكذا جرت الأمور بالضبط في المعارك الكبرى في تاريخ العالم. تفاصيل صغيرة لكنها ثقيلة للغاية بوزن خمسين ألف جندي وحصان قضوا في "ووترلو". وفي النهاية فإن المسألة كلها تتعلق بوزن معين. لدى ستندال فهم دقيق لهذا الأمر أكثر من أي هيئة أركان، والآن يتعلم هو على يده في أيام شيخوخته، كي لا يموت منعدم الرؤية تماما. ثم تحدث عن هذا التصور المجنون في أساسه بأن المرء يريد بلفة واحدة لدفة القيادة أن يؤثر على مجريات الأمور، في حين أن علاقات عديدة ومتنوعة هي التي تحدد هذه اللفة.

 

عند سماعه لمقولات جاره في المائدة، يستشعر د. ك. جيشانا خفيفا لمشاعر الثقة ونوعا من التضامن الصامت، رغم أنه يعرف أن هذه الملاحظات ليست موجهة إليه إطلاقا. واللافت للنظر أن الشابة الجالسة إلى يساره، التي يفترضُ أنها غير سعيدة بالسيد الصامت إلى يمينيها -أي به هو- تبدأ الآن في التجسد أمام عينيه. إنها بالأحرى قصيرة ومن جنوة، تبدو إيطالية جدا في ملامحها، لكنها في الحقيقة سويسرية. ولديها -كما يتبين الآن- صوت عميق داكن على نحو غريب. وفي كل مرة تتوجه إليه بالحديث- وهو أمر نادر الحدوث بما فيه الكفاية-يتبدى صوتها لـ د. ك. وكأنه دليل غير مألوف على الثقة. تبدو له في مرضها نفيسة وغالية جدا عليه. وسرعان ما يجذف معها في العصاري خارجين بعيدا إلى عرض البحيرة. ترتفع الجدران الصخرية من وسط الماء في ضوء الخريف الجميل، مع درجات من ظلال اللون الأخضر، وكأن كل المنطقة هي ألبوم. وللذكرى رسم هاوٍ رقيقُ الحس الجبالَ على صفحة فارغة، من أجل صاحبة الألبوم.

 

هناك في الخارج يحكي كل منهما للآخر تاريخه المرضي. ويمكن القول إن كليهما كان يعيش إحساسا بالتعافي المؤقت وشعورا بالتخدر اللطيف. يطور د. ك. نظرية متشذرة عن الحب غير الجسدي، الذي لا يوجد به فرق بين القرب والبعد، ويقول إنه عندما نفتح أعيننا، سنعرف أن الطبيعة هي سعادتنا وليس جسدنا الذي لم يعد ينتمي للطبيعة منذ زمن بعيد. ولذلك يتمسك الجميع بالأحباء الخطأ. ولا يوجد تقريبا سوى هؤلاء الذين يغلقون أعينهم أثناء الحب أو يفتحونها عن آخرها نهما، وهو الشيء ذاته. لم يكن البشر قط منعدمي الحيلة وفاقدين للعقل أكثر مما هم عليه في هذه الحالة. لم تعد السيطرة على التصورات ممكنة إذن. والمرء يخضع باستمرار لهوس التنويع والتكرار، من خلال تفكك كل شيء يحاول المرء أن يتمسك به، بما في ذلك صورة الشخص المحبوب. وهو ما خِبره بنفسه كثيرا جدا. الغريب بالمناسبة، هو أن الشيء الوحيد الذي يُعينه في مثل هذه الحالات التي تقارب حسب اعتقاده حد الجنون، هو أن يضع قبعة قائد عسكري نابوليونية سوداء متخيلة فوق وعيه. لكن في هذه اللحظة فإن قبعة القائد العسكري هي أقل شيء يثير اهتمامه، لأنهما هنا في الخارج وسط البحيرة فعليا دون جسد ولديهما رؤية طبيعية ثاقبة لمحدودية أهمية كل منهما.

 

ووفقا لهذه الأحاديث المنبثقة من أحلام وأماني د. ك. يتفقان على أنه لا يجوز لأي منهما أن يبوح باسم الآخر للغير وأنه لا ينبغي لهما تبادل أي صورة ولا مزقة ورق ولا كلمة مكتوبة وأنه بعد مرور تلك الأيام القليلة التي سيبقيانها معا، سيتحتم على كل منهما أن يدع الآخر يغادر ببساطة. لكن الأمر بالطبع لم يكن سهلا. وعندما حانت ساعة الوداع، قام د. ك. باتخاذ كل التدابير الغريبة، كي لا تبدأ الفتاة القادمة من جنوة في النحيب أمام كل الحضور. وعندما نزل د. ك. معها في النهاية إلى مرسى الباخرة، وصعدت هي بخطوات مهزوزة إلى سطح السفينة عبر السلم الصغير، خطر له أنهما جلسا قبل بضع أمسيات مع بعض الناس جنبا إلى جنب، وأن امرأة روسية شابة وثرية جدا وأنيقة جدا قد كشفت لهم الطالع من أوراق اللعب، وذلك من فرط مللها وقنوطها-لأن المتأنقين من الناس يكونون دائما أكثر ضياعا وسط غير المتأنقين. وكما يحدث في معظم الأحيان لم يكن في ذلك شيء مهم، بل بالأحرى الكثير من الهذر والسخافات. فقط عندما جاء الدور على الشابة القادمة من جنوة، كانت ثمة تركيبة واضحة من الأوراق. وبحسبها -كما أوضحت السيدة الروسية للفتاة- فإنها لن تكون زوجة أبدا. في هذه اللحظة كان الأمر مخيفا للغاية لـ د. ك.، لكون أن الفتاة التي خصها بكل حبه، وعندما نظرت إليه لأول مرة اسماها حورية البحر -نظرا للخضار الفيروزي لعينيها- هذه الفتاة بالذات قد تنبأت لها أوراق اللعب بحياة عازبة، رغم أنه ليس بها ما يوحي بالعنوسة. ربما باستثناء قصة شعرها -كما اعترف لنفسه الآن- عندما رآها لآخر مرة وهي ترسم له في الهواء بيدها اليسرى في غير حذق علامة النهاية، فيما ارتاحت اليمنى على سور الباخرة.

 


الآن أقلعت الباخرة وتحركت بشكل شبه جانبي باتجاه البحيرة مع إصدار عدة صافرات. كانت عروس البحر لا تزال واقفة على سور الباخرة. لم يعد التعرف على ملامحها ممكنا تقريبا وكذلك لم تعد السفينة مرئية، لم يتبق سوى الأثر الأبيض الذي خلفته في الماء، وأخذ شيئا فشيئا يخف ويتراجع. أما فيما يخص أوراق اللعب، فقد اتضح لـ د. ك. وهو في طريقه للعودة إلى المصحة، أن تشكيلته من الأوراق كانت أيضا واضحة لا لبس فيها، وخصوصا كل الأوراق التي لا تُظهر مجرد أرقام، بل تُظهر صورا لشخوص بشرية. وكل مرة تظهر في الطرف بعيدة عنه بقدر المستطاع. وفي مرة كان فقط ثمة اثنتان من هذه الصور وفي مرة تالية لم يكن فيها أي من هذه الصور، وخلال تلك المرة رفعت السيدة الروسية أثناء توزيعها الغريب جدا للأوراق بصرها ونظرت في عينيه، وقالت إنه على الأغلب أغرب نزيل في "ريفا" منذ زمن بعيد.

 

في اليوم التالي على مغادرة حورية البحر سمع د. ك. في ساعات العصر الأولى وأثناء خلوده للراحة وفق ما تحدده قواعد المصحة، تحركات منفعلة في الممر أمام باب غرفته، وبمجرد أن عاد السكون المعتاد، بدأت التحركات ثانية في الاتجاه الآخر. وعندما نظر د. ك. إلى الممر بالخارج، لكي يعرف السبب في هذا الهرج والمرج المخالف لكل عادات المصحة، رأى د. فون هارتونغن وقد تطاير معطفه الأبيض ومعه اثنتان من الممرضات وهم ينعطفون عند الركن. وعند الأصيل ساد في كل القاعات المشتركة بالمصحة جو من التحفظ الغريب وأثناء تناول الشاي التزم طاقم العمل الصمت على نحو لافت. نظر ضيوف المصحة لبعضهم البعض بشيء من الحرج، مثل الأطفال الذين يعاقبهم آباؤهم بالصمت. وعند العشاء غاب جار المائدة الأيمن لـ د. ك. جنرال الهوصار المتقاعد لودفيج فون كوخ الذي أصبح وجوده بالنسبة لـ د. ك. عادة محببة وكان يأمل في أن يواسيه في فقدان فتاة جنوة. لم يعد لديه من يجلس بجانبه إلى المائدة، وهو يجلس الآن وحده تماما مثل شخص يعاني من مرضٍ معدٍ. في الصباح التالي تعلن إدارة المصحة أن الجنرال لودفيج فون كوخ القاطن في الأصل في "نويزيدل" في هنغاريا قد تُوفي في الساعات الأولى من عصر أمس. ويعرف د. ك. من د. هارتونغن الذي أجاب على أسئلته بهذا الخصوص، أن السيد فون كوخ قد انتحر، وتحديدا باستخدام مسدسه العسكري القديم. وحسبما أضاف د. هارتونغن بإيماءة مضطربة، فإنه قد تمكن على نحو غير مفهوم من أن يصيب القلب والرأس أيضا. وقد عثروا عليه غارقا في الفوتيه الخاص به والرواية التي دائما ما كان يقرأ فيها مفتوحة على حجره.

الجنازة التي أُقيمت في 6 أكتوبر في "ريفا"، كانت بائسة. لم يكن ممكنا إبلاغ القريب الوحيد للجنرال، الذي لم تكن له زوجة ولا ولد، في الوقت المناسب. وكان د. فون هارتونغن وإحدى الممرضات ود. ك. هم حضور الجنازة الوحيدون. قام القس الذي لا يقوم عن طيب خاطر بدفن منتحر، بممارسة طقوسه على نحو غريب، فكلمة التأبين اقتصرت على رجاء واحد: فليمنح الرب الرحيم هذه الروح الصموتة والمكتئبة - هكذا قال القس وقد فتح عينيه بنظرة لائمة - الراحة الأبدية. أيد د. ك. هذه الأمنية المقتضبة التي انتهت المراسم بعدها ببضع همهمات إضافية، وسار على مسافة من د. هارتونغن عائدا إلى المصحة. سطعت شمس أكتوبر في هذا اليوم دافئة جدا، حتى أن د. ك. اضطر لخلع قبعته وحملها جانبا في يده.

بمرور السنين التالية خيمت ظلال طويلة على أيام الخريف الجميلة والمفزعة في الآن ذاته، كما كان د. ك. يقول لنفسه أحيانا. ومن وسط هذه الظلال ظهر تدريجيا مركب بصوارٍ عالية على نحو غير مفهوم وبأشرعة داكنة مجعدة. استغرق الأمر ثلاث سنوات كاملة، حتى تهادى المركب بهدوء داخلا إلى ميناء "ريفا" الصغير، وكأنه كان محمولا فوق الماء. في ساعات الصباح الأولى رسا المركب. هبط رجل بمعطف عمل أزرق إلى البر وجذب الحبل عبر حلقات المرسى. خلف البَحَار حمل رجلان آخران بمعطفين داكنين بأزرار فضية نقالة، كان من الواضح أن إنسانا قد رقد عليها تحت ملاءة كبيرة منقوشة بالورود. إنه الصياد غراكوس. لقد أُبلغ سالفاتوره حاكم "ريفا" بوصوله منذ منتصف الليل من قبل حمامة في حجم ديك، طارت على نافذة مقصورة نومه ومن ثَم إلى أذنه. غدا، هكذا قالت، سيأتي الصياد الميت غراكوس، استقبله باسم المدينة. بعد قليل من التفكير نهض سالفاتوره وقام بتحضير كل ما يلزم. والآن عندما حضر عند مطلع الفجر إلى مقر مكتب العمدة وقد أمسك بالعصا والقبعة الأسطوانية المزودة بشريط الحداد في يده اليمنى ذات القفاز الأسود، تبين برضا أن تعليماته قد اتُبعت على نحو صائب. يقف الصبية الخمسون مكونين تشريفة، في الممر الطويل. وكما أوعز له قائد المركب الذي استقبله في مدخل البيت، يرقد الصياد غراكوس مسجى في إحدى القاعات الخلفية في الطابق الأعلى، وهو رجل -كما يتضح الآن- نما شعر رأسه ولحيته في فوضى همجية. واكتسبت بشرته لونا بنيا، إن لم نقل إنها مدبوغة.

لا نعرف، نحن القراء -الشهود الوحيدين على المحادثة بين الصياد ورئيس بلدية "ريفا"- شيئا عن مصير غراكوس سوى أنه قبل سنوات طويلة جدا في الغابة السوداء، حيث تحصن من الذئاب التي كانت لا تزال تجول هناك، وأثناء مطاردته لأحد الظباء- أو ليس هذا أغرب خبر كاذب في كل الحكايات التي يمكن قصها؟- إذاً أثناء مطاردة أحد الظباء هوى صريعا من فوق جرف صخري، والقارب الذي كان من المفترض أن ينقله إلى الضفة الأخرى قد أخطأ الطريق بسبب لفة خاطئة لدفة القيادة، في لحظة غفلة من قائد المركب الذي تلهى بموطن الصياد الرائع ذي الخضرة الداكنة. ولذلك فإنه، أي غراكوس، يجوب منذ ذلك الحين بحار الأرض في اضطراب دائم ويحاول مرة هنا ومرة هناك أن يرسو. لكن السؤال عمن يتحمل الذنب في وقوع هذه الكارثة التي تعد دون شك كبيرة، يظل دون إجابة. أجل وأيضا السؤال عن أين يكمن الذنب عموما، أين يكمن السبب الواضح للكارثة؟ لكن نظرا لأن د. ك. هو الذي ألف هذه القصة، يتراءى لي أن مغزى الترحال المستمر للصياد غراكوس -كما جاء في إحدى الرسائل الخفاشية التي يكتبها د. ك. إلى فيليتشه ليلا- يكمن في التكفير عن شوق إلى حب يتمكن دائما من قلب د. ك. وتحديدا حيثما يبدو أن الاستمتاع بهذا الحب مخالف للقانون. ولتوضيح أفضل لهذه الملحوظة الغامضة، يعرض د. ك. فصلا من أحداث "الليلة قبل الماضية"، يكون فيها ابن صاحب مكتبة يهودية في براغ -على الأرجح في الأربعين من العمر- هو تجسيد هذا الشغف غير المشروع، الذي يجري عنه الحديث في الرسالة. هذا الإنسان الذي لا يوجد به شيء جذاب، وإن لم يكن منفرا، الذي انقلب كل شيء في حياته إلى نقمة ويقضي اليوم كله في دكان أبيه الصغير، حيث ينفض الغبار عن كتب الصلوات المعلقة، أو يتطلع -كما لاحظ د. ك. بنفسه- عبر الفجوات بين الكتب غير المحتشمة في معظمها إلى الأزقة. هذا الإنسان البائس، الذي يشعر -حسبما يعرف د. ك.- أنه ألماني ويذهب لذلك كل مساء بعد العشاء إلى البيت الألماني، لكي يقوم كعضو في نادي القمار الألماني بإطلاق العنان لوهمه في آخر ساعات اليوم، سيصبح في الفصل الذي يكتب عنه د. ك. لفيليتشه أنه حدث قبل أمس، سيصبح على نحو ملغز حتى لـ د. ك. نفسه موضوعا لانبهاره. بالصدفة -هكذا يكتب د. ك. لفيليتشه- رأيته الليلة قبل الماضية وهو يغادر بيته. سار أمامي، وكان كعهدي به، هو الشاب نفسه الذي لا زلت احتفظ به في ذاكرتي. ظهره عريض بشكل لافت، يسير مشدود القامة على نحو غريب، بحيث لا يعرف المرء، إن كان مشدود القامة أم أحدب؛ هو على أي حال ضامر جدا وفكه السفلي مثلا ضخم جدا. أتفهمين يا حبيبتي، يكتب د. ك.، هل تستطيعين أن تفهمي (قولي لي!) لماذا أتتبع هذا الرجل بشهوة عبر حارة "تسيلتن"، وانعطفُ وراءه عند الخندق المائي وأراه بمتعة لا نهائية يختفي داخل بوابة البيت الألماني.

لم يكن لينقص الكثير ليسجل د. ك. في هذا الموضع اعترافا بشوق -يجب حسبما هو مفترض- أن يظل دون إرواء. لكن عوضا عن ذلك ينهي الرسالة متعجلا بحجة أن الوقت قد تأخر. وهي رسالة يبدأها بالمناسبة بالإشارة إلى صورة فوتوغرافية لابنة أخي فيليتشه التي يقول عنها: نعم، هذه الطفلة تستحق أن تُحب. هذه النظرة الخائفة، وكأنهم قد عرضوا أمامها في استديو التصوير كل فظائع الأرض. لكن أي حب لم تكن الطفلة لتحتاجه، لكي تتفادى أهوال الحب التي يرى د. ك. أنها تصنع فظائع الأرض؟ وكيف يجب على المرء أن يتصرف، بحيث لا يكون في النهاية غير قادر على مغادرة الحياة، أن يرقد أمام العمدة بمرض لا يمكن مداواته إلا في السرير، ولا يقوم فوق ذلك أيضا في لحظة سهو عن الذات، مبتسما بوضع يده على ركبة الشخص الذي يُفترض أن يخلصه في النهاية، كما يفعل الصياد غراكوس."

 نقلًا عن جريدة "أخبار الأدب".. عدد 27 سبتمبر، 2020

تصدر قريبا عن دار التنوير

 

 


Monday, May 11, 2020

Literature versus reality: Chasing fata morganas







Mansoura Ez-Eldin


She fought for renewal and lost her illusions. In a very personal text, Egyptian writer Mansoura Ez-Eldin explains how literature accompanied her through a time of radical change 

Barely four weeks after the massacre of 14 August 2013, I was driving through Cairo with my little daughter beside me. The mood in the city was heated. Mohammed Morsi had been chased out of office three months before and then more than 800 people had died when the security forces raided a Muslim Brotherhood protest camp.
Suddenly, the traffic came to a standstill. In Cairo′s ever-crowded streets, the crush was so dense it seemed as though the cars were piling on top of one another. From nearby Bayn-al-Sarayat, we heard the sound of guns firing. Perhaps Kalashnikovs.
By that time I had learned to distinguish the various types of firearms. Normally, though, the sound of shots only reached me from a distance; I was usually at home, trying to distract my two children from what was going on outside. That day, though, I was close to the action; I found out from passers-by that Islamists and security forces had clashed. My only thought was to get my daughter out of the danger zone.
After minutes that felt like an eternity, silence fell – but for a single hysterical voice calling down death and destruction upon us all for having silently colluded with the regime and allowed the massacre of the Muslim Brothers. What did it matter that there were surely people among us who had condemned the massacre and others who had themselves been victims of the Islamists or the regime? As soon as shots are fired, every dialogue falls silent. Finally the traffic thinned out and I hurried home to write down what I′d experienced.

Books don′t save lives 

Before 2011, I was by no means a regular diarist. But when the insurgencies began I grew almost addicted to putting incidents and images into words. The short fragments began to add up. It was an activity with no purpose or use – or was I seeking refuge in writing because it was the best way I had of understanding what was happening?

I remember coming home from the demonstration on 28 January 2011, the famous ″Friday of Anger″ and going straight to my desk to write down what I′d experienced. Tears ran down my face, so powerless and helpless had I felt up against the brutal armed violence of the security forces.
I did the same after every demonstration, at least in 2011, when the Arab Spring was blossoming and it seemed as though our frozen world was starting to thaw. Just taking part in the demonstrations and writing about it gave me the feeling I could make myself useful.
At the beginning of 2012, it became clear that the established regimes were prepared to do anything to prevent fundamental change in the Arab world. The blood spilled by the men in power tainted the entire horizon. Particularly Syria, Libya and Yemen paid a horrific price: thousands of innocent people died, cities were reduced to rubble, the number of war refugees multiplied from day to day.
At the time, my mobility was restricted for health reasons. I was depressed, felt weak and defenceless – and the most dangerous thing: I was close to losing my faith in the importance of literature, because books can′t save human lives.
Strangely, though, that didn′t make me give up reading and writing. Instead, I plunged into it like a woman possessed. I revisited the notes for my novel Jabal al-Zumurrud, which I had almost forgotten by 2011 and also returned to the tales of 1001 Nights.
The obvious reason was the novel I was working on, which is interwoven with the collection of tales; yet without knowing, I was searching deep within for something to restore my faith in literature and lend my existence new meaning.

Most of the stories from 1001 Nights are a hymn in praise of narrative imagination, capable through their sheer refinement of saving lives, changing fates and breaking evil spells. In Jabal al-Zumurrud, too, regaining a lost story brings the world back into balance and the magic of letters awakens the dead from their ashes.

Disfigured stories 

Yet I didn′t want my novel to be a naive hymn to writing, created only to lull my own fears. I wanted to explore the relationship between written and oral stories, starting with the ideas of Derrida and Plato, reflected in the pharaonic myth of the invention of script by the deity Thot. I thought about the mechanics of disfiguring meaning, about the relationship between the original and its adulterated copies – as though I were reading the distorted story of the Egyptian revolution while tracking down the distorted story of Princess Zumurruda in my novel.
Literature is the most agreeable way of ignoring life, Pessoa wrote. But the best thing about literature – about good literature – is that it helps us to understand the world while we think we′re ignoring it. At least on a metaphorical level, it helps us to escape in times of violence. Over the past six years, I have realised that I seek refuge in books when reality lets me down and leaves me in the lurch. Is it explanations I look for in them? Comfort and consolation? I don′t think so.
If I read and wrote to excess during this time, then not because I believed in the power of words and the importance of literature. Quite the opposite. What drove me were profound doubts in both.



Literature doesn′t work like a drug

Charles Bukowski wrote: Find what you love and let it kill you. It seems to me that I was trying – absolutely unconsciously – to drown in what I loved, to numb my disappointment at failures in real life through reading and writing. But literature doesn′t work like a drug. We realise abruptly that it has sharpened our senses, multiplied our sensibility; that it unfolds reality and reveals its structures so that we can discover what is hidden and silenced within it.
As well as the tales of 1001 Nights, what helped me in that time was above all revisiting the work of Hannah ArendtPrimo Levi and W. G. Sebald. Sebald′s books especially touched something deep in my soul, for his rescued individuals are never really saved; memory ruins them. The Holocaust is entrenched forever in Sebald′s work and the war lives on for decades after its end in memory – as though the writer′s eyes saw the hidden ruins behind the facades of every city.
That literary world fitted well with the reality in which I was living. Over the past years, I had the feeling of drowning in hundreds and thousands of dark images and scenes, suffocated by decay and the dust of destruction, plagued by cities that had become graves for their inhabitants.
Sometimes I ask myself: can words ever rebuild ruins? Everything I′ve written since 2011 reflects that question.
The lament over the ravaged home was an essential motif in pre-Islamic poetry. Yet I don′t want to write elegies, nor weep over metropolises sunk into dust and ashes; instead I demand, with childlike defiance, that the power of imagination re-erect what has been destroyed.
A vain demand, of course. For me, though, writing is an attempt to make sculptures out of ice on the equator; or to chase a fata morgana, to play with it, even to create it oneself – to dissolve reality into an illusion and pretend that mirage is the appearance of a reality, just waiting for us to quench our thirst with its fleeting waters. That′s how I put it in my most recent novel.

The calm after the terror 

And still I am trying to save myself by quenching my thirst from the fleeting waters of the fata morgana called writing. But is it really a rescue? In terms of my body, I narrowly escaped death on that Friday of Anger in 2011, then again in the fighting on Muhammad Mahmud Street that November. Or on the day when a bomb went off shortly after I′d passed its location – the thought of it still sends shivers down my back.
Have I saved my psyche? I′m not so sure. Perhaps, like Sebald′s characters, I will have to live with my destructive memories, no matter how much I try to fool the ghosts through my writing. Or even through the mere intention of writing. I console myself by saying:
One day I′ll write about the calm that descends after the bomb has gone off. About how the people vanish from the streets and the city holds its breath while the cars almost fly to get away from the site of the attack.
After the attack, this place will be safe for a few days at least, I tell myself against better judgement – the atrocities in our city have never been calculable. Aimless, I roam the empty streets and try to see the positive . . . the calm that descends after the bomb has gone off.

Mansoura Ez-Eldin 

© Neuer Zuricher Zeitung 2017

Translated from the German by Katy Derbyshire

Mansoura Ez-Eldin, born in the Nile delta in 1976, is a writer and journalist. Her novel ″Beyond Paradise″ has been translated into German and ″Maryam′s Maze″ was published in English in 2007. Her most recent book, ″Jabal al-Zumurrud″, has appeared in French under the title ″Le Mont Emeraude″.



© Qantara.de 2017

Tuesday, May 5, 2020

قلعة الشمس




By: Jacek Yerka


منصورة عز الدين


وحدها تقبع في بقعة على تخوم الخيال. بمظهرها الرمادي القاتم وأبراجها المستدقة، الأشبه بحراب مغروسة في قلوب أعداء غير مرئيين معلقين فوقها، تبدو القلعة غارقة في الانتظار. انتظار من تبدَّت في خياله كفكرة عابرة، لكن أرهبه تشييدها وتجسيدها خارج حدود سجن رأسه.

في أفكاره، كان يمكنه: السير فيها مغمض العينين. الاختباء في أقبيتها. عبور دهاليزها المتاهية. النظر من نافذة مضاءة في أحد أبراجها فيما تغرق بقيتها في ليل بهيم.
لكن، مع الوقت، صار مجرد تفكيره فيها يخيفه. أصبح معذَّبًا بها. لا يمكنه تجاهل إلحاحها على عقله، وليس في مقدوره التعايش مع وجودها. أعرف هذا لأنني –مثله- اختبرت المشاعر نفسها.

من سمعوه -في شبابه- يحكي عن رغبته في تشييد قلعة لا مثيل لها، لم يهتموا بما يقول. اعتادوا منه على غريب الكلام والأفعال. حدسوا بأنه يثرثر بما لن يفعل. لم يفهموه -ولا أنا أيضًا- حين راح يرسم التصميم تلو الآخر، وإذا لم يسعفه الرسم لجأ إلى الكلمات. دوَّن وصفها على هيئة أبيات شعر أقرب إلى الأحاجي.

كان يردد أنه يرغب في بناء قلعة من خطأ، كل شيء فيها معاكس للمتعارف عليه في فن العمارة، ومع هذا من جماع كل هذه الأخطاء يجب بلوغ صواب يقارب الكمال. كانت مفردة الكمال تثير غثيانه. لطالما كرهها. انحاز للنقصان. وجده صنو البشر والمعبر عنهم، لهذا لم يفهم لماذا يفكر في الكمال كلما وردت معذبته على باله، ونادرًا ما كانت تغيب عنه.

خطر له أن أفضل طريقة لتشييدها دون القيام بهذا فعليًا تتمثل في كتابتها. تحويلها إلى كلمات مخاتلة تثير خيال من يقرأونها. أعجبته الفكرة، غير أن الكلمات راوغته هو قبل أن تراوغ قارئها المحتمل. كلما حاول تثبيت حلمه على الورق، إذا به يتحول لشيء آخر. بنيان لا يشبه ذلك المترائي لخياله في شيء.

اختفى ذات صباح. لم يخلِّف وراءه أثرًا. كان هكذا على الدوام يتحرك كقط بري لا تنطبع آثار أقدامه على تراب الطريق، غير أن عودته لبلدتنا باستمرار -في الماضي- لم تدع لنا، نحن معارفه، فرصة البحث عن آثاره من قبل. انتظرنا أن يرجع يومًا كعادته.

في بيته لم يكن هناك ما يدل على وجود سابق له. لم نجد ثيابًا أو أثاثًا أو أي شيء يحمل بصمته. كان المكان خاويًا إلّا من دفاتر يحوي بعضها تصميمات أو بالأحرى تصميمًا واحدًا متكررًا لقلعة مقبضة، فيما يضم بعضها الآخر نصوصًا يصف كل منها قلعة مختلفة لا علاقة لأي منها بساكنة تصميماته. لسبب غامض عليّ، احتفظت بدفاتره كإرث لا يجوز التفريط فيه.

سمعت أهل البلدة يقولون إن بعض الناس منذورون للغياب، ولأن يكونوا غرباءً بلا انتهاء، وكان هو أحد هؤلاء. نسوا أمره، وحين تهدم بيته مع مرور الزمن أدركوا أنه لن يعود أبدًا. بعد سنوات من اختفائه عثرتُ بالمصادفة –فوق جزيرة معزولة- على قلعة تكاد تتطابق مع ما سبق ورأيت في تصميماته الموجودة بحوزتي.

لم أعرف إن كان قد شاهد هذه القلعة المهجورة واستلهم رسوماته منها، أم أنه شيَّدها في تلك البقعة غير المطروقة عقب رحيله عن بلدتنا! قِدَمُها وعتاقة أحجارها الرمادية المائلة للأسود أخبراني أنها تسبق وجوده ووجودي بقرون.

لم أجرؤ على الاقتراب منها. شعرتُ بطاقة طرد عنيفة تنبعث من داخلها. عدت لبلدتي أحكي لمعارفي عنها. بعدها، صارت عادة لكل مرتحل عن البلدة أن يرجع ليحكي أنه رأى قلعة تتطابق مع الموجودة في الرسومات التي عثرنا عليها في منزل الغائب، مع أن معظمهم لم يبصر هذه الرسومات سوى لمرة واحدة.

اختلفوا بخصوص موقع القلعة، فهناك من أكد أنها موجودة في أقصى الأرض، فيما أقسم غيره أنها في أدناها، لكنهم جميعًا اتفقوا على أنها تقبع فوق جزيرة معزولة، تجاورها بحيرة يبين من ورائها جبل تعلوه قلعة أخرى تشبه الأولى، وتبدو كأنما تتجسس عليها وتترصدها. أجمعوا أيضًا على الأبراج الأشبه بحراب مغروسة في قلوب أعداء غير مرئيين، وعلى أن كل منهم شعر بالرهبة وخشي الاقتراب من البناء المهيب، وأن خاطرًا داهمه مفاده أن حربة أحد الأبراج سوف تنغرس في قلبه لو فعل.

بدوا كأنما يتكلمون عن القلعة نفسها على الرغم من اختلافهم في تحديد موقعها. واحد فقط حكى أنها لم ترهبه، وأنه حين اندفع صوبها راغبًا في استكشافها من الداخل فوجئ بأنها محض وهم، ابنة تهيؤاته وخداع بصره له، لكن ذاكرته احتفظت بأدق تفاصيلها وزخارفها والمقرنصات والتماثيل المزينة لواجهتها.

مع الوقت تجرأ آخرون واقتربوا منها ليكتشفوا مثل سلفهم أنها غير موجودة، لكن الغالبية ظلت على خشيتها منها.

الغريب أن الحكايات الأحدث لم تشر إلى عزلة القلعة ووجودها خارج دائرة العمران أو في منطقة بالغة البعد عن البلدة. بالتدريج صارت القلعة تقترب حتى أن أحدهم أقسم على مصادفتها قابعة داخل الغابة المجاورة للبلدة وبجوارها أيضًا بحيرة على الجانب الآخر منها جبل فوقه توأم القلعة.

كل هذا بدا منطقيًا ومقبولًا من أهل البلدة، لكن حين أخبرتهم أنها تتراءى من نافذة غرفة نومي غارقة في الصمت وهي تواجه توأمها قرر الجميع أني فقدت عقلي.

كانوا قد وصموني بغرابة الأطوار منذ عرفوا أني لا أكف عن استنساخ تصميمات الغائب. وأن بيتي امتلأ بدفاتر تحوي التصميمات المستنسخة، وتراكم الغبار على كل شيء فيه.
يمكنني تفهم وجهة نظرهم لأنهم حين يمرون بالقرب من بيتي في أي وقت يشاهدون ستائر شفافة تتطاير، وفق اتجاه الريح، خارج أو داخل غرفه مفتوحة النوافذ. يبدو لهم البيت فارغًا. لا يبصرون أثاثًا أو أي شيء سوى حوائط كالحة وأرضيات متربة. نادرًا ما أظهر لهم داخله، وفي المرات القليلة التي يلمحونني فيها، أكون عابرًا كشبح يتحرك ظله من نافذة لأخرى.

لم أعد أُشاهَد في طرقات البلدة. أكاد لا أخرج من البيت. مؤكد أنهم يتساءلون كيف أجلب طعامي وشرابي. لا ريب أنهم ظنوا أني أزرع خضروات وفواكه في حديقة سرية خلف البيت. لا بد لأي شيء من أن يكون سريًا كي ينال شرف اهتمامهم.

عرفت أنهم قد استبعدوا هذه الفكرة -لو كانت حقًا خطرت ببالهم- حين بالغوا في التلصص على بيتي، ربما في انتظار أي بادرة تدل على وجود حقيقي لي. بالغت بدوري في التخفي والمراوغة. لم أحفل برأيهم إذا رأوا الدفاتر والأوراق التي تكاد تغطي الأرضيات، بل حرصت على تركها في مجال رؤية العيون المتلصصة. ولم أسع لمنع تطايرها إلى الخارج، على العكس تعمدت ترك ما أريد تطايره منها في مرمى الريح، كي يطالع فيها المتلصصون مستنسخات التصميم الأصلي. من مكاني -حيث لا يمكنهم رؤيتي- تابعتهم وهم يجمعون بعضها، وشهدتُ على الهواء وهو يحمل بعضها الآخر إلى حيث لا أعلم ولا يعلمون.

أعرف أنهم لن يستوعبوا أبدًا سبب استنساخي لتصميم أصلي أصررت على الاحتفاظ به منذ وجدته في منزل الغائب بمجرد اختفائه. أنا نفسي لا يمكنني شرح دوافعي بلغة مفهومة. غير أن ما فاجأني، ولم أجد له تفسيرًا يقبله عقلي، كان ما سمعتهم من مكمني يتهامسون به عن أنني ربما أكون صاحب الرسومات الأصلية وليس الرجل المختفي منذ سنوات. أنصتُّ إليهم وهم يرددون أنّي ربما دسستها في منزله، بطريقة ما، قبل إبلاغهم باختفائه.
في ما بعد شككوا في حقيقة أنه قد عاش بينهم يومًا. بعضهم راح يسوق البراهين لإثبات هذا الزعم. لم أفهم كيف يتذكرون تفصيلة دقيقة مثل أنّي كنت أول من حمل لهم خبر الاختفاء، ومع هذا ينكرون حياة كاملة، نمت وازدهرت على مرأى منهم قبل أن تتدثر بالغياب.

من مخبئي بالداخل قررت أن أحكي بصوتي المتشقق المجروح ما أرى أنه قصتي، واثقًا من فضول وتشوق مستمعين يظنونني غافلًا عن وجودهم على مقربة. لم أملّ من تكرار مونولوجي هذا، ولم يسأموا -على ما يبدو- من التنصت عليه:
في البداية لاحت لي قصية معزولة عن العالم، ثم رأيتها تقترب. يومًا بعد الآخر أخذت تدنو. تابعت خطوها على الطرقات نحو البلدة. صرت أراها من نافذة غرفة نومي، ثم من كل نافذة ممكنة. حاولت غلق النوافذ فلم تطعني. تواطأت مع القلعة ضدي. راحت تمدني بصورتها بلا انقطاع.

اقتربت معذبتي أكثر واحتلت بيتي. صارت إياه وصار إياها، ومع هذا كانت تطل عليَّ هي وقرينتها الجبلية من كل الشبابيك المفتوحة أبدًا. أضحت تسكنني. أشعر بها في أحشائي. تهدر الريح في أروقتها، فأسمع صدى صفيرها في أعماقي. تستحوذ عليَّ وحشة القلعة. أنصت إلى وقع خطى ثقيلة في دهاليزها.. دهاليزي. أكاد أرى العتمة تسود في ثناياي، ثم يطوِّح الهواء درفة شباك ما في قلبي فتتخللني أشعة ضوء مبعثرة. يلمسني دفؤها، فأنشغل مؤقتًا عن ما أنا فيه.

سمعت كثيرًا عن أبنية تسكنها الأرواح. ومنذ رأيت تخطيطات الغائب لأول مرة، أدركت أن قلعته هذه مسكونة حتى من قبل أن تُشيَّد. ما غاب عني إدراكه أنها بدورها تسكن الأجساد. تلتصق بها كعَلَقة تمتص الدم والأعصاب ورجاحة العقل.
لا أدري من أي جحيم استقى الرجل تصميمه الأولي. ما أوقن منه أن عليَّ إبطال هذه اللعنة قبل أن تسكن الكون بأسره. قبل أن تُلاشيه وتبتلعه.

التصميمات تميمة. الرسومات المتكررة طلسم يحوي سحرًا أسود. الدفاتر الملأى بالحروف والكلمات لعنة لا سبيل لحجب تأثيرها. وكلها يسلبني عقلي. يتآمر عليَّ ويموِّه الوجود أمام عينيَّ. لا سبيل سوى الانغماس فيها وإنتاج الآلاف منها. كتبتُ وكتبتُ. رسمتُ ورسمتُ. رغبتُ في التطابق، ولم أحصد سوى الانحراف عن الأصل. أقارن تصميماتي بأصولها فأجدها مختلفة على الرغم من أنها للقلعة نفسها. لمسة زائدة هنا. ميل مغاير هناك. لا يمكن لعين غير مدققة ملاحظته لكنه موجود يحدق فيَّ بنصوع الخطأ وإشراقه. لم يكن خطئي. كان تعويذة القلعة لحماية نفسها، أو ربما أي شيء آخر. في النهاية لاحظت الاختلافات بين التصميمات الأصلية. لم أعرف إن كان الغائب قد كرر التصميم نفسه مئات المرات لمنع انحراف لا إرادي، أم أنه تعمَّد تباينات طفيفة بين تصميم وآخر لسبب لا يعلمه غيره، فرأت العيون الكسلى التطابق حيث لا يوجد.

لن أعرف أبدًا، لذا عليَّ ألَّا أتوقف عن إنتاج الرسم تلو الآخر. لم تعد مجرد مستنسخات. أثق من فرادتها رغم كل شيء. باتت قشة يحميني تعلقي بها من الغرق في الجنون، أو ربما ممرًا يقودني إليه.

      من مجموعة "مأوى الغياب" (متتالية قصصية)، داري سرد وممدوح عدوان للنشر والتوزيع، 2018. وصلت المتتالية إلى القائمة القصيرة لجائزة الملتقى للقصة العربية 2018، والقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد، فرع الآداب 2020.

Mansoura Ez Eldin's novel "Shadow Specters": The fantasy of wholeness








Marija M. Bulatovic shares her impressions of "Shadow Specters" by Mansoura Ez Eldin – recently translated into Serbian by Dragana Djordjevic as "Priviđenja iz senke"


Mansoura Ez Eldin’s novel "Shadow Spectersreminded me of a very common experience that each of us will be familiar with: the moment of waking up in a dark room. At first, except for darkness, we discern almost nothing, until suddenly, out of shape, outlines of certain forms begin to appear.
These forms emerge from the dark, obscure, disfigured, and often in such a state of perceptual consciousness that we take them to be something quite different, owing to the minimal amount of the light they absorb. Such chimeras, born out of the play of light and dark, lightness and shadow, are found in the evaporation zone of form and matter in Mansoura Ez Eldin’s novel.
The novel is "a very complicated story" (phrase taken from the title of one of the chapters), which begins and ends with the conversation of two characters, two artists, on a bench in front of the Kafka Museum in Prague. That conversation becomes the "trigger" for numerous reminiscences, spectra of colors, sounds, fragrances, new stories and narrative sub-plots, raising issues of artistic creativity and outlining the unfinished intellectual portrait of the artist – more precisely, the portrait of the (woman) writer.

Along the porous boundary between dream and reality

"I'm writing because I seek to become whole, "says one of the female characters. Shakespeare's formula from A Midsummer Night's Dream is applied in the novel: the writer's pen gives shape to the unknown things by naming them, that is, "the airy nothing", or "the essence of the empty(Lao Tzu’s void), places in the appropriate aesthetic form.
In the novel, the aesthetic form is defined through the relation of light and shade, the porous boundary between dream and reality, fiction and faction. As a result there are no clear contours, since the form takes on a certain amount of light and thus defines itself. This is how the subject "grasps" reality.
However, we are not talking about just any recipient of reality, the protagonist is an artist whose perception is "aesthetically adjusted". Artistic perception is simultaneously a creative process – based on the individual's perception – which is formative. Knowledge-based mastery of reality, or more precisely, "sorting out" the chaos of everyday impressions, is also a creative process.
Ez Eldin's playful, experimental book draws on a long line of avant-garde and postmodernist texts. It certainly represents a real gem for narratologists. Even though the book has been specified as belonging to the novel genre, it is possible to read it as a collection of stories using distinctive language of poetic prose. The narrator introduces us to the narrative – "making a pact" with the reader – and dramatically introduces us to space, events, but also to the consciousness of the various characters through the technique of free indirect speech.
Art becomes a gateway to a new dimension of reality: in this play of shadows, different spectra of reality are revealed – between the states of wakefulness and dreaming. Literature lists the layers of reality and reveals its deeper hidden and silenced structures, as Ez Eldin notes in her interviews. This is what this novel is really about.

Intertwining narratives

My reasons for initially comparing the novel to a common experience may be attributed not only to my own personal response to Ez Eldin's writing, but also to the noticeable intertwining of the narratives in dreamy, mythical and anthropological spaces, dreams that have the value of an embedded narrative or even attain mythological status.
The boundary between dream space and reality in the novel remains undefined, just as there is no clear contour between lightness and shadow. An embedded story in the process of being written, for example, is interrupted by the memory or associations of the one writing and thus flows into another narrative. The boundary between the real and the unreal is set exactly as it really is – indistinguishable.
But this seems to be precisely the hallmark of the relationship between art and life: does it really matter if something is real or not, if its value is set as real? For this reason, "Shadow Specters" is essentially a novel about the genesis and anatomy of writing and reading. This delicate boundary between the imaginary and the real directly determines the structure of the novel and vice versa. It is therefore important to refer to the structure of the novel in the context of narratology.
The narrator is at once intradiegetic, placed within the story itself, and omniscient and ubiquitous, both within the story and within the consciousness of the characters – violating all the rules and displacing the mise-en-scene at will.  In short, the storyteller cares nothing for the rules of storytelling: it is clear that the narrator belongs both to the world of the novel and to the world of the reader.
The storytelling relay meanders through the narrative, and we are no longer able to determine who exactly the narrative voice is, who precisely is writing and/or reading. "I often feel that I am not a woman of blood and flesh, but a thought that has occurred to some woman writer, "says Ez Eldin’s character. Indeed, this paradox of the narrative status turns the narrative into a meta-narrative, and the very novel into a novel about a novel.



Labyrinthine structure

If I had to come up with a metaphor for the formal structure of the novel, it would most likely be the symbol of infinity or better still a Moebius strip. Like the Moebius strip, "Shadow Specters" represents a kind of unorientable space where physical space flows into the psychic, and vice versa: memory is poured into a dream; the dream is sometimes mistaken for a memory; the narrator becomes a narrative figure, and the character becomes a thought that has occurred to the writer’s mind – a woman dreaming of being a rose, or a rose dreaming of being a woman. It is the space where being exists through its own negation – shadow resulting from light, cosmos resulting from chaos.
Reminiscent of Alice in Wonderland, the novel has a labyrinthine structure. As if entering the rabbit hole, the reader jumps into the well of the writer’s mind, and through the looking glass. On the other side of reality, the hero of the story becomes the author or the storyteller gets "trapped" in the imaginary texture.
The novel is also inter-textually rich, however, referring not only to Lewis Carroll and his Alice, but also to Kafka – mostly on the subject of metamorphosis and Protean identity, which could certainly be widely discussed as an autonomous topic.

Totality of the narrative self

The novel's style is unique – literary impressionism a la Proust, with a phenomenological view of the world as being a spectrum of colors, sounds, music, smells, tastes. The bittersweet taste of Schweppes, the turquoise color of the sky, the smell of lemon or oleander are just some of the leitmotifs which "trigger" the flavored stream of memories: through perception and sensations that recall times past.
This literary impressionism – tokens of the past, sensory impressions – is a technique of reviving memories and lost experiences, in turn transformed by the knowledge of one who still remembers. These are truly fragments of experience – parts that are sought in order to fulfill the fantasy of wholeness, the totality of the narrative self.
To conclude, in this cacophonic limbo of mixed voices, I would like to introduce the notion of Ibn-Manzur’s book ark. The Medieval Arabic lexicographer Ibn-Manzur once compared his dictionary to Noah's ark, conjuring up the image of a book ship cutting the waves, colliding with words, words striking against one another, where meanings are mixed and released and new spaces occur, or conversely, a book ship that immerses both its characters and readers, devouring the words, which then float on the water like bodies, once their meaning is spent.


Marija M. Bulatovic
© Qantara.de 2020