Tuesday, March 19, 2019

أخيلة الظل.. بين مرايا السرد وكسر الإيهام




إنجي همّام


"تخيلوا معي مقعدا خشبيا في الباحة الأمامية لبيت على ضفة "الفلتافا" قريبا من جسر تشارلز."
بهذه العبارة تبدأ منصورة عز الدين روايتها "أخيلة الظل" (دار التنوير.. 2017)، وهي تضع منذ الكلمة الأولى "تخيلوا" عقد قراءة ستمضي بنا معه رحلتها كاملة، لا يتوقع القارئ من هذه البداية كم الألعاب التي سنعيش معها أو بالأحرى سنلعبها مع الكاتبة، إذن فعتبات النص تستدعي قارئا متواطئا أو مُشاركا في بنية السرد بشكل أو بآخر، وكذلك هي تظل تكسر إيهام القاريء ثم تعود لتُدخله في عالم الوهم والحكي من جديد ولا تلبث في بدايات معظم الفصول أن تعود لكسر هذا الإيهام عندما تضعنا أمام كلمات من قبيل "تخيلوا" ، "لنفترض"، "علينا تذكر أن" فمثل هذه العبارات تُخرج القاريء من حالة الإيهام لتذكره بين فصل وآخر أننا أمام لعبة وهمية ليس إلا.

"كاميليا" كاتبة مصرية و"آدم" كذلك كاتب ولكنه أمريكي، يلتقيان صدفة للمرة الأولى أمام متحف "كافكا" بمدينة براغ، بدون سابق معرفة يشتبكان في حديث يتخلص فيه كل منهما من أثقال ترزح على صدره، ولكنه لا يتمكن من البوح بها لقريبين منه، كان من المناسب جدًا أن يكون البوح موجهًا لغريب لن يلتقي به أي منهما ثانية كما افترض كلُ منهما ذلك. يتحدث آدم عن جدته الشرق أوسطية الناجية من مذبحة قديمة لا يعرف عنها الكثير، والتي هربت بدورها مع جده البحار اليوناني لأمريكا بعد قصة حب.

أما "كاميليا" فتبدأ بحديث عن حلم يراودها بهذه المدينة وأنها حينما أتت وجدتها كما كانت في أحلامها بالضبط، داخل حلمها كانت تكتب قصة عن كاتبة روسية وعازف بيانو لم تمنحه جنسية محددة، مع التقدم في القصة نجد أن الكاتبة الروسية وقد اتخذت اسم أولجا تعيش بالفعل مع عازف بيانو يُدعى ساندور يتأمل أصابعه التي كفت عن العطاء، ونرى أولجا الروسية تتخيل كاتبًا من سياتل يدعى آدم يقابل مصادفة أمام متحف "كافكا" كاتبة مصرية تدعى كاميليا، لكنها ترفض الكتابة عنهما لأنها لم تعد مؤمنة بجدوى الكتابة، يتداخل الحكي طيلة زمن السرد، فلا نعرف من يحكي عن من ومن يحلم بمن ومن يتخيل من، ما هي الحقيقة وما هي الخدعة!

كعادتها منصورة عز الدين تتجول ما بين الواقعي والوهمي "أو بين واقع الشخصيات و أحلامها" وتمرح بين الأماكن المتعددة، معتادة السفر بأبطالها أو بطلاتها بمعنى أدق بين الأزمنة والأماكن، بين عالم المتخيل وعالم الواقع، فتجربة عز الدين الإبداعية وبالرجوع إلى رواياتها  تحديدًا "متاهة مريم، وراء الفردوس، وجبل الزمرد"، سنجدها تستند بشكل كبير على عالم المُتخًيل، خيالات أبطالها، أحلام مناماتهم ويقظتهم اليومية والقديمة أيضًا جزء من هذا الإبداع ، وعيهم قد يكون أقل حضورًا من لاوعيهم الذي يُسهم بشكل كبير في تشكل أحداث ما نقرأ، أما في "أخيلة الظل" فإن المغامرة أكبر، لم تكن المراوحة بين ما هو واقعي وما هو متخيل مستندة للاوعي الأبطال كما اعتادت عزالدين، بل كانت تلك المراوحة لعبة مُحكمة الصنع ما بين السارد  والمتلقي، ما بين عدة رواة لا نعرف أيهم أصل وأيهم حيلة إبداعية أو مرآة سردية، ولكن علينا المتابعة بكامل الانتباه لفك شِفرة هذه اللعبة المشوقة، فتجولها ما بين الواقعي والوهمي، وبين أزمنة وأمكنة واقعية وأخرى اعتبارية، جعلها هنا تتفوق على نفسها، حتى أنها تُربك القاريء، فهي تجوب التاريخ ذهابًا وإيابًا مارة بمناطق جغرافية متباعدة وأحداث جسيمة من عينة الحروب والمذابح، كل ذلك من خلال قصص إنسانية خاصة يطغى عليها الخيال أكثر من الواقع، إلا أنها تحمل في طياتها بذور وقائع تاريخية هامة ومؤثرة، يمكننا القول أنها تعيد كتابة التاريخ بمنظور أدبي خاص، أو تتناول تلك المناطق الإنسانية التي لا نجدها في كتب التاريخ بل لا يتحدث عنها في مثل تلك الفترات الحرجة، كالحروب والثورات والاضطرابات سوى كتب الأدب وشخوصه الخيالية منها والواقعية.

سيجد القاريء نفسه مسافرًا بين حديقة تطل على متحف "كافكا" في مدينة براغ، وأخرى تطل على دار الأوبرا المصرية بالقاهرة، وثالثة في بيت أمريكي بسياتل تحاوطها الورود، وأخرى في أحد أحياء القاهرة العريقة في زمن آخر تطل على حديقة مزروعة بأعشاب عطرية وخضروات متنوعة، سيجد نفسه يتتبع خطوات ناجية من مذبحة قديمة منذ ما يقرب من قرن من الزمان، وناجية أخرى من عقد وضغوط مجتمعية، وثالثة تحاول النجاة من كابوس طفولي حاصرها سنوات طويلة.
شخصيات الرواية: كاميليا، وآدم، وأولجا، وآميديا، وروز، وساندور، وفلاديمير، وكذلك؛ فريدة ومنير،  ودولت، ومجدي، شخصيات عديدة تنتمي لمحطات زمانية ومكانية مختلفة داخل السرد، فتحيلك الرواية لماضٍ بعيد لا يمكن لقاريء اليوم أن يكون قد عاصره أو حتى عاصر من عاصره، قبل قرن أو يزيد من الزمان، كما تحيلك إلى أكثر من ماضٍ قريب من اليسير عليك التعرف أكثر عن تفاصيله وخلفياته.

الرواية التي لا توغل بالقاريء في عالم السياسة وتفاصيلها الثقيلة الموجعة، لا توليها ظهرها كُلية بسهولة، بل تُلقي السياسة بظلالها بين ثنايا السرد، فنتعرف على العديد من ضحاياها في أكثر من عصر وأكثر من بلد.

فنجد أن الفضاء الزماني والمكاني أيضا مرتبكان أحيانًا ولا يعبران عن تواريخ ووقائع بعينها بقدر ما يعبران عن رموز واسقاطات على بشاعات وقائع تكررت في أكثر من مكان وزمان.

"ربما كان في درسدن وقوات الحلفاء تمطرها بالقنابل شديدة الانفجار، أو في بغداد بينما تُدك بصواريخ كروز وتوما هوك الجاهلة بهول ما تفعل، أو في مدينة مخترعة لحظة فنائها. لا يهم اسم مدينته أو موقعها، فكل المدن المنكوبة أثناء تعرضها لخطر الزوال، مدينة واحدة."

فها هو السارد على لسان آدم أو بقلمه "حيث كان يكتب رسالة لكاميليا" يتحدث عن لحظة بالغة العنف والأذى ولا يعنيه أين ومتى كانت بقدر ما تعنيه مشاعره ومخاوفه.

يظل الفضاء الزماني في حالة غدو ورواح بين عصور عديدة – وليس لحظات فقط- بشكل غير متسلسل بل وغير منطقي، فالزمان لا يعني الشخصيات "الرواة" عند الحكي، هو مجرد لحظات تطغى بقوة تأثيرها في لحظة معينة لا علاقة لها باللحظة الآنية التي تعيشها الشخصية، فكاميليا تستحضر لحظات تخصها قبل سفرها لبراغ بعدة أسابيع وهي جالسة أمام متحف كافكا، كما تستحضر طفولتها، في سياتل بعد ذلك بعام، وتستحضر أيضا لحظات شبابها الأولى وتجاربها الغرامية بتداخل متقن يعتمد على تأثير تلك اللحظات عليها بلا تسلسل يعتمد على المنطق إلا منطقها الشعوري الخاص، وهكذا جميع الشخصيات، ذلك الفضاء الزماني المشتبك الذي يتطلب من القاريء يقظة وحرص دائمين حتى يتمكن من فك خيوط تشابكه للوصول إلى زمن الحكاية واستخلاصها من داخل زمن الخطاب.

لا يختلف الوضع بالنسبة للفضاء المكاني، فهو الآخر متداخل ومرتبك وغير هام كثيرًا بالنسبة للشخصيات نفسها، فالرواة يستدعون أماكن عديدة تتداخل في وعيهم في لحظات بعينها، تحت تأثيرات نفسية وشعورية ربما تكون غير واضحة للقاريء دائما، فآدم "على سبيل المثال الذي قرر الكتابة لكاميليا يحدثها في رسالة قصيرة عن أماكن كثيرة معظمها متخيل وافتراضي وما يعنيه من كل ذلك هو تأثيرات المكان عليه أو دوره ككائن حي فيها، فهو يشعر أنه قد عاش العديد من الحيوات السابقة في العديد من الأماكن لم يكن فيها جميعًا رجلًا بل لم يكن فيها جميعًا إنسان.

حتى أنه يقول متحدثا عن نفسه: "لكن أفضل شذرات حيواته السابقة تلك الموحية له بأنه كان دودة قز يومًا ما، يتخيل نفسه دودة نهمة في براح من أوراق التوت الشهية، يلتهم الوريقات حتى لا يعود قادرًا على التنفس، ثم ينسج شرنقة من خيوط الحرير يختفي بداخلها، يا للهشاشة والجمال، وحده في دفء الشرنقة وظلامها ينتظر أن يختار له القدر أحد احتمالين لا ثالث لهما: إما أن ينبعث من شرنقته فراشة حرة قصيرة العمر تشتري حياتها بتدمير ما نسجته من جمال حريري، أو يسبقه صانع حرير ويغرقه وهو داخل شرنقته لا يزال، في ماء ساخن كي يتخلص منه وينقذ الخيوط الثمينة من التدمير. أي فداحة و أي بهاء متوارٍ خلفها!"  
وهكذا فإن الفضاء المكاني يتشكل لدى الأبطال بشكل يطغى عليه الخيال أو المتخيل بدرجة غير مألوفة، أو أن ذلك الفضاء جزء من أحلام بعيدة غير واضحة الملامح في كثير من مقاطع السرد، وإذا تحرينا الدقة فنحن أمام نوعين من الفضاء المكاني أو تشكله داخل السرد، فالأماكن التي ترتادها الشخصيات أو تتواجد فيها، قد يتحدث عنها الراوي بوضوح ودقة وتفصيل في بعض الأحيان مثل وصف بيت "آدم وروز" وحديقتهما على لسان "كاميليا" أو وصف فيلا "فريدة" كذلك على لسان كاميليا، أو بعمومية وتجريد مثلما سبق وأشرنا على لسان آدم في وصفه للمدينة التي ضربتها القنابل أو وصفه لتلك العوالم المختلفة التي يشعر أنه قد عاش فيها حيوات سابقة.

أما عن الخلفيات الاجتماعية لهؤلاء للشخصيات فهي متنوعة وإن كان من اللافت للنظر انتماء معظم الشخصيات لعالم الفن، أو على الأقل الانسحار بهالته، "فآدم، وكاميليا، وأولجا" ينتمون لعالم الكتابة، بينما "ساندور" لعالم الموسيقى و"فلاديمير" لعالم الفن التشكيلي، هذا الحضور الطاغي للفنون وتأثيراتها المنعكسة داخل السرد، ليس فقط عن طريق انتماء الأبطال لهذا العالم ولكن أيضا بحضور مباشر في لغة السرد التي تحيلنا لعالم الموسيقى والفن التشكيلي والسينما أيضا، فلدينا هنا دولت المسحورة بعالم السينما القديم والتي سمت ابنتها على اسم ممثلة أربعينية فاتنة، فقط لأنها كانت مسحورة بعلاقتها بأحمد سالم فتى أحلامها وأحد نجوم سينما الأربيعينات.
مع كل هذا الزخم الزماني والمكاني والشخوصي "تعدد الشخصيات" إلا أننا نظل أمام حكي مكتمل وبناء محكم، فنحن أمام عالم متداخل زمانيًا ومكانيًا، ولكننا أيضًا إزاء كاتبة استطاعت السيطرة الكاملة على حكيها المتشظي لتجمعه مرة بعد أخرى بمشاركة قاريء يقظ، فعقد المشاركة بين القاريء والكاتبة الذي أبرمته معه منذ كلماتها الأولى هو شريطة أساسية ومستمرة باستمرار السرد، فالسرد هنا، وبرغم تعدد خطوطه -حوالي أكثر من عشرة خطوط- إلا أنها جميعا تمضي واحدًا تلو الآخر في تناغم وتناسق لا يُرى بسهولة ووضوح ولكن يتم إدراكه في نهاية الأمر، فالمؤلف الضمني لا يغفل أحد الخطوط أو يتركه معلقًا أو ضائعًا وسط أحداث تخص خطوط أخرى، بل الجميع يوضع مكانه في فسيفساء السرد التي كان مُعد لها جيدًا عند التخطيط لكتابة الرواية وهو ما نرى إنعكاسه عند إتمام القراءة.

الرواة داخل السرد كثر، فقد تعددت أصوات السرد، أما عن الراوي فهو ليس ما يبدو في تلك الأحجية المحيرة، بل هو كما أتصور راوٍ عليم يكتب عن كل تلك الشخصيات بخطوط متداخلة ولكن ببناء محكم، فتلك الألعاب إنما هي لمراوغة الخيال، أما عن البناء السردي فيسيطر عليه مؤلف ضمني واعٍ بما يفعله، ولهذا أرجح  تصور أن هناك راويًا عليمًا يجمع كل هذه الخطوط المتشعبة من خيالات أولئك الرواة، سواء منهم من كتب أو تخيل أو حلُم بأي من هذه الأحداث، فنحن لا نعرف هل "كاميليا" هي التي حلُمت "بأولجا وساندور وفلاديمير"أم أن "أولجا" هي التي تتخيل "آدم وكاميليا وآميدا"، هذا غير كثير من الأحداث لا نعرف تقييم من هو راويها على وجه الدقة، فعلى سبيل المثال، نجد في رواية كاميليا عن زيارتها لبيت آدم وروز، حكاية تتعلق بكابوس واقعي وآخر داخل أحلام "روز"، روز زوجة آدم التي لم تتحدث كثيرًا لكاميليا بينما سيطر عليها الفضول تجاهها، ورغبة في التعرف على تلك الشرق أوسطية التي سمعت عنها من زوجها "آدم" ورسمت لها صورة ما في مخيلتها، ونحن مع "كاميليا" في زيارتها "لآدم وروز" نعرف عن  "روز" الكثير من ما لم تقم بالبوح به "لكاميليا"، فمن أين لها أن تعرف، نحن نعرف تلك الأحداث الخاصة "بروز" من خلال عرض عقلي من مخيلة "روز"، تستحضر فيه أجزاءً من طفولتها وكذلك أجزاء من أحلام مزعجة تطاردها، وهذا على سبيل المثال، لذا فأنا أرجح فكرة الرواي العليم الذي يمسك بخيوط اللعبة جميعها ويسد ثغرات السرد التي لا نعرف من هو راويها على وجه اليقين.

أما عن وظيفة الرواي أو الرواة فهم يقومون بوصف مشهدي ويعتمدون هذه الحالة أو الوظيفة السردية أكثر من غيرها لسرد الأحداث في عالم الواقع وعالم الحلم والمتخيل، فحتى العوالم الباطنية والمقتطعة من لا وعي الشخصيات أو مناطق شطحات خيالهم فإن السرد يتناولها عن طريق الوصف المشهدي للتعبير عن كل ما يعتمل داخل الشخصيات وخارجها.

وعن اللغة فقد جاءت عاطفية مشحونة بدفقات من الألم والحب والبغض والحنين إلى الماضي والهرب والخوف منه أيضًا، وكذلك كانت شاعرية في كثير من المقاطع "الأرض مختبئة تحت طبقات وطبقات من الجليد، والأشجار متشحة بالبياض، لم يبصر في حياته شيئًا أجمل من منظر الثلوج المتساقطة من السماء، حبيبات بيضاء بالغة الرهافة والرقة، يظل يراقبها وهي تغطي كل شيء، فيشعر بأسى لا يفهم سببه ولا مغزاه، يرسخ تساقط الثلوج وحدته حتى لو كان وسط المئات، ومع هذا أو ربما بسببه يعتبره الشيء الأحب إلى قلبه".

نلاحظ كم المشاعر التي ترتبط لدى الشخصية بحلول طقس معين وكيف عبرت الكاتبة بلغة مفعمة بالأحاسيس عن مجرد لحظة تمر بها إحدى الشخصيات، وقد كان الحال بهذا الشكل داخل السرد، فاللغة تعبر عن مكنون الشخصيات بمنتهى الدقة وبأسلوب تسيطر عليه المشاعر، كما انعكست فيها روح الفنون المختلفة ونفسيات أولئك الفنانين – فكثير من الشخصيات ينتمي لعالم الفن- التي تتميز بحساسية واضحة، كل هذا انعكس على لغة السرد فكانت ذات زخم شعوري وإبداعي واضح، حتى تلك الشخصيات التي لا تنتمي لعالم الفن، فقد تم التعبير عنها من خلال كاتبات مبدعات أو من خلال خيالهن الشاعري ما أعطى بعدًا شعريًا واضحًا على اللغة.

في النهاية أعتقد أن هذا الحكي المرواغ وتلك الحيل السردية يهدف من خلفها المؤلف الضمني لطمس فكرة الحقيقة المطلقة، ليس ذلك هدفًا لذاته بل وسيلة لإصباغ كل الأشياء بالنسبية، وإبداء عدم أهمية الكثير من الوقائع والأحداث الكبرى مقارنة بالتفاصيل الصغيرة، تلك التفاصيل التي ربما تغرق في ظلال التهميش واقعًا، والتي قد تكون من القوة والأهمية أكثر من غيرها، وهنا يأتي دور الفن في البحث خلف التفاصيل الصغيرة والأحداث المهمشة، التي تخص الإنسان الفرد أكثر مما تعني المجتمع، فالمؤلف الضمني هنا يحيلنا لعالم من التجريد على مستوى المضمون، حيث تكون الأماكن والتواريخ غير ذات أهمية، ويبقى الإنسان ومعاناته المتكررة في مختلف الأزمنة و الأماكن .

وبهذه الحيل التجريبية تضعنا الكاتبة أمام فسيفساء سردية لم يتم جمع أجزائها بعد، لنقوم مع المؤلف الضمني بعملية جمع الأجزاء، فنلاحظ تارة ونشارك أخرى في جمع أشلاء الحكايا المبعثرة بين عدة ساردين لا نعرف من منهم الأصل ومن منهم ظل للحقيقة المتوارية خلف ألعاب السرد التي تستمر حتى آخر سطور الرواية ناسفة كل ما قد قامت ببنائه طوال زمن الخطاب، فالأحداث والتفاصيل الصغيرة والدفقات الشعورية والأفكار الغير معتادة، هي جوهر الحكي بعيدًا عن ماهية السارد وهل هو أصل أم ظل في كل حالة من الحالات. وعلى أية حال فنحن أمام تجربة روائية مختلفة وملفتة نقديًا وإبداعيًا تستحق ولوج عالمها والبحث في جماليات الشكل والمضامين التي انطوت عليها.
نقلًا عن جريدة "القاهرة".. نوفمبر 2018.