Tuesday, September 11, 2012

مارين



إلى مارين يونكلاوس.. هناك في دوسلدورف

  منصورة عز الدين


أشاحت مارين بوجهها بعيداً مني، واستدارت مغادرةً. كدت أتشبث بمعطفها الرمادي الطويل، كطفلة تتشبث برداء أمها. تغادرني مارين ببطء، وعيوني تتعلق بها أكثر. وصلتُ إلى مدينتها الغريبة اليوم فقط، ومن المفترض أنها الشخص المكلف باستقبالي وتوصيلي إلى الفندق المخصص لإقامتي، غير أنها تطلعت في وجهي للحظات ثم ابتعدت من دون أن تنطق بكلمة واحدة. كنت في محطة قطارات فخمة، نظيفة، ومزدحمة، والناس من حولي يتحادثون بلغة لا أفهمها ويتحركون بسرعة. لم أجد بداً من جر حقيبتي الصغيرة خلفي على الأرضية المصقولة لمحطة القطار، والسير في الاتجاه نفسه الذي سارت فيه مارين منذ قليل. أخذتُ أتبعها بوجل، وجسدها يتقافز مبتعداً تائهاً بين الجموع. أكاد أركض، بينما تحافظ هي على خطوها البطيء، وعلى رغم هذا لا تتضاءل المسافة بيننا.

عبرنا شوارع، ميادين، حدائق، ومقابر، محافظتين على المسافة نفسها، والجموع ذاتها تكاد تحجب جسد مارين الصبياني النحيل عن ناظريّ. بقى خوفي وقلقي وإن كنت نسيت السبب الداعي لهما، أصبحت ملاحقة مارين والحرص على ألاّ تغيب عني هما الهدف الذي ينحصر فيه وجودي.

تلكأتْ مارين قليلاً ثم اتجهتْ نحو باب خشبي ضخم لبناية عتيقة على يمين الشارع فتركتُ حقيبتي وعدوتُ بأقصى ما أستطيع كي ألحق بها. دفعت الباب، وولجتْ إلى الداخل المزدحم بهدوء، وأنا في إثرها. فوجئتُ بالبار المعبّق برائحة التبغ والكحول. موسيقى غامضة انبعثت بقوة، ورجال ونساء سكارى، بعضهم يقف بين الطاولات، والبعض الآخر جالس إليها، يغنون بأصوات متنافرة وإيقاع بليد، ويضحكون ثم يواصلون الغناء. كان المكان منقسماً لجزأين بينهما ممر طويل مشت فيه مارين كأنما لا تسمع الغناء المزعج ولا الموسيقى الغامضة. سرتُ خلفها محاولةً تحاشي الأيدي التي تمتد من الجانبين لجذبي كي انضم للسكارى المغنين، هززتُ رأسي لمن يرفعون كؤوسهم كأنما يحيونني، وأنا أتبع مارين وقد شعرتُ أن الممر طال أكثر مما ينبغي وأن الإضاءة تخفت كلما تقدمنا إلى الداخل.

كنتُ كمن يسير بصعوبة عبر أكوام من القطن الأبيض، غير أن مارين، في بعدها عني وعدم انتباهها لي، كانت تتحرك بخفة على رغم سيرها بالبطء نفسه كأنها تقيس خطوتها بميزان حساس، يساعدها في جعل كل خطوة نسخة متطابقة من التي تسبقها من دون أدنى انحراف.

فجأة أسلمنا الممر الطويل خافت الإضاءة إلى باب أخرجنا للشارع من جديد. كان شارعاً مختلفاً عن كل الشوارع والطرق التي سرنا فيها، كأننا انتقلنا إلى مدينة أخرى أو نسخة أبهت من المدينة الأولى. ثمة ضباب خفيف يخيّم على كل شيء حولنا. الجموع ذاتها عادت تحجب مارين عني، فحاولتُ الصراخ مناديةً باسمها، لكنّ صوتي لم يطاوعني، أخذ اسمها يتردد في عقلي دون أن يخرج صوتي. اكتشفت عدم قدرتي على النطق، وانتبهت لأول مرة إلى أنه منذ خروجنا من البار المعبّق بروائح التبغ والكحول، لا وجود لأي صوت على الإطلاق: لا وقع لخطانا، لا زقزقة لأي طيور محتملة، ولا وشيش يحمله الهواء. صمت راسخ سيطر على الفضاء الذي نتحرك فيه.

ثم بدأت رائحة خفيفة تتسلل إلى الهواء، قبل أن تتزايد كثافتها تدريجياً، رائحة هجين من عبير الصندل وزهر الليمون والبرتقال والياسمين ممزوجة بروائح أخرى لم أستطع تحديدها، وإن كانت أورثتني شعوراً مبهماً بضيق ضاعف منه ازدياد الضباب لدرجة أخفت كل الأشياء عني باستثناء طيف مارين المستمر في خطوه الأبدي. خطر ببالي أن أتوقف عن تتبعها، لكني لم أجرؤ على ذلك. سرت خلفها كالمنومة. انقشع الضباب بشكل مفاجئ، وإن ظلت الرائحة الهجينة. ومرة أخرى عبرنا شوارع وميادين، حدائق ومقابر محافظتين على المسافة نفسها بيننا. ثابرت مارين على إيقاعها ذاته وأنا خلفها أرقبها ولا أرى سواها. بحركة هادئة طوّحت رأسها في الهواء مستديرة نحوي من دون أن تنظر فعلياً إليّ، ثم عادت لخطوها العابث غير المبالي بي. لم تستغرق التفاتتها إلا ثوانيَ معدودات لكنها كانت كافية كي أبصر في وجه مارين الشاحب قلقي، وفي تعبها إرهاقي وخوفي.

مارس 2010

* قصة قصيرة من مجموعة قصصية تصدر قريباً بعنوان "نحو الجنون"..

No comments:

Post a Comment