Monday, September 17, 2012

ثمة من لا يهتم بمحاكمة الديكتاتور العجوز



منصورة عز الدين

عن ثورة يناير قال صديق قطع آلاف الأميال كي يرى مصر في لحظتها الحالية: "لقد غيّرتم العالم! سأكتب بمجرد عودتي: المصريون لا يدركون أهمية ما قاموا به". وبسبب الثورة نفسها، صرخت فينا امرأة أربعينية بينما كنا نشارك في وقفة احتجاجية أمام السفارة السورية في القاهرة: "خربتم البلد.. منكم لله!"..

وما بين تغيير العالم و"تخريب" البلد مساحات يتأرجح بينها المصريون - على اختلافهم وتنوع اتجاهاتهم- تأرجحهم اليومي بين أعلى درجات الفرح والتفاؤل وأقصى حالات الاكتئاب واليأس.

لم يبق هذا الصديق في القاهرة حتى يشهد معنا محاكمة مبارك، لكنه وعلى مدى عشرة أيام، كان قد جمع الكثير من الملاحظات والمشاهد الكفيلة بتكوين رقعة "بازل" ضخمة، عليه أن يجلس لإعادة ترتيبها، هناك على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، علّ هذا يعينه على فهم لماذا يتعامل المصريون مع ما أنجزوه بهذا القدر من التشكك والارتياب.

تشكك طال كل شيء بما في ذلك محاكمة الديكتاتور العجوز، ففي اليومين السابقين على المحاكمة بدت مصر في قبضة الترقب والقلق. كان ثمة قناعة لدى قطاعات عريضة بأن مبارك لن يحضر محاكمته، وزاد من هذه القناعة أن الجيش صعّد من عنفه تجاه المعتصمين في التحرير لينتهي الأمر بفض اعتصامهم والسيطرة على الميدان بالكامل أول أيام رمضان، كأنما يستبق الجيش بهذا ما قد يحدث اعتراضاً على غياب مفترض لمبارك عن محاكمته.

حين مررت بميدان التحرير صباح اليوم التالي لفض الاعتصام، شعرت كأني في ثكنة عسكرية. عساكر الأمن المركزي كانوا يقفون بالمئات خلف دروعهم متحفزين، وأكثر من مدرعة من مدرعات الجيش وقفت "تحرس" مداخل الميدان. ضباط وعساكر المرور كانوا يبالغون في أداء عملهم ويرفعون أصواتهم بخشونة متحمسة. الجميع هناك كان يتصرف كالمنتصر في حرب شرسة. سائق التاكسي نظر حوله حانقاً قبل أن يوجه لي جملته: "شكلهم فضوا الاعتصام عشان يعتصموا هُمّا في الميدان". لم يقلها بصيغة المعترض على مسلك الجيش العنيف تجاه المعتصمين السلميين بالأمس، بل بطريقة الحانق على الطرفين معاً. أقول له سيُحاكم مبارك غداً بفضل الثورة، فيرد: "أفلام! حضرتك بتصدقي الكلام ده؟!".

على عكس توقع الرجل، لم تكن الجلسة الأولى لمحاكمة مبارك مجرد فيلم، رغم احتوائها على كثير من العناصر الدرامية الكفيلة بإخراج فيلم مثير.
القاعة مرتبكة والطاغية العجوز يرقد فوق فراشه في القفص. ابناه واقفان بملابس الحبس البيضاء، ووزير داخليته يتململ برداء السجن الأزرق. للوهلة الأولى يرتجف قلبي، أعرف الآن معنى المشاعر المختلطة على نحو أفضل. أرتعش وجلاً وفرحاً، لكنّ نغزة مفاجئة توترني. أشعر للحظات أن عرض محاكمة عجوز مريض على الهواء مباشرة أمام ملايين المتابعين على امتداد العالم فيه شيء من انتهاك الحرية الشخصية وحقوق الإنسان. لكن الذكريات تتالى: أستعيد قناصة نظام مبارك، وهم يصطادون المتظاهرين برصاصات موجهة نحو الرأس مباشرة. المدرعات والعربات التابعة للنظام، وهي تدهس من يقف في طريقها خلال أيام الثورة. تستحضر ذاكرتي الغازات المسيلة للدموع التي كادت تعميني وتخنقني، وضابط الشرطة العسكرية الذي ركلني ودفعني لأرتطم بالرصيف يوم جمعة الرحيل. أعود لأنفض كل شيء عني محاولةً التركيز في محاكمة مملة، إلا أنها ترسخ قيمة القانون بطريقة غير مسبوقة في تاريخنا.

ربما أراد المجلس العسكري للمحاكمة أن تكون "قطعة حلوى للثوار ليعودوا إلى بيوتهم" كما رأى روبرت فيسك، لكن ثمة شواهد كثيرة تؤكد أن هذا الإلهاء صعب الحدوث، لأن هذه المحاكمة، كما يراها الثوّار، بداية لقائمة طويلة من أهداف الثورة، كما أن المعركة الأساسية ليست مع مبارك في حد ذاته، إنما مع الاستبداد أياً كان مصدره. والأهم أن منظر مبارك وهو في القفص لن يُمحى بسهولة من نفوس المصريين، وربما يكون، في حال سارت المحاكمة كما نتمناها، فاتحة لمحاكمة كل من لا يزال يقتل ويعذب ويعتقل المواطنين حتى الآن.

الثورة لا تزال قائمة. الثوّار يواجهون العنف والبطش والاعتقال، والشهداء ما زالوا يتساقطون (آخرهم محمد محسن شهيد "موقعة العباسية")، والمجلس العسكري يخوِّن من لا يتفق مع جنرالاته الذين ينزلقون بالتدريج إلى نفس ترسانة الاتهامات التي اعتاد نظام مبارك أن يوجهها لمعارضيه. ووسط هذا كله جاءت المحاكمة لتمنح المشهد الملتبس والفوضوي بعض الحيوية.

تلقف المصريون مجرياتها وانشغلوا بتفاصيلها. رآها بعضهم تدعيماً لموقف المجلس العسكري، في حين اعتبرها آخرون ثمرة الضغط المتواصل للثوّار واعتصامهم في التحرير، لكن إلى جانب مصر الثائرة والمنغمسة تماماً في مجريات التغيير الحالي والمهتمة بلعبة موازين القوة بين الثوّار والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، ثمة مصر أخرى لامبالية بكل هذا الصخب، مصر محايدة متفرجة على ما يحدث حولها كمن يتفرج على فيلم سينمائي، بل أحياناً لا يهمها التفرج أصلاً لانشغالها بتصريف أمورها اليومية البسيطة.

في الوقت الذي تابع فيه الملايين محاكمة مبارك ولاحقوا أخبارها، على بعد بضعة شوارع لا أكثر، وفي منطقة شعبية قريبة من مسكني، كان ثمة من لا يهتم بأمر الطاغية المريض، ولا يأبه بمجريات محاكمته، ولا بمصير الثورة من الأساس. في مواجهة محطة مترو أنفاق فيصل كان الموت يعلن عن حضوره والرعب يلقي بظلاله الكثيفة.

مشاجرة بين رجلين تحولت فوراً إلى معركة شرسة تورط فيها الشارع كله، وراح ضحيتها خمسة أشخاص. أهاتف صديقة تسكن هناك فتخبرني أن إطلاق الرصاص المتبادل لم يتوقف ليومين متتاليين. "صيدلية مصطفى تم إحراقها وطالت النيران سوبر ماركت لاوندي" تقول بصوت مأخوذ بما يحكي، قبل أن تشوبه رنة فرح شامت وهو يعلن: "الجيش هناك بس مش عارف يسيطر على الوضع". من متابعة الصحف أعرف أن معارك ضارية أخرى نشبت في أكثر من منطقة منها حي السيدة زينب، ومنطقة السبتية القريبة من شارع الصحافة.

صباح اليوم التالي، في شارع محمد مظهر بحي الزمالك الراقي، لم يكن الناس أكثر اهتماماً.
هناك جلس العشرات أمام سفارة السويد، فوق كراسٍ صُفت بجوار بعضها بعضاً مستندة إلى حائط السفارة، منتظرين الحصول على تأشيرة ذلك البلد الاسكندنافي البعيد. الجو بالغ الحرارة والصيام جعل الناس نافدي الصبر، ومحاكمة مبارك تبدو كأنما جرت في عالم آخر، لا أحد يشير إليها أو يهتم بها، كأن الرجل بكل ما يخصه أصبح ماضياً لا يرغبون في تذكره. فقط يتشوقون لإعادة ترتيب حياتهم بعد أن تعطلت طويلاً بسببه.

نُشِرت المقالة في ملحق "نوافذ" بجريدة المستقبل اللبنانية بتاريخ 21 أغسطس 2011.

No comments:

Post a Comment