Tuesday, September 11, 2012

الصعود لأعلى







منصورة عز الدين

 حين نزلتِ إلى الشارع في ذلك المساء فوجئتِ بهدوء مريب يغطي كل شيء، كأن أصوات الصراخ والسحل والضرب، التي وصلتكِ قبلها بقليل، كانت تنبع من عالم آخر. كنتِ خائفة، عليكِ الاعتراف بهذا، ورغم هذا طفتِ بالشوارع تبحثين عن مظاهرة ما للالتحاق بها. هنا مكانك، مع هؤلاء الغاضبين وبينهم. عربات الأمن المركزي الكئيبة كانت تسيِّج كل شبر. والهدوء المخاتل، لم ينجح في تبديد الرائحة الكريهة للغازات المسيلة للدموع. رائحة تبدو كأنها مادة صلبة تقف حاجزاً بينك وبين العالم. كان الليل قد ألقى بعباءته الداكنة، المصابيح المضاءة هنا وهناك لم تنجح في إزاحته، لتبدو المدينة كما اعتدتِ أن تصفيها: مدينة شبحية تجاهد كي تبدو على غير حقيقتها.
في لحظتكِ تلك، كان ثمة اختلاف، فهذا الغضب الرائع اللامبالي بالعنف والوحشية وضع البلد بكامله في الضوء.. عرّى التجاعيد، وكشف ذلك السوس الهائل - الذي اعتاد أن ينخر في الجسد العجوز- تمهيداً للقضاء عليه. وقتها، بينما تسيرين في الشوارع تتسولين بعض الأكسجين بعيداً عن الغاز الكريه، بدت النتائج النهائية ضبابية، لكن حدسكِ أسرّ لكِ، بأن ما يجرى وما سيجرى يختلف عن كل ما مر.

في أيام تالية، كان ثمة: صدور عارية تستقبل الرصاص الحي والمطاطي.  عصابات مسلحة تهاجم البيوت. امرأة وحيدة بملابس شعبية، تخطو في الحي الفخم، باكيةً ابنها، العامل البسيط، الذي اخترقت رصاصة حلقه تاركةً إياه في المستشفى غير قادر على الحراك. وصديق للعائلة قتلته رصاصة غادرة قبل أن ينتهي من رسم اللوحة، التي تركها في مرسمه على عجل، من أجل مشاركة رفاقه الغاضبين في رقصة الحياة في الشوارع والميادين.

وأنتِ وسط هذا كله. كنتِ تتحركين كمن سيفقد حياته بعد قليل ويرغب في التهام أقصى ما يستطيعه منها قبل فقدها. غير أنكِ لم تفقدي حياتك، بل على العكس قمتِ باستعادتها. الضابط المتجهم الذي صرخ في وجهكِ وألقى بكِ كي ترتطمي بحافة الرصيف، منحكِ سراً صغيراً، قررتِ لحظتها، ألاّ تبوحي به لأحد: كدمات زرقاء، رحتِ تتخيلينها منطبعة في جسدك، تدربكِ على التعاطي مع الألم، لفترة لا بأس بها. حين بدأ عنفه نحوكِ يتصاعد، قلتِ لنفسكِ: ما معنى كدمات سخيفة أمام الأرواح التي تحصدها آلات القتل البشرية الحاقدة؟ ولمّا شرع في جرّكِ من شعركِ وركلكِ دونما توقف، أخذتِ مغمضة العينين، تستعيدين أفكار حنا أرندت عن عادية الشر، كشذرات بلا رابط يجمعها.
كنتِ كالملقاة في جب عميق، أسفله مغطى برمل يتسرب إلى أنفاسكِ، ويترّسب في رئتيكِ، مسمماً احساسكِ بالوجود. تصحر من نوع جديد كان يزحف بداخلك، وأنت مرمية في ذلك القاع، تصرخين مغمضة العينين. العالم كله يجرى في الداخل، تراه عيناكِ المغمضتان كأنما تراقبان حياتك تنفصل عنك وتتوه منكِ في الزحام. عمياء، ومقيدة بأصفاد قاسية، بدأتِ تتخيلين نفسك تصعدين دَرَجاً وهمياً بعد أن ظللتِ طوال عمرك تراوحين مكانك. ثلاث درجات لأعلى تتبعينها بثلاث درجات لأسفل، هكذا عشتِ حياتك السابقة.
كان إغماض العينين لحظة احتضان الرصيف لكِ، هو سبيلكِ الوحيد لاستدعاء البهجة، لرؤية ما وراء الإهانة والألم والركلات: قوس قزح، لحظات الطفولة الهاربة، أزهار الخوخ، وأريج الياسمين.

للياسمين مكانة خاصة في ذاكرتكِ، أريجه مختلطاً بالفانيليا، وعبير زهر البرتقال، مزيج يعني الحياة. نعم، ثمة أشياء، كانت لا تزال قادرة على استدعاء الحياة وايقاظها بداخلك، وإلاّ كيف أنتبهتِ لدفقة النور الهائلة التي انبثقت أمامك فجأة لتساعدك على صعود الدَرَج إلى أعلى، حيث الحياة كما هي لا كما كنتِ تراقبينها عن بعد.

ا.ل.ح.ي.ا.ة كانت تنتظرك هناك وسط الجموع الهاتفة الغاضبة: أصوات رصاص، نيران تشتعل خلفك وبجوارك، غازات تحرق جلدكِ وتعميكِ عن الرؤية، ويد باطشة تلقيكِ بقسوة فوق الرصيف الصلب. كل هذه الأشياء كانت دليلاً على أنك لا تزالين حية.

أبريل 2011.. تُرجِمت القصة للسويدية والسلوفينية

الصورة بعدسة: راندا شعث

No comments:

Post a Comment