Saturday, September 20, 2014

جبل الزمرد.. الحكاية التي أهملها الرواة



القاهرة - أحمد زكريا



فكرة الاشتباك مع حكايات "ألف ليلة وليلة" في عمل روائي ليست جديدة، سواء على مستوى استلهام إحدى هذه الحكايات أو الإضافة إليها. لكن اشتباك الكاتبة المصرية منصورة عز الدين (1976) في روايتها "جبل الزمرد" الصادرة حديثاً عن "دار التنوير" في القاهرة، يبدو مختلفاً منذ البداية، إذ وضعت لنصّها عنواناً فرعياً هو "الحكاية الناقصة من حكايات الليالي" وراحت تحاكي حكاية من حبكتها، اعتبرت أنها لعِلَّةٍ ما طُردت من بين حكايات الليالي، وأغفلها الرواة والمدوّنون وحرّفوها حد التضاد مع أصلها، وهم ينشدون الليالي في أزقة وحانات بغداد والقاهرة ودمشق.
عوالم متوازية خلقتها عز الدين في 17 فصلاً، مزجت فيها بين الواقعي والأسطوري، على لسان "بستان البحر"، الرَّاوية المنذورة لشيء غامض، كاهنة الأبيض والأسود، المولودة فوق جبال الديلم، على مقربة من أطلال قلعة "أَلموت" في إيران.
الحكَّاءة التي حملت عبء ملء ثغرات الحكاية التي ورثتها عن أبيها، الذي كان مقتنعاً بأن ابنته إن استطاعت فكَّ شفرات المخطوطات التي تركها لها فستنتهي تغريبة شعب جبل "قاف" ويعود إلى موطنه الأصلي، كما ستُبعث الأميرة "زمردة"، ابنة الملك "ياقوت"، من رمادها لتحكمه (عبر تنقية حكاية الأميرة من التحريف وإعادتها إلى متن "ألف ليلة") مستفيدةً من حكمة "قاف"، المؤدية إلى فهم الذات ومن ثم فهم العالم.
تقفز عز الدين، أو بالأحرى راويتها "بستان البحر"، بين الأزمنة لتعقد مصالحة بين ماضٍ سحيق وحاضر معاش، لتجمع أشلاء الحكاية وتربط بعفوية بين خيوط شخصياتها، فلا يكاد القارئ يفرّق بين الواقعي والأسطوري. وفي هذا السياق، تقصّ حكاية "زمردة" التي خطف أبوها الملك أمها "نورسين" من منطقة "جالسيان" لتعيش معه على الجبل المذكور، فتهرب الأم وتترك ابنتها وهي في سن الخامسة.
ثم تورد الراوية في فصل آخر حكاية "هدير"؛ الفتاة المصرية التي أضاعت وهي في السادسة من عمرها خاتماً يعلوه قطعة من الزمرد كان لوالدتها التي تركتها وسافرت مع زوجها الجديد إلى كندا، لتعيش "هدير" في القاهرة عام 2011 مع جدتها "شيرويت" ذات الخلفية الأرستقراطية.
استدعت عز الدين من "ألف ليلة" شخصية "بلوقيا"، لكنها غيّرت دوره الأصلي، ففي "جبل الزمرد" أنجز "بلوقيا"، القادم من الطرف الآخر للعالم، رحلة طويلة إلى "قاف" تعرض خلالها لمخاطر عدة أثناء مروره بجبل "المغناطيس"، فقط لأن هاجساً ألحَّ عليه منذ صباه ليرحل ويتيه. وهناك أيضاً شخصية الرجل الإيراني الأربعيني "كريم خان" الذي قابلته "هدير" أثناء رحلتها إلى المكسيك، واستدرجها في حوار ثم دعاها إلى البحث عن "بستان البحر" بعد عودتها إلى القاهرة، لتعمل معها في دراستها عن بطلات "ألف ليلة" في الحكايات الشعبية.
 ورغم اختيار عز الدين القاهرة في 2011 لتعيش فيها "هدير"؛ إلا أنها جعلت أحداث ثورة يناير التي زلزلت مصر خلفية فقط في حياة هذه الشخصية، تسمح للكاتبة بزلزلة جبل "قاف" في الحكاية، بعد أن دوّنت "مروج" حياة الأميرة "زمردة" مخالفةً بذلك قوانين المملكة التي تُحرّم تدوين حياة الأميرة. لكن "مروج" ليست نادمة أبداً على ما فعلت رغم ما ستتعرض له المملكة، لإيمانها بأن الأميرة تسببت في لعنة المملكة، لعنة لن تفك إلا بالإسراع بالمصير المحتوم: أن تضطلع "مروج" شخصياً بحرق الأميرة التي ردّدت قبل أن تتحوّل إلى تراب: "الحكاية ستعيدني، وكاهنة الأبيض والأسود ستجمع شظاياي".
أثارت عز الدين إشكالية العلاقة الشائكة بين الشفهي والكتابي من خلال المقدمات التي وضعتها على رأس فصول الرواية، مثل "لم تكن الكتابة يوماً قنطرة وصل، بل خنجر قطع، غير أن رومنسيتنا هي ما أوهمنا بالعكس"، و"الكتابة ليست جسراً نعبره، بل حفرة نقع فيها"، و"تموت كلماتي ما إن أنطق بها، لا تغادرني، تلاحقني أشباحها لمعاقبتي على جرم غامض"، و"الكتابة انغلاق الدائرة، خيانة المعنى لذاته". هكذا تتجلّى الإشكالية في نهاية الفصل قبل الأخير، "النزوح إلى العالم"، في خضم مأساة التيه التي تعرّض لها شعب "جبل قاف" عندما فكّر في كيفية الحفاظ على تراثه الشفوي. وألمحت عز الدين إلى ذلك بقولها إن "الكتابة موت الكلمات" وإن "الكلام حيوي، مندفع وصاخب، والكتابة محاكاة باهتة له، الكلام هو الأصل، والكتابة نسخة مزيفة".
"من يحرق الأميرة يتمكن وحده من استعادتها.. من يزلزل الجبل يقدر دون غيره على بعث أميرته مرة أخرى" قالت "بستان البحر" بعد أن رأت في خيالها مطراً من زمرد يهمي بغزارة، فذهبت إلى مكتبتها لتجد حكاية "جبل الزمرد" تتوّسط جميع طبعات "ألف ليلة"؛ كأنها لم تغادرها قط. هكذا ختمت منصورة عز الدين روايتها لتترك أبواب التأويلات مفتوحة.

ارتكزت الكاتبة في روايتها على عدة مصادر ذكرتها في نهاية الكتاب، مثل "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" لابن فضل الله العمري؛ "محاورة فايدروس" لأفلاطون؛ "صيدلية أفلاطون" لجاك دريدا؛ "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" لابن الوردي؛ "عجائب الهند" لبرزك بن شهريار؛ "منطق الطير" لفريد الدين العطار؛ بالطبع "ألف ليلة وليلة".

عن جريدة "العربي الجديد".. 27 أغسطس 2014

Tuesday, September 2, 2014

أن تحرِّف حكايتك بنفسك



ممدوح رزق

حينما أضاعت (هدير) خاتم أمها الزمرد لم يُرسم مصير محكوم بالتخلي، والفقدان فحسب، كما أن هذا الخطأ البسيط لن يصبح مجرد إشارة لتحقق النبوءة التي تربط بين ذلك الفعل المنسي للطفلة، واستعادة الحكاية الأصلية للأميرة (زمردة) .. سيتحول ضياع الخاتم إلى علامة تقود (هدير)، وكل بطلات الحكايات الموازيات إلى تشكيل عمائهن الخاص قبل أن يتكفل الآخرون بهذه المهمة.

(في حكاية) جبل الزمرد( ، كان حضور زمردة الآسر يلوّن الفضاء بلطفه وذكائه وجرأته. لم تعرف شهرزاد أن خبر زمردة، كما وصلها وكما حكته لشهريار، لم يكن إلاّ تحريفًا مشئومًا لقصة حياة أميرة واقعية عاشت ذات يوم فوق جبل قاف السحري، حياة تلاشت ولم تخلِّف وراءها سوى حكاية خضعت لتحريف مستمر، وتنتظر من يخلّصها مما علق بها من آثار التشويه ويُحيي ما مات من أجزائها، أو أُغرق في ضباب النسيان(.

هكذا ستبدو رواية (جبل الزمرد) لـ (منصورة عزالدين) الصادرة مؤخراً عن دار (التنوير) كأنها إدانة للعب غير اللائق الذي تراكمت بصماته الطائشة فوق حكاية (الأميرة زمردة)، كما أنها بالضرورة ستتجلى كتبرير لكافة الخطوات التي سيتم اتخاذها لتخليص الحكاية من جروحها، وبعث الأميرة من رمادها، ورجوع جبل (قاف) للتجسّد، وعودة أهله إليه بعد قرون من التيه .. لكن ما يظهر في هيئة استراتيجية منطقية من الدوافع، والإجراءات ليس في حقيقته أكثر من تلك الأرض المستوية اللازمة للتحرك .. طريق ممهد ينبغي استخدام صلابته المفترضة للحصول على الأمان الذي تحتاجه النوايا المضمرة للاختراق .. الحيلة، أو ربما الفخ الذي بدونه لا يمكن تمرير الاحتياج الخبيث للتعاطف، والفهم، ومن ثم الإيمان لو أمكن .. (جبل الزمرد) ليست وثيقة سردية ضد التحريف، كما أنها لا تتورط في تحريض معلن للتشويه بعكس ما ينادي به خطابها الظاهري بل هي في الواقع ـ وهو كنز الرواية المخبوء في تصوري، المفارق للتوقع ـ دعوة ـ لا تخلو من الصراخ المكتوم للغة الليالي ـ كي يكتب كل صاحب حكاية حكايته بنفسه .. أن ينتج تحريفه الخاص، وتشويهه الذاتي قبل أن يصبح مجرد (نسخة) بأيدي، وألسنة اللاحقين.

)مش مسألة مصادفات. أكيد سمعتِ عن العوالم المتوازية، المسألة هنا أبسط، مجرد أحداث وشخصيات متوازية، بتكرر أفعال بعض، إما على فترات زمنية مختلفة أو في زمن واحد وأماكن مختلفة. اختلافات بسيطة ممكن تحصل وتسبب اختلافات أكبر، لكن جوهر الفعل واحد. إحنا نسخ من بعض، مفيش مجال للتفرد إلاّ في حالات نادرة.
-  زي حالة أميرتكم؟ سألته بغيظ مكتوم).

إذن فالصراع الأكثر عنفاً يدور ـ داخل العالم السفلي للرواية ـ تحت سلطة هذا الجدل .. أن تكون التكرار الذي يعيد الأصل كما كان، أو أن تكون الأصل الذي لا يمكن تكراره .. هنا تتناسل الهواجس، والظنون حول إمكانية التطابق، وكيف يمكن للتكرار مهما بلغ انضباطه أن يصل إلى درجة حصينة من التماثل، والأهم كما أرى: ألا يكمن خلود الأصل حقيقة في شجاعة، وقدرة ما يعد نسخاً له على خيانة ما يسمى بالجوهر الواحد .. اكتشاف مغايرتها، وتمردها على أقوى صلات التشابه بينهما.
(آتي على ذكر أبي فترد ببساطة، أو تحكي ضاحكة طُرفة عنه. أندهش كيف لا تتصرف
كالأخريات؟ لماذا لا تحكي عنه بغضب أو حتى ببرود؟ أكاد ألومها، أحسُ أنها لم تقدره التقدير الكافي، ولم تندم قط على فشل زواجهما).
 
ستكون هناك دوماً حكاية ناقصة مع كل استرداد محتمل لحكاية أصلية .. خلق يتكوّن وفقاً لحتميته، وخياله، وبناءً على ارتكاباته المعادية للخرائط .. لن يكون الأصل أكثر من وسيلة ربما للعثور على متاهة متفردة .. ما قرأته (هدير) عن حياتها ـ وهو ما يجب تشريحه في السياق الأسطوري ـ لم تكتبه (بستان البحر) مثلما يبدو إلا إذا تصورنا أنهما كيان واحد يزاوج بين التمسك بالعودة إلى النقطة الأولى، وبين التحرر منها .. تلك التدوينة عن أبيها، وأمها كتبتها (هدير) بنفسها حيث (بستان البحر) ليست سوى أداة لنسج حكايتها مثلما هي أداة أيضاً لبعث أميرة جبل الزمرد ..  كأن كل عماء يستخدم الآخر لتمكينه من تحسس الثغرات المراوغة للمعرفة .. كل هجر، وانفصال، وكل رغبة (فرويدية) في الأب ـ التي تضيئها العلاقة مع (كريم خان) وهو يكبرها بسنوات كثيرة في حكاية (هدير) ـ يجب أن تمتلك محركها الخاص، لا أن تعمل نتيجة الخضوع لآلية حكايات أخرى.

(في غمرة التغييرات الطارئة لم ينتبها لي. ثم ظهرت أُخرى عرّفها أبي إليّ. حقدتُ عليه وقتها أكثر من حقد أمي نفسها. لست واثقة أصلاً من أنها غضبت منه ولو قليلاً بدت كأن ما يحدث في حياته الجديدة لا يعنيها، في حين شعرتُ أنه خانني بشكل ما، رغم أني لم أتيقن أبدًا من أنه
بدأ علاقته بالأخرى أثناء زواجه بأمي).


تمثّل (مروج) كاتبة سيرة (زمردة) استرجاعاً لهدم (دريدا) لمركزية (الصوت) مقابل يُتم (الكتابة) بحسب (أفلاطون) .. (مروج) كاتبة سيرة (زمردة)، خالطة الحقائق بالأوهام، والوقائع بالتخيلات .. "الحكاية ستعيدني. وكاهنة الأبيض والأسود ستجمع شظاياي" .. لكن ربما ما أدركته (بستان البحر) أو (كاهنة الأبيض والأسود) ورفيقها (كريم خان) وهما يستعيدان (زمردة) بواسطة (هدير) أن الحكاية ينبغي أن تكون مضادة بطريقة ما .. أن الكتابة في حد ذاتها مهما حاولت أن تكون ناقلاً أميناً أو محايداً فهي لابد أن تمارس انتهاكاً للمرجع المضمون .. خلخلة للذاكرة .. إفساد للسياق الذي يحمي البديهيات .. هذا ما قامت به (مروج)، ربما لأنها عرفت ـ مثلما أدركت (هدير) بعد 25 يناير عن مصر ـ أن الغربة موضوع أكبر من تزلزل جبل (قاف).