منصورة عز الدين
لا يعد فوز الروائي المجري لاسلو
كراسناهوركاي بجائزة نوبل لهذا العام مفاجئًا على الإطلاق، فعلى مدار السنوات
الأخيرة يحتل اسمه، عن استحقاق، موقعًا بارزًا في المراهنات والتوقعات الخاصة
بالجائزة، هذا بخلاف أنه يحظى بتقدير كبير في الدوائر الثقافية العالمية باعتباره
أحد أهم الكتاب الأحياء الذين أضافوا الكثير إلى المشهد الأدبي المعاصر.
لم تفاجئ جائزة نوبل متابعيها إذن، كما
بات يروقها أن تفعل مؤخرًا. علق البعض بأن هذا اختيار آمن، لكنه وإن بدا كذلك،
فإنه اختيار يعيد الاعتبار إلى فكرة الروائي مُشيِّد الكاتدرائيات الروائية على
نحو ما نجد لدى روائيين عظام من كتاب القرن التاسع عشر، خاصةً الروس منهم، لكن
كاتدرائياته الروائية وإن حملت مسحة كلاسيكية لا تخطئها العين، فهي موسومة أيضًا
بالتجريب والتجديد، بل والمغامرات التقنية. وُلِدَ هذا الكاتب المجري مكتملًا، ولا
مبالغة في هذا القول، إذ يصعب تخيل أن "تانجو الخراب" رواية أولى
لكاتبها، لكنها كذلك، فبعض الكُتَّاب يولدون مكتملين، لكن قلة منهم من يواصلون
التطور بعد هذا الميلاد المدوي، إذ يحفل تاريخ الأدب بأسماء من لم يستطيعوا تجاوز
أعمالهم الأولى العظيمة، فركن فريق منهم إلى الصمت، وراكم فريق آخر عملًا تلو
الآخر، دون بلوغ ألق العمل الأول الذي لفت الأنظار إليهم. أما كراسناهوركاي، فواصل
تقدمه من عمل لآخر، ولم يرتبط اسمه بعملٍ دون غيره.
عندما تعرفت عليه لأول مرة في 2017، عبر
قراءة روايته "تانجو الخراب" (دار التنوير، بترجمة الحارث النبهان)، كان
أول انطباع وصلني بعد الانتهاء منها، أنني أمام كاتب لا يُحكَم عليه بمعيار
المجايلة والآنية، بقدر ما يستحق أن نراه في ضوء تاريخ الأدب العام بعلاماته
الكبرى. لا يعني هذا أن صاحب "كآبة المقاومة" يكتب كتابة تنتمي تقنيًا
إلى زمن سابق، بقدر ما يعني أن أعماله لديها دومًا الجديد الذي تخبرنا به وأنها
تبدو كأنما تخاطبنا من المستقبل كاشفةً عن الشرط الإنساني وعن هشاشة وجودنا المعرض
للزوال في أي لحظة، وهي إذ تفعل هذا تدمج بتناغم لافت أهم ما يسم الأدب الكلاسيكي
العظيم بما يمنحه التجريب للإبداع من مرونة وجاذبية. لا عجب في هذا، فكراسناهوركاي
قادر على المصالحة بين الأضداد. يتجلى هذا مثلًا في مهارته في المواءمة بين درجة
تشويق عالية وبين إيقاع تأملي هادئ يعتمد على جمل شديدة الطول مشغولة بعناية
ومشاهد بصرية محكمة، فالتشويق عنده ليس وليد السرعة، إنما الإخفاء والحذف، أي أنه
يبلغه من خلال التحكم في ما يكشف عنه تدريجيًا لقرائه، وما يثيره داخل عقولهم من
أسئلة لا تنتهي، ينثر أجوبتها بحكمة ومواربة على مدار العمل. هو لا يكتب بغموض،
لكنه يجيد الحفاظ على درجة منه مثيرة للمخيلة والأسئلة، وبالتالي يورط القارئ في
محاولة فهم دوافع تصرفات قد تبدو لأول مرة غير مفهومة ولا مبررة، وحتى بعد
الانتهاء من القراءة تظل بعض الأسئلة والتكهنات برفقة قراء كراسناهوركاي.
لقد أطلقت سوزان سونتاج عليه لقب
"سيد الأبوكاليبس المجري"، وهو وصف دقيق للغاية، فأعماله تترك في النفوس
إحساسًا بأننا على حافة انهيار ما، أو في انتظار طوفان سيجعل هذا العالم الروائي
بمكانه وشخصياته وطبوغرافيته أثرًا بعد عين في أي لحظة. ثمة دومًا خراب وشيك، أو
لعنة توراتية في طريقها للحدوث. ولا عجب في هذا، فالمخيال الديني (التوراتي
والإنجيلي) حاضر بقوة في عوالم كراسناهوركاي الروائية، والواقع يتحول إلى ديستوبيا
كاملة الأوصاف دون مبالغات خرقاء يتورط فيها كثير من كتاب الديستوبيا عادةً.
ديستوبيا هذا المعلم المجري حافلة بحيوات بائسة، وقرى غارقة في العزلة، وشخصيات
روائية لا تُنسَى يشرِّحها الكاتب بعين قاسية تخلو من الشفقة لكنها تخلو بالمثل من
أي أحكام أخلاقية وتبحث عن الفهم لا التعاطف، فتنتقل هذه الرغبة في الفهم إلى
القارئ.
في أعماله، يبدو كراسناهوركاي مولعًا
بالخراب، قادرًا على نسج تفاصيله بصبرٍ وأناة، لافتًا الانتباه إلى سماته الأرهف
التي قد تخفى على الأعين الغافلة. يُذكِّر هذا الولع بكاتب أوروبي كبير آخر هو
الألماني زيبالد، لكن مع بعض الاختلافات، فإن كانت جذور الخراب عند زيبالد نابعة
من التدمير ممثلًا في الحروب وفي التدهور بفعل الزمن، يبدو الخراب في رؤية
كراسناهوركاي كأنه الخيط الذي نُسِجت به قماشة عالمنا البشري، والمصير المتربص
بوجودنا كله. هذا بخلاف أن الخراب الأعمق عنده هو ذلك المستوطن في النفوس محيلًا
البشر إلى رقباء على بعضهم البعض ومصدر خطر لا يقل خطورة عن السلطة أو الكوارث
الطبيعية. يستدعي هذا لذهني بيت صلاح عبد الصبور الشهير: "تعالى الله، هذا
الكون موبوء، ولا بُرْء"، غير أن هذه الرؤية المتشائمة، أو الكابوسية، إن
شئنا، لا تعني الاستسلام، بل إن في كتابة كراسناهوركاي نزعة مقاومة، كأن تعيين
الخراب وحده الطريق للرؤية والاستبصار، والنظر إلى المريع بعين تقدر الجمال،
وكتابة تزيد من منسوبه في العالم.
كشخص موسوم بمخيلة كابوسية، وبعين ترى
الخطر في كل ما يحيط به، ظلت علاقة كراسناهوركاي بالطبيعة سيئة. اعتاد النظر إليها
باعتبارها عدائية، أو بحسب كلماته باعتبارها العدائية مجسدة، لكن هذه النظرة
اختلفت، ما إن انفتح على ثقافات شرق آسيا؛ خاصة الثقافتين اليابانية والصينية،
يقول في أحد حواراته: "بدأتُ أرى في الطبيعة موطنًا للغموض والتجلّي، وفي
الوقت نفسه وجدتُ في بعض ترتيباتها المحيطة بي قدرًا من الجمال الخالص. والآن بتُّ
أعتقد أن الشيء الوحيد الموجود هو الطبيعة.
والواقع الذي يدركه المرء هو الطبيعة نفسها، وما بعد هذا يقبع العدم."
العلاقة الملتبسة بالطبيعة مكنت صاحب
"الحرب والحرب" من المواءمة بين قطبين آخرين، فالنظرة العدائية الأولى أتاحت
له إتقان توظيف أبسط عناصر الطبيعة باعتباره تهديدًا بزوال العالم، أكتب هذا وفي
بالي موتيفة المطر المنهمر مثلًا، وهي موتيفة متكررة عنده تحيلنا للتفكير في وابل
مهلك، وبِرك ماء عطن، ونباتات يأكل العفن جذورها، وحوائط رطبة. كأننا أمام نذير
بطوفان توراتي يستحضر كل المدن الهالكة الكامنة في وعينا الجمعي كبشر. والنظرة
المتأثرة بثقافات شرق آسيا، هي ما ساعده على القبض على الجمال المتواري خلف
الفظاعات.
من ناحية أخرى، اختبر كراسناهوركاي
الفقر في شبابه، وأقام في قرى صغيرة منعزلة، متنقلًا من إحداها للأخرى هربًا من
التجنيد الإجباري. عمل عاملًا في منجم لفترة، وحارسًا ليليًا لقطيع من الأبقار
لفترة أخرى، وصرح بأن هذا كان عمله المفضل لأنه أقام وقتذاك في مكان غير مأهول
يبعد كثيرًا عن أقرب قرية له.كانت حياة متقشفة، لكن القراءة أغنتها، إذ رافقته
فيها أعمال دوستويفسكي. وعمل كذلك مديرًا لبعض البيوت الثقافية في قرى وأماكن
نائية. يعترف بأن عائلته بورجوازية لكنه فضل الاستقلال عنها والعيش مرتحلًا بين تلك
القرى الفقيرة المعزولة، وحسنًا فعل لأن هذه التجارب أغنته بدرجة كبيرًا، ومكنته
من اختبار الحياة بوجوهها المختلفة، ما تجلى في ثراء أعماله الروائية والقصصية. أورثته
هذه الحياة أيضًا ميلًا إلى الاختفاء والتلاشي بلا أثر من آن لآخر. يبدو الأمر كأنما
تنشق الأرض وتبتلعه تاركًا للآخرين التساؤل عن مكانه، وعن هذا يقول إنه الأمر لا
يخضع لخطة مسبقة، فهو يترك القدر يقوده بحثًا عن ملجأ آمن بعيدًا عن الصخب والضوء،
وإن يعترف بأن عالم اليوم يصعب العثور فيه على بقعة يسودها الصمت أو يكتنفها
الظلام، فحتى أكثر البقاع نأيًا وعزلة يحدق بها دومًا الصخب والوهج المخيف.
نقلًا عن أخبار الأدب.