Monday, February 17, 2014

متاهة مريم.. عالم مشبَّع بدمويته وجنونه


نائل الطوخي

تبدأ القاصة المصرية منصورة عز الدين روايتها الأولى "متاهة مريم" بالحديث عن قرينة لمريم تقتلها في الحلم, ثم تموت القرينة, لدى دخولهما سوياً مكاناً غامضاً ترى فيه مريم أطيافاً غريبة لكل من رأتهم في حياتها.. هكذا يبدأ الفصل الأول من الرواية والذي صدرته الكاتبة بفقرة أسطورية عن تاريخ بناء سراي التاجي, تلك السراي التي نشأت فيها مريم والتي امتصت كل جنونها ودمويتها في خلاياها..
لم يكن موت مريم في بداية الرواية مجازاً بحال, يبدو موت مريم هو التيمة الأساسية للرواية, فبالرغم من تحرك مريم وحديثها وتفكيرها إلا أن ثم شيئاً ما تغير فيها.. منذ بداية الرواية تتطلع مريم للمرآة وتصاب بالذهول "لم يكن وجهها كما تعرفه.. شيء ما تبدل فيه. حل به او اختفى منه.. لا يهم إنما لم يعد يخصها".. تسأل مريم عن يحيي الجندي في الجريدة التي يعمل بها فتكتشف أنه ليس ثم من أحد اسمه يحيي الجندي في هذه الجريدة.. تفتح صفحات الجريدة لتفاجئ بأن هذا الاسم غير موجود بها على اي من صفحاتها.. إذن من كان الرجل الذي تحبه والذي أقامت علاقة معه.. ولأول مرة تسأل نفسها "هل يمكن لأسرة كأسرتها ان تترك ابنتها تعيش بمفردها دون مجرد سؤال عنها او حتى زيارة لها؟ اين هذه الاسرة اذن؟ ولماذا لم تجد ما يدل عليها حينما زارت البلدة التي من المفترض ان تكون بلدتها؟" هذه اسئلة لم تخطر ببال مريم من قبل.. هي الآن تكتشف زيف كل ما كانت تحياه من قبل.. بالمعنى الحقيقي لا المجازي.. يحيى الجندي غير موجود.. أسرتها غير موجودة "سراي التاجي نفسها لم يكن لها وجود".. "أنا لا أحد" قالتها مريم" .. أي أن مريم نفسها غير موجودة ..هي تشعر انها تلاشت.. وبدلاً من وجودها السابق تبدأ كل شخوص عائلة التاجي تشاركها جسدها.. تحضر المقابلة أولاً بين صوفيا جدتها وبينها.. صوفيا ماتت بعد رحلة جنون طويلة وبدأ شبحها منذ ذلك الحين يجول في القصر.. وشبح صوفيا يعاني من الصمم بالضبط مثلما كانت صاحبته تعاني من الصمم.. هنا تقابل صوفيا التي هي روح خالصة دونما جسد خاص بها جسد مريم الخالص والذي تسكنه أرواح عديدة ما عدا روحه الخاصة.. تبدو صوفيا هي المقابل الحقيقي لمريم من بين كل من عرفتهم مريم الموصومون بالجنون وبالموت.. (يحيي الجندي يبدو مسكوناً بالموت.. صالح الخادم المغرم بالجنازات.. زينب الجدة التي ظلت لأيام تحرس جثة زوجها خوفاً عليها من التمثيل بها.. نرجس الأم التي تحتضن جثة زوجها وتشعر لأول مرة أنها امتلكته دونما شريك.. على العموم يبدو طقس مضاجعة الموتى حاضراً في الرواية بشدة) بالإضافة إلى هذا فأفراد عائلة التاجي يموتون ويتركون وراءها أثاراً تراود مريم كل الوقت.. "هكذا يمكن لرائحة النعناع والريحان ان تستدعي صوفيا بشحمها ولحمها, ويمكن لسحابة من الدخان ان تذكر بيوسف وعلى الفور تختزل تكشيرة محفورة على الوجه كل تفاصيل نرجس, وتستحضر سرادقات العزاء روح صالح المسالمة" أي أن أفراد العائلة لا يموتون بالرغم من كون الموت هو هاجسهم الأصلي.. إنهم يرحلون غير أنهم يتركون وراءهم أثرا ما.. بالضبط كصوفيا التي رحلت ولكنها تركت وراءها شبحها.. وتتحول هذه الأثار لتصبح جزءاً من مريم.. والتي تخلت منذ بداية الرواية عن روحها عندما قالت أنا لا أحد.. "الأشخاص الذين كانوا جزءاً من عالمها تحولوا إلى اشباح تزورها من حين لآخر".. هذه الأشباح ليس فقط أنها تحل في جسد مريم.. وإنما تطاردها أيضاً على الدوام.. تطالبها بأن تنضم إليهم.. تتآمر عليها.. وتثير رعبا دائما في نفسها.. هنا بالتحديد لا يضحي الأمر خاصاً بعائلة مريم والتي هي عائلة التاجي وإنما يصبح الأمر متعلقاً بكل من عرفتهم مريم.. بمن فيهم يحيي الجندي ورضوى وإديث وفتاة المترو..
في مرحلة ما من حياة مريم تفقد ذاكرتها السابقة. تنسى كل ما تعلمته عن الرياضة والمعادلات الكيميائية ليتفهم عقلها فقط الفلسفة والمقارنات بين نيتشة وهيجل وماركس, وهذا ناتج عن طبيعة دراستها التي تحولت من القسم العلمي إلى كلية الأداب.. وهنا تلوح صوفيا لمريم.. تلك العجوز المجنونة التي أخذت في أيامها الأخيرة تجمع قصاصات الورق من الشوارع ومن اكوام القمامة.. وتتساءل مريم: هل كانت هذه الأوراق "هي ذاكرة وعقل بديلين لذاكرتها وعقلها [ذاكرة وعقل صوفيا] اللذين نخرهما السوس".. هنا ترتعب مريم من أن يكون لها مصير صوفيا جدتها التي تخلت عن ذاكرتها الأولى ومضت تقيم أو تجمع ذاكرة جديدة تماما.. ألا يبدو الأمر مشابها لواحدة تخلت عن نفسها في أول الرواية ومضت تجمع في جسدها قصاصات نفوس من كل من عرفتهم على مدار حياتها؟
هنا نصل إلى واحد من أهم فصول الرواية.. فصل كامل مروي من وجهة نظر الأخرى التي غادرت جسد مريم.. هذه القرينة التي بدأت الرواية بها وبقتلها لمريم تسمعنا صوتها.. تحدثنا عن حلولها في جسد مريم ثم عن مغادرتها إياه.. تحدثنا عن حقدها على مريم .. عن رغبتها في إضعافها كل تلك السنوات أو خلخلة ثقتها بالعالم الذي تتحرك فيه.. ثم صراع كان يدور بين مريم و بين تلك التي غادرتها.. فهما الاثنتان وجدتا نفسيهما في متاهة لا فكاك منها "و على من تقدم منهما أدلة كافية على عدالة موقفها وصحته أن تطرد الأخرى من هذا الحيز الضيق". تنظر القرينة (والتي أطلقت عليها الكاتبة لقب الأخرى) في المرآة فلا تجد نفسها. وترى من الشرفة امرأة حولاء تحتضن رجلاً يشبه التاجي.. هل هذه المرأة الحولاء هي صورة حالية لزينب الجدة والتي احتضنت فيما قبل جثة التاجي خوفاً عليها من الثأر منها والتمثيل بها.. هذا ليس مستبعدا.. خاصة أن مريم نفسها فيما بعد و في المشهد الختامي سوف ترى أباها الذي مات و هو يحتضن فتاة صغيرة هي مريم الطفلة نفسها .. في هذا العالم يتحول الزمان إلى متاهة ولكنه بخلاف المتاهة التقليدية.. هو متاهة بفضل كون كل طرقه مفتوحة على بعضها بشكل مطلق.. في المتاهة التقليدية تنغلق الطرق أمام بعضها البعض غير أنه تكون ثم مساحة للتواصل بين الطرق, أي انها طرق مغلقة إلا قليلاً, تسهم هذه الفرج بمخاتلة التائه, بتذكيره بأنه قد يصل يوماً, كيما يتحقق الهدف النهائي: التائه لايصل وفي ذات الوقت لا يتوقف عن السعي نحو الوصول, أما هنا فالطرق كلها مفتوحة تماماً, التقمص بين الشخصيات يتم بحرية شديدة.. كل الأرواح تحل في كل الأجساد.. كل الأزمنة تتداخل.. متاهة عصرية تناسب عالماً يعاني من الجهل بسبب تدفق المعلومات ولا محدويتها تحديداً.. هنا تبدو الكتابة نقيضاً لتيمة العزلة و التي اعتمدها مسرح العبث, لا عزلة هنا وإنما تدفق وسيولة لا متناهية, غير أن هذا بالتحديد ما يجعل من العالم كابوسياً.. تتلاشى هنا الحدود لا لتحقيق حلم رومانسي بعالم أكثر حرية وانفتاحاً وإنما لخلق عالم آخر أكثر بشاعة من الأول.
في فصل كامل تسرد الكاتبة عذاب (الأخرى) القرينة.. تسردها من وجهة نظر متعاطفة.. هذه الأخرى التي تمنت دوماً ملامح مريم والتي كرهتها والتي تشكو كونها تعرف كل مشاعر أهل القصر و لكنها لا تملكها.. هي المشاهدة من بعيد.. لا تعيش و إنما تشاهد.. بعد هذا الفصل نعود إلى مريم.. لا تحرص الكاتبة على وصف داخل مريم بهذا الشكل وإن فعلت فبحيادية و لامبالاة.. هي تحرص فقط على تأكيد المتاهة الوجودية التي تخضع لها مريم.. على كون كل الأشخاص الذين عرفتهم يتسيدون على تفكيرها ويتشابهون فيما بينهم وكلهم يتقدمون تجاهها محملين بنظرات شريرة.. تنقذها فتاة واحدة تشاهدها في المترو من الجنون المطبق.. تعيد لها ثقتها في ذاكرتها.. تذكرها بأن ثم أشخاصاً يمكن لها أن تذكر ملامحهم.. تذكرها الفتاة بإديث صديقة طفولتها.. وتبدأ هدنة كرفة العين تريح مريم من الأزمة الوجودية التي تعصف بها قبل أن تندلع الأزمة بأبشع صورها..
قبل نهاية الرواية تقول صاحبة بيت المغتربات لمريم بأن رضوى صديقتها وزميلتها, والتي غادرت البيت منذ أسبوع كما تؤكد لنا مريم نفسها, قد سافرت منذ ثلاث سنوات لتلحق بأبيها.. هل المرأة تكذب أم أن مريم فقدت ذاكرتها؟  كلا الاحتمالين خاطئان. ببساطة فمريم لا أحد.. مريم تتلاشى تماماً في الفصل الأخير.. لا أحد يراها.. لا أحد يسمعها.. لا تلفت انتباه ولو معارفها القدامي.. وهي ترى نفسها طفلة وترى أباها الذي مات منذ زمن طويل شاباً.. تصبح فراغاً مطلقاً.. مجرد شبح كما أصبحت صوفيا من قبل.. لم تكن مريم تملك القدرة على الحياة بمفردها منذ البداية.. كانت مغادرة الأخرى لها بمثابة قتل لها, سواء على مستوى الحلم أو الواقع, بمثابة إخفاء لها عن الأعين.. من هي تلك الأخرى؟ هل كانت تاريخ قصر التاجي المشبع بالدماء و الوساوس؟ هل كانت الأشخاص الذين عرفتهم.. نرجس وكوثر وصوفيا ويحيي ورضوى, والذين التحموا بها, كل بطريقته, وأضحوا يشكلون جزءا من حياتها ومن روحها؟ لا أحد يعلم ولكن المؤكد أن ثم قوة رهيبة قد غادرت مريم فلم تقو بعدها على الحياة.. هنا يبدو انتصار الأخرى كاسحاً.. وهنا يبدو أنها قد صارت هي الأجدر بحجز مكان مؤقت لها في هذا الوجود في مقابل انسحاب مريم إلى دائرة لا مرئية ولا مسموعة تمارس فيها هذياناتها الخاصة.

عن جريدة القدس العربي


No comments:

Post a Comment