Sunday, March 7, 2021

عن القمر الذي أكله هشام خطّاب





ألفت عاطف*

خرجت الرواية من رحم رؤيا في كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين، وفي هذا مفارقة في غاية اللطف؛ فالرؤيا بوجه عام تحتمل تعدد التأويلات والتفاسير. رموزها تعيد خلق نفسها في ذهن كل متلقي، وكذلك كانت رواية بساتين البصرة للكاتبة منصورة عز الدين، في حبكة مراوغة وسرد ذكي قابل للبناء والهدم وإعادة البناء على أكثر من أساس وفي أكثر من هيئة.

هل هي حكاية عن تناسخ الأرواح، أم عن المرض العقلي، أم عن متاهات الذاكرة و أبعادها الماورائية، أو ربما هي إعادة نبش للتراث والتقاط لحظة ذات خصوصية في التاريخ الإسلامي وربطها بحدث فارق في تاريخ مصر الحديث؟

يحلو لي دائما الحديث عن الجنون، والجنون المحتمل في هذا العمل يتبدى كشبح هادئ، يثب بخفة بين السطور. يتعمد إلقاء بذور الشك في موضع، ثم يحرص على طمس أثرها في موضع آخر، متنكرًا في ثوب الواقعية السحرية؛ فالتنقل بين الأزمنة لا يتحقق فقط للقارئ الذي يجد نفسه ساعيا ما بين القرن الثامن الميلادي، والقرن الحادي والعشرين؛ بل إن هشام خطاب بطل الرواية هو الآخر يترنح بين الزمنين، من خلال استحضار ذاكرة شخصية يزيد ابن أبيه، ودمجها مع ذاكرته الخاصة. ولأن الذكريات هي اللبنات المشيدة لهوية الفرد؛ يحدث هذا الاضطراب في هوية البطل، فيجد نفسه عالقا في دائرة مفرغة برزخية، بين أكثر من حياة.

هل هو هشام خطاب، أم يزيد بن أبيه؟ أم كلاهما؟! وهل نشأ هذا الصراع الغرائبي نتيجة حلول روح قديمة في جسد إنسان معاصر؟ أم نتيجة شطط ما في عقل هذا المعاصر وتقمصه لتلك الشخصية القديمة؟

السطور الأخيرة من الرواية ترجح الاحتمال الثاني، رغم إصرار الكاتبة على تجنب المباشرة بقدر المستطاع، من خلال عدم استخدام مصطلحات طبية أو حتى تسمية المكان الذي آل إليه مصير البطل، والتعريف بشخصية المرأة المرافقة له فيه، إلا أنه من اليسير توقع وجود هشام في مستشفى للأمراض العصبية، حيث الصراخ الهستيري في الغرف المجاورة والمرأة التي تجلب له الطعام وتحقنه بالمهدئات، وتعتبر الناس مجرد حالات!

وهنا تبدأ التفاصيل المنثورة بعناية هنا وهناك في الفصول السابقة- في التجمع لتشكيل نمط ما. تفاصيل بدت للوهلة الأولى كمواضع غموض، أو تساؤلات بإجابات مؤجلة أو حتى محذوفة، إلى أن جاءت السطور الأخيرة لتؤطرها وتمنحها معنى واضح.

هشام خطاب شاب من محافظة المنيا. ربته أمه ليلى، في ظل وجود شبحي للأب المفتون بالسيرة الهلالية، إلى حد هجر بيته والتنقل مع منشديها في القرى والنجوع. وبمرور الوقت وصل به الأمر للسفر إلى ليبيا والموت بها مغمورا بنشوة الحكي. كان هذا هو مستقبل حكاية حب ضحت لأجلها برضا أسرتها وعلاقتها بهم، بعد أن هربت معه في صباها وتزوجته رغما عنهم، وفي النهاية كان مآلها هو الهجر وتحمل أعباء تربية ابنها وإعالته وحدها تماما، مما صنع منها تلك الأم الشكاءة المتذمرة القاسية الدائمة التبكيت لولدها الوحيد. تقوم بمهامها اليومية وهي تندب حظها، وتسترجع ذكرياتها الأليمة وتوبخ هشام لأتفه الأسباب. علاقة مضطربة وطاردة وضاغطة تشكلت بين الأم والابن، وعلى الرغم من ذلك، لم نر أي رد فعل غاضب من قبله، كان يبتلع كل همومها ومشاعر الذنب التي تشحنه بها، حتى تشكلت بداخله تلك النزعة العدوانية السلبية التي انفجرت لحظة دفعه لها في النيل!

ظل هشام محتفظا بسلوكه البار بأمه، ولأنها كانت لا تكف عن الكلام عن جمالها وشبابها المنصرم، اعتاد هو الآخر على تجاهل اسمها الحقيقي ومناداتها بـ“قمر”…

فهل يمكن أن نخمن علاقة ما بين تلك التفصيلة، والجملة الافتتاحية المدهشة للرواية

بالأمس أكلت قمرا”!

استخدمت الكاتبة تقنية تعدد الرواة، فالأحداث يتم سردها على لسان أكثر من شخصية في أكثر من زمن، ومن خلالهم تفرعت خطوط الحكي وتقاطعت، وبمرور الفصول يكتشف القارئ العلاقات ونقاط الالتقاء بين الأبطال وحكاياتهم، لكن تظل قصة الأم على الرغم من الحيز الذي تشغله تقع في هامش الرواية، وإن نحينا جانبا صفة الأمومة، سنجد صعوبة في فهم الغرض من سرد كل تلك التفاصيل عن حياتها؛ لكن مع التقدم أكثر وصولا إلى الصفحات الأخيرة، ستبدوا قصتها بشكل مختلف، أو بقيمة مختلفة.

سندرك أن ليلى هي الجذر الحقيقي للأزمة التي يمر بها البطل، ليس فقط بإساءة معاملته والحط من قيمته وزرع الإحساس بالذنب في الطبقات العميقة من وعيه، بل أيضا بالتماس الواضح بين قصة حياتها وقصته المتخيلة عن حياته القديمة كيزيد بن أبيه. تمر الكاتبة بحذر على بعض تلك التفاصيل المشتركة مثل الذكرى التي استعادتها لحظة احتضارها عن جدتها خديجة، التي تقطع الصحراء القاحلة وحيدة، وتتوقف كل حين لتطمئن على شيء ما معلق بخصرها ثم تواصل المسير، وهو ما انطبع في خيالات هشام من خلال حكاية مجيبة وهروبها بمفردها قاطعة الصحراء بما سرقته من كنز خبأته في خصرها. ولا يتوقف أثر الأم عند هذا؛ بل يظهر بشكل أكثر تشعبا في غرس نمط التفكير الخرافي في عقل صغيرها، ليصبح في النهاية ابن لأم عالقة في مرحلة بائدة من عمرها تغص بالعفاريت المتربصين بالطرق، وجثث الموتى الطافية فوق الماء، والكثير من التفاصيل الغرائبية، وأب مهووس بالحكي الشعبي إلى حد التيه إثر الحكائين أينما وجدوا تاركا وراءه صغيره، مخلفا فيه بذرة جنونه.

نشأ الفتى محفوفا بكتب التراث، متأثرا بوجه خاص بكتب تفسير الأحلام، إلى أن وقعت بين يديه تلك الرؤيا عن رحيل علماء البصرة. رؤيا صاحبها مجهول، ولهذا كانت نقطة الجهل تلك ثغرة مثالية يتدفق من خلالها الماضي إلى الحاضر والعكس، من خلال شخصية يزيد ابن أبيه المخترعة، وفي هذا يقول البطل:

كنت بشرا من دم ولحم وأعصاب، ثم وجدت رؤياي لنفسها مكانا داخل المؤلَّف المنسوب لابن سيرين، فصرت كائنا ورقيا

تحررت روحي من سجن الجسد، ودُفِنَت في بقعة منسية على حدود كرمة قريبة من شط العرب، أعرف الآن أن أحاسيس شتى كانت تتناوب علي في مستقري ذاك، وأنني كنت أنمي غضبي وأقتات على ذكرياتي، لكنني ظللت باقيا (لن أقول حيا) داخل “تفسير الأحلام الكبير”، ثم انبثقت –بطريقة ما- في المنيا، تلك المدينة الهادئة على ضفاف النيل، لأب يحيا وفق ما تمليه عليه نزواته، وأم لا يرضيها شيء“!

وبهذا تكون الكاتبة قد اختارت ذكر أبيه وأمه في مستهل سرده لحكايته، وما فعله بها في الختام، وكأنها تقصد تأطير  الحكاية بأكملها بهما، لأنهما كانا بالفعل الإطار والمنبع لكل هذا الجنون. الجنون الذي تسلل إلى تفكيره بمكر وثبات إلى أن أحكم عليه قبضته.

هل يمكننا أن نتجرأ على النص ونطلق مسمى طبيا واضحا على تلك الحالة؟

لو فعلنا فسيكون (الفصام البارانويدي) هو التشخيص الأمثل. لقد تفككت شخصية البطل. فقد إحساسه بالواقع بالتدريج وصولا إلى الانفصال التام الذي عبر عنه المقطع الختامي للرواية.

يتكاثف الظلام أكثر ويصير حاجزا قاتما يفصلني عن كل ما عداي. يتراخى جسدي، لا، بل يتراخى العالم كله، فلا يعود منتبها إلي ولا أنتبه إليه بدوري، وأشعر كأنني في حفرة، مغطى بطبقات من التراب وسط ظلمة حالكة يتخللها الشذى المؤرق للياسمين“.

وما بين البداية والنهاية رحلة سقوط مؤلمة، تبدأ فيها الضلالات بالترسخ في عقله، سواء ضلالات توحده مع يزيد، أو تلك التي ظهرت في سلوكه على مواقع التواصل عندما بدأ يتحدث عن مخططاته الفريدة لإنقاذ البلاد، وعن اقتناعه التام بأبوته لابنة حبيبته القديمة. سلوكه المضطرب في الأماكن العامة وكتابته غير المترابطة على هوامش الكتب، ثم ارتيابه في حبيبته التي كان يراها تتقمصه في التفكير والحديث وطريقة الكلام، وكذلك في أستاذه الذي توهم أنه يتحدث بكلماته ويقتبس أفكاره، بل وينتوي نشر الكتاب الذي هو بمثابة كنزه الخاص الثمين، والذي نكتشف بعدها أنه غير موجود من الأساس، إلى أن وصلت ضلالاته لدرجة من الحدة دفعته لحرق منزل أستاذه بمن فيه، بل ولقتل أمه!

كل ما سبق تمثيل لمراحل التفكك العقلي التي تصيب مريض الذهان، إلى أن تؤدي به إلى الموت أو التشرد أو إلى قضاء ما تبقى من حياته بين جدران مصحات الأمراض النفسية والعصبية، وهو ما حدث بالفعل.

هل يمكننا إذن أن نصنف رواية بساتين البصرة ببساطة على أنها رواية عن المرض العقلي؟

بالطبع لا.

ففي الكثير من الأحيان يكون التصنيف بترا لامتدادات الجمال، ووأدا لأرواح أخرى ربما تنفلت من شخصية أو حدث أو رمز هنا أو هناك، وتجاهلا لجماليات حبك نسيج من ألف خيط مختلف، وهو ما قامت به الكاتبة عندما مزجت الأزمنة والشخوص والأفكار والأساليب اللغوية ومستويات الترميز، في رواية لم تتخط المئتي صفحة.

جدير بالذكر أن منصورة عز الدين كاتبة وروائية مصرية، صدرت لها سبعة أعمال أدبية، وحصلت على عدد من الجوائز الأدبية الدولية، وقد صدرت روايتها بساتين البصرة عن دار الشروق في أغسطس 2020.

* كاتبة وروائية مصرية

نقلًا عن موقع الكتابة
8-12-2020

No comments:

Post a Comment