Wednesday, November 10, 2021

جوان ديديون واللعب بمفردات الجحيم: كاتبة الخواء الإنساني

 




منصورة عز الدين




هناك قراءات تخرج منها كما دخلتها، كأنك مررت سريعاً علي سطح زلق لا قدرة له علي خدشك أو التأثير فيك، قد تقضي وقتاً مسلياً أو تبتسم إذ تصادف فكرة طريفة أو فقرة مضحكة، لكن لا شيء أكثر من هذا. في المقابل هناك أعمال تؤلمك وتوقظ جراحاً بداخلك ظننتها التأمتْ. ومنها هذه الرواية الجارحة المؤذية رغم براعتها أو بالأحري بسببها.


لا أقصد هنا، أن هذا شرط للجودة الأدبية، لكن اقترانه بها وبأن يكون العمل المقصود كاشفاً للنفس البشرية الملغزة، يضاعف من قيمته، كما يجعله أشبه بمرآة يرى فيها القارئ ذاته وحياته، مهما اختلفت تجربته الحياتية عن شخصيات العمل المقروء.


الرواية المقصودة هي"كيفما اتفق" للكاتبة والصحفية الأمريكية جوان ديديون التي تكاد تكون غير معروفة عربياً رغم كونها من أهم الكاتبات الأمريكيات، كما أنها أقرب إلى أيقونة ثقافية منذ الستينيات، حين لُقِبَّت بملكة الصحافة الجديدة، وحتى الآن. امرأة شكَّل حضورها الطاغي، وشهرتها القريبة من شهرة نجمات السينما، أسطورة وقع في حبائلها حتى من سعوا إلى تفكيكها وتفنيدها، ومنهم الكاتبة لِيلي أنولك، التي في محاولتها للاعتراض على ما سمَّته بتطويب ديديون كـ"قديسة" و"أم مقدسة"، وصفتها بـ"ملاك الموت" لمدينة لوس أنجلوس، فهي بحسب أنولك من اختلقت –مع صديقها وتوأمها الروحي والفني أندي وارهول- لوس أنجلوس، وهي وحدها من خرَّب المدينة. يبدو الأمر كأن ثمة ما يغري بالمبالغة والأسطرة في كل ما يخص حياة ديديون؛ أو المرأة القادرة على التحديق في وجه الموت وشرح وتحليل ألم الفقدان بهدوء أعصاب ووضوح ذهن لافت، كما فعلت في كتابيها "عام التفكير السحري" و"ليالٍ زرقاء".


بالعودة إلى "كيفما اتفق"، التي صدرت طبعتها العربية مؤخرًا عن دار المدى بترجمة أنجزها المترجم عماد العتيلي، أقول إن كون شخصيات الرواية تنتمي إلى عالم هوليوود المخملي وغارقة في الجنس والحفلات وتعاطي المخدرات، وكون أحداثها تدور في أواخر الستينيات، لا يحدان من قدرتها علي الوصول إلي قارئ اليوم أياً كان مكان عيشه أو نمط حياته.


لقد سبق للروائي البريطاني مارتن أميس أن وَصَف جوان ديديون بـ"شاعرة الخواء الكاليفورني الهائل"، وفي هذه الرواية، يبدو الخواء ماثلاً في كل ركن، ومطلاً بنظرته الميتة من كل شق في حائط الذات الآيلة للسقوط.

تبدأ الرواية ببطلتها الممثلة ماريا وايث في مصحة للأمراض النفسية. "قد يتساءل بعض الناس: "لماذا يُعَدُّ إياجو شريرًا؟ ولكنني لا أتساءل أبداً." هكذا تباغت ماريا قارئ الرواية بسؤال بينما تعلن أنها كفت عن الأسئلة. "أنا على ما أنا عليه الآن. فإن البحث عن "الأسباب" مضنٍ ولا معنى له. غير أن تتبع الأسباب هو الشغل الشاغل للناس هنا، ولذلك لا ينفكون عن طرح الأسئلة عليّ. ماريا، نعم أم لا..." تضيف لاحقاً.

في القراءة الأولى، لن ينتبه القارئ في الغالب إلى لماذا اختارت ديديون إياجو من بين كل الشخصيات الفنية الشهيرة المرتبطة بالشر؟ لكن السؤال سيقفز إلي ذهنه حين ينتهي من القراءة، ويجد نفسه في حاجة لإعادة القراءة مجدداً، ويري اسم إياجو، فيفهم أن السؤال لم يكن اعتباطياً، وأن مفتاحاً رئيسياً لقراءة العمل مخفي في أكثر الأماكن وضوحاً: الجملة الافتتاحية. أصفه بالمخفي لأن الرابط بين إياجو الغيور في مسرحية "عُطيل" وبين شخصية هيلين لن يظهر إلّا قرب نهاية الرواية اللاهثة سريعة الإيقاع.

سرعة الإيقاع تنبع من الدقة اللغوية وموهبة الإيجاز والصرامة في حذف كل ما هو زائد من كلمات أو أفكار أو أحداث، تنبع أيضاً من البناء الذي اختارته الكاتبة وتوفيقها في اختيار "الراوي" المناسب للعمل. هناك أربعة رواة. ماريا التي تفتتح الحكي ويتمحور حولها العمل، وهيلين "صديقتها"، والمخرج السينمائي كارتر زوج/ طليق ماريا (كلاهما يقدم إضاءة، لشخصية ماريا، مغايرة لتصورها هي عن ذاتها)، ثم الراوي بضمير الغائب المهيمن علي معظم الرواية والمتبني بشكل ما لرؤية ماريا وتصوراتها، وقرب نهاية الرواية، يتبادل الراوي الحكي مع ماريا، عبر مقاطع (فصول؟) قصيرة جداً وكاشفة للشخصية والأحداث التي ظلت غائمة ومغبشة لفترة.

يزيد التشويق أيضاً من إحساسنا بسرعة الإيقاع، فمنذ البداية تجذبنا شخصية ماريا وايث الخارجة على المألوف كما تجذبنا الحكمة في الفصل الأول المحكي بلسانها، ويزداد فضولنا لمعرفة كيف انتهى بها الحال في مصحة للأمراض النفسية؟ ولماذا فشل زواجها؟ والأهم من هو بي زي وكيف مات؟

الفصل القصير التالي المروي بلسان هيلين سوف يزيد التشويق بدوره، إذ تخبرنا هيلين أن ماريا قتلت بي زي! وسنعرف لاحقاً أن بي زي كان منتجاً سينمائيا شهيراً وزوجاً لهيلين.

"التقيت بماريا اليوم. أو بالأحرى حاولتُ أن ألتقيها.. بذلتُ ما في وسعي. غير أنّي لم أحاول كُرمى لماريا، بل كُرمى لكارتر، أو بي زي، أو كُرمى لصداقتنا القديمة أو ما شابه، المهم أني لم أحاول كُرمى لماريا. "لا أريد أن أتحدث معك، يا هيلين" كان هذا آخر ما قالته لي. "لا أعني صدَّك أنت تحديداً يا هيلين، ولكنني لا أريد أن أتحدث إلى أي أحد". ولذلك، لم أحاول كُرمى لها. وعلى أي حال، لم أرَها. قطعت الطريق كله بمركبتي كي أراها، وأمضيتُ النهار كله في تجهيز صندوق من أجلها: فيه كتب جديدة، ووشاح حريري كانت قد نسيته عند الشاطئ، ذات يوم (فقد كانت مهملة، على الرغم من أنها ابتاعته بثلاثين دولاراً. لطالما كانت مهملة ولا مبالية)". هكذا تبدأ هيلين الفصل الخاص بها، والذي نخرج منه بصورة غير مشرقة عن ماريا، فهي وفقاً لهيلين: شخصية مهملة، لا تطيق نجاح زوجها كارتر (ورغم هذا من ضمن الأشياء التي حملتها هيلين لها وهي تزورها في المصحة النفسية صفحة من النيويورك تايمز بها نبذة عن كارتر!) ماريا أيضاً قاتلة وفقاً لهيلين، ولا يزداد وزنها أبداً! وتبرر هيلين هذا بأنه صفة أصيلة في النساء النرجسيات. "السيدة لانغ تستريح الآن." هذا ما تقوله الممرضة لهيلين كمبرر لعدم قدرة (رغبة؟) ماريا علي رؤيتها، وما تعلق عليه هيلين بأنها هي من تحتاج إلى الراحة لا ماريا، إذ تقول: "لا أعني أنني أحمل ماريا مسؤولية المصائب التي حاقت بي، على الرغم من أنني أنا التي عضتها العذابات، ولذلك أنا التي يجب أن أكون مستريحة، لا هي. أنا التي خسرت بي زي جرّاء إهمال ماريا ولامبالاتها وأنانيتها.. ولكنني أحملها المسؤولية فقط بخصوص كارتر. فقد أوشكت على قتله أيضاً. لطالما كانت فتاة أنانية، ولطالما كان اهتمامها منصبّاً على ذاتها، أولاً وأخيراً ودائماً".

النبرة بالغة التحامل ضد "صديقة" قديمة من المفترض أنها مريضة تبدو لافتة ولا يبررها ادعاء هيلين أن ماريا قتلت بي زي، لأن هيلين تبدو مهتمة بكارتر طليق ماريا أكثر من اهتمامها بزوجها الراحل، لكننا لن ندرك الخلفيات سوي مع نهاية العمل، وتنجح ديديون في تدعيم حس الغموض هذا دون تكلف أو مبالغة.

جانب آخر من شخصية ماريا يقدمه الفصل الثالث القصير المروي بلسان الزوج/ الطليق كارتر. كمخرج سينمائي يستدعي كارتر ماريا عبر بضعة مشاهد، فالصورة البصرية هي الحاضرة بقوة في المقطع المروي على لسانه وتظهر ماريا فيه كشخصية غير مستقرة نفسياً توتر الآخرين وتذهلهم. فهي، وفقاً لكارتر: "لم تفهم قط معنى الصداقة، ولا الحوار، ولا أدب التواصل الاجتماعي. لدى ماريا مشكلة حقيقية في التواصل مع كل الذين لا تضاجعهم".

في أحد المشاهد التي يستدعيها كارتر تتفوه ماريا بتعليق يكذِّب ما يقوله، ينظر الجالسون إلى الطاولة معهما إليها ثم بعيداً عنها، مذهولين غير مرتاحين: شيء ما في الطريقة المتوترة ليديها علي طرف الطاولة، جعل تجاوز الأمر صعباً. وحده بي زي ظل محدقاً بها.

تفاصيل كثيرة تغمز لنا، منذ البداية، بأن بي زي يختلف عن الآخرين، هو الغائب الحاضر، ودائماً سيكون هناك خيط خفي يربطه بماريا، ماريا التي سيطلب منها، في النهاية، أن تنام قابضةً على يده فيما يبدأ رحلته نحو العدم أو الأبد.

"أنا وأنتِ ندرك أمراً ما. لأننا أدركنا أن لا شيء في الحياة يستحق." هذا ما يجمعهما وفقاً له، وما يعزز اختلافهما عن الآخرين، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أن المؤلفة تنظر إلي ماريا وبي زي كشخصيات جيدة في مقابل شخصيات أخرى شريرة، فهذا لا يعنيها. كل الشخصيات غارقة في جحيم رمزي وكلها تقترب من مفهوم البطل- الضد، الفارق أن ماريا وبي زي مدركان للخواء المحيط بهما، أنهما يعرفان شيئاً، لأنهما كانا هناك حيث اللا شيء! أما كارتر وهيلين فـ"ما يزالان يتساءلان. أنا كنت أتساءل في الماضي، وبتُّ أعرف الإجابة: لا شيء. الإجابة هي: لا شيء". تقول ماريا، ثم تنهي الرواية بصوتها "أنا أعرف أمراً يجهله كارتر، وتجهله هيلين، وربما تجهلونه أنتم أيضاً. أنا أعرف معنى اللا شيء، وسأظل صامدة في هذه اللعبة! ولماذا تستمرين في اللَّعِب، قد يسأل بي زي. وأنا أجيب: ولِمَ لا"!

هي هنا لا تميِّز نفسها عن كارتر وهيلين فقط، بل تعلن اختلافها عن بي زي نفسه، فمع معرفتهما لمعنى الخواء والعدم قرر هو مقاطعة لعبة الحياة، في حين قررت هي الاستمرار في اللعبة حتي ولو بعقل خامل وإحساس مُخدَّر، حتي ولو كانت تجهل طبيعة اللعبة باعترافها في الفصل الأول: "ربما كانت بين يدي كل الأوراق الرابحة، ولكن.. ماذا كانت اللعبة؟"

 ويعود سبب رغبتها في الاستمرار إلى غريزة الأمومة وتعلقها بطفلتها كيت ذات السنوات الأربع المريضة والمحتجزة في مستشفى ما، وحلمها بأن تتمكن يوماً من الاستقلال بحياتها مع صغيرتها. ويمكن القول إن غريزة الأمومة، أو بالأحرى حلم الأمومة المجهض، هو المحرك الخفي لأفعال ماريا والمسبب لأزمتها.

التفاصيل التي تشتغل عليها جوان ديديون -في المجمل- خارجة من قلب الجحيم الأرضي، جحيم النفس البشرية، حيث الظلمة والشر، وشخصياتها الفنية تعاني من شتى أنواع المآسي، إلّا أنها تنجح بمهارة لافتة في كتابة هذا كأنه تفاصيل حياة يومية، لا تستحق التوقف أمامها أو الشكوي منها. يحضرني هنا الجزء الذي تحكي فيه ماريا عن الميتة البشعة لأمها التي انحرفت سيارتها على الطريق السريع في صحراء نيفادا ومزقت الذئاب جثتها لدرجة صعّبت التعرف عليها، والطريقة العادية التي تقبلت بها قرار بي زي الأخير وأمسكت بيده وعادت للنوم، كما طلب منها، رغم إدراكها أنها حين تستيقظ سيكون النائم بجوارها ويده في يدها جثة هامدة.

لا يعنيني هنا حكي أحداث الرواية، فالفكرة ليست في الأحداث ولا حتى في الموضوع، بل في تقنية الكتابة، والمستويات المتعددة للحكي، بحيث تكتشف مع كل قراءة جديدة بعداً مخفياً وتفصيلة تدعم تأويلك الأولي أو تسخر منه. هذا تحديداً ما لا ينقص من إعجابك بالعمل حين تقرأه مرة ثانية وثالثة، بعد أن عرفت مصائر شخصياته، وما لا يقلل من حس التشويق الذي يغلفه ويجعله صامداً أمام قراءات تالية باحثة عن الثغرات والنواقص، فتمسك جوان ديديون بالبعد عن المباشرة وانحيازها إلي الإيحاء لا الكشف، يسمان العمل بحيوية فائقة.
والأهم، هنا، ليس ما دونته ديديون، بل ما حذفته. ليس ما أوضحته وأعلنته علي لسان شخوصها أو الراوي بضمير الغائب، بل ما تركته مغبشاً غائماً. ربما لهذا تحمل شخصية بي زي جاذبية مضاعفة رغم هامشيتها مقارنة بالشخصيات الثلاث الأخرى، فمساحة المخفي والمحذوف في ما يخصها أكبر. المثير للاهتمام أن ديديون اعترفت في حوار لباريس ريفيو بأنها لم تدرك أن بي زي شخصية مهمة في الرواية إلا خلال الأسابيع الأخيرة من العمل عليها، وحينها بدأت في العودة للشخصية والاشتغال عليها أكثر.

يمكن قراءة الرواية، في مستوى من مستوياتها، باعتبارها نقدًا غير مباشر لـ"الحلم الأمريكي" وكشفًا للخواء الكامن فيه، هذا إذا انطلقنا في تأويلنا من أكثر الشخصيات هامشية: هاري وايث الأب المقامر لماريا وأمها وصديقهما بيني أوستن، فالثلاثة يحلمون بالثراء السريع ويخيب مسعاهم المرة تلو الأخرى. وهاري وايث هو من غرس في عقل ابنته فكرة أن العالم لعبة قمار، وعليها اللعب كيفما اتفق ووفق ما ترميه الحياة في وجهها من أوراق.





دقة ديديون وقدرتها علي حذف كل ما هو زائد يذكران بإرنست هيمنجواي، لذا لن يفاجئنا كثيراً اعترافها بتأثرها بهيمنجواي، لكن عاملاً آخر لعب دوره في هذه المسألة، كما سبق ومثَّل تأثيراً علي أسلوب هيمنجواي ذاته، وأقصد بهذا العمل بالصحافة، ولا يجب أن يندهش القارئ حين يعرف أن العمل في مجلات مثل "فوج"، "لايف"، "فانيتي فير" تحديداً أثر تأثيراً مضاعفاً في حالة ديديون. في حوارها لباريس ريفيو، تسألها المحاوِرة عن كيف تأثر أسلوبها بالعمل كمحررة في "فوج" حيث تعلمت الدقة اللغوية من آلين تالمي. فتجيب ديديون: "اعتدت دخول مكتبها يومياً ومعي ثمانية أسطر من نسخة أو تعليق أو شيء ما. واعتادت الجلوس هناك وتصحيحها بقلم رصاص وهي غاضبة جداً بسبب كلمات زائدة أو أفعال غير ملائمة. لا أحد لديه الوقت لفعل هذا إلّا في مجلة مثل "فوج". لا أحد، لا معلم. لقد تعلمت وحاولت أن أفعل هذا بدوري، لكن ليس لدي كل هذا الوقت، وكذلك التلاميذ ليس لديهم وقت. في تعليق من ثمانية أسطر، كل شيء يجب أن يكون له وظيفة، كل كلمة، كل فاصلة. سينتهي به الأمر ليكون تعليقاً في "فوج"، لكن بشروطه الخاصة يجب أن يتسم بالكمال."


براعة ديديون مع اللغة، وتمرسها في تفجير أقصى طاقاتها، تدعمهما عين قوية الملاحظة وعقلية قناص. بكلمات قليلة يمكنها رسم شخصية فنية لا تُنسى في أعمالها الإبداعية أو إضاءة شخصية واقعية ممسكة بجوهرها في كتاباتها الصحفية. في "الألبوم الأبيض" مثلاً، وضمن فقرة عابرة تصف جيم موريسون نجم فرقة "The Doors" فتشعر بأنك تفهم شخصيته للمرة الأولى رغم قراءتك لمقالات عديدة عنه ومشاهدتك لفيلم مستلهم من قصة حياته. في الكتاب نفسه صكت ديديون الوصف الأشهر لهذه الفرقة: نورمان ميلّرز الموسيقى! وصف ارتبط بأفراد الفرقة وصار كافياً لتقديم قراءة كاملة في أفكارهم وكلمات أغانيهم وعلاقة الجنس بالموت فيها.


عن الفرق بين كتابة الرواية وكتاباتها غير الروائية تقول صاحبة "عام التفكير السحري" (دار المدى 2020): "في الكتابة غير الروائية، عنصر الاكتشاف لا يحدث أثناء الكتابة نفسها، بل خلال البحث وجمع المادة. هذا يجعل كتابة نص صحفي مسألة مملة. أنت تعرف مسبقاً عن أي شيء هو."

وقد لفت انتباهي، اختلاف مهم بين كتابات ديديون الإبداعية وكتاباتها الصحفية، في المقالات والريبورتاجات الصحفية التي قرأتها، ديديون حاضرة دوماً، كتابتها تحمل لمسة اعترافية وتسعى بشكل ما للبوح، حتي لو كانت تكتب عن حادثة اغتيال بشعة، أو قضية رأي عام، في هذه الرواية وفي رواية "كتاب صلاة جماعية"، أجدها ليست معنية بالبوح، بل مولعة بالإخفاء والإعجام، وإثارة الخيال وفتح الباب للتخمينات، وحتي لو لجأت ماريا مثلاً للبوح في بعض الأجزاء المروية علي لسانها، فهو بوح يخص الشخصية الفنية، كما أنه مُتحَكَّم به تماماً، وكل جملة منه، تضيف الكثير إلي العمل بحيث لا يمكن الاستغناء عنها.

لكن سواء كان الأمر يخص كتابات ديديون الإبداعية أو مقالاتها الصحفية، فالثابت هو ولعها بحكي القصص، فكما كتبت في "الألبوم الأبيض"، الحكي وسيلة بقاء: "نحكي قصصاً لأنفسنا كي نعيش. الأميرة محبوسة في القلعة. رجل الحلوى سيقود الأطفال إلى داخل البحر. المرأة العارية على الإفريز الخارجي لنافذة الدور السادس عشر ضحية لا مبالاة، أو المرأة العارية شخصية استعراضية، وسيكون مثيراً معرفة أيهما هي. نخبر أنفسنا أنه سيشكل بعض الفرق إذا ما كانت المرأة العارية على وشك ارتكاب خطيئة مميتة، أو على وشك تسجيل احتجاج سياسي، أو على وشك أن تكون رؤية أريستوفانية، تعاد إلي الشرط الإنساني بواسطة رجل إطفاء بثياب قِس يظهر في النافذة خلفها مباشرة، الرجل المبتسم لعدسة كاميرا التليفزيون. نبحث عن العظة في الانتحار، عن الدرس الاجتماعي أو الأخلاقي في اغتيال خمسة أفراد. نحن نؤوِّل ما نراه، نختار الأكثر ملاءمة من بين اختيارات متعددة. نعيش بالكامل، خاصة إذا كنا كتاباً، بفرض سطر سردي على صور مختلفة، بـ"الأفكار" التي تعلمنا عبرها تجميد الصور المتحولة والمتلاحقة التي هي خبرتنا الواقعية."

نُشِر المقال قبل سنوات قليلة في "أخبار الأدب"، وأعيد نشره هنا، مع بعض التعديلات، بمناسبة صدور الطبعة العربية للرواية مؤخرًا عن دار المدى، بترجمة أنجزها المترجم عماد العتيلي، والفقرات المقتبسة من الرواية من هذه الترجمة.

No comments:

Post a Comment