Monday, March 4, 2013

ما تخفيه الصورة

 



منصورة عز الدين


كانت الصورة على هذا النحو: لوحة خشبية خضراء هي أوّل ما يخطف البصر بالعبارة المكتوبة عليها: "التعليم حق للجميع". اللوحة يحملها شاب بملابس سوداء بيد فيما يده الأخرى تخفي وجهه. خلفه مرمى كرة قدم عوارضه متكسرة، وجندي أمن مركزي جالس على كرسي، ونيران تلتهم المرمى الثاني الملقى بعيداً عن موضعه الأصلي. يسار الصورة ثبتت الكاميرا حركة قرابة سبعة أشخاص.
المكان ملعب مدرسة تحترق، غير أن الحريق لا يظهر في الصورة إلاّ لمحاً على هيئة لهب تخفي اللوحة وحاملها معظمه. يُذكِّر الملعب بأن اللعب، كالتعليم، حق للجميع.
على الجدار، تماماً خلف الأشخاص السبعة، نلمح عبارة "القصاص أو الفوضى"، وبما أن لا قصاص حتى الآن، نستنتج أن هذه هي "الفوضى" وقد أطلّت برأسها، فحالة الملعب تدلنا على أن الجملة على الجدار تعدّت كونها تحذيراً لتصبح واقع الحال.
ثمة صور أخرى أكثر تعبيراً عن الحريق الذي طال مدرستيّ "ليسيه الحرية" و"الحوياتي" العريقتين يوم 26 كانون الثاني - يناير الماضي، بعضها يُظهِر أجزاءً التهمتها النيران بالكامل، أو كتباً وكراسات تحولت وقوداً. غير أن هذه الصورة بالذات، وبسبب العبارة على اللوحة الخشبية، صارت أيقونة مؤقتة على الـ "فيس بوك"، إذ أُعيد نشرها أكثر من 500 مرة خلال يومين، قبل أن تتوارى - على عادة هذا الموقع - مفسحةً المجال لصرعات جديدة لا تلبث أن تُنسَى هي الأخرى.
 البعض، مأخوذاً بملاءمة "الحقّ في التعليم" لأهداف الثورة، راح يفترض أن الشاب حُرِم من استكمال دراسته لذا انضم إلى التظاهرات رافعاً لافتته هذه في وجه قاهريه وسارقي حقوقه. افتراض رومانتيكي تكرر على أكثر من صفحة "فيسبوكية" مع بهارات تخيلية تنوعت من شخص إلى آخر. وكردّ فعل على هذه الحماسة الثورية أكد آخرون، بينهم من قال إنه كان موجوداً وقت حرق المدرستين، أن بطل اللقطة بلطجي شارك في نهب محتويات مدرسة "الليسيه"، وما يحمله ليس لافتة احتجاجية إنما إحدى مسروقاته!
ثائر أم بلطجي؟! لا نعرف، بل أكاد أقول لا يهمّ. المهم أنه وفي اللحظة نفسها حُرِم طلاّب مؤقتاً من حقهم في التعليم ليس فقط بسبب الحريق، إنما لتمترس الشرطة في المدرستين لضرب المتظاهرين خلال الأيام التي أعقبته.
ثائر أم بلطجي؟! سيخفت السؤال ويتلاشى مع الوقت، وستبقى عبارة تخجلنا بديهيتها، وصورة مفعمة بشحنة دلالية لا ينتقص منها ولا يقلّل من إثارتها للخيال كونه سارقاً مفترضاً. بل على العكس من ذلك سيزيد هذا من مكر الصورة وحمولتها التأويلية. ستبدو كما لو كانت تخرج لنا لسانها ساخرةً من سذاجة تعمينا عن رؤية المساحات البينية، وهازئةً بكليشيهات صار بعضنا يرتكن إليها منساقاً إلى تقسيم العالم إلى ثنائيات ضدية تبسيطية.
الصورة هنا كوّة نتلصّص عبرها على مشهد فاتنا في الواقع، لكنها كوّة مراوغة تضمر أكثر مما تعلن. "لمح تكفي إشارته" بحسب قول البحتري في سياق آخر. فالفكرة، في حالتنا هذه، ليست في ما تقوله الصورة، بل في ما تخفيه، ما تصمت عنه وتخبّئه خلف دخان الحريق.
حامل اللوحة الخشبية ستبقيه الكاميرا أسير زمن ميّت لا يتقدم. سيستمر مصراً على إخفاء وجهه بيده، محتمياً بالتباس تتيحه طبيعة اللحظة الحالية، بينما نحدق نحن في عالم مُحنّط في ألبوم صور سرعان ما تنفلت منا موغلةً في إبهامها وإلغازها.

 نُشِرت المقالة في جريدة "المدن" بتاريخ 27 فبراير 2013

Saturday, March 2, 2013

مرآة 47




منصورة عز الدين

يجمع كثيرون على أن النازية قبل أن تقتل ملايين البشر، كان عليها أولاً أن تغتال اللغة الألمانية، أن تثقلها بالتعبيرات الخشبية، وتفرغ كلماتها من معناها، وتحولها إلى وسيلة قهر وقتل. فاللغة أيضاً يمكنها أن تقتل، خاصة حين يتم التضحية بها أولاً على مذبح "البروباغندا".
"من الملاحظات الجلية، أنه حيث يُمارَس العنف على الإنسان، يُمارَس أيضاً على اللغة"! هكذا لخص الكاتب الإيطالي بريمو ليفي الأمر، وهو من أُعتِقل في "أوشفيتز" لمدة عام وعرف الكثير عن ألمانية معسكرات الاعتقال، وكيف أنها كانت لغة أخرى بربرية لها قاموسها الخاص ومفرداتها القاسية التي تحوِّل الإنسان إلى مجرد رقم  (حرفياً لا مجازياً)، وتنزع عنه آدميته وهويته ممعنةً في حيونته.

وكتب آخرون عن ما أطلقوا عليه "لغة الرايخ الثالث"، أو تلك الرطانة الدعائية التي انحدرت بالألمانية من كونها لغة فلسفية عميقة وثرية تبحث عن الحقيقة، إلى نسخة مشوهة ومسطحة ابتذلها الإعلام النازي الذي حصر العالم في ثنائيات ضدية ضحلة، وخدر وعي الجماهير عبر مجازات مبالغ فيها، أفسدت اللغة وجردتها من ثقلها الأخلاقي.
لقد ألقى معتقد النقاء العرقي بظلاله على اللغة حيث كان يُنظر إلى استخدام الألمان لمفردات أجنبية باعتباره خيانة لغوية، من جانب آخر اخترعت آلة البروباغندا النازية، وأعادت إحياء، مفردات عنصرية أرادت بها أن تشرعن الإبادة العرقية وتمنح غطاءً وتبريراً للعنف غير المسبوق.

كانت مهمة الأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية عسيرة، إذ كان على الأدباء الجدد تخليص اللغة من المفردات والمصطلحات الرنانة الخالية من المعنى التي كانت تضخها آلة "البروباغندا" النازية ليل نهار لتزييف الوعي والواقع، ويرددها خلفها الملايين من مؤيدي هتلر وممالئيه.

ولعب كتّاب جماعة 47 دوراً مهماً في هذا الصدد، حيث انطلقوا من إيمان بأن اللغة الألمانية أُضيرت ضرراً بالغاً بالمصطلحات النازية، وانحدرت تحت وطأة أكاذيب غوبلز لتفقد حيويتها وقدرتها التعبيرية بسبب الضلالات والبيئة المنافقة التي عاش فيها الألمان في عهد هتلر. بدأ هؤلاء الكتاب بهجر المجازات المتفاخرة والتعبيرات الخاوية، منحازين لسرد يقدم الواقع بشكل بسيط وواضح.

اشتبكوا بأشكال مختلفة مع السياسة، مؤكدين بانتاجهم وإنشغالاتهم أن مسؤولية الكاتب تمتد إلى ما هو أبعد من الكلمات لتصبح إلتزاماً أخلاقياً وإنسانياً بالمعنى الأوسع. إلاّ أن إنجازهم الأهم، هم والجيل التالي للحرب، هو أنهم واجهوا الماضي المخيف لوطنهم، حدقوا فيه ولم يديروا ظهورهم له، بل ووضعوا مواطنيهم أمامه وجهاً لوجه. لم يكن ثمة إعفاء للنفس من المسؤولية عن الفظاعات التي ارتكبتها النازية، بل فضح للجموع التي سارت خلف الفوهرر ثملة بادعاءات التفوق العرقي ومخدرة بحلم السيطرة على العالم.

كان هذا الأدب بمثابة الحجر الذي أُلقي في بركة الوعي الألماني المثقل بالذنب، والصرخة التي دوّت في وجه جيل الآباء، والمفارقة أنه بعد قرابة العقدين على نشوء جماعة 47، وبعد أن تحولت بدورها إلى سلطة أبوية بالنسبة لجيل أحدث، قوبلت بانتقادات عديدة، أشهرها اتهام الكاتب النمساوي بيتر هاندكه كتّاب الجماعة بالعجز عن الوصف، وبأن كتابتهم عبارة عن نثر غبي مزخرف يشبه الموسوعات المصورة ويقدم للناس رؤية مزيفة للواقع!

لكن بعيداً عن انتقادات هاندكه فإن طموح جماعة 47 وسعيها من أجل جبر ركام اللغة الألمانية، يصلح كمرآة نرى فيها أنفسنا ولغتنا التي عانت – لأسباب أخرى وكنتيجة لظروف تاريخية مختلفة - من إفساد منهجي أدى لما نراه اليوم من غلبة للّغة الشعاراتية الإنشائية في السياسة والصحافة بل وحتى في كثير من الكتابات الأدبية.

احتلوا اللغة!



منصورة عز الدين


في مقال نُشِر في النيويورك تايمز قبل قرابة العام، تناول الكاتب والأكاديمي هـ. سامي عالِم، المفارقة الكامنة في اختيار حركة اجتماعية تقدمية مثل "احتلوا وول ستريت" لمفردة "الاحتلال"، مع كل ما تحمله من دلالات سلبية، عنواناً لها.
لم يُدِن عالِم هذا الاختيار، ولم يطالب الحركة بتغيير اسمها إلى "حرروا وول ستريت" كما فعل آخرون، إنما توقف أمام كيفية نجاح ناشطي "زوكوتي بارك" في إحداث تغيير جذري في الكيفية التي يفكر فيها الناس في مفردة "الاحتلال"، إذ قبل سبتمبر 2011 كانت تشير إلى الغزو العسكري، ثم صارت تستدعي إلى الذهن على الفور الاحتجاج السلمي المناهض للرأسمالية، وتدل على الوقوف في وجه انعدام العدالة وإساءة استخدام السلطة.
لقد ابتكرت حركة "احتلوا وول ستريت" معنى جديداً لمفردة قديمة، وحررتها من حمولتها الثقيلة السابقة. وفق هذا المعنى يصير "احتلال اللغة" بمثابة الاستحواذ عليها وتغييرها من الداخل.
وفي رأييّ أننا، في هذا الجزء من العالم، أحوج من غيرنا إلى "احتلال اللغة" بالمعنى الذي يقصده سامي عالِم، أي إعادة تشكيلها واخراجها من معانيها الجامدة إلى آفاق جديدة. غير أننا كي نصل إلى هذا، علينا أولاً اجتياز مرحلة أولية أكثر صعوبة، هي أن نسمي الأشياء بمسمياتها، بدلاً من الاستسلام لآليات استخدام اللغة كآداة تضليل وقهر وإفساد.
خلال الثمانية عشر يوماً الأولى من عمر الثورة المصرية، بدا لي أنها خلقت لغتها الخاصة، وسعت إلى القطع مع لغة فاسدة متواطئة تبناها النظام السابق، منحازة إلى أخرى حيوية دقيقة تعبر الكلمة فيها عن معناها. كتبتُ وقتذاك، بأمل وحماسة، عن الثورة كتحرير للّغة.
الآن وبعد قرابة عامين على ما أُطلق عليه "يوتوبيا" التحرير عادت اللغة لتكون شريكاً في الفساد، إذ ثمة اغتيال متواصل تتعرض له. ثمة انتهاك دائم حوّلها بدروها إلى أداة انتهاك، بحيث صارت ضحية ومجرمة في الوقت نفسه.
من خطاب المجلس العسكري الخشبي الغارق في الكليشيهات والإنشائية، انتقلنا إلى خطاب المتأسلمين حيث العنف والإقصاء، وحيث المفردة تعني نقيضها، فيصبح الثوّار خونة، ويصير الطغيان حماية للثورة ودفاعاً عن الديمقراطية.
غير أن ما يعنيني حقاً هو لغة الثوّار التي بدأت مقتحمة وبالغة القسوة والذكاء في تعريتها خراب الواقع السياسي والاجتماعي المحيط، ثم أخذت تترنح من وقت لآخر، لدرجة تقليد خصومها والاستعارة من معجمهم. علينا هنا التذكير بأن مفردة "الفلول" ظهرت - في سياق ثورة يناير - لأول مرة في أحد بيانات المجلس العسكري، وسرعان ما تلقفها الجميع وبالغ في استعمالها حتى كادت تصبح غير ذات معنى في ظل تعقيد المشهد الحالي وفوضاه، كما أن ألقاباً مثل "أيقونة الثورة"، "ضمير الأمة"، "قائد ثورة التغيير"، التي يتبناها بعض المنتمين للثورة لوصف هذا السياسي أو ذاك، تبدو أكثر انتماءً لدولة يوليو وإعلامها منها لثورة تطمح إلى قطيعة جذرية مع عقود من الاستبداد.
على المنوال نفسه نجد بين الثوّار من يصر على تكرار مصطلحات مستلة من ترسانة  لغة الانقلابات العسكرية في إنشائيتها وخوائها، مصطلحات تضع الثورة في وضع المطلق غير القابل للمراجعة أو المساءلة، مع أن أكثر ما ميّز لغتها في البداية كان الكفر بكل الأصنام والطواطم والسخرية المُرّة منها.
لكن اللافت والمطمئن أن الثورة كلما استعادت زخمها وعادت إلى الميادين تزداد لغتها حيوية وقطيعة مع المعجم الخامل الموروث. تبدو كأنما تسترد نفسها وتستعيد اقتحاميتها. تجترح خيالها الخاص وتسخر، على لسان أبنائها، من كل شيء، بما في ذلك نفسها وعثراتها.