Friday, May 7, 2021

لا ضمانات في الفن سوى الموهبة

 

منصورة عز الدين

التجريب بالنسبة لي مرادف للتجديد والسعي للإضافة والبحث في آفاق الأنواع الأدبيّة وعدم الارتكان للسائد والمجرّب قبلاً. هو مرادف أيضاً لمفهوم اللعب بمعناه الفني والجمالي، سواء على مستوى اللغة أو البنيّة والتقنيّات.

ومع هذا أدرك أنّ طموح التجريب محفوف دوماً بالمخاطر، فمن ينحاز له يعي أنّه بهذا ينتقي قراءه (إن جاز استخدام تعبير كهذا)، ويخاطر بالابتعاد عن دوائر التكريس التي تميل أكثر نحو الأعمال المطمئنة في مناطق المألوف والمتعارف عليه والأعمال الممتثلة للقواعد دون محاولة تحديها أو اللعب معها.

النقد للأسف لا يواكب التجريب، وينظر - في معظمه- بعين الارتياب وربّما الاتّهام للخروج عن المألوف. لا يقتصر هذا على مشهدنا الأدبي فقط، بل يمتد إلى ثقافات كثيرة في الغرب والشرق، وفي هذا السياق من الضروري تذكر أنّ معظم - إن لم يكن كل- التجارب الأدبيّة التي شكّلت خرقاً للسائد في عصرها قوبلت بالهجوم عليها أو على الأقل بالتجاهل. لم تُقدَّر "موبي ديك" مثلاً سوى بعد عقود على كتابتها، وشكك معاصرو هرمان ميلفيل في كونها رواية من الأساس، وعانى مارسيل بروست حتّى تمكّن من نشر "بحثاً عن الزمن المفقود"، واُتهِم جيمس جويس من جانب بعض معاصريه بأنه يكتب لنفسه ولن يجد من يقرأه أو يهتم بما يكتبه.

عادة ما يربط البعض بين التجريب والتخريب، كأنّ الأوّل الطريق الوحيد المؤدي إلى الثاني، في حين أنّ التقليد والامتثال للقواعد قد يؤديان بدورهما للتخريب بمعناه الهجائي. لنتخيل مثلاً ثقافة يعبد مبدعوها القواعد ويكتبون فقط وفق وصفات مضمونة ومجرّبة سلفاً، في هذه الحالة سنجد أنفسنا أمام مشهد راكد على حافة الموات لا يفاجئنا بأيّ جديدوتحضرني هنا جملة د. هـ. لورنس الموجهة لأرنولد بينيت والخاصّة بأنّ كلّ قواعد البناء صالحة فقط للروايات المستنسخة من روايات أخرى، فالكتاب غير المستنسخ من غيره من الكتب له بنيته الخاصّة.

لا يعني ما سبق أنّ التجريب لا يضمر تخريباً بين ثناياه، فالتخريب وعده وطموحه؛ لكنّه التخريب بمعناه الفني والجمالي بما ينطوي عليه من هدم بنيّة سائدة لاقتراح أخرى بديلة تّتسم بالمرونة والجدة في حالة كان التجريب موفقاً، أو بمعناه المباشر والواضح والمنطوي على إفساد فعلي في حالة كان التجريب مجرد ألعاب في الفراغ.

ما الذي يضمن أن يكون التجريب موفقاً؟! الإجابة أنّ لا ضمانات في الفن سوى الموهبة وسعي كلّ كاتب/ فنان إلى تطوير نفسه، وفهم طبيعة الفن الذي ينتجه والوعي بتاريخه وبالتحوّلات الكبرى فيه. أي أنّ معرفة "القواعد" والتقنيّات قبل التمرد عليها ضرورة لا غنى عنها.

نُشِرت هذه الشهادة في "ضفة ثالثة" بتاريخ 23 أبريل 2020، ضمن ملف عن التجريب.