Friday, June 28, 2013

محمد مرسي رقيباً أدبياً!


منصورة عز الدين


في الانتخابات البرلمانية لعام 2000 وصل 17 نائباً إخوانياً إلى البرلمان، وكانت معركتهم الأشهر في تلك الدورة طلب إحاطة قدمه النائب الإخواني جمال حشمت في بداية 2001 ضد وزير الثقافة فاروق حسني إعتراضاً على إصدار الهيئة العامة لقصور الثقافة لثلاث روايات هي: "قبل وبعد" لتوفيق عبد الرحمن، "أحلام محرمة" لمحمود حامد، و"أبناء الخطأ الرومانسي" لياسر شعبان، وهي روايات رأى فيها حشمت وزملاؤه من نواب الإخوان خروجاً على الأخلاق والتقاليد، وتواطأ معهم وزير الثقافة وصادر الروايات الثلاث، بل وأقال المسؤولين عن نشرها وكان بينهم الروائي الراحل محمد البساطي والرئيس الأسبق لهيئة قصور الثقافة د. علي أبو شادي.
تابعت كصحفية الأزمة التي عُرِفت بأزمة "الروايات الثلاث" وكتبت عنها موضوعات عدة، من بينها تحقيق صحفي - نُشر بتاريخ 21 يناير 2001 في جريدة أخبار الأدب-  تحاورت فيه مع عدد من نواب الإخوان عن الأزمة ورؤيتهم لحرية الإبداع وكانت الأجوبة كاشفة جداً إذ أظهرت جهلاً شديداً بمقتضيات الإبداع الفني ورؤية معادية لحرية التعبير.
محمد مرسي على سبيل المثال، وكان وقتها المتحدث الرسمي باسم الكتلة الإسلامية بالبرلمان، ذكر ضمن ما ذكر:
"ليس هناك نية لوضع قيود على الإبداع لكننا نبحث عن الثقافة المفيدة!! وفي حالة وجود إسفاف أو تدني في الأسلوب فلنا أعرافنا وثوابتنا، كما أن المادة الأولى في الدستور ترى أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة والمادة الثانية تقول إن الشريعة هي المصدر الرئيسي للتشريع"!
وتساءل من أصبح رئيساً لمصر بعد ثورة يناير: "ما معنى الثقافة؟ هل استخدام ألفاظ السوقة إبداع؟ لا يمكن تحقيق هدف مبدع بوسيلة غير مبدعة. ما حدث لهذه الروايات وما يمكن أن يحث لغيرها يدخل في نطاق مسئولية نائب مجلس الشعب تجاه الأمة! طلب الإحاطة لم يرق لمستوى السؤال أو الاستجواب، هو يحيط الوزير علماً بأن هناك روايات صدرت بها كيت وكيت والوزير قال بنفسه أن ما بها يعف اللسان عن ذكره. نحن نريد الإبداع الذي يصب في خلق شخصية وطنية قويمة. كما أننا لسنا ضد أحد بعينه، ولم نعقد صفقة مع أحد، ولا نهدف لعمل "فرقعة". فقط نريد لبلدنا أن تأخذ دورها!"
وواصل مرسي: "كون أن هناك ضجة، فنحن جاهزون لمد اليد والتحاور، ونزكي الخطوة التي اتخذتها الحكومة ممثلة في رئيس الوزراء ووزير الثقافة بإقالة علي أبو شادي (المسئول عن النشر) والمسئولين معه، وإن كنت أؤكد أننا لسنا ضد أبو شادي أو غيره، لكننا نمارس دورنا في الرقابة على الأداء الحكومي كأعضاء بمجلس الشعب، وهذا ليس تحدياً ولا رغبة في إحراج النظام، وإذا كانت القلة الغاضبة التي تطلق على نفسها لقب المثقفين تتصور أن كتابات مثل هذه يمكن أن تتكرر وأننا سنسكت عليها فسيسمعون منا الكثير"!!
وحين سألته عن سبب هذا الفزع من رواية خاصة بالنظر لارتفاع نسبة الأمية وعدم شيوع عادة قراءة الإبداع بين المتعلمين، أجاب: "سوف أخبرك بشيء، أمامي وسائل ثقافة كثيرة جداً وأنا بشر لي حدود فكلما وقعت عيني أو يدي على شيء ووجدت أنه غير مضبوط أقوم بإصلاحه دون أن يقول لي أحدهم لماذا تكلمت عن كذا وتركت كذا. هناك شباب كثيرون بالجامعة يقرأون هذه الأعمال للتسلية. لو هناك ألف شاب سيتم إفسادهم يجب أن "نلحقهم". الألف يستحقون ذلك لأنهم ألف أسرة في المستقبل! الزواج صعب والبطالة متفشية، والشباب يشاهدون أفلاماً وأشياء في الفضائيات غاية في الابتذال، لكن تلك قضية خاصة بالإعلام ولم يأت دورها بعد!! هل رأيت أفيشات فيلم """" """""سوق المتعة"؟ بالذمة دا كلام؟"!!
أما القيادي الإخواني أكرم الشاعر فقال لي:" سنطارد الفساد في أي مكان"، وحين سألته هل مشهد في رواية يعتبر فساداً؟ أجاب: "الفساد كل لا يتجزأ. مشهد في رواية أو غيره. ليس هناك فساد أهم من آخر نحن نعاني من الفساد في معظم الأشياء، لكن الكتب والإعلام شيء أساسي في صياغة الفرد والمفروض على من يكتب كتاباً أن يعرفني من خلاله أن العدو الأساسي لنا هو إسرائيل. ما المشكلة في حذف مشهد مادامت الرواية جيدة؟"!!

أغرب التصريحات كانت من النائب الإخواني علي فتح الباب الذي قال إنه لم يقرأ الروايات الثلاث لكن قيل له أن فيها مشاهد فاضحة!!

Monday, June 24, 2013

مطر خفيف

"من الآن سيكون الأمر مختلفاً إن شئت، من الآن سنكون اثنين نحضر في ليالي المطر، ربما هكذا يحالفنا الحظ وإلا سنكون مجرد اثنين في ليالي المطر".
خوليو كورتاثر (لقاء في دائرة حمراء)


 منصورة عز الدين

وجدت نفسها في مطار فخم لمدينة أجنبية، معها زميلان، كأنهم جميعاً في رحلة عمل. كان الإيقاع سريعاً والناس يسيرون كما لو أن حياتهم مرهونة بمدى اتساع خطوتهم. لغات مختلفة تسابقت على احتلال الفضاء المحيط، وشعور ثقيل بالتوتر انتابها بينما تتابع النظرات القلقة لزميليها. بدوَا كأنما يتجاهلان وجودها عن عمد. كانا مرتبكين مثلها وإن جاهدا لمحاكاة الآخرين ممن يتحركون بسرعة واثقة. اختفيا فجأة عن مجال بصرها ولم يشعرها هذا بالخوف أو الاندهاش.

"ثمة وسيلة حتماً للذهاب إلى فيسبادن"! قالت بصوت خافت.
أعادت ترديد الاسم فبدا غريباً بدرجة كبيرة. "فيسبادن؟ لماذا عليّ أن أذهب إلى هناك؟" لم تجد جواباً مناسباً.

استرجعت ما تعرفه عن المدينة. لم تكن تعلم سوى أنها تقع في ألمانيا، وفي قصة تحبها لخوليو كورتاثر عن "خاكوبو"،  الذي حاول شبح امرأة إنجليزية تشبه خلد الماء، أن يحذره من المصير المحتوم داخل المطعم البلقاني الخاوي في ليل فيسبادن الماطر، وانتهى الأمر بهما إلى أن يصيرا معاً شبحين ينتظران في ليالي المطر.

بفضل العزيز كورتاثر، تحولت المدينة، في مخيلتها، إلى بقعة خرافية مسكونة بأشباح تجاهد لإنقاذ ضحايا محتملين من براثن قتلة باردي الأعصاب، متخفين في مطعم صامت به شموع ينبعث منها ضوء شحيح، لذا كان مجرد التفكير في أن فيسبادن هي وجهتها التالية كفيلاً ببعث القشعريرة في جسدها، كأنها الضحية التالية الباحثة عن خاكوبو، وخلد الماء كي ينقذاها.

بفستان ملون قصير، وحذاء بكعب عالٍ مدبب، سارت فوق الأرضية اللامعة للمطار. خطواتها تدَّعي الطمأنينة، وتخلِّف رنيناً مزعجاً، بينما تفكر هي حائرةً في أقصر الطرق للوصول إلى فيسبادن.

انتبهت إلى أنها دخلت دهليزاً خرجت منه إلى مفترق مجموعة من الممرات المعدنية المتقاطعة. لم تعرف كيف وصلت إلى هذه النقطة رغم اتباعها علامات إرشادية كان من المفترض أن تقودها إلى محطة القطارات المتصلة بالمطار لنقل الخارجين منه إلى المدن الراغبين في الذهاب إليها.

وحدها في غابة الممرات تلك. وقع خطواتها على الأرضية المعدنية بات لا يُحتمل، ودقات قلبها أخذت تتسارع، ولا من شخص آخر في هذا الفراغ.

ثم تلاشت محطة القطارات، ومعها المطار برواده المسرعين، وبقيت بمفردها تفكر في أنها محتجزة في اللامكان. واصلت سيرها بشكل عشوائي إلى أن فوجئت بنفسها في عمق مخزن عتيق، شبه معتم، ومزدحم بالخردة والروبابيكيا. وصلها صوت اطلاق نار ورائحة حريق، كأن العالم بأسره يتفّحم ويحترق في الخارج.

أبصرت باباً حديدياً يكسوه الصدأ، دفعته فانفتح متأرجحاً. خرجت فإذا بها في مدينتها الأم وقد تحولت إلى فخ هائل يلوِّنه دخان أبيض كثيف.

الشوارع إكتّظت برجال الشرطة. حواجز أمنية أغلقت المداخل، ومدرعات طوّقت كل شبر. على مقربة سارت خمسينية بدينة بملابس سوداء، تحمل كيساً به خضر وفاكهة وأرغفة خبز طازج، كأن الحياة على وتيرتها المعتادة. نظرت بتجهم إلى "كوردون" لجنود الأمن المركزي وهمهمت، قبل أن ترفع صوتها بغضب: "هيَّ حرب، ولاّ كانت حرب؟!"
واصلت المرأة طريقها معتبرة أنها أدت حصتها من الاحتجاج، وتجاهلوها هم في ترقبهم الحذر خلف الدروع مدججين بأسلحتهم.

أصوات صراخ وضجيج كانت تأتي من بعيد، المدينة، كلها، أضحت ضباباً كريه الرائحة، وهي أشاحت بعيداً عن المرأة البدينة، وحرصت على عدم النظر في أعين الجنود والضباط .

ركضت فاتسع العالم وانهارت حوائط قديمة. كأنها بطلة في لعبة كمبيوتر، راحت ترتقي من مرحلة للتي تليها، ومع كل خطوة للأعلى تزداد الخطورة. تجاوزت حاجزاً أمنياً فواجهها حاجز أصعب. تسللت من شارع جانبي إلى آخر أكثر جانبية بحثاً عن منفذ إلى قلب الأحداث، لكن زخة من رصاص كثيف أجبرتها على الاختباء في مدخل إحدى البنايات.

في هذه اللحظات لم تكن ترتدي فستانها الملون القصير، ولا حذاءها ذا الكعب العالي والرنين المزعج، إنما سروال جينز ضيق، سترة جلدية بنية اللون، حذاء رياضي، وكوفية حول رقبتها. المطار والمتاهة المعدنية صارا جزءاً من واقع آخر مراوغ.

خطر ببالها اسم المدينة الألمانية فهزّت رأسها بفتور فيما تتأمل المكان حولها. "لستُ في قصة كورتاثر، بل في الحياة الواقعية" فكرت.
لم يكن ثمة شوارع خالية، ولا صمت مُخَيِّم، ولا ليل ماطر، بل رقعة تتعمد بالدم وتشتعل تحت قصف جنوني. صارت المدينة بأكملها دائرة حمراء تعج بأناس يهتفون بغضب، يحاصرها رجال عنيفون بأزياء رسمية داكنة.

لم تعد وحدها. هي الآن ضمن حشد كبير، نقطة في نهر، حبة رمل في صحراء شاسعة ومع هذا تشعر بفرديتها على نحو مكثف. يجتمع الحشد في الشوارع ويتفرق تحت ضغط الهجوم عليه، ثم يعاود الالتحام.

عادت من جديد، طفلة بعينين متسائلتين، وشعر بني طويل، تتسلق -  حافية القدمين - تلاً رملياً ذات ظهيرة حارقة. تدوس الرمل، الملتهب بفعل الشمس، فيلسعها. ترفع إحدى قدميها بالتبادل مع الأخرى، للتخفيف من حدة اللسع بلا فائدة.
حقل شاسع من الرمال الساخنة كان عليها اجتيازه، بعدما فقدت حذاءها وهي تركض خوفاً من كلب ضال طاردها قليلاً ثم عاد أدراجه مكتفياً برؤيتها تخلِّف الحذاء وراءها.

فوق التل، جلست لترتاح وذهنها خالٍ إلاّ من الألم المتسلل إليها من سخونة الرمال. لم يشغلها وقتذاك ماذا ستقول لأمها، ولا المدى الذي قطعته بعيداً عن بيتهم. تمددت وأغمضت عينيها مستحضرة النيل القريب وقت انحساره شتاءً. تخيلت نفسها نقطة في مائه أو حبة من رمال التل منسجمة مع محيطها ومتوحدة به.

تماهت مع لحظتها تلك ولم تعد تشعر بأي شيء آخر. وجدها أهلها، لاحقاً، بعد بحث مرهق، فاقدة الوعي ومصابة بضربة شمس. خافوا عليها، وظنوها في حالة خطرة، مع أنها حافظت على ابتسامة هادئة حتى وهي نائمة غير قادرة على الحراك.

بعد سنوات عديدة ها هي الآن، تراوغ الموت المتجول على مقربة منها. تسعل وتبكي، رغماً عنها، لكنها لا تكف عن الهتاف. طنين عجيب يرن في رأسها، كأن صدى هتافات العالم أجمع عبر تاريخه كله تحيط بها.

لم تعد تتذكر شيئاً عن خاكوبو أو خلد الماء أو ليل فيسبادن الماطر. تكثّف الضباب الأبيض ليغطي الأفق. كان ثمة رائحة حريق تلتصق بجزيئات الهواء، عربات مجنونة تدهس العشرات، وشظايا مطاطية تخترق الأجساد.

خرجت من مدخل البناية إلى ممر ضيق بين شارعين، كادت تتعثر في فوارغ قنابل الغاز، تجاهلت وجع ساقها وخطت بتثاقل.

جرَّت ساقها التي تحولت إلى عبء يثقل عليها، وواصلت سيرها. معظم المحال مغلقة، والبنايات أوصدت بواباتها بإحكام على قاطنيها. بعضهم شرع يتلصص بفضول قلِق - من الشرفات أو عبر النوافذ المواربة - على ما يجري بالخارج. والبعض الآخر حاول المساعدة بإلقاء زجاجات مياه أو أي شيء يحسبه مفيداً لمن بالأسفل، أما الباقون فاعتصموا بالداخل كأنه رحم حنون يقيهم أهوالاً هائلة.

استمرت في الخطو فوق أرصفة متكسرة. عيناها تؤلمانها، وقدماها لا تكادان تحملانها. قابلتها جموع تعدو، التصقت بباب حديدي قريب، فاكتشفت أنه غير مغلق. دلفت إلى الداخل لتتعرف على المخزن المهجور بظلمته الخفيفة، بحثت بعينيها يائسة عن مساحة تستريح فيها. في النهاية تمددت على ظهرها فوق الأرضية وأخذت تحدق في الظلام ساهمةً قبل أن تغمض عينيها وتغرق في ليل ماطر لمدينة باردة.

جاءها أزيز الرصاص بالخارج كموسيقى تصويرية تؤطر العالم من حولها. رأت نفسها تسير تحت مطر خفيف في مدينة غريبة مع شخص لا تعرفه وإن بدا كـ"خاكوبو" كما تخيلته. كانت جميلة كما لم تكن من قبل، جميلة كفكرتها عن الجمال. مرت أمامها مشاهد متعددة من يومها الصاخب. شعرت بأن خطوات ذات رنين معدني تتبعهما، استدارت فلم تجد إلا الفراغ. الرصيف المبتل بماء المطر انعكست عليه اضاءة المصابيح فامتَدَّ برَّاقاً.
مارس 2012
* من المجموعة القصصية "نحو الجنون".. 


القصة المشار إليها هي "لقاء في دائرة حمراء" والتي استلهمها كورتاثر من لوحة بالعنوان نفسه (تعرف أيضاً بدائرة المجانين) للفنان الفنزويلي خاكوبو بورخيس.


عن الحب والموت

منصورة عز الدين

في مفردة "تقبرني" الشامية ثمة اقتران  فاتن - رغم قتامته أو ربما بسببها - بين الموت/الدفن والغرام. وفقاً للمعنى الحرفي فالكلمة تعني: "أتمنى أن تقوم بدفني"! وبتوسيع مجالها الدلالي تكون: "أتمنى لك عمراً مديداً يفوق عمري"! أي: أحبك لدرجة ألاّ أحتمل فقدك، لذا أتمنى الموت قبلك!
الكلمة المستدعية لطقوس الدفن وأطياف مقابر صامتة محروسة بالورود والصبّار، قطعت مسافة شاسعة بعيداً عن معناها الحرفي. اللغة بطبيعتها تنطوي على مكر ومخاتلة، لكن "تقبرني" تتفوق على غيرها في مقدار "خيانتها" لأصلها وتمردها عليه؛ إذ ما إن نسمعها، في سياق معاصر، حتى تتوارد على أذهاننا معانٍ مفعمة بالحب والدلال.
استحوذ الخيال الشعبي على هذه المفردة وحررها من حمولتها الدلالية الثقيلة. مسح عنها الظلال القاتمة وزودها بحيوية أزاحتها إلى فضاءات جديدة لتقولها أم لصغيرها وهي تلاعبه وحبيبة لحبيبها بينما يتضاحكان، وليغازل بها مراهق نزق جميلة تمر بجواره ويمضي لاهياً.
لكن هل أحدثت المفردة قطيعة تامة مع أصلها بالفعل؟! ليس تماماً! فلا يزال فيها تناغم قائم بين الحب والموت، فالعاطفة التي تعبر عنها وتشير إليها عنيفة كالموت وقاهرة مثله.
"تقبرني" تستدعي معها تعبيراً آخر شبه مهجور في المحكية السورية هو "تُشْكُل آسي" الأكثر جمالية وإيحاءً ومعناه: "أتمنى أن تعمِّر بعدي لتضع/ تزرع الآس على قبري"!
هذان التعبيران سليلا تراث كامل في الثقافة العربية، وفي ثقافات أخرى عديدة، ينظر للحب كأمر بالغ الخطورة محكوم بالتراجيديا والمأساة، بل ومرادف للجنون والهلاك. حب ممتزج بالموت هو حب يتحدى قوة الموت.

هكذا يبقى من وجوه الحب العديدة وجه إفناء الروح في عشق المحبوب، ومن صوره المتنوعة صورة عاشق يحمل الزهور لقبر معشوقه.

باريس الصغيرة


منصورة عز الدين


لا تسمح دوسلدورف، مدينة هاينريش هاينه التي تحتضن الراين بحنو، للغرباء أن يتوهوا فيها، طالما أن النهر الشهير يعمل كمرشد يدلهم على الاتجاهات والشوارع. يمكنك في زيارتك الأولى للمدينة أن تمشي بمحاذاته، تتوغل في الشوارع المتقاطعة معه، قبل أن تعود إليه من جديد، لتعاود تعرفك على المدينة الوادعة التي تعد، على الرغم من صغرها وقلة عدد سكانها، عاصمة مهمة للفن الحديث والموضة.

من زار مدناً ألمانية قبل دوسلدورف سيلحظ أن ثمة روحاً مختلفة تسم هذه المدينة، هناك بالطبع روابط تجمعها ببرلين وفرانكفورت وهامبورغ، إلاّ أن دوسلدورف تبدو كما لو كانت أكثر حميمية وكرنفالية، وهو شيء يُذكِّر بميونخ مثلاً بعمارتها الفخمة واحتفالاتها الشهيرة، لكن الأمر هنا على نحو أكثر بساطة، وأقل ثراءً من المدينة البافارية ذات الثقل الصناعي.

شوارع المدينة القديمة ملأى بالناس، حشود كبيرة تصنع ضجة محببة وحيوية مفتقدة في مدن أوروبية أخرى. يشربون في الشارع، ويستمعون إلى عازفين موسيقيين جوالين، تأخذ بعضهم النشوة والحماسة فيتشاركون برقص وغناء تقطعه الضحكات.
قلت لنفسي "ربما هو مهرجان ما"، لكني عرفت فيما بعد أن هذه هي الحالة الطبيعية في الجزء القديم من المدينة يومي الجمعة والسبت.

فهذه المنطقة الواقعة على ضفاف الراين مباشرة تضم وحدها 260 مطعماً ومقهى وباراً، ما أكسبها لقبها الشائع باعتبارها أكبر بار في العالم. وهي كل ما تبقى من مدينة ما قبل الحرب العالمية الثانية. فمن سوء حظ مدينة هاينه التي بُنيت قبل 800 عام وخُطِطت كي تكون نسخة مصغرة من باريس لدرجة أن نابليون بونابرت أطلق عليها لقب "باريس الصغيرة"، من سوء حظها أنها دُمرت بشكل شبه كامل خلال الحرب، بحيث لم يتبق منها سوى تلك المنطقة المفعمة بالحياة التي صارت تُعرف بـ"المدينة القديمة".
ومن حسن حظ دوسلدورف أنها بعد تدمير معظمها أُعيد بناؤها بجمال ورقي، لتصير مثل ألمانيا كلها، بمثابة عنقاء بُعِثت من رماد الحرب ودمارها.

قد تنسى الكثير من معالم المدينة بعد زيارتها، لكن ثمة أشياء ستصاحبك لفترة لا بأس بها من الزمن، منها بيت الشاعر الشهير هاينريش هاينه مصدر فخر المدينة، الذي لا يزال موجوداً وتشغل الطابق الأرضي منه مكتبة تعد من أهم مكتبات دوسلدورف. ومنها أيضاً الروح الإحتفالية التي تسم عطلات نهاية الأسبوع هناك، وقبل كل شيء لن يغيب نهر الراين أبداً عن ذاكرتك، لكنك قد تندهش إذا رأيته في مدينة أخرى مثل بازل السويسرية، إذ سيخيل إليك أنه نهر آخر مختلف عن ذاك الذي سبق أن سرت بمحاذاته في دوسلدورف. وقتذاك سوف تدرك أنه يتغير ويختلف في رحلته من مدينة وأخرى، كأنما يصير بمثابة مرآة عاكسة لروح المدينة ومزاجها لا لشخصيته هو.


زيارتي لدوسلدورف كانت سريعة عابرة، لدرجة شعرت معها أني زرتها ولم أزرها في آن، عرفتها ولم أعرفها، كعادتي مع المدن التي أمر بها سريعاً. تجولت في شوارعها بعين الغريب النهمة والمتعطشة للإلمام بأدق التفاصيل. راكمت المشهد تلو المشهد، والخبرة تلو الأخرى، تحدثت بأريحية ربما أفتقدها في مدينتي الأصلية. انفتحت أكثر على الآخرين، قبل أن أعود في النهاية منغلقة على ذاتي من جديد، مدركة أنه بمرور الزمن سوف تتوه التفاصيل والمشاهد والأسماء، ولن تتبقى سوى ذكرى مخاتلة تراوغ ذاكرتي المهووسة بالنسيان.

مدينة الفضة



منصورة عز الدين

في ربيع 2010 وبينما أتجول مع صديقة لي في مدينة إشبيلية بإسبانيا، أشارت صديقتي إلى برج يبين من بعيد وقالت إنه "برج الفضة" الذي كان يستقبل الفضة المنهوبة من المستعمرات الإسبانية القديمة.
بعدها بشهرين سافرت إلى المكسيك للمشاركة في مهرجان "هاي" العالمي بمدينة ثاكاتيكاس، وهناك عرفت أن هذه المدينة المبنية على النمط الكولونيالي الإسباني كانت المنبع الأهم للفضة التي يستقبلها البرج الإشبيلي، ففي وقت ما كانت ثاكاتيكاس تُنتِج خمس إنتاج العالم من هذا المعدن، كما أنها حتى الآن تعتمد اقتصادياً على مناجم عديدة تتصدرها مناجم الفضة، مما دفع محبيها لوصفها بأنها "مدينة بوجه وردي وقلب من فضة".
القلب الفضي نسبة لأعماقها السخية بالفضة، أما الوجه الوردي فالمقصود به اللون الوردي الهادئ المميِّز لمبانيها الأثرية. فوسط المدينة بالكامل موقع تراث عالمي تابع لليونسكو، تراث قيِّم حافظ الأهالي عليه واحتفوا به وعاشوا بين جنباته مطوعين إياه، كونهم أدركوا أن تكريمه الأمثل يكمن في استخدامه على نحو حكيم يجذب آلاف السيّاح إلى مدينتهم الصغيرة.
من هنا نجد المباني الأثرية المطلية بالوردي الفاتح مستغَلة كمقرات للبنوك، الفنادق، المطاعم، والمقاهي، بشرط عدم إحداث تغييرات بها، والحفاظ على رونقها كما هي.
تخطو بين جنبات المدينة كأنك تتجول في متحف مفتوح، يُضاف إلى المتاحف الحقيقية العديدة التي تفخر بها ثاكاتيكاس، ومنها ما هو مخصص للأقنعة المكسيكية التقليدية، أو للفن التشكيلي، أو لأعمال فنان بعينه.
أول ما خطف بصري ما أن وصلت إلى مدينة الفضة كان تربتها حمراء اللون في الأراضي الزراعية على جانبيّ الطريق من المطار إلى وسط المدينة. قابلتني حقول شاسعة من الصبّار بأنواعه المختلفة، لم أتصور أبداً أن أجد صباراً بهذا الحجم وعلى هذه المساحة المترامية من الأرض في مكان ما من العالم.
عادة ما تكون النباتات إلى جانب العمارة هما مفتاحي الأول للتعرف على أي مكان جديد أزوره. وفي ما يخص النباتات فاجأتني ثاكاتيكاس بصبارها البري وأشجارها المنوعة وجبالها المزهوة بغاباتها. أما على مستوى العمارة فالمفاجأة كانت أكبر، إذ وقفت طويلاً أمام الباروك المكسيكي بمزجه المدهش بين الباروك الإسباني حيث الإهتمام الزائد بالتفاصيل والمنمنمات والزخرفات وبين عمارة السكان الأصليين للمكسيك أصحاب حضارتيّ المايا والأزتيك. ثمة حس بدائي فطري يضفي فرادة خاصة على عمارة ثاكاتيكاس التي تحمل أيضاً تأثيرات عربية أندلسية لا تخطئها العين ممثلة في النمط المعماري الموريسكي المعروف باسم Mudejar أو المدجن.
ذكرني هذا بقول صديقتي الإشبيلية إن مدينة حلب السورية كانت في البال عند تخطيط مدينة إشبيلية. فكرت أن المنتقل من حلب إلى إشبيلية ومنها إلى ثاكاتيكاس سيكون كالمسافر في رحاب التأثيرات الثقافية المتبادلة، في إشبيلية الأندلسية سنقتفي أثر التأثيرات العربية على عمارتها، وفي ثاكاتيكاس المبنية على النمط الكولونيالي الإسباني سنلمس بصمات إشبيلية عليها، خاصة أن من بنوها أرادوا إنشاء نسخة مكسيكية من مدينة المعتمد بن عباد مع ما حمله هذا من هجنة (بالمعنى الإيجابي) تصالح بين أنماط معمارية متباينة ما كان لها أن تتلاقى بسهولة.
كأن ثاكاتيكاس ترى نفسها في مرآة إشبيلية التي بدورها ترى نفسها في مرآة حلب.


الإخوان المسلمون.. دولة داخل الدولة!


منصورة عز الدين

هنا القاهرة، حيث الغضب يختمر والعنف الكامن يتراكم ويتكثف استعداداً لانفجار قادم لا محالة.
أكتب كلماتي هذه بينما تمشِّط طائرات F16 سماء المدينة، فأنظر بقلق إلى رضيعي النائم خوفاً من أن يفزعه صوتها الصاخب. يقول المتحدث باسم القوات المسلحة إنها "تدريبات اعتيادية"، غير أني لا أرى فيها سوى رسالة تذكير بالطرف الغائب الحاضر في الصراع الحالي بين فرعون في طور التشكل وثوّار راغبين في استكمال ثورتهم وإنجاز التحول الديموقراطي المشتهى.
أكتب كلماتي هذه، وفي الطرف الآخر من مدينتي المتأرجحة، ثمة جدران عازلة من أحجار لا قلب لها تُشيَّد، حول القصر الجمهوري، لحماية ساكنه من ملايين المتظاهرين الذين يتصاعد غضبهم يوماً بعد الآخر.
لكن ما الذي حوّل محمد مرسي من ذلك الشخص  الذي وقف، بعد نجاحه في انتخابات الرئاسة مباشرةً، بين المتظاهرين في ميدان التحرير، متباهياً بأنه لا يرتدي واقٍ ضد الرصاص، إلى ذلك الديكتاتور المحاصر في قصر محصن؟
وماذا أوصل الرئيس المتفاخر بأنه أول رئيس مصري منتخب ديموقراطياً إلى الهرب مذعوراً، مساء 4 ديسمبر الحالي، من الباب الخلفي للقصر محاطاً بحراسه خوفاً من ملايين المتظاهرين السلميين المعترضين على الاستبداد وحرف الثورة عن مسار التحول الديموقراطي؟

ما بين حدثيّ التفاخر والهروب المهين سلسلة من الأخطاء الكفيلة بدفع مصر إلى انفجار ليس فيه منتصر ولا مهزوم. أخطاء تبدأ بمحاولات مرسي المتواصلة لتقويض دولة القانون، مروراً بإنقلابه على الأسس التي تم انتخابه على أساسها ومحاولته تنصيب نفسه فرعوناً جديداً، ولا تنتهي بالحنث بوعوده القديمة بعدم طرح مشروع الدستور للاستفتاء إلاّ بعد حوار مجتمعي يضمن دستوراً توافقياً.

اقتنص الرئيس الأخواني لنفسه سلطة التشريع، وبدلاً من العمل على إصلاح منظومة القضاء المصري وهيكلتها، وجه ضربة قاتلة لها بالإعلان الدستوري الذي أصدره يوم 22 نوفمبر وحصن به قراراته، وعزل النائب العام مانحاً نفسه حق تعيين نائب عام يدين له بالولاء. قبل ساعات من إصدار الإعلان أمرت جماعة الإخوان المسلمين أعضائها بالحشد أمام دار القضاء العالي تأييداً لقرارات سوف يعلنها الرئيس، والغريب أن الآلاف تظاهروا تأييداً لقرارات لم يعرفوها بعد!
جاء هذا لتترسخ صورة مرسي لدى قطاعات كبيرة من الشعب كديكتاتور يحكم استناداً إلى ميليشيات إخوانية مستعدة للفتك بخصومه.

في اليوم التالي 23 نوفمبر توافد مئات الآلاف من المعارضين المطالبين بالديموقراطية على ميدان التحرير، فيما اجتمع الآلاف من مؤيدي مرسي من جماعة الإخوان والإسلاميين عند القصر الجمهوري، وهناك حدثت سقطة خطيرة تلخص المسألة برمتها، إذ بدلاً من أن يتصرف مرسي كرئيس لكل المصريين ويوجه خطاباً تليفزيونياً لهم جميعاً، خرج لمؤيديه أمام القصر خاطباً فيهم وموجهاً اتهامات العمالة والخيانة إلى المعارضين، ومتحدثاً بلا أي دليل عن مؤامرة للإنقلاب عليه، مشبهاً المتظاهرين ضده بالسوس الضار الذي يجب تجنيبه!

بروفة حرب أهلية

بتشبيهه الرافضين لقراراته الاستبدادية بالسوس، وضع مرسي نفسه من حيث لا يدري في طابور واحد مع القذافي الذي سبق أن شبّه الثائرين عليه بالجرذان، وبشار الأسد الذي شبّه معارضيه بالجراثيم.
حيونة المعارضين على هذا النحو ليست مجرد مجاز، إذ سرعان ما يتلو إخراج المواطنين مجازياً من خانة البشر إراقة دماء، وهو ما حدث بالفعل.
فمع التصعيد الشديد في تصريحات قيادات الإخوان المسلمين والسلفيين المتحالفين معهم وتأليبهم لجماهيرهم على الثوّار المعارضين لمرسي بإعتبارهم كفار يجب إعلان الجهاد عليهم، حدثت مواجهات في مدينتي المحلة والإسكندرية وحُرِقت مقرات تابعة للإخوان المسلمين.
ووصل الأمر إلى ذروته بقيام ميليشيات الإخوان بمهاجمة المعتصمين أمام القصر الجمهوري في مصر الجديدة يوم 5 ديسمبر. كان الثلاثاء 4 ديسمبر يوماً مذهلاً إذ انتفض فيه ملايين المصريين في طول البلاد وعرضها ضد مرسي وقراراته الاستبدادية وتقليله من أهمية معارضيه واتهامهم بالعداء للثورة وقلة العدد والتأثير.
هذا الحشد الكبير واضطرار الديكتاتور الجديد إلى الفرار من الباب الخلفي للقصر خوفاً منه أثار جنون الإسلاميين المؤيدين لمرسي فأمرت قيادات الإخوان المسلمين ميليشياتها بالتوجه لفض الاعتصام أمام القصر، حيث حدثت مذبحة راح ضحيتها سبعة مصريين وسقط مئات الجرحى، يروي شهود العيان حكايات موجعة عن سحل ميليشيات الإخوان للمعارضين وتعذيبهم لهم بل وتعليق بعضهم على سور القصر. لقد شهدت مصر في هذا اليوم بروفة حرب أهلية بعد أن قسّم مرسي بقراراته وأفعاله المصريين إلى فسطاطين: مؤيدين مصيرهم الجنة، ومعارضين مآلهم النار.

من يحكم مصر؟

المشكلة أن محمد مرسي وجماعته يعيشون حالة إنكار تام، ولا يعترفون حتى الآن بمسؤوليتهم عن المذبحة رغم أنهم هم من كلفوا أتباعهم بالذهاب إلى حيث يعتصم المعارضون. وقد صاحب هذا التكليف تصريحات مهيجة على المعتصمين تصورهم كخونة وكفار، وتستبيح دمهم. كانت الجملة التي ترددت أكثر من غيرها على لسان المؤيدين لمرسي هي: "قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار"! بما تحمله من اعتراف صريح بوجود اقتتال بين طرفين وتحريض عليه ضمنياً.
لعل أخطر خطايا مرسي، إضافة إلى مسؤوليته عن دماء المصريين التي أريقت، أنه أضاع الحدود الفاصلة بين مؤسسة الرئاسة وبين جماعة الإخوان المسلمين التي ينتمي إليها، بحيث باتت مصر كأنها تُحكم من جانب مكتب إرشاد الجماعة، ولا أدل على ذلك من أن أحد مستشاري الرئيس، الذين استقالوا احتجاجاً على مهاجمة ميليشيات الإخوان للمعتصمين أمام القصر الجمهوري بالرصاص الحي والخرطوش وقنابل الغاز، أشار إلى أن مستشاريه لا يعلمون كيف تدار الرئاسة ولا من يتخذ القرارات. كما أن محمود مكي نائب رئيس الجمهورية، وهو قاضٍ بالأساس، نفى علمه بالإعلان الدستوي الأول قبل إصداره!
انحياز مرسي لجماعته وتحويلها إلى دولة داخل الدولة تمثّل أيضاً في تجاهله للمطالبات المتكررة بتوفيق أوضاعها، فالجماعة التي كانت محظورة قبل الثورة وتقوم على الطاعة العمياء، وتعد تنظيماً سرياً مغلقاً على أعضائه، لم توفق أوضاعها القانونية حتى الآن.

أهلاً بكم في مزرعة الحيوان

اعتادت جماعة الأخوان المسلمين على العمل السري، كما اعتاد أفرادها الحديث والتصرف من منطق المظلومية، حيث يقدمون أنفسهم كضحايا أبديين. كان هذا مقبولاً قبل الثورة، لكن الإصرار على منطق المظلومية بعد أن تحولوا من ضحايا إلى جلادين أمر غير مفهوم ويحتاج إلى تفسير نفسي أكثر من حاجته لتحليل سياسي.
لن أغالي كثيراً إذا قلت إن الجماعة وذراعها السياسي "حزب الحرية والعدالة" تقدم مثالاً واضحاً على كيف يحكم "حزب حاكم" بعقلية تنظيم سري، وفي هذا تكمن معظم أسباب المآزق التي يتورط فيها مرسي ويورِّط فيها البلد بكامله.
من جانب آخر فإن تمسك الإخوان بمنطق المظلومية جعلنا، كمصريين، نعيش في عالم أورويلي بإمتياز، إذ تحولت مصر إلى نسخة واقعية من رواية "مزرعة الحيوان". فاللغة تتحول إلى أداة للخداع، إلى مجرد ترس في آلة دعاية عملاقة لا تكف عن ضخ بروباغندا تقلب الحقائق، وترسِّخ الأكاذيب.
حوّلت آلة الدعاية الإخوانية الثوّار الذين بدأوا الثورة وما زالوا يضحون بأرواحهم من أجل استكمالها إلى خونة منتمين إلى الثورة المضادة. وجعلت من مرسي قائداً للثورة يسن القوانين الاستبدادية بزعم حمايتها متناسياً أن الثوّار الذين يطاردهم ويشوه سمعتهم ويتسبب في قتلهم الآن هم من حرروه هو ورفاقه من سجون مبارك. لكن الأكذوبة الأكثر إيلاماً هي ترويج الإخوان لفكرة أن الضحايا السبعة لمذبحة 5 ديسمبر ينتمون للجماعة رغم أن النيابة العامة أكدت أن واحداً منهم فقط ينتمي لها والستة والباقيين ينتمون للمعارضة، ومصدر الألم يكمن في إمعانهم في التفريق بين المصريين على هذا النحو وفي المتاجرة بدماء الشهداء.
في خضم آلة ضخ الأكاذيب هذه تم تمرير عدد من الأكاذيب التي راجت أكثر من غيرها وتنكرت في ثياب الحقائق أشهرها اختزال المواجهة الحالية في كونها مواجهة بين الإسلاميين والعلمانيين، والحقيقة أنها بالأساس مواجهة بين حكم استبدادي يريد اختطاف حلم المصريين بالديموقراطية، وبين كتلة ديموقراطية آخذة في الاتساع والانتشار، فعدد كبير من ملايين المصريين الرافضين لنزعات مرسي الاستبدادية من الصعب تصنيفهم كليبراليين أو علمانيين أو يساريين، إذ أن منهم أناساً غير مسيسين نزلوا إلى الشوارع والميادين مدافعين عن حقهم في غد أفضل يكفل لهم المشاركة في تقرير مصيرهم.
الأكذوبة الثانية هي أن مرسي يسعى للحوار في حين يرفضه قادة المعارضة. والحقيقة أن مرسي منذ البداية أرفق دعوته للحوار بتأكيد أنه لن يتراجع عن قراراته، فعلى ماذا يتحاورون معه بالنظر إلى أن ملايين المتظاهرين ضد مرسي في الشارع لن يقبلوا دستوراً غير توافقي ولا إعلاناً دستورياً يكرّس الاستبداد.
تحاور مرسي، يوم السبت الماضي، مع أطراف معظمها من الإسلاميين المؤيدين له، ليسخر المصريون بأنه يتحاور مع نفسه، ونتج عن هذا الحوار إعلاناً دستورياً جديداً يلغي الأول ويبقي على آثاره القانونية، على الرغم من تأكيد القانونيين أن الرئيس ليس من حقه، دستورياً، إصدار إعلانات دستورية من الأساس. أما الاستفتاء فسوف يجرى في موعده رغم أنف المعارضين ومقاطعة معظم القضاة للإشراف عليه.

خلاصة القول إن مرسي مصمم على دفع الأمور إلى نهاياتها متجاهلاً غضب قطاع عريض من المصريين. لا أحد يعلم ما الذي سيؤول إليه الحال، لكنّ شبه المؤكد أن الاستقرار صار حلماً بعيداً وأثمانه ستكون باهظة على الجميع.
*نُشِرت المقالة في جريدة NZZ السويسرية بتاريخ 12 ديسمبر 2012

مشوار مع سائق سلفي

منصورة عز الدين

لم أنتبه إلى أن السائق سلفي إلاّ بعد أن أشرت له وتوقف "التاكسي" على بعد خطوات مني. ترددت لثوانٍ وكدت أبتعد بحثاً عن "تاكسي" آخر، لكن ابتسامة الرجل المرحبة دفعتني لتغيير رأييّ. 
ترددي لم يكن نابعاً من رفض لوجود أمثاله في الفضاء العام، ولا من تعالٍ عليه أو معاداة مجانية لما قد تمثله لحيته الطويلة وشاربة الحليق وجلبابه القصير من عيش في زمن آخر. 
الحكاية ببساطة أن خبراتي السابقة مع سائقي "التاكسي" السلفيين لم تكن جيدة، أو لو شئنا الدقة كانت تنتهي دائماً بمشكلة. إذ كل مرة، كان عليّ طوال الطريق أن أستمع ، عبر كاسيت السيارة، إلى  من يُفترَض أنه داعية إسلامي، وهو يهدد بـ"الويل والثبور وعظائم الأمور"، أو يلعن "السافرات" "الكافرات" متوعداً إياهن بـ"جهنم وبئس المصير". كان هذا الوعيد يقع على أذني كاللطمة خاصة حين يؤمِّن السائق عليه متمتماً بالاستغفار بينما يختلس نظرة عدائية لي عبر المرآة.
وحين كنت أطلب غلق الكاسيت أو تبديل الشريط إما يُقابَل طلبي بالتجاهل أو بتشغيل شريط آخر لا يختلف كثيراً عن سابقه. مرات ترجلت من التاكسي محتجة قبل الوصول لوجهتي، ومرات خضت نقاشات عبثية أو تحاملت على نفسي منشغلة بالقراءة عن صوت يبث الكراهية ويدعو على "الكفار" بتشتيت الشمل وخراب البنيان وترميل النساء وتيتيم الأطفال. 
لكنّ السائق السلفي بدا مختلفاً هذه المرة. كان ودوداً، بل مغالياً في إظهار الود وتوزيع الابتسامات في الفراغ كأنما يوجهها لجمهور لا يراه غيره. قلت لنفسي ربما لم يعد سائقو عربات الأجرة من السلفيين، في حاجة إلى تنغيص حياة المختلفين عنهم بعد الثورة، مكتفين بجهود حازم أبو إسماعيل، ومحمود شعبان، وأبو إسلام وغيرهم، في هذا الصدد. أو ربما ببساطة يخرج هذا الرجل عن الصورة النمطية السائدة في أذهاننا.
عند إشارة مرور مزدحمة اقترب بائع مناديل ورقية منا، وبادر السائقَ بإلقاء السلام  فرّد عليه الأخير متهللاً قبل أن يفاجأ بالبائع يقول له: "عايزين نغيّر الحكومة يا فضيلة الشيخ.. خربتم البلد منكم لله"!
نظر إليه السلفي بلوم وتكلم كمن يحادث نفسه: "حكومة إيه؟ أنا قلت لك "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" عشان أنت تاخد 30 حسنة وأنا آخد 30 حسنة ونكون احنا الاتنين كسبنا! ما لي أنا بالحكومة؟"
ضحك بائع المناديل بشر طفولي، بينما انطلق السائق بالعربة ما أن فتحت إشارة المرور، ثم التفت إليّ ليخبرني أنه يكره السياسة والمهتمين بها. لم أكن بادلته أي حديث منذ ركبت معه، لكنه تطوع بشرح نفسه والدفاع عنها في مواجهة اتهامات ظنها مضمرة في صمتي. بدا كأنما يدفع عن نفسه اتهامات توجه إليه بشكل متكرر ممن يتعاملون معه كممثل للتيار الإسلامي بكامله، ويحمّلونه هو الفرد – ولو جزئياً – مسؤولية تردي الأوضاع. 
أنا نفسي فكرت فيه في البداية كسلفي ولا شيء غير هذا، وتوقعت منه السلوك المعتاد من رفاقه. وهو بدوره سرعان ما مارس التنميط ذاته بحقي حين سألني إن كنت من مؤيدي "جبهة الإنقاذ" لمجرد أنه سمعني أسخر من محمد مرسي في مكالمة هاتفية،  وحين أخبرته أن لي تحفظات عديدة على "جبهة الإنقاذ" بدا حائراً، ولم يلبث أن ذكر أنه كسلفي ليس مؤيداً لحزب النور ولا لأي من الأحزاب الإسلامية الموجودة على الساحة. "أكره السياسة والمهتمين بها" كرر جملته هذه للمرة الثانية، قبل أن يسأل بفضول: حضرتك ليبرالية؟!
وضحك حين لم أجب عليه بشكل مباشر واكتفيتُ بقول إني من "سحرة فرعون" في إشارة لهجوم مرشد الإخوان المسلمين على الإعلاميين.
شرد في المارة على الرصيف كأنما انشغل بتصنيفهم في خانات سياسية بعينها على غرار ما فعل معه بائع المناديل، وما يفعله معظم المصريين مع بعضهم البعض مؤخراً، كأن تصنيف الآخرين ووضعهم تحت لافتات محددة صار هواية الجميع.
نُشِرت في جريدة "المدن" بتاريخ 7 مارس 2013

مدينة من أرق


منصورة عز الدين

في قصته "لغة الأي أي"، يكتب يوسف إدريس عن خمسيني فقير، لا يكفّ عن الأنين والصراخ. هذا المريض الإدريسي صار يخطر ببالي كثيراً في ليالي الأرق. بالأحرى أنينه المتخيّل هو ما يظلّ يتردّد في رأسي، كأنه حقيقة حاضرة، بينما أرهف السمع إلى المدينة بالخارج. أنصت إلى أصوات ليلها، تلك التي لم تعد تصلني خافتة كما اعتدتها قبلاً. صار الصوت الصاخب للألعاب النارية رفيقاً ليلياً، يُذكِّر بزخات رصاص تنهمر في أماكن أخرى، بأصوات صراخ متقطع لمعتقل يُعذَّب في قسم شرطة، لطفل لا يتوقف عن البكاء، لعجوز يستدعي ذلك الرجل المتوجّع في قصة إدريس.
يُخيل إليّ أن القاهرة نفسها هي ذلك المريض، وأنها ستواصل أنينها كبطل تراجيدي محكوم بقدره. فتلك المدينة التي لا تنام، تلك الساهرة التي تصل الليل بالنهار لا تكفّ عن تكرار نفسها وبثّ شكواها ووجعها. لكن ساهرة لا تبدو مفردة مناسبة. هذا ليس سهراً، الأرق أكثر دقّة مع كل هذا الترقب والعنف المراوغ الذي تنفثه المدينة.
مدينة الحالمين والقتلة، المنتفضين والغارقين في "نعيم" غفلتهم، يناسبها أن ترعى تعبها على مدار اليوم، غير آبهة بما يجري خارجها. تقتل النوم، وتقهر نفسها قبل الآخرين. تتابع أفضل أبنائها وهم يتحوّلون إلى جثث ملقاة على الطرق السريعة، أو في أكوام القمامة، أو على أطراف الصحراء، وقد فاضت أرواحهم بعد تعذيب أنهك الأجساد، وحوّلها إلى حطام. يصلها تأوّههم الأخير فتلتفت صوب الجهة الأخرى، متظاهرةً بالتحديق في ماضٍ اعتادت أن تتباهى به.
تغلق المدينة أذنيها، فيتعملق الأنين أكثر ويتردّد صداه في كل ركن، تاركاً لأهلها الاستغراق في فرز الأصوات، والتفرقة بينها. هذا صوت الألعاب النارية المعتادة، وذاك رصاص في الهواء، أما ذلك فانفجار سيقول المتحدّث العسكري إنه ناجم عن إجراء روتيني للتخلّص من ذخيرة منتهية الصلاحية! وهو يختلف بطبيعة الحال عن تلك الضجّة المرعبة التي حطّمت زجاج النوافذ وأيقظت الأطفال مذعورين ذات صباح، وبرّرها المتحدث نفسه بطائرة حربية كسرت حاجز الصوت خلال تدريبات عسكرية، طالباً من المواطنين "عدم الانزعاج من هذه الإجراءات"، كأنما يقول لهم: "ستعيشون طويلاً مع هكذا انفجارات لا تعرفون مصدرها"!
أتذكر أنه قرب نهاية العام الأول من عمر الثورة، وأثناء إحدى المواجهات المحتدمة بين الثوّار والعسكر، أخبرني صديق كان في زيارة للقاهرة أنه، من فندقه القريب من ميدان التحرير، يستطيع بسهولة تمييز أصوات الرصاص عن بعضها البعض، بل يستطيع معرفة أي طلقة أصابت هدفها وأيها طاشت في الهواء. وحين لاحظ دهشتي ذكر متباهياً أنه، كصحافي، غطى حروباً أهلية ونزاعات تمتدّ من أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. الآن صرت أتدرب بدوري على تصنيف الأصوات التي تصلني محاولةً فصل قرقعة الألعاب النارية عن غيرها من انفجارات محتملة.
بفعل الاعتياد باتت جميعها كموسيقى تصويرية تؤطّر تفاصيل الحياة. وحده صوت الأنين يلاحقني في ليل القاهرة، دون أن أقدر على التآلف معه أو ترويضه. تغيب عني الملامح المفترضة لبطل يوسف إدريس الذي حوَّل التأوه إلى لغة بديلة، ويحضرني محمد الجندي وقد غيّر التعذيب الوحشي معالم جسده ووجهه، مصحوباً بصوت الطفل عمر صلاح، بائع البطاطا، وهو يردّد جملته الأشبه بلطمة على وجوهنا جميعاً: "تعبت من الشغلانة دي وعاوز أغيّرها". فيتلقّى رصاصتين غادرتين من عسكري غير مكترث برنّة الوجع بين ثنايا الكلمات.

 نُشِرت في جريدة "المدن" بتاريخ 19 فبراير 2013

Monday, March 4, 2013

ما تخفيه الصورة

 



منصورة عز الدين


كانت الصورة على هذا النحو: لوحة خشبية خضراء هي أوّل ما يخطف البصر بالعبارة المكتوبة عليها: "التعليم حق للجميع". اللوحة يحملها شاب بملابس سوداء بيد فيما يده الأخرى تخفي وجهه. خلفه مرمى كرة قدم عوارضه متكسرة، وجندي أمن مركزي جالس على كرسي، ونيران تلتهم المرمى الثاني الملقى بعيداً عن موضعه الأصلي. يسار الصورة ثبتت الكاميرا حركة قرابة سبعة أشخاص.
المكان ملعب مدرسة تحترق، غير أن الحريق لا يظهر في الصورة إلاّ لمحاً على هيئة لهب تخفي اللوحة وحاملها معظمه. يُذكِّر الملعب بأن اللعب، كالتعليم، حق للجميع.
على الجدار، تماماً خلف الأشخاص السبعة، نلمح عبارة "القصاص أو الفوضى"، وبما أن لا قصاص حتى الآن، نستنتج أن هذه هي "الفوضى" وقد أطلّت برأسها، فحالة الملعب تدلنا على أن الجملة على الجدار تعدّت كونها تحذيراً لتصبح واقع الحال.
ثمة صور أخرى أكثر تعبيراً عن الحريق الذي طال مدرستيّ "ليسيه الحرية" و"الحوياتي" العريقتين يوم 26 كانون الثاني - يناير الماضي، بعضها يُظهِر أجزاءً التهمتها النيران بالكامل، أو كتباً وكراسات تحولت وقوداً. غير أن هذه الصورة بالذات، وبسبب العبارة على اللوحة الخشبية، صارت أيقونة مؤقتة على الـ "فيس بوك"، إذ أُعيد نشرها أكثر من 500 مرة خلال يومين، قبل أن تتوارى - على عادة هذا الموقع - مفسحةً المجال لصرعات جديدة لا تلبث أن تُنسَى هي الأخرى.
 البعض، مأخوذاً بملاءمة "الحقّ في التعليم" لأهداف الثورة، راح يفترض أن الشاب حُرِم من استكمال دراسته لذا انضم إلى التظاهرات رافعاً لافتته هذه في وجه قاهريه وسارقي حقوقه. افتراض رومانتيكي تكرر على أكثر من صفحة "فيسبوكية" مع بهارات تخيلية تنوعت من شخص إلى آخر. وكردّ فعل على هذه الحماسة الثورية أكد آخرون، بينهم من قال إنه كان موجوداً وقت حرق المدرستين، أن بطل اللقطة بلطجي شارك في نهب محتويات مدرسة "الليسيه"، وما يحمله ليس لافتة احتجاجية إنما إحدى مسروقاته!
ثائر أم بلطجي؟! لا نعرف، بل أكاد أقول لا يهمّ. المهم أنه وفي اللحظة نفسها حُرِم طلاّب مؤقتاً من حقهم في التعليم ليس فقط بسبب الحريق، إنما لتمترس الشرطة في المدرستين لضرب المتظاهرين خلال الأيام التي أعقبته.
ثائر أم بلطجي؟! سيخفت السؤال ويتلاشى مع الوقت، وستبقى عبارة تخجلنا بديهيتها، وصورة مفعمة بشحنة دلالية لا ينتقص منها ولا يقلّل من إثارتها للخيال كونه سارقاً مفترضاً. بل على العكس من ذلك سيزيد هذا من مكر الصورة وحمولتها التأويلية. ستبدو كما لو كانت تخرج لنا لسانها ساخرةً من سذاجة تعمينا عن رؤية المساحات البينية، وهازئةً بكليشيهات صار بعضنا يرتكن إليها منساقاً إلى تقسيم العالم إلى ثنائيات ضدية تبسيطية.
الصورة هنا كوّة نتلصّص عبرها على مشهد فاتنا في الواقع، لكنها كوّة مراوغة تضمر أكثر مما تعلن. "لمح تكفي إشارته" بحسب قول البحتري في سياق آخر. فالفكرة، في حالتنا هذه، ليست في ما تقوله الصورة، بل في ما تخفيه، ما تصمت عنه وتخبّئه خلف دخان الحريق.
حامل اللوحة الخشبية ستبقيه الكاميرا أسير زمن ميّت لا يتقدم. سيستمر مصراً على إخفاء وجهه بيده، محتمياً بالتباس تتيحه طبيعة اللحظة الحالية، بينما نحدق نحن في عالم مُحنّط في ألبوم صور سرعان ما تنفلت منا موغلةً في إبهامها وإلغازها.

 نُشِرت المقالة في جريدة "المدن" بتاريخ 27 فبراير 2013

Saturday, March 2, 2013

مرآة 47




منصورة عز الدين

يجمع كثيرون على أن النازية قبل أن تقتل ملايين البشر، كان عليها أولاً أن تغتال اللغة الألمانية، أن تثقلها بالتعبيرات الخشبية، وتفرغ كلماتها من معناها، وتحولها إلى وسيلة قهر وقتل. فاللغة أيضاً يمكنها أن تقتل، خاصة حين يتم التضحية بها أولاً على مذبح "البروباغندا".
"من الملاحظات الجلية، أنه حيث يُمارَس العنف على الإنسان، يُمارَس أيضاً على اللغة"! هكذا لخص الكاتب الإيطالي بريمو ليفي الأمر، وهو من أُعتِقل في "أوشفيتز" لمدة عام وعرف الكثير عن ألمانية معسكرات الاعتقال، وكيف أنها كانت لغة أخرى بربرية لها قاموسها الخاص ومفرداتها القاسية التي تحوِّل الإنسان إلى مجرد رقم  (حرفياً لا مجازياً)، وتنزع عنه آدميته وهويته ممعنةً في حيونته.

وكتب آخرون عن ما أطلقوا عليه "لغة الرايخ الثالث"، أو تلك الرطانة الدعائية التي انحدرت بالألمانية من كونها لغة فلسفية عميقة وثرية تبحث عن الحقيقة، إلى نسخة مشوهة ومسطحة ابتذلها الإعلام النازي الذي حصر العالم في ثنائيات ضدية ضحلة، وخدر وعي الجماهير عبر مجازات مبالغ فيها، أفسدت اللغة وجردتها من ثقلها الأخلاقي.
لقد ألقى معتقد النقاء العرقي بظلاله على اللغة حيث كان يُنظر إلى استخدام الألمان لمفردات أجنبية باعتباره خيانة لغوية، من جانب آخر اخترعت آلة البروباغندا النازية، وأعادت إحياء، مفردات عنصرية أرادت بها أن تشرعن الإبادة العرقية وتمنح غطاءً وتبريراً للعنف غير المسبوق.

كانت مهمة الأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية عسيرة، إذ كان على الأدباء الجدد تخليص اللغة من المفردات والمصطلحات الرنانة الخالية من المعنى التي كانت تضخها آلة "البروباغندا" النازية ليل نهار لتزييف الوعي والواقع، ويرددها خلفها الملايين من مؤيدي هتلر وممالئيه.

ولعب كتّاب جماعة 47 دوراً مهماً في هذا الصدد، حيث انطلقوا من إيمان بأن اللغة الألمانية أُضيرت ضرراً بالغاً بالمصطلحات النازية، وانحدرت تحت وطأة أكاذيب غوبلز لتفقد حيويتها وقدرتها التعبيرية بسبب الضلالات والبيئة المنافقة التي عاش فيها الألمان في عهد هتلر. بدأ هؤلاء الكتاب بهجر المجازات المتفاخرة والتعبيرات الخاوية، منحازين لسرد يقدم الواقع بشكل بسيط وواضح.

اشتبكوا بأشكال مختلفة مع السياسة، مؤكدين بانتاجهم وإنشغالاتهم أن مسؤولية الكاتب تمتد إلى ما هو أبعد من الكلمات لتصبح إلتزاماً أخلاقياً وإنسانياً بالمعنى الأوسع. إلاّ أن إنجازهم الأهم، هم والجيل التالي للحرب، هو أنهم واجهوا الماضي المخيف لوطنهم، حدقوا فيه ولم يديروا ظهورهم له، بل ووضعوا مواطنيهم أمامه وجهاً لوجه. لم يكن ثمة إعفاء للنفس من المسؤولية عن الفظاعات التي ارتكبتها النازية، بل فضح للجموع التي سارت خلف الفوهرر ثملة بادعاءات التفوق العرقي ومخدرة بحلم السيطرة على العالم.

كان هذا الأدب بمثابة الحجر الذي أُلقي في بركة الوعي الألماني المثقل بالذنب، والصرخة التي دوّت في وجه جيل الآباء، والمفارقة أنه بعد قرابة العقدين على نشوء جماعة 47، وبعد أن تحولت بدورها إلى سلطة أبوية بالنسبة لجيل أحدث، قوبلت بانتقادات عديدة، أشهرها اتهام الكاتب النمساوي بيتر هاندكه كتّاب الجماعة بالعجز عن الوصف، وبأن كتابتهم عبارة عن نثر غبي مزخرف يشبه الموسوعات المصورة ويقدم للناس رؤية مزيفة للواقع!

لكن بعيداً عن انتقادات هاندكه فإن طموح جماعة 47 وسعيها من أجل جبر ركام اللغة الألمانية، يصلح كمرآة نرى فيها أنفسنا ولغتنا التي عانت – لأسباب أخرى وكنتيجة لظروف تاريخية مختلفة - من إفساد منهجي أدى لما نراه اليوم من غلبة للّغة الشعاراتية الإنشائية في السياسة والصحافة بل وحتى في كثير من الكتابات الأدبية.

احتلوا اللغة!



منصورة عز الدين


في مقال نُشِر في النيويورك تايمز قبل قرابة العام، تناول الكاتب والأكاديمي هـ. سامي عالِم، المفارقة الكامنة في اختيار حركة اجتماعية تقدمية مثل "احتلوا وول ستريت" لمفردة "الاحتلال"، مع كل ما تحمله من دلالات سلبية، عنواناً لها.
لم يُدِن عالِم هذا الاختيار، ولم يطالب الحركة بتغيير اسمها إلى "حرروا وول ستريت" كما فعل آخرون، إنما توقف أمام كيفية نجاح ناشطي "زوكوتي بارك" في إحداث تغيير جذري في الكيفية التي يفكر فيها الناس في مفردة "الاحتلال"، إذ قبل سبتمبر 2011 كانت تشير إلى الغزو العسكري، ثم صارت تستدعي إلى الذهن على الفور الاحتجاج السلمي المناهض للرأسمالية، وتدل على الوقوف في وجه انعدام العدالة وإساءة استخدام السلطة.
لقد ابتكرت حركة "احتلوا وول ستريت" معنى جديداً لمفردة قديمة، وحررتها من حمولتها الثقيلة السابقة. وفق هذا المعنى يصير "احتلال اللغة" بمثابة الاستحواذ عليها وتغييرها من الداخل.
وفي رأييّ أننا، في هذا الجزء من العالم، أحوج من غيرنا إلى "احتلال اللغة" بالمعنى الذي يقصده سامي عالِم، أي إعادة تشكيلها واخراجها من معانيها الجامدة إلى آفاق جديدة. غير أننا كي نصل إلى هذا، علينا أولاً اجتياز مرحلة أولية أكثر صعوبة، هي أن نسمي الأشياء بمسمياتها، بدلاً من الاستسلام لآليات استخدام اللغة كآداة تضليل وقهر وإفساد.
خلال الثمانية عشر يوماً الأولى من عمر الثورة المصرية، بدا لي أنها خلقت لغتها الخاصة، وسعت إلى القطع مع لغة فاسدة متواطئة تبناها النظام السابق، منحازة إلى أخرى حيوية دقيقة تعبر الكلمة فيها عن معناها. كتبتُ وقتذاك، بأمل وحماسة، عن الثورة كتحرير للّغة.
الآن وبعد قرابة عامين على ما أُطلق عليه "يوتوبيا" التحرير عادت اللغة لتكون شريكاً في الفساد، إذ ثمة اغتيال متواصل تتعرض له. ثمة انتهاك دائم حوّلها بدروها إلى أداة انتهاك، بحيث صارت ضحية ومجرمة في الوقت نفسه.
من خطاب المجلس العسكري الخشبي الغارق في الكليشيهات والإنشائية، انتقلنا إلى خطاب المتأسلمين حيث العنف والإقصاء، وحيث المفردة تعني نقيضها، فيصبح الثوّار خونة، ويصير الطغيان حماية للثورة ودفاعاً عن الديمقراطية.
غير أن ما يعنيني حقاً هو لغة الثوّار التي بدأت مقتحمة وبالغة القسوة والذكاء في تعريتها خراب الواقع السياسي والاجتماعي المحيط، ثم أخذت تترنح من وقت لآخر، لدرجة تقليد خصومها والاستعارة من معجمهم. علينا هنا التذكير بأن مفردة "الفلول" ظهرت - في سياق ثورة يناير - لأول مرة في أحد بيانات المجلس العسكري، وسرعان ما تلقفها الجميع وبالغ في استعمالها حتى كادت تصبح غير ذات معنى في ظل تعقيد المشهد الحالي وفوضاه، كما أن ألقاباً مثل "أيقونة الثورة"، "ضمير الأمة"، "قائد ثورة التغيير"، التي يتبناها بعض المنتمين للثورة لوصف هذا السياسي أو ذاك، تبدو أكثر انتماءً لدولة يوليو وإعلامها منها لثورة تطمح إلى قطيعة جذرية مع عقود من الاستبداد.
على المنوال نفسه نجد بين الثوّار من يصر على تكرار مصطلحات مستلة من ترسانة  لغة الانقلابات العسكرية في إنشائيتها وخوائها، مصطلحات تضع الثورة في وضع المطلق غير القابل للمراجعة أو المساءلة، مع أن أكثر ما ميّز لغتها في البداية كان الكفر بكل الأصنام والطواطم والسخرية المُرّة منها.
لكن اللافت والمطمئن أن الثورة كلما استعادت زخمها وعادت إلى الميادين تزداد لغتها حيوية وقطيعة مع المعجم الخامل الموروث. تبدو كأنما تسترد نفسها وتستعيد اقتحاميتها. تجترح خيالها الخاص وتسخر، على لسان أبنائها، من كل شيء، بما في ذلك نفسها وعثراتها.