منصورة عز الدين
لا تسمح دوسلدورف، مدينة
هاينريش هاينه التي تحتضن الراين بحنو، للغرباء أن يتوهوا فيها، طالما أن النهر
الشهير يعمل كمرشد يدلهم على الاتجاهات والشوارع. يمكنك في زيارتك الأولى للمدينة
أن تمشي بمحاذاته، تتوغل في الشوارع المتقاطعة معه، قبل أن تعود إليه من جديد، لتعاود
تعرفك على المدينة الوادعة التي تعد، على الرغم من صغرها وقلة عدد سكانها، عاصمة
مهمة للفن الحديث والموضة.
من زار مدناً ألمانية قبل
دوسلدورف سيلحظ أن ثمة روحاً مختلفة تسم هذه المدينة، هناك بالطبع روابط تجمعها
ببرلين وفرانكفورت وهامبورغ، إلاّ أن دوسلدورف تبدو كما لو كانت أكثر حميمية
وكرنفالية، وهو شيء يُذكِّر بميونخ مثلاً بعمارتها الفخمة واحتفالاتها الشهيرة،
لكن الأمر هنا على نحو أكثر بساطة، وأقل ثراءً من المدينة البافارية ذات الثقل
الصناعي.
شوارع المدينة القديمة ملأى بالناس،
حشود كبيرة تصنع ضجة محببة وحيوية مفتقدة في مدن أوروبية أخرى. يشربون في الشارع،
ويستمعون إلى عازفين موسيقيين جوالين، تأخذ بعضهم النشوة والحماسة فيتشاركون برقص
وغناء تقطعه الضحكات.
قلت لنفسي "ربما هو مهرجان
ما"، لكني عرفت فيما بعد أن هذه هي الحالة الطبيعية في الجزء القديم من
المدينة يومي الجمعة والسبت.
فهذه المنطقة الواقعة على ضفاف
الراين مباشرة تضم وحدها 260 مطعماً ومقهى وباراً، ما أكسبها لقبها الشائع
باعتبارها أكبر بار في العالم. وهي كل ما تبقى من مدينة ما قبل الحرب العالمية
الثانية. فمن سوء حظ مدينة هاينه التي بُنيت قبل 800 عام وخُطِطت كي تكون نسخة
مصغرة من باريس لدرجة أن نابليون بونابرت أطلق عليها لقب "باريس
الصغيرة"، من سوء حظها أنها دُمرت بشكل شبه كامل خلال الحرب، بحيث لم يتبق
منها سوى تلك المنطقة المفعمة بالحياة التي صارت تُعرف بـ"المدينة القديمة".
ومن حسن حظ دوسلدورف أنها بعد
تدمير معظمها أُعيد بناؤها بجمال ورقي، لتصير مثل ألمانيا كلها، بمثابة عنقاء
بُعِثت من رماد الحرب ودمارها.
قد تنسى الكثير من معالم
المدينة بعد زيارتها، لكن ثمة أشياء ستصاحبك لفترة لا بأس بها من الزمن، منها بيت
الشاعر الشهير هاينريش هاينه مصدر فخر المدينة، الذي لا يزال موجوداً وتشغل الطابق
الأرضي منه مكتبة تعد من أهم مكتبات دوسلدورف. ومنها أيضاً الروح الإحتفالية التي
تسم عطلات نهاية الأسبوع هناك، وقبل كل شيء لن يغيب نهر الراين أبداً عن ذاكرتك،
لكنك قد تندهش إذا رأيته في مدينة أخرى مثل بازل السويسرية، إذ سيخيل إليك أنه نهر
آخر مختلف عن ذاك الذي سبق أن سرت بمحاذاته في دوسلدورف. وقتذاك سوف تدرك أنه
يتغير ويختلف في رحلته من مدينة وأخرى، كأنما يصير بمثابة مرآة عاكسة لروح المدينة
ومزاجها لا لشخصيته هو.
زيارتي لدوسلدورف كانت سريعة
عابرة، لدرجة شعرت معها أني زرتها ولم أزرها في آن، عرفتها ولم أعرفها، كعادتي مع
المدن التي أمر بها سريعاً. تجولت في شوارعها بعين الغريب النهمة والمتعطشة
للإلمام بأدق التفاصيل. راكمت المشهد تلو المشهد، والخبرة تلو الأخرى، تحدثت
بأريحية ربما أفتقدها في مدينتي الأصلية. انفتحت أكثر على الآخرين، قبل أن أعود في
النهاية منغلقة على ذاتي من جديد، مدركة أنه بمرور الزمن سوف تتوه التفاصيل
والمشاهد والأسماء، ولن تتبقى سوى ذكرى مخاتلة تراوغ ذاكرتي المهووسة بالنسيان.
No comments:
Post a Comment