Saturday, December 31, 2016

أخيلة الظل









خلال أيام تصدر روايتي الجديدة "أخيلة الظل" عن دار التنوير.  

 في "أخيلة الظل" نحن أمام لعبة افتراضات وتخيلات لا يتضح تمامًا من يديرها: كاميليا؟ أولجا؟ أم راوٍ خفي يحرك الجميع بين مدن واقعية وأخرى متخيلة، ويجوس في ذاكرة الشخصيات التي تشبه الأواني المستطرقة؟
سردية تتشكل من التمازج بين الوعي والذاكرة، الحلم والواقع، الماضوي والآني في لعبة سردية مثيرة؛ لعبة كتابة -أو "تراسل"- متبادلة، تتخللها قصص ومرويات يكتبها أبطال اعتادوا تبادل حكاياتهم، رغبةً في القفز لآبار الذكريات المعتمة، أو سعيًا لتفسير لحظة حاضرة، أو لملامسة خبرة الألم التي تحاصر الجميع كالهاجس أو الكابوس.
من مقعد خشبي على ضفة نهر الفلتافا في براغ، ينفتح صندوق حكايات، تُنسَج منها مرويّة ذات إرث ثقافي متنوّع.

منصورة عز الدين كاتبة مصرية من أعمالها: "متاهة مريم" و"جبل الزمرد" و"وراء الفردوس" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2010.
تُرجِمت رواياتها إلى الإنجليزية والإيطالية والألمانية والفرنسية، وقصصها القصيرة إلى أكثر من عشر لغات.


من أجواء الرواية:

"الحلم والكابوس مغزولان من الخيط نفسه، أحلامي وكوابيسي من القماشة ذاتها. بكلماتي نصبتُ الفخاخ لنفسي. كنتُ الصياد والفريسة، لم يكن "لافكرافت" سوى حجة لمعانقة الخوف. في مناماتي تطاردني طفلة لها عيون جدتي، صغيرة منهكة في مسيرات الموت. لا تبكي ولا تصرخ، فقط تنظر إليّ وفي عينيها هلع العالَم، خوفه الأكثر بدائية وقِدمًا. لم تكن جدتي ابنة المذبحة، بل يتيمتها."








Friday, December 23, 2016

بارتلبي وأصحابه: الشعاب المهلكة لمتاهة الصمت الأدبي






منصورة عز الدين


تأخرت كثيراً في قراءة هذه الرواية وهذا الكاتب، فرغم أن ترجمتها العربية صادرة عام 2010 إلّا أنني لم أنتبه لها حتى قرأت مؤخراً مقالاً للشاعرة منى كريم عن كاتبها. الرواية هي "بارتلبي وأصحابه" (ترجمها الكاتب العراقي عبد الهادي سعدون وصدرت عن دار سنابل)، وكاتبها هو الروائي الأسباني أنريكه بيلا-ماتاس.
في "بارتلبي وأصحابه" يتعقب بيلا-ماتاس كتاب الـ"لا"؛ من توقفوا عن الكتابة أو ركنوا إلى الصمت وتشككوا في جدوى الكلمة. يسميهم "البارتلبيين" نسبة إلى شخصية بارتلبي الآسرة في عمل هرمان ملفيل: "بارتلبي النسّاخ"، ذلك الذي كان يقول دوماً: "أفضل ألّا أفعل ذلك."

ستتصادى رواية بيلا-ماتاس هذه مع أفكار الكتاب/ القراء المتسائلين عن جدوى الكتابة، إذ سيجدون أنفسهم فيها، وسيلتقون مع أشباههم ويختبرون أفكارهم الخاصة في مرآة أفكار الكتاب المشار إليهم في العمل. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه موجه لشريحة معينة من القراء، فالقارئ العادي سوف يستمتع به أيضاً إذ سيجد نفسه أمام تشكيلة كبيرة من "كتاب الـ"لا""، بعضهم مألوف لديه، وبعضهم الآخر يتعرف عليه للمرة الأولى.

الرواية تسير على الحافة بين الرواية التخييلية المتعارف عليها وبين الـ”Non-Fiction”، إذ كانت ستبدو أقرب لموسوعة مخصصة لهذا النوع من الكُتّاب لولا أن المؤلف يدخل البعد التخييلي فيها عبر الراوي الذي نتعرف عليه من خلال شذرات عابرة يخبرنا فيها من وقت لآخر عن نفسه وحياته المختلفة عن تلك الخاصة ببيلا-ماتاس. في السطور الأولى مثلاً نعرف أنه أحدب منعزل ولا حظ له مع النساء. وأنه نشر رواية قبل خمسة وعشرين عاماً، لم يعد للكتابة بعدها بسبب صدمة انتابته حين أهدى كتابه لأبيه ففهم الأخير أن جزءاً من الكتاب يضم تجديفات ضد زوجته الأولى، فأجبر ابنه على كتابة إهداء على نسخة من نسخ الكتاب بكلماته هو.
بالنسبة للراوي كان الأدب الوسيلة الوحيدة لشعوره باستقلاليته عن أبيه، لكنه في الختام رضخ وكتب ما يريده الأب: "شعرت برعب التحول لناسخ يعمل بأمر ديكتاتور إهداءات".

ولأننا أمام عمل مخصص للكتابة وعنها، فمن الطبيعي أن تنحل عقدة الراوي عبر قراءته لكتاب هو "معهد بيير مينارد" لروبرتو موريتي: "ساعدني على تهيئة الأرضية لقراري بشطب صدمتي النفسية القديمة والعودة للكتابة". الكتاب المشار إليه يدور في أجواء معهد يعلمون فيه قول كلمة (لا) بأكثر من ألف وسيلة!
يخبرنا الراوي أيضاً منذ البداية أنه بدأ تدوين هذه "اليوميات" في 8 يونيو 1999، واصفاً إياها بـ: "دفتر هوامش في أسفل الورقة تتضمن تعليقات على نص غير مرئي، والذي أرجو أن يبين قدرتي بتتبع الشخصيات الـ بارتلبية".

الكتاب بكامله جولة داخل أروقة ما وراء الكتابة، إذ يمضي المؤلف متنقلاً بين كُتّاب بارتلبيين تنوعت خلفياتهم واختلفت أسباب صمتهم، وشخصيات فنية وروايات أو كتب تناولت هذه الظاهرة بشكل أو بآخر. إنها الشعاب المهلكة لمتاهة الـ لا، كما يطلق عليها. ووسط هذا كله، يشركنا معه في كواليس وأسرار رحلة تدوينه لكتابه هذا في سرد شائق عميق وساخر في الآن نفسه.

في "بارتلبي وأصحابه" يتوقف بيلا-ماتاس أمام خوان رولفو صاحب رائعة "بدرو بارامو" الذي كان يرد على المتسائلين عن سبب توقفه عن الكتابة بـ": "لأن العم ثيلرينو قد مات، وهو من كان يلقنني القصص"! وخوان رامون خمينث الذي هجر الكتابة وسقط في صمت أدبي مطلق بعد موت زوجته زنوبيا، وله جملة تعد من أهم مقولات "تاريخ الـ لا": "عملي الأهم هو ندمي على أعمالي".

وموباسان الذي هجر الكتابة لاعتقاده أنه قد أصبح خالداً. لكن ربما يكون "ب. ترافن" هو أكثر كُتّاب الـ لا إثارة للخيال، فلا أحد تقريباً عرف اسمه الحقيقي ولا جنسيته ولا حتى الحصر الكامل للأسماء التي تخفي خلفها: "كاتب مراوغ لا مثيل له. لقد استخدم ترافن الخيال كما لو كان واقعاً، أسماء متعددة ساحقة ليغطي على حقيقته".
الشخصيات المتخيلة في رواية بيلا-ماتاس، على قلتها، لا تقل لفتاً للانتباه عن الكتاب الحقيقيين. شخصية ماريا ليما منديس مثلاً التي يشير الراوي إلى أنه تعرف عليها في باريس حيث وصلت إلى هناك مع بدء السبعينيات واستقرت في الحي اللاتيني بفكرة أنها عبر هذا ستتحول إلى كاتبة على غرار الكتاب اللاتينيين الذين سكنوا قبلها الحي نفسه، إلّا أنها "أصيبت بخرس أن تكون كاتبة".

وشخصية لويس فيليبه بينيدا، زميل دراسة الراوي، الذي كان لا ينهي قصائده، واحتفظ بدفتر أزرق سمّاه "أرشيف القصائد المنسية". وكتب أمام الراوي قصيدة على ورق لف السجائر، ثم لف بها سيجارة دخنها فوراً: "لقد دخنها، أعني دخن القصيدة"!

قراءة "بارتلبي وأصحابه" نزهة مثيرة في أروقة الأدب ودهاليزه بصحبة كاتب موسوعي واسع الثقافة. نزهة لا يقلل من كمالها سوى حاجة الكتاب إلى مزيد من التدقيق اللغوي وتدقيق أسماء الكتاب غير الأسبان وفقاً لقواعد نطقها في لغاتهم الأصلية.

* زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.





Friday, December 16, 2016

أنشودة المقهى الحزين: الحب كعاطفة هوجاء







منصورة عز الدين

عن دار مسكيلياني صدرت مؤخراً ترجمة علي المجنوني لرواية الكاتبة الأمريكية كارسن ماكالرز "أنشودة المقهى الحزين" الكاشفة عن افتتانها ككاتبة بعوالم المنبوذين والعائشين على هامش الحياة. وإذا كانت قد قدمت في "القلب صياد وحيد" شخصية الأصم الأبكم جون سنجر العصية على النسيان، فإنها هنا تنسج أنشودتها حول الأنسة أميليا الحولاء ذات المظهر الذكوري، وابن الخالة لايمن القزم الأحدب، ومارفن ميسي الوسيم لكن المنبوذ لأفعاله الشريرة، إذ "حمل معه لسنوات الأذن المجففة لرجل كان قد قتله في شجار بموسى حلاقة. كان يجز أذيال السناجب في غابة الصنوبر من أجل إرضاء نزواته، وفي جيب وركه الأيسر يحمل حشيشة القنب المحرمة لإغواء أولئك المثبطين والنازعين إلى الموت".

يمثل هذا الثلاثي الغريب مثلث حب غير مألوف، فمارفن ميسي أحب الأنسة أميليا وتغير من أجلها للأفضل، وتنازل لها عن ممتلكاته بعد الزواج منها لكسب محبتها، غير أن الزواج لم يستمر سوى لأيام فغادر البلدة مواصلاً نمط حياته القديم حتى سُجِن. ووقعت الأنسة أميليا في غرام ابن الخالة لايمن وصار موضع تدليلها وحنانها، وحين عاد مارفن ميسي عقب خروجه من السجن للانتقام من أميليا أفتتن به لايمن وصار يتبعه في كل مكان غير عابئ بضيق أميليا أو غيرتها. وفي النهاية تحالف معه ضدها في القتال الذي حطمها.

ككل الكتاب الجيدين تبرهن كارسن ماكالرز في روايتها هذه على أن الحدوتة نفسها ليست المهمة، فالأهم كيفية حكيها وكيفية تعامل الكاتب مع شخصياته وأحداث روايته.
تصوغ ماكالرز من خلال أبطالها الثلاثة عملاً لا يُنسَى، وترسم أجواء الجنوب الأمريكي برتوش من القوطية والجروتسك دون التخلي عن الرهافة وشعرية اللغة والعالم. وأظن أن هذه القدرة النادرة على المزج بين الشاعرية والنعومة وبين القوطي والجروتسكي أهم نقاط قوة كارسن ماكالرز ككاتبة.

يلفت النظر في "أنشودة المقهى الحزين" مفهوم ماكالرز عن الحب، إذ يبدو كعاطفة هوجاء بلا عقل أو منطق، تتلاعب بالواقعين في أحابيلها. تطور ماكالرز هذا المفهوم إلى ما يشبه نظرية متكاملة عن الحب يمكن تأويل أحداث الرواية وتصرفات شخصياتها الرئيسية على أساسها. ولنتأمل هذه الاقتباسات من الرواية القصيرة: "غالباً ما يكون المحبوب مجرد محفز لكل الحب المخزون الموجود بهدوء داخل المحب حتى تلك اللحظة". "قيمة أي حب وطبيعته يحددها المحب وحده. لهذا السبب يفضل أكثرنا أن نُحِب عوضاً عن أن نُحَب. يرغب كل إنسان تقريباً في أن يكون المُحب. والحقيقة الفجة أن كثيرين لا يطيقون، بطريقة عميقة وغامضة، أن يكونوا محبوبين. إن المحبوب يخشى المحب ويكرهه، ولأكثر الأسباب وجاهة. لأن المحب على الدوام يحاول أن يجرد محبوبه. يتوق المحب إلى أي علاقة ممكنة مع المحبوب، حتى وإن كان حريا ألّا تجلب له هذه التجربة سوى الألم".

وفق هذا المنطق يمكننا قول إن أميليا لم تطق أن تكون محبوبة، وأنها خشيت مارفن وكرهته لأنه أحبها، وربما هذا أيضاً ما شعر به ابن الخالة لايمن تجاهها حين وجهت عاطفتها نحوه، أما مارفن المُحب فقد تاق إلى أي علاقة ممكنة مع محبوبته، فإن كان التواصل الجسدي غير ممكن، فلا مفر من تحويل عاطفة الحب إلى كراهية وانتقام.
هل يمكننا المجازفة بقول إن القتال الأخير بين مارفن وأميليا بديل ملتوٍ ومراوغ للجنس؟! قد يبدو هذا إفراطاً في التأويل من جانبي، لكن لنتأمل هذا الوصف لمرحلة من مراحل المعركة بينهما: "لمدة من الوقت أحكم المتصارعان قبض بعضهما، عضلة عضلة حتى حاصرت عظام الوركين بعضها: تمايلا على هذا النحو، إلى الوراء وإلى الأمام، ومن الجنب إلى الجنب".

***

يعد عنوان "أنشودة المقهى الحزين" مناسباً تماماً للرواية، ليس فقط لأنه يعبر عن مضمونها، بل بالأساس لأنه يتماس مع تقنية كتابتها، فالنوفيلا المنسوجة ببراعة وحنكة تشبه في تقنيتها أنشودة مغناة، أو على الأقل قصة مروية في ليلة سمر. ثمة حس شفاهي مسيطر على الحكي، فالراوي يبدو كحكاء يوجه كلامه إلى مستمعين يراهم ويلاحظ إنصاتهم له ووقع كلماته عليهم. حين يشير في البداية إلى مارفن ميسي، ينصح قراءه/ مستمعيه: "لا تنسوا إذن مارفن ميسي هذا، لأنه سيلعب دوراً فظيعاً في القصة التي ستأتي". وفي موضع آخر يكتب/ يقول: "لندع السنوات البطيئة تمر إذن ونأتي إلى مساء يوم سبت في سادس سنة تمر منذ اللحظة التي جاء فيها ابن الخالة لايمن للمرة الأولى إلى البلدة". ويستمر هذا الملمح الشفاهي على امتداد الرواية بطرق مختلفة دون إخلال بولع ماكالرز برسم مشاهد دقيقة وحيّة تجعلنا نكاد نرى المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، بل إن المكان يكاد يحظى بالأولوية، فالمقهى حاضر بقوة منذ العنوان، والراوي يبدو كدليل يصحبنا في جولة تعريفية بالبلدة قبل الأبطال. وكما تبدأ النوفيلا بوصف البلدة وطريق شلالات فوركس حيث ينشد أفراد العصابة المصفّدة أنشودتهم، تنتهي بالعودة لوصف البلدة وطريق شلالات فوركس حيث لا يزال أفراد العصابة المصفدة أو "الهالكون الاثنا عشر" ينشدون أنشودتهم الكالحة والبهيجة في الآن نفسه. كأن البشر وأبطال حكايتنا التراجيدية على الأخص مجرد جملة اعتراضية طارئة على متن المكان. أو كأن هذا المكان القاسي سبب من أسباب شقائهم ومصيرهم القاتم.

كارسن ماكالرز كاتبة مهمة ضمن كوكبة كتاب الجنوب الأمريكي من أمثال وليم فوكنر وفلانري أوكونور وغيرهما، وترجمة على المجنوني دقيقة ومتميزة. قد تتساءل كقارئ عن سر تفضيله أحياناً لمفردات قديمة وغير منتشرة على مفردات أخرى أحدث وأكثر انتشارًا، لكنك ستغبطه على ثراء معجمه اللغوي  وتنوعه، وعلى عربيته الرصينة والسلسة في آن.


زاوية كتاب.. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب..

Friday, November 25, 2016

السهو والخطأ: بشر كالسُكَّر في فراغات الشاي







منصورة عز الدين

في مجموعته القصصية "السهو والخطأ"، الصادرة مؤخراً عن دار الكتب خان، يبدو الكاتب حسن عبد الموجود منشغلاً بتخليق الغرابة من قلب العادي واليومي. حيوات شخصيات القصص عادية في الغالب وأفعالهم بسيطة ويومية، لكن الغرابة تطل من كل زاوية وجانب. يمكن ردها أحياناً إلى هلاوس ناتجة عن خلل نفسي ما وأحياناً أخرى ترد احتمالية السُكر أو تعاطي الحشيش على البال، لكن في الغالب، لن يكون مفيداً الانشغال بمصدر الغرائبي أو مبرراته الفنية، فالكاتب ينجح في إقناعنا بأن مفارقة الواقع المعتاد هو عالم شخصياته، وعلينا تقبله والتواطؤ معه قبل أن نحاول فك شيفراته، بل علينا أحياناً ألّا نحاول فكها والاكتفاء بتمثُّل عالمها المشابه لعالمنا والمختلف عنه في آن.

ما يوحي لي بالملاحظة الأخيرة، أن عبد الموجود في أكثر من قصة، يزيد الغموض ويضاعف الإبهام بجملته الختامية بدلاً من أن يقدم عبرها طرف خيط يقود إلى تأويلات محتملة، كأن غايته التلاعب بتوقعات القارئ الباحث عن معنى محدد.

تضم "السهو والخطأ" 16 قصة متناغمة كأنها وجوه عديدة لحالة واحدة، ما يخلِّف إحساساً بأننا أمام متتالية قصصية، حتى وإن اختلف الأبطال وتنوعوا بين بشر وطيور (غربان تحديداً) يحرص الكاتب على أنسنتهم بدءاً من جملة مفتاحية تلي العنوان مباشرةً في قصة "غربان" وهي: "نحن الغربان جمعنا عاقل."، فالكاتب عبر هذا الجملة لا يتحايل فقط على قاعدة لغوية تقضي بتأنيث جمع غير العاقل، بل بالأساس يضفي العقل على الغربان ويتعامل معها ككائنات مفكرة لا تختلف في مشاعرها وردود أفعالها عن البشر.

أنسنة الغربان هذه تقابلها "حيونة" البشر في قصة "جماعة النباتيين المتطرفة" التي تأتي أقرب لديستوبيا في صورة مدينة يسكنها بدناء كسالى ينتهي بهم الأمر إلى أكل بعضهم بعضاً لرفضهم التحول إلى نباتيين. في هذه القصة لا يحمل البدناء أسماء بل أرقام.

هؤلاء البدناء آكلو اللحوم عاشوا في مدينة معزولة ومنقطعة عمّا حولها بغابات كثيفة يصعب اختراقها، هذه العزلة إن كانت راسخة ومشيَّدة بإحكام هنا، موجودة وإن بدرجات مختلفة في كل قصص المجموعة تقريباً. فالوحدة تكاد تكون ماثلة برأسها في كل قصة، كأن الجميع محكوم بانعدام التواصل مع الآخرين، أو كأن استخدام اللغة مقصور على مونولوجات داخلية غير منطوقة في عقل الشخصيات، وحتى في الحالات القليلة التي تنطق فيها شخصية ما بجملة أو سؤال، يكون الرد عليها تكريساً للقطيعة وانعدام التواصل.

في قصة "السُكَّر في فراغات الشاي" مثلاً يعيش البطل في عالم خاص به، يرى ما لا يراه الآخرون. يشاهد مباراة فاز فيها المنتخب الوطني من وجهة نظره، لكن الجرائد تحدثت عن "هزيمة كارثية للمنتخب"، كما أنه متأكد من أن بطل مسلسل ما مات في الحلقة الأولى، في حين يؤكد زملاؤه في العمل أن هذا لم يحدث، وهو طوال الوقت مشغول بجار لا نعرف على وجه اليقين إن كان موجوداً بالفعل أم أننا أمام بطل فصامي! تتكاثف عزلة هذا البطل بكونه يعيش في مدينة صحراوية جديدة، وهذا ملمح يتكرر في غير قصة.

اللافت أن من يبدو معترضاً على العزلة وباحثاً عن التواصل (مع جنسه على الأقل) هو الكلب في قصة "كلب يدخن" الذي أصبح أكثر هدوءاً واستقراراً مع وليفته الجديدة  في فيلا ذات حديقة: "شاهدناه وشاهدنا، في طرف الحديقة، وبجواره كلبة تشبهه تماماً، وجرى ناحيتنا وتحركنا نحوه، وبدأ يتقافز حولنا بجنون للحظات، ثم جرى باتجاه عروسه، نظرا إلينا لحظة من بعيد، ثم غابا في بيت بجوار الأشجار."

وفي قصة "تمرين على رفع اليد"، المدير لا يكاد يرد على البطل الذي يعاني من الوحدة، وثمة مطعم فكرته "عدم الاستجابة" لطلبات الزبائن، حيث لا رد على الأسئلة وكل شخص يجلس وحيداً إلى طاولة. وهدف المطعم كما جاء في ورقة تعليماته: "إشعارك بأهمية التواصل عن طريق إغراقك في الوحدة."

أما في قصة "شجرة نائمة"، فيكتب الراوي: "لم يتحدث أحدنا مع الآخر، كل منا يفكر مع نفسه...." فتبدو الجملة كأنما تنطبق على كل شخصيات المجموعة لا شخصيات هذه القصة فقط.


فأبطال "السهو والخطأ" أشبه بـ"السكر في فراغات الشاي". أي أنهم ذائبون غير مرئيين من الآخرين، وحتى لو تمت رؤيتهم فهذه الرؤية اللحظية يتبعها التجاهل أو تأكيد القطيعة.

زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.

Friday, November 18, 2016

المغتربون: طيف الهولوكوست وحرب تسكن الذاكرة




منصورة عز الدين



أخيراً يمكن لقراء العربية أن يقرأوا الروائي الألماني ف. ج. زيبالد بلغتهم، حيث صدرت مؤخراً روايته "المغتربون" عن دار التنوير، بترجمة ممتازة لأماني لازار. وككل أعماله تدفعنا "المغتربون" لإعادة النظر في مفهومنا عن الرواية كنوع أدبي تم التوافق، بشكل أو بآخر، على قواعده وسماته.
فزيبالد، الذي يعد أحد أهم كتاب العالم، قدم دوماً اقتراحاً خاصاً لفن الرواية، يحمل بصمته هو، ويولِّف بينها وبين المقال وأدب الرحلات والسيرة الذاتية والصور الفوتوغرافية والرسوم الإيضاحية، في تناغم لافت.

بقراءة أي عمل لزيبالد تحضرني مقولة فالتر بنيامين: "كل الأعمال الأدبية العظيمة إما أن تلغي نوعاً أدبياً أو تخترع آخر."، كما أجدني حائرة في تحديد مقدار ما يدين به هذا العمل أو ذاك للواقع ومقدار ما يدين به للتخييل والاختلاق، لكن الانشغال بهذا الأمر يبدو عبثياً خاصةً في ضوء نصيحة زيبالد نفسه لتلاميذه في جامعة "إيست أنجيليا": "علينا عدم الوثوق في "الحقائق" الواردة بالأعمال التخييلية، إنها – في النهاية – وهم". وهذا صحيح، فحتى الحقائق والتفاصيل المستمدة من الحيوات الواقعية تكتسي بلمسة مخاتلة ما إن يتضمنها عمل تخييلي ما، وزيبالد ماهر جداً في وسم كتابته، مهما بلغت واقعيتها، بمسحة شبحية مفارقة للواقع، وهي مهارة لا ينافسه فيها من الكتاب المعاصرين سوى خابيير مارياس.

في روايته هذه، المقسمة إلى أربعة أقسام، يقتفي زيبالد أثر أربعة مغتربين مثقلين بذاكرة مهلكة وهم: د. هنري سلوين الليتواني الأصل الذي انتحر في النهاية بإطلاق النار على نفسه، وبول بيرايتر المدرس المفضل للراوي في مدرسته الابتدائية بألمانيا والذي أنهى حياته بالتمدد أمام قطار، وآمبروز أدلفارت خال والدة الراوي المهاجر إلى أمريكا، قبل الحرب العالمية الأولى، حيث عمل لدى عائلة يهودية ثرية وأصبح وصيفاً ورفيق سفر لابن العائلة كوزمو، والذي التحق بإرادته بمصحة للأمراض العقلية في إيثاكا مقبلاً بلا تردد على جلسات العلاج بالصدمات الكهربائية كأنما يرغب في التماهي مع كوزمو في مصيره، حيث كان الأخير قد أصيب بمرض عقلي مدمر في أواسط العشرينيات. أما المغترب الرابع فهو ماكس فربر الذي تعرف عليه الراوي في مانشستر حين انتقل من ألمانيا لإنجلترا، فنان تشكيلي لن يكتشف الراوي أنه يهودي ألماني إلا متأخراً، وتتداخل حكايته مع حكاية أمه لويزا التي اختفت مع أبيه في غياهب معسكرات الاعتقال النازية بعد أن نجحا في تهريب ابنهما ماكس إلى إنجلترا وهو في الخامسة عشرة من عمره.

وإذا كان معظم الكُتَّاب يجهدون لإقناع القراء بأن شخصيات وأحداث رواياتهم متخيلة، فإن زيبالد يبذل ما في وسعه للإيحاء بأنه يكتب عن أشخاص حقيقيين لا متخيلين، وأنه هو نفسه راوي "المغتربون" الذي يقوم بدور أقرب لدور المحقق الصحفي في جمع المعلومات ممن عرفوا هذه الشخصيات عن قرب ونقلها على الورق في سرد يمزج بين السيرة (سيرة الراوي المتطابقة مع سيرة حياة زيبالد وسيرة لويزا كما وردت في مذكراتها) وأدب الرحلة (سواء في رحلات الراوي للتنقيب في ماضي شخصياته وزيارة الأماكن التي عاشوا فيها، أو اليوميات التي دونها آمبروز لرحلاته مع كوزمو) وبين التخييل والأحلام والتفاصيل الواقعية الصرفة. كل هذا مدعوم باستخدام الصور الأرشيفية بطريقة صارت مسجلة باسم صاحب "أوسترليتز".

تثبت "المغتربون"، مثل أعماله الأخرى، أن زيبالد المولود قبل نهاية الحرب العالمية الثانية بعام، لم يبرأ قط من آثارها، إذ بقى ظلها ماثلاً في وعيه ومخيلته، تماماً مثلما ظل شبح الهولوكوست مخيماً على أعماله باعتباره النص المضمر الجامع بينها.
من يقرأ روايات زيبالد يشعر بأن الحرب العالمية الثانية لم تنته بعد، بل لا تزال مشتعلة في الذاكرة الجمعية، وكما كتب في مفتتح الفصل الأول: "من كُتبت لهم النجاة أهلكتهم الذاكرة." فالذاكرة مهلِكة لدى زيبالد وشخصياته سواء من شارك منهم في جيش النازي أو من قُتِل في معسكر اعتقال أو من نجا ظاهرياً، لكنه واصل حياته بذاكرة حرمته الطمأنينة حتى انتهى به الأمر إلى الانتحار أو استدعاء الجنون والارتماء في أحضانه.

وإذا كانت الحرب لا تزال ماثلة على هذا النحو، فمن الطبيعي أن ترى عينا الراوي المدن كخرائب، تماماً كمدن طفولته. يكتب: " منذ زرت ميونيخ لم أشعر بشيء مرتبط بكلمة "مدينة" بشكل شديد الوضوح مثل وجود أكوام الأنقاض، وجدران أكلتها النيران، وفجوات النوافذ التي يمكن للمرء أن يرى من خلالها الهواء الفارغ". هكذا أيضاً ستركز عيناه على آثار الدمار حين يصف مانشستر الستينيات: "في موس سايد وهولم كان يوجد عمارات كاملة مكسوة أبوابها ونوافذها بألواح خشب، ومناطق برمتها كل ما فيها مهدم."، "قد يتصور المرء أن المدينة هُجرت منذ أمد طويل، وتُرِكت الآن كمقبرة كبيرة أو ضريح". "مدينة مغبرة بالسخام، كانت تنجرف نحو الدمار بثبات."
خارج مركز المدينة بالمثل سيستوقفه كل ما هو مهجور مثل: "حي اليهود المهجور"، "مصانع الغاز المهجورة". وستبدو له "المراكب القليلة وسفن الشحن الجاثمة متباعدة على جوانب الأرصفة مهشمة بصورة غريبة ذكرتني بكارثة سفن جسيمة."
إنها الحرب حين تحتل الوعي، وتلوِّن الرؤية للعالم حتى بعد انتهائها بعقود.

***

مثل روايات زيبالد الأخرى، تحتوي "المغتربون" على طبقات عديدة تحتاج إلى النبش والتدقيق، فالعمل - الذي يبدو لأول وهلة واضحاً ومباشراً - حافل بالإحالات والتلميحات والتناصات المتوارية. لو لم ينتبه إليها القارئ لن يقل استمتاعه أبداً بالنص وتقديره له، لكن الانتباه لها يكشف عن مدى عمق أسلوب زيبالد في الكتابة، كما يخبرنا أن اللعب الفني، حين يقدمه أحد كبار الكتاب، يأتي رهيفاً لماحاً بلا تبجح أو مبالغة كما يفعل متوسطو الموهبة.

في القراءة الأولى للعمل لفتت نظري تفصيلة "رجل الفراشات" وظهوره الخاطف من فصل لآخر، أدركت أنها ليست تفصيلة مجانية، لكنني لم أتمكن من سبر غورها، حتى قرأت مراجعة لاري وولف - في النيويورك تايمز - للرواية حيث أوضح أن رجل الفراشات المقصود هو الروائي الروسي فلاديمير نابوكوف، فأعدت قراءة الرواية مرة أخرى مقتفية أثر هذه التفصيلة لأكتشف أن حضور نابوكوف في "المغتربون" لا يتوقف عندها.
فحين يفرج د. سلوين الراوي على صور رحلته إلى كريت يكتب الأخير: "الدكتور سلوين في سروال يصل حتى الركبة مع حقيبة كتف وشبكة لصيد الفراشات. واحدة من اللقطات ماثلت، حتى بتفاصيلها، صورة لنابوكوف في الجبال فوق جشتاد اقتطعتها من مجلة سويسرية قبل بضعة أيام". وفي الفصل الثاني، حين التقى بيرايتر بلوسي لاندو لأول مرة كانت تقرأ السيرة الذاتية لنابوكوف. وفي الفصل الثالث، الخاص بآمبروز أدلفارت، يلعب رجل الفراشات دوراً أكبر حيث يظهر كشخصية عابرة تخايل آمبروز وهو في المصحة بإيثاكا (حيث عاش نابوكوف لسنوات طويلة)، إذ اعتاد آمبروز رؤية كهل يحمل شبكة صيد فراشات، وأطلق عليه لقب: "رجل الفراشات". وكانت آخر كلمات آمبروز في يومه الأخير: "لا بد أنني نسيت بينما أنتظر رجل الفراشات."، حين سأله د. إبرامسكي عن سبب عدم حضوره لجلسة العلاج.
أما في الفصل الأخير الخاص بماكس فربر فيظهر "رجل الفراشات"  طفلاً في مذكرات لويزا لانزبرغ، والدة فربر، التي أشارت لرؤيتها لسيدين روسيين مهذبين للغاية، كان واحد منهما يتحدث بجدية مع فتي في العاشرة كان يطارد الفراشات. وأضافت لاحقاً عن ذاك الطفل الروسي: "رأيته كرسول للفرح، عائداً من ذلك اليوم الصيفي البعيد ليفتح صندوق عيناته ويخرج الفراشات الأكثر جمالاً".
وقد أوضح لاري وولف في مقاله، المشار إليه سابقاً، أن هذا المشهد يتناص مع ذكرى، جرت في كيسينغن بألمانيا، وأوردها نابوكوف نفسه في مذكراته. لكن ما الذي يجمع نابوكوف بمغتربي زيبالد وكائناته المعذَّبة؟
الكاتب الروسي قضى فترة لا بأس بها من حياته مع أسرته بألمانيا كلاجئين سياسيين، ويعد من أشهر الأدباء المهاجرين. أخوه سيرجي قُتِل في معسكر اعتقال نازي عام 1945، وزوجته فيرا كانت يهودية فقدت وظيفتها عام 1936 بسبب تصاعد العداء للسامية في ألمانيا فاضطرا للمغادرة إلى باريس قبل أن يستقرا في النهاية بالولايات المتحدة، تحديداً في إيثاكا حيث انتهت حياة آمبروز أدلفارت بينما ينتظر رؤية "رجل الفراشات" وقد صار كهلاً.
بالنظر إلى حياته على هذا النحو، يبدو فلاديمير نابوكوف كأنه شخصية خارجة لتوِّها من إحدى روايات زيبالد، أو قرين أدبي له، يستحضر طيفه هنا كما استحضر أشباح ستاندال وكافكا وكازانوفا في روايته المدوِّخة "فيرتيجو".

أشرت سابقاً إلى أن زيبالد يمزج السيرة الذاتية بالتخييل وأدب الرحلة، وأرغب فقط في توضيح أنه حتى في حالة كتابته لما يكاد يتطابق مع سيرته الذاتية المعروفة لمحبيه، نجده لا يتخلى عن "غيرية" تميز كتابته، وأعني بها مسافة محسوبة بدقة يضعها بينه ككاتب وبين ما يكتب عنه، ربما يساعده فيها هنا أنه يتقمص دور المحقق أو الصحفي جامع المعلومات عن شخصياته باللجوء إلى من عرفوهم عن قرب، متيحاً لنا أن نرى مغتربيه في عيون وسطاء وفي عينيه وعبر كتاباتهم هم عن أنفسهم (في حالة آمبروز ولويزا)، والملاحظ أنه طوال الوقت يحرص على أن يحكي هؤلاء الوسطاء بضمير الأنا، أي أنهم يقدمون ذواتهم فيما يقدمون المخفي من سيرة الشخصيات الرئيسية. كما أن ذات الكاتب تختلط بذوات شخصياته وتتداخل معها، كيف لا وهو مثلهم مثقل بعبء الذاكرة ومغترب في إنجلترا التي انتقل إليها منذ نهايات الستينيات حتى وفاته عام 2001!
فابن الجندي في جيش النازي يبدو كأنما كتب للتكفير عن جرائم مواطنيه ولمداواة الذاكرة الجريحة عبر النبش فيها أولاً وإخراج كل ما حاولت مداراته والتواطؤ على نسيانه إلى العلن.

نقلاً عن زاوية "كتاب" بجريدة أخبار الأدب.


Friday, November 11, 2016

أبناء الأيام: مكر التاريخ وذاكرة غاليانو



منصورة عز الدين


"خوفي الأكبر هو أن نعاني جميعاً من فقدان الذاكرة، كتبتُ لاستعادة ذاكرة قوس قزح الإنساني المُعرّض لخطر التشويه." جملة الكاتب والصحفي الأورجواياني إدواردو غاليانو هذه مفتاحية للدخول إلى عالمه، ولفهم دوافعه ومحفزاته للكتابة على النحو الذي يكتب به. فالكتابة عنده ليست فقط تميمة ضد النسيان، بل آلية مقاومة أيضاً.
قد يبدو توصيف كهذا أقرب للكليشيه، لكن أسلوب غاليانو المتفرد يعيد له اعتباره وجدته ويحقنه بمعانٍ ودلالات إضافية. كيف لا وصاحب "ذاكرة النار" نجح في تحويل التاريخ إلى فن خالص؟! كأننا مع كل قراءة لعمل من أعماله نجد أنفسنا أمام تطبيق عملي لرؤية فريدريش دورنمات الخاصة بـ"الفن حيث لا يتوقعه أحد"، حتى وإن كان هذا التطبيق لم يخطر على بال دورنمات حين كتب عبارته هذه في سياق آخر.

في كتابه "أبناء الأيام"، الصادر عن دار "دال" بترجمة للمترجم الكبير صالح علماني، يحمل غاليانو كعادته صوت المنسيين ويمنحه قوة وحيوية تصلان به إلى مدى أبعد. يذكِّر بهم، وينتشلهم من الصمت والعراء ليضعهم في سياقات ملهمة ومحرضة على إعادة النظر في ما نتعامل معه كمسلمات.
الكاتب في حالة غاليانو، موسوعي مطلع على الدفاتر المنسية بل وحتى غير المدونة، كأنه نقلها عن آخر رواتها الشفاهيين. يُبرِز الشقوق والثغرات في حوائط التواريخ الرسمية، ويقدم سرديات بديلة تحتفي بتنوع البشر وتعدد ثقافاتهم، وتعيد الاعتبار لحضارات قديمة توارت وأُبيد ممثلوها، وأُحرِقت كتبها المقدسة ونواميس حكمتها، لا لشيء إلّا لأن مصالح السادة المسيطرين ارتأت أن هذه هي الوسيلة المُثلى لفرض سطوتهم وتغليب روايتهم التي تضمر أن ثقافة واحدة مهيمنة هي السبيل الأوحد للتقدم، وأن لا حضارة خارج حدودهم.

جاء "أبناء الأيام" أشبه بروزنامة بكل أيام العام، ولكل يوم اختار غاليانو حدثاً تاريخياً، وقع فيه، ليسرده أو يشير إليه في صورة شذرة مكتوبة بفن. منذ البداية ندرك أن ما ينتقيه صاحب "مرايا" ينتمي، في أغلبه، للتاريخ المغيَّب والمُتجَاهَل، ففي اليوم الأول (1 كانون الثاني/ يناير) يكتب: "ليس هذا اليوم هو أول يوم في السنة عند المايا واليهود والعرب والصينيين وآخرين كثيرين من سكان هذا العالم. تحديد هذا اليوم اخترعته روما، روما الإمبراطورية، ثم باركته روما الفاتيكان، ويبدو من المبالغة القول إن البشرية بأسرها تحتفل بهذا التجاوز لحدود الأعوام. ولكن أجل، لا بد من الاعتراف: الزمن شديد اللطف معنا، نحن الرحالة العابرين فيه عبوراً سريعاً، وهو يمنحنا الإذن بأن نعتقد أنه يمكن لهذا اليوم أن يكون الأول بين الأيام، وكي نعتقد أنه يوم بهيج مثل ألوان محل خضار وفاكهة."

كذلك لن يكون مفاجئاً أن الحدث الذي سينتقيه غاليانو لثاني أيام السنة هو سقوط غرناطة. "إنه انتصار محاكم التفتيش المقدسة. فغرناطة هي آخر مملكة أسبانية كان يمكن فيها للمساجد والكنائس والكُنس أن تتجاور".

شذرات الكتاب تبدو أحياناً كأقاصيص تتوفر لها كل شروط وسمات الأقاصيص الجيدة، وتعبر في أحيان أخرى عن آراء في الفن أو الأدب أو السياسة، غير أنها تحافظ دوماً على اللماحية والذكاء.
فيوم 29 كانون الثاني (يناير) يخصصه المؤلف لذكرى ميلاد أنطون تشيخوف ويعنونه بـ"صامتاً أقول": "اليوم وُلِد أنطون تشيخوف، في عام 1860. كتب كمن لا يقول شيئاً. وقد قال كل شيء."
كما يخصص يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) لمحمد بو عزيزي الذي صارت النار التي أحرق بها نفسه شعلة بحجم العالم العربي، "المشتعل بأناس ملوا من كونهم لا شيء."

على امتداد صفحات الكتاب، نتعرف على  آنخيلا لويج، التي كانت "واحدة من آخر السكان الأصليين في تييرا دل فويجو، هناك في أقصى العالم، والأخيرة التي تتكلم لغتهم. وحيدة كانت تغني آنخيلا، ولا لأحد كانت تغني، بتلك اللغة التي لم يعد هناك من يتذكرها".
وعلى شعب الأونا الذين كانوا يعبدون في أزمنة مضت عدة آلهة. الإله الأعلى بينهم يدعى "بيماولك" بمعنى "كلمة". وعلى إليسا لينش وهي تحفر الأرض بأظافرها كي تدفن زوجها في أرض كانت أرضه. ونتحسر على كتب المايا - الحافظة لثمانية قرون من الذاكرة الجماعية – وهي تُحرق على يد الراهب الفرانسيسكاني دييغو دي لاندا، قبل قرون في فناء دير ماني في يوكاتان.

غير أن واحدة من أكثر شذرات الكتاب لفتاً للنظر هي تلك الخاصة بيوم 8 تشرين الأول (أكتوبر) وهو اليوم الذي اُغتيل فيه ثاباتا في المكسيك عام 1919، وقُتِل فيه أغوسطو سيسر ساندينو في نيكاراجوا عام 1934، وحوصِر فيه جيفارا عام 1967 قبل أن يٌقتل في اليوم التالي. "الثلاثة سقطوا بالرصاص غدراً في كمائن (.....) والثلاثة عوقبوا لأنهم رفضوا أن يعيد التاريخ نفسه." كما يكتب المؤلف. كأن التاريخ، بمكره المعتاد، يسخر من تمردهم ورفضهم تكراره لنفسه. ما يذكرنا على الفور بجملة غاليانو الشهيرة: "التاريخ لا يقول "وداعاً" أبداً، بل يقول: أراكم لاحقاً!"

 زاوية "كتاب" نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب".....

Friday, October 21, 2016

البنت الأخرى ولم أخرج من ليلي: سر آني إرنو





منصورة عز الدين

تبدو الروائية الفرنسية آني إرنو كأنما تعرف ما تريده من الكتابة بالضبط، والأهم أنها تعرف كيفية تحقيقه، فوفقاً لجملتها الشهيرة "ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنىً وقيمةً، وجعله في النهاية لا يُنسى."، وهذا ما تقوم به، إذ تمنح لجروحها معنى وقيمة عبر الكتابة، ولا تكف عن تشريح الذات والعلاقات بنفاذ بصيرة يصل حد الاستبصار.
وأنا أقرأ آني إرنو، أتذكر جملة جوان ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب على الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، إنظر بعينيّ، غير رأيك!"

مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد على التخييل والبنية المركبة على عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين أن إرنو تكتب ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر دون حاجة إلى التخييل، كما تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين أو بالتأثير فيهم، وإن كانت تنجح في هذا، إذ يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها صوتاً.
تكتب عن علاقتها بأمها في "امرأة" فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض على جوهر العشق إن كان له جوهر.

في تقديمها لترجمتها لـ"الحدث" تصف الشاعرة هدى حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملاً لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة."
وفي تقديمها لترجمتها لـ"البنت الأخرى و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتى خُيِّل إليّ أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي."

أنا أيضاً ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب.
إلّا أن التماهي بيني وبين إرنو تضاعف أثناء قراءة "البنت الأخرى" (صدرت بالفرنسية في 2011) لسبب أساسي هو أني فقدتُ أختاً صغيرة مثلها، وكتبت عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن مجموعتي القصصية الأولى. الفارق أني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت" بعامين، ولم تعرف بأمرها سوى وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن لمن خنقتها الدفتيريا.

ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"، تبدأ آني نصها "البنت الأخرى" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت، وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا/ هي. وهو الالتباس المهيمن على النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ على الذهن حين نقرأ عنوان "البنت الأخرى" هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير أننا نكتشف لاحقاً أن الكاتبة تقصد نفسها بـ"البنت الأخرى"! فالذات تخلت عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلى الهامش.

علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقاً لإرنو، حيث لا يقرها سوى السجل المدني. "لكنك لست أختي، لم تكوني أبداً أختي. لم نلعب سوياً ولم نأكل سوياً ولم ننم سوياً. لم ألمسك أبداً، ولم أعانقك. لم أرَ أبداً لون عينيك. لم أركِ أبداً. أنت بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في فوتوغرافيا الأبيض والأسود."

المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره. "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."، لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف بوجوده، ما لم تره سوى كغياب تام مخبَّأ في قلبيّ الأب والأم باعتباره سرهما الأعظم؟
تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا عليها هي: "ليس لكِ وجود إلّا عبر بصمتكِ على وجودي. أن أكتبكِ هو ألّا أتعدى معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة."

اللافت أن آني إرنو تصف نصها، في أكثر من موضع، بالرسالة. وهو فعلاً رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو أن "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة بفوحان الشكوى، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلى أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك."

هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها، فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلى العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية على إنجاب طفل واحد فقط.

النص الثاني الذي يضمه الكتاب الصادر مؤخراً عن دار أزمنة، هو "لم أخرج من ليلي" الذي سبق أن صدرت طبعته الأولى عن المركز القومي للترجمة، وتسرد فيه إرنو قصة مرض أمها بـ"ألزهايمر" وتفاصيل إقامتها في قسم المسنين بمستشفى "بونتواز". الكتاب، الصادر بالفرنسية عام 1997، كُتِب على هيئة يوميات أثناء مرض الأم التي يعرفها قراء آني إرنو جيداً عبر نص "امرأة". في "لم أخرج من ليلي" يتعرف القراء على وجه آخر للسيدة دوشاسن هو وجه المرض والأفول، وعلى ملمح مختلف من علاقة الكاتبة بها.

سواء في "البنت الأخرى" أو "لم أخرج من ليلي"، تحافظ آني إرنو على سرها الخاص ككاتبة تجيد النفاذ إلى أعماق المشاعر الإنسانية بكل تعقيدها. وأخيراً تبقى الإشارة إلى المقدمة الكاشفة التي قدمت بها نورا أمين النصين، والتي تعد مدخلاً مثالياً للتعرف على إرنو وعالمها الأدبي.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب"...

Friday, October 14, 2016

ذبابة في الحساء: الحرب لعب أطفال وفأر التجارب يكتب الشعر






منصورة عز الدين

يفتتح الشاعر الأمريكي من أصل صربي تشارلز سيميك سيرته الآسرة "ذبابة في الحساء"، الصادرة مؤخراً عن الكتب خان بترجمة للشاعرة إيمان مرسال، بالتأكيد على عادية قصته ومألوفيتها. "قصتي قصة قديمة وأصبحت الآن مألوفة. لقد تشرد كثير من الناس في هذا القرن. أعدادهم مهولة ومصائرهم الفردية والجماعية متنوعة، سيكون مستحيلاً أن أدعي تميز وضعي كضحية، أنا أو أي شخص آخر، إذا أردت الصدق."

غير أن ما يكتبه يعد درساً في تحويل العادي والمكرر إلى فن خالص، واستخلاص الفرادة من قلب ما قد يحوله الكثيرون إلى كليشيهات.
واللافت أن سيميك قادر أيضًا على جعل من لم يمروا بتجاربه نفسها شركاء له فيها، كأنهم اختبروها وكانت جزءاً من تاريخهم الشخصي، ربما لأنه يلتقط التفاصيل الإنسانية البسيطة، ويعبر عن اشتهاءات البشر وآلامهم (أياً كانت مسبباتها) بصدق وبراعة.

يبدأ المؤلف كتابه بطفولته في بلجراد خلال الحرب العالمية الثانية، حيث الموت حدث يومي، والخراب في كل مكان، والقصف لا يكاد يتوقف، لكن ما يتوقف أمامه، هو ما يتجاهله الآخرون غالباً في كتابتهم عن فترات مماثلة.
قد يشعر البعض بأن سيميك يرصد سعادات الحرب وجماليات العيش في ظلها! لكن هذا ليس بالتوصيف الدقيق، ربما الأدق اقتراح أنه يقدم وجوهاً أخرى للحرب، ويبرهن على كيف يمكن للإنسان أن يخترع سعاداته الخاصة رغماً عنها وعلى هامشها. كيف يمكن له أن يتمرد على تأطيره في خانة الضحايا وينقل نفسه إلى خانة الناجين حتى ولو مؤقتاً.
تلك آلية مقاومة يبرع فيها الأطفال والاستثنائيون، وسيميك ماهر في تقمص الطفل الذي كانه وفي التعلم منه.

يقدم صاحب "المسخ يعشق متاهته" الحرب في أكثر من موضع باعتبارها لعب أطفال. حيث تتحطم القيود التقليدية وتتيح الفوضى للصغار مساحة للّهو. يكتب سيميك:
"وفر لنا زمن الحرب ملاهٍ للرياضة وزحاليق وبيوتاً خشبية وحصوناً ومتاهات يمكن العثور عليها في ذلك الخراب عبر الشارع. كان هناك جزء قد تبقى من الدرج، كنا نصعد بين الحطام وفجأة تظهر السماء! (.....) نجلس بسعادة بين أطلال غرفة طعام شخص ما بالدور الثالث، يأتينا من الشارع تحتنا صياح واحدة من أمهاتنا وهي تشير إلينا بينما ابنها يهرول إلى أسفل مجاهداً في تذكر أين كان يضع قدميه أثناء الصعود. كنا نلعب جنوداً، استمرت الحرب. نزلت القنابل. ولعبناً جنوداً."
وفي موضع آخر يكتب عن جلوسه في بيت جده لأكل البطيخ والتفرج على المدينة وهي تحترق. "يصر جدي أن أجلس بجانبه. يقطّع لي الجبن ويعطيني رشفة من النبيذ الأحمر بينما نصغي لأصوات الانفجارات المكتومة."

قد يخطر في بال قارئ ما تساؤل: هل فِلتر الزمن والمسافة بين المرء وبين أهوال الماضي هما المسئولان عن هذه النبرة المسيطرة على الكتاب؟
وهو سؤال مشروع، لكن أولاً، كلمة أهوال تبدو مبالغاً فيها وناتئة هنا، فسيميك يصور أحداث ماضيه، بحلوها ومرها، كما لو كانت مسرات وسعادات رسبتها الذاكرة، لا مكان عنده للتفجع أو الإنشائية. وثانياً، من الواضح أن المسألة لا علاقة لها ببعد المسافة الزمنية (ليست العنصر الحاسم على الأقل)، بل بسيميك نفسه وعينه المختلفة، فعلى امتداد الكتاب نلحظ عصاميته الفكرية وتشبثه بفرديته وحقه في العثور على صوته الخاص والتمسك بعينه المختلفة عن الآخرين. يمكن تلمس هذا بوضوح حين يحكي عن معاناته في تطوير شعره وسعيه للافلات من التكلف والتقليد وصراعه مع الكلمات واللغة. كما أن ما يذكره من أحداث وتفاصيل من فترات زمنية لاحقة، وبالتالي أكثر قرباً، مغلف بالمزاج نفسه.

***

أكثر ما يلفت النظر في "ذبابة في الحساء" إذن هو الإعلاء من شأن المتع الصغيرة والمسرات العابرة التي تخللت أصعب اللحظات ولونتها بلونها، كأن المؤلف مبرمج جينيًا على اقتناص الملذات في أحلك الظروف. أقول جينيًا لأن كثيرًا من أقاربه، ممن يذكرهم في كتابه، يشبهونه في إقبالهم على متع الحياة واقتناصهم لها وتحايلهم على المصاعب كل على طريقته الخاصة، وعلى رأسهم: والده المولع بالأطعمة الشهية والملابس الفخمة والحياة المرفهة، بغض النظر إن كانت إمكاناته المادية تسمح بها أم لا. والعم بوريس الذي كان بمقدوره "أن يجعل الأم تريزا تضرب بعصا البيسبول"، والذي كان بيته عامراً دائماً بالطعام والنبيذ الوفير. ونانا، خالة أمه، بطة العائلة السوداء ومبذرة الأموال باستهانة، التي كانت تتخذ من المسبات والألفاظ البذيئة وسيلة مقاومة.

من بين ملذات الحياة العديدة يحتل الطعام المكانة الأولى لدى سيميك. يرد لفظ الجنة وتعريفها أكثر من مرة في سيرته هذه مقترناً بأطعمة لذيذة، كما مثّل الأكل دوماً عزاءً مثالياً له، لذا خصه بفصل كامل، افتتحه بـ: "يمكن للمرء أن يكتب سيرته الذاتية عبر وصف كل وجبة استمتع بها في حياته، وستكون قراءتها أكثر متعة مما نقرأه عادة. بصدق، ما الذي تفضله، وصف أول قبلة أم الكرنب المطبوخ بإتقان؟"
وهذا ما يفعله تقريباً في هذا الفصل، إذ يكتب سيرة مختصرة لنفسه عبر أشهى الوجبات التي تناولها في حياته، ومنها: بوريك دوبروساف سيفيكوفيتش، وكيك الكريم، لفائف الكاسترد وغيرهما من أطعمة قضى يوم 9 مايو 1950 يأكلها مع صديق له متنقلين من مخبز لآخر، ومكرونة لينجويني مع الأنشوجة ونبيذ صقلية الأحمر.

رغم كل هذا، لا يتغافل سيميك عن صعوبة وضعه كلاجئ ثم كمهاجر، يرصد حاله البائس وملابسه الرثة خلال الفترة التي قضاها مع أمه وشقيقة في باريس في انتظار الهجرة لأميركا للحاق بأبيه، حيث قدمت له السينما عالماً خيالياً بديلاً عن واقعه المهترئ. ويذكر أن والده اعتاد ممازحته بسؤال: أين ستهاجر المرة القادمة؟ فـ"مازالت تجربة القرن العشرين في المنافي مستمرة. من هم مثلنا كانوا حيوانات تجارب. أغرب ما في الأمر، أن يقوم واحد من فئران التجارب بكتابة الشعر."


"ذبابة في الحساء" كتاب واجب القراءة، خاصة أن ترجمة إيمان مرسال السلسة، تتسم بأهم سمات الترجمة الجيدة: ألّا تشعر بوجود وسيط بينك وبين الكتاب، كأنه مكتوب بلغتك.

زاوية "كتاب" نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب"...