Friday, November 25, 2016

السهو والخطأ: بشر كالسُكَّر في فراغات الشاي







منصورة عز الدين

في مجموعته القصصية "السهو والخطأ"، الصادرة مؤخراً عن دار الكتب خان، يبدو الكاتب حسن عبد الموجود منشغلاً بتخليق الغرابة من قلب العادي واليومي. حيوات شخصيات القصص عادية في الغالب وأفعالهم بسيطة ويومية، لكن الغرابة تطل من كل زاوية وجانب. يمكن ردها أحياناً إلى هلاوس ناتجة عن خلل نفسي ما وأحياناً أخرى ترد احتمالية السُكر أو تعاطي الحشيش على البال، لكن في الغالب، لن يكون مفيداً الانشغال بمصدر الغرائبي أو مبرراته الفنية، فالكاتب ينجح في إقناعنا بأن مفارقة الواقع المعتاد هو عالم شخصياته، وعلينا تقبله والتواطؤ معه قبل أن نحاول فك شيفراته، بل علينا أحياناً ألّا نحاول فكها والاكتفاء بتمثُّل عالمها المشابه لعالمنا والمختلف عنه في آن.

ما يوحي لي بالملاحظة الأخيرة، أن عبد الموجود في أكثر من قصة، يزيد الغموض ويضاعف الإبهام بجملته الختامية بدلاً من أن يقدم عبرها طرف خيط يقود إلى تأويلات محتملة، كأن غايته التلاعب بتوقعات القارئ الباحث عن معنى محدد.

تضم "السهو والخطأ" 16 قصة متناغمة كأنها وجوه عديدة لحالة واحدة، ما يخلِّف إحساساً بأننا أمام متتالية قصصية، حتى وإن اختلف الأبطال وتنوعوا بين بشر وطيور (غربان تحديداً) يحرص الكاتب على أنسنتهم بدءاً من جملة مفتاحية تلي العنوان مباشرةً في قصة "غربان" وهي: "نحن الغربان جمعنا عاقل."، فالكاتب عبر هذا الجملة لا يتحايل فقط على قاعدة لغوية تقضي بتأنيث جمع غير العاقل، بل بالأساس يضفي العقل على الغربان ويتعامل معها ككائنات مفكرة لا تختلف في مشاعرها وردود أفعالها عن البشر.

أنسنة الغربان هذه تقابلها "حيونة" البشر في قصة "جماعة النباتيين المتطرفة" التي تأتي أقرب لديستوبيا في صورة مدينة يسكنها بدناء كسالى ينتهي بهم الأمر إلى أكل بعضهم بعضاً لرفضهم التحول إلى نباتيين. في هذه القصة لا يحمل البدناء أسماء بل أرقام.

هؤلاء البدناء آكلو اللحوم عاشوا في مدينة معزولة ومنقطعة عمّا حولها بغابات كثيفة يصعب اختراقها، هذه العزلة إن كانت راسخة ومشيَّدة بإحكام هنا، موجودة وإن بدرجات مختلفة في كل قصص المجموعة تقريباً. فالوحدة تكاد تكون ماثلة برأسها في كل قصة، كأن الجميع محكوم بانعدام التواصل مع الآخرين، أو كأن استخدام اللغة مقصور على مونولوجات داخلية غير منطوقة في عقل الشخصيات، وحتى في الحالات القليلة التي تنطق فيها شخصية ما بجملة أو سؤال، يكون الرد عليها تكريساً للقطيعة وانعدام التواصل.

في قصة "السُكَّر في فراغات الشاي" مثلاً يعيش البطل في عالم خاص به، يرى ما لا يراه الآخرون. يشاهد مباراة فاز فيها المنتخب الوطني من وجهة نظره، لكن الجرائد تحدثت عن "هزيمة كارثية للمنتخب"، كما أنه متأكد من أن بطل مسلسل ما مات في الحلقة الأولى، في حين يؤكد زملاؤه في العمل أن هذا لم يحدث، وهو طوال الوقت مشغول بجار لا نعرف على وجه اليقين إن كان موجوداً بالفعل أم أننا أمام بطل فصامي! تتكاثف عزلة هذا البطل بكونه يعيش في مدينة صحراوية جديدة، وهذا ملمح يتكرر في غير قصة.

اللافت أن من يبدو معترضاً على العزلة وباحثاً عن التواصل (مع جنسه على الأقل) هو الكلب في قصة "كلب يدخن" الذي أصبح أكثر هدوءاً واستقراراً مع وليفته الجديدة  في فيلا ذات حديقة: "شاهدناه وشاهدنا، في طرف الحديقة، وبجواره كلبة تشبهه تماماً، وجرى ناحيتنا وتحركنا نحوه، وبدأ يتقافز حولنا بجنون للحظات، ثم جرى باتجاه عروسه، نظرا إلينا لحظة من بعيد، ثم غابا في بيت بجوار الأشجار."

وفي قصة "تمرين على رفع اليد"، المدير لا يكاد يرد على البطل الذي يعاني من الوحدة، وثمة مطعم فكرته "عدم الاستجابة" لطلبات الزبائن، حيث لا رد على الأسئلة وكل شخص يجلس وحيداً إلى طاولة. وهدف المطعم كما جاء في ورقة تعليماته: "إشعارك بأهمية التواصل عن طريق إغراقك في الوحدة."

أما في قصة "شجرة نائمة"، فيكتب الراوي: "لم يتحدث أحدنا مع الآخر، كل منا يفكر مع نفسه...." فتبدو الجملة كأنما تنطبق على كل شخصيات المجموعة لا شخصيات هذه القصة فقط.


فأبطال "السهو والخطأ" أشبه بـ"السكر في فراغات الشاي". أي أنهم ذائبون غير مرئيين من الآخرين، وحتى لو تمت رؤيتهم فهذه الرؤية اللحظية يتبعها التجاهل أو تأكيد القطيعة.

زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.

No comments:

Post a Comment