Friday, November 11, 2016

أبناء الأيام: مكر التاريخ وذاكرة غاليانو



منصورة عز الدين


"خوفي الأكبر هو أن نعاني جميعاً من فقدان الذاكرة، كتبتُ لاستعادة ذاكرة قوس قزح الإنساني المُعرّض لخطر التشويه." جملة الكاتب والصحفي الأورجواياني إدواردو غاليانو هذه مفتاحية للدخول إلى عالمه، ولفهم دوافعه ومحفزاته للكتابة على النحو الذي يكتب به. فالكتابة عنده ليست فقط تميمة ضد النسيان، بل آلية مقاومة أيضاً.
قد يبدو توصيف كهذا أقرب للكليشيه، لكن أسلوب غاليانو المتفرد يعيد له اعتباره وجدته ويحقنه بمعانٍ ودلالات إضافية. كيف لا وصاحب "ذاكرة النار" نجح في تحويل التاريخ إلى فن خالص؟! كأننا مع كل قراءة لعمل من أعماله نجد أنفسنا أمام تطبيق عملي لرؤية فريدريش دورنمات الخاصة بـ"الفن حيث لا يتوقعه أحد"، حتى وإن كان هذا التطبيق لم يخطر على بال دورنمات حين كتب عبارته هذه في سياق آخر.

في كتابه "أبناء الأيام"، الصادر عن دار "دال" بترجمة للمترجم الكبير صالح علماني، يحمل غاليانو كعادته صوت المنسيين ويمنحه قوة وحيوية تصلان به إلى مدى أبعد. يذكِّر بهم، وينتشلهم من الصمت والعراء ليضعهم في سياقات ملهمة ومحرضة على إعادة النظر في ما نتعامل معه كمسلمات.
الكاتب في حالة غاليانو، موسوعي مطلع على الدفاتر المنسية بل وحتى غير المدونة، كأنه نقلها عن آخر رواتها الشفاهيين. يُبرِز الشقوق والثغرات في حوائط التواريخ الرسمية، ويقدم سرديات بديلة تحتفي بتنوع البشر وتعدد ثقافاتهم، وتعيد الاعتبار لحضارات قديمة توارت وأُبيد ممثلوها، وأُحرِقت كتبها المقدسة ونواميس حكمتها، لا لشيء إلّا لأن مصالح السادة المسيطرين ارتأت أن هذه هي الوسيلة المُثلى لفرض سطوتهم وتغليب روايتهم التي تضمر أن ثقافة واحدة مهيمنة هي السبيل الأوحد للتقدم، وأن لا حضارة خارج حدودهم.

جاء "أبناء الأيام" أشبه بروزنامة بكل أيام العام، ولكل يوم اختار غاليانو حدثاً تاريخياً، وقع فيه، ليسرده أو يشير إليه في صورة شذرة مكتوبة بفن. منذ البداية ندرك أن ما ينتقيه صاحب "مرايا" ينتمي، في أغلبه، للتاريخ المغيَّب والمُتجَاهَل، ففي اليوم الأول (1 كانون الثاني/ يناير) يكتب: "ليس هذا اليوم هو أول يوم في السنة عند المايا واليهود والعرب والصينيين وآخرين كثيرين من سكان هذا العالم. تحديد هذا اليوم اخترعته روما، روما الإمبراطورية، ثم باركته روما الفاتيكان، ويبدو من المبالغة القول إن البشرية بأسرها تحتفل بهذا التجاوز لحدود الأعوام. ولكن أجل، لا بد من الاعتراف: الزمن شديد اللطف معنا، نحن الرحالة العابرين فيه عبوراً سريعاً، وهو يمنحنا الإذن بأن نعتقد أنه يمكن لهذا اليوم أن يكون الأول بين الأيام، وكي نعتقد أنه يوم بهيج مثل ألوان محل خضار وفاكهة."

كذلك لن يكون مفاجئاً أن الحدث الذي سينتقيه غاليانو لثاني أيام السنة هو سقوط غرناطة. "إنه انتصار محاكم التفتيش المقدسة. فغرناطة هي آخر مملكة أسبانية كان يمكن فيها للمساجد والكنائس والكُنس أن تتجاور".

شذرات الكتاب تبدو أحياناً كأقاصيص تتوفر لها كل شروط وسمات الأقاصيص الجيدة، وتعبر في أحيان أخرى عن آراء في الفن أو الأدب أو السياسة، غير أنها تحافظ دوماً على اللماحية والذكاء.
فيوم 29 كانون الثاني (يناير) يخصصه المؤلف لذكرى ميلاد أنطون تشيخوف ويعنونه بـ"صامتاً أقول": "اليوم وُلِد أنطون تشيخوف، في عام 1860. كتب كمن لا يقول شيئاً. وقد قال كل شيء."
كما يخصص يوم 17 كانون الأول (ديسمبر) لمحمد بو عزيزي الذي صارت النار التي أحرق بها نفسه شعلة بحجم العالم العربي، "المشتعل بأناس ملوا من كونهم لا شيء."

على امتداد صفحات الكتاب، نتعرف على  آنخيلا لويج، التي كانت "واحدة من آخر السكان الأصليين في تييرا دل فويجو، هناك في أقصى العالم، والأخيرة التي تتكلم لغتهم. وحيدة كانت تغني آنخيلا، ولا لأحد كانت تغني، بتلك اللغة التي لم يعد هناك من يتذكرها".
وعلى شعب الأونا الذين كانوا يعبدون في أزمنة مضت عدة آلهة. الإله الأعلى بينهم يدعى "بيماولك" بمعنى "كلمة". وعلى إليسا لينش وهي تحفر الأرض بأظافرها كي تدفن زوجها في أرض كانت أرضه. ونتحسر على كتب المايا - الحافظة لثمانية قرون من الذاكرة الجماعية – وهي تُحرق على يد الراهب الفرانسيسكاني دييغو دي لاندا، قبل قرون في فناء دير ماني في يوكاتان.

غير أن واحدة من أكثر شذرات الكتاب لفتاً للنظر هي تلك الخاصة بيوم 8 تشرين الأول (أكتوبر) وهو اليوم الذي اُغتيل فيه ثاباتا في المكسيك عام 1919، وقُتِل فيه أغوسطو سيسر ساندينو في نيكاراجوا عام 1934، وحوصِر فيه جيفارا عام 1967 قبل أن يٌقتل في اليوم التالي. "الثلاثة سقطوا بالرصاص غدراً في كمائن (.....) والثلاثة عوقبوا لأنهم رفضوا أن يعيد التاريخ نفسه." كما يكتب المؤلف. كأن التاريخ، بمكره المعتاد، يسخر من تمردهم ورفضهم تكراره لنفسه. ما يذكرنا على الفور بجملة غاليانو الشهيرة: "التاريخ لا يقول "وداعاً" أبداً، بل يقول: أراكم لاحقاً!"

 زاوية "كتاب" نقلاً عن جريدة "أخبار الأدب".....

No comments:

Post a Comment