Thursday, July 28, 2016

بابِت وعبادة النجاح





منصورة عز الدين


حسناً فعلت دار التنوير بنشرها الترجمة العربية لرواية "بابِت" للكاتب سِنكلير لويس، فالعمل الذي يُعد من علامات الأدب الأمريكي كان في حاجة لإعادة تذكير قارئ اليوم به.
في "بابِت" التي ترجمها مؤخراً الحارث النبهان، لا يقدم سِنكلير لويس فقط رواية ممتعة ذكية وساخرة، بل بالأساس يقبض على جوهر عصر بكامله، وعلى روح مجتمع يرى نفسه ممثلاً لأرقى ما يمكن أن يصل إليه البشر من تطور.

"علت أبراج زينيث فوق ضباب الصباح. أبراج هائلة من الفولاذ والأسمنت والحجر؛ قوية كأنها جبال، رشيقة كأنها قضبان من فضة. ما كانت هذه الأبراج قلاعاً ولا كنائس، بل أبنية مكاتب.. هكذا، بكل جمال ووضوح!" بهذا المفتتح ينجح لويس في تقديم مدينته المتخيلة "زينيث" كمدينة تؤمن بـ"رب التطور" وتعتنق مذهب رجال الأعمال، "مدينة يوحي مظهرها بأنها مدينة مبنية للعمالقة"، غير أن بطلنا جورج ف. بابِت "لا يبدو شيء من هيئة العمالقة" على مظهره.

هذا التناقض بين بابِت ومدينته يلوح برهافة منذ البداية، رغم أن بابِت ظل، لفترة طويلة من حياته، ترساً مخلصاً في آلة المدينة العملاقة متماهياً مع مُثُلها، فخوراً بكل ما تمثله. و"كان يعتبر البرج شيئاً يشبه برج كنيسة... كنيسة دين قطاع الأعمال... رمزاً للإيمان... متعالياً، متجاوزاً الناس العاديين"!

كل شيء حول بابِت وفي عالمه وعالم مدينته ينضح بعبادة التقدم والنجاح وبهوس الاستهلاك، هوس سيكون بابِت نفسه جزءاً منه ومحرضاً عليه بالنظر لمهنته كوسيط عقارات، وحين يحدس الترس الذي كانه بابِت بخواء عالمه ويحاول التمرد يجد نفسه ملفوظاً خارج الرحم الآمن لمجتمعه المألوف من نخبة "زينيث" حتى يعود إلى سابق عهده، وإن كانت عودته ليست كاملة لأنه في نهاية الرواية سيتواطأ مع رغبة ابنه "تيد" في فعل ما يريده حقاً بصرف النظر عن ما يراه الآخرون، كأنه وإن فشل في محاولته للتمرد، يحرص على ألّا يفشل ابنه.

لكن قوة الرواية المنشورة عام 1922، لا تكمن فقط في أفكارها ولا رؤيويتها، بل في كيف نجح مؤلفها في تحويل هذه الأفكار إلى فن خالص يتسم بالمتعة والعمق في آن. فسِنكلير لويس لا علاقة له بالكليشيهات المكرورة، كما أنه لا يسقط في فخ تحويل روايته إلى هجاء ممل للرأسمالية ولتهميش البشر لصالح الآلة والحجر، بل تسحبنا روايته لأعماقها كبحر رمال بحيث نتابع بابِت في تفاصيل حياته الناجحة ظاهرياً والفارغة في جوهرها، وتنجح سخرية لويس في إبعاد شبح الأحكام الأخلاقية والمباشَرة.

سخرية لويس آسرة وتظهِر الجانب الهزلي في شخصياته بلا قسوة، ودون تحويلهم إلى "كاريكتير". واللافت أننا كقراء نتعرف على جورج بابِت عبر كم لا يُحصَى من التفاصيل الدقيقة، التي قد تبدو عديمة الأهمية، لكنها معاً تكوِّن صورة مقربة جداً لشخصيته، كأننا أمام فسيفساء من السمات الهزلية وتفاصيل الحياة اليومية العابرة، يبدو الكاتب كما لو كان يُكبِّرها عبر عدسة تضفي عليها ملامحاً هزلية، فنبصر تناقضات بابِت وحماقاته، ومع هذا نحبه ونتعاطف معه حتى لو كرهنا نظرياً ما يمثله – في البداية – من ولع بالمظاهر وعبودية للنجاح والاستهلاك.

ولا أظنني أبالغ إذا قلت إن جورج بابِت من الشخصيات الأدبية الفريدة التي تستحق أن توضع في مصاف أهم الشخصيات الفنية. إذ كعادة الشخصيات العصية على النسيان، يمكن لكل منا أن يجد ما يجمعه بجورج بابِت سواء في مآزقه الوجودية أو حتى في صراعاته الحياتية التافهة للامتناع عن التدخين مثلاً أو لمقاومة الإسراف في الأكل.

 زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب