Tuesday, December 19, 2017

منصورة عز الدين: روايتي وليدة الضجر من الكتابة التقليدية



يعتقدُ فرانز كافكا بأنَّ الكتاب الذي لا يكسرُ جليد الرأسِ ليس جديراً بأن تُضيع الوقت في قراءته، فعلاً بأنَّ ما لا يخرجُ عن المألوف ولا يُحطّم أشكالاً سائدة ولا يُشاغبُ أنماطاً تقليدية لا يُضيفُ لك شيئاً، ولا يثير أسئلة حبلى بنزوع معرفيّة. وهذا ما تراهن عليه الروائية المصرية منصورة عز الدين كلما تباشرُ بكتابة عمل جديد.
لاقت «أخيلة الظل» آخر إصدارات منصورة عز الدين احتفاءً على مختلف المستويات، وذلك لما اتّصفت به الرواية من خصائص أسلوبية مميّزة والتماسك البنائي. وفيما يلي حوار لـ»الجمهورية» مع صاحبة «جبل الزمرد» حول تجربتها الروائية وقراءتها للمشهد الروائي المصري.


أجرى الحوار: كه يلان محمد



1- يقول مارسيل بروست إن السبيل الوحيد لحماية اللغة هي مهاجمتها هل يمكنُ وصف روايتك الأخيرة  بأنها ثورة على الشكل التقليدي للرواية أو محاولة لاكتشاف أفق جديد في صياغة الأدب الروائي على غرار ما عمله الغيطاني في (الزينى بركات)؟

-        أظن أن وصفًا مماثلًا يُترَك أمر البت فيه للنقاد والقراء، ما أعرفه أن "أخيلة الظل" وليدة الضجر من الكتابة التقليدية ومن عودة البعض لأسئلة فنية عفا عليها الزمن.

2- تتواردُ في سياق رواية (أخيلة الظل) عباراتُ توهم بإشراك المتلقي في إنجازها لماذا يُمنحُ هذا الدور المركزي للقارئ؟

-        في رأييّ أن المتلقي شريك أساسي في أي نص. بمجرد صدور العمل يصبح ملكاً لقرائه، وكل قارئ يقوم بتأويله على طريقته ووفق ثقافته ومرجعياته الخاصة. شراكة القارئ مع الكاتب ليست خصيصة ما بعد حداثية كما قد يتراءى للبعض، كُتَّاب قدامى من ثقافات مختلفة انتبهوا لهذه الشراكة وخاطبوا قراءهم المفترضين، كل بأسلوبه، يحضرني الآن مثلاً الجاحظ وثربانتس.
في حالة "أخيلة الظل" المتلقي أكثر من شريك، هو فاعل لا غنى عنه في إنتاج النص. الرواية مقدمة منذ سطورها الأولى باعتبارها لعبة. لعبة تخييل؟ أم لعبة افتراضات؟ سيان. المهم أن اللعبة تحتاج إلى طرفين، إذ ليس بإمكان الكاتب أن يلعب منفرداً. هو في حاجة إلى تواطؤ القارئ وتسامحه. عليه أيضاً أن يتوارى قليلاً ويتخلى عن مركزيته المفترضة في انتاج النص، حتى ولو كان هذا التواري مجرد احتيال ومراوغة. فكما يقول جان بودريار: "لا ينبغي أبداً أن يكون اللاعب أكبر من اللعبة نفسها وإلا لفظته". منطق اللعب يفرض وجود شركاء متواطئين على قواعد معينة للعبة، كما يفرض مساواة – ولو متوهمة – بينهم. ربما لهذا لم تُكشف هوية من يدير اللعبة ويحركها: كاميليا؟ أم أولجا؟ أم راوٍ آخر خفي؟
مركزية المتلقي كانت أيضاً محاولة لخلق درجة من الألفة معه لتقليل ارتباكه أمام لعبة التبادلات والمرايا في النص. هذا غير أن الإيهام الأساسي في العمل يتمثل في افتراض أن معظمه يقع في منطقة ما قبل الكتابة، في أحلام اليقظة والتخيلات والأحلام. فكاميليا تحلم بأولجا، وأولجا تتخيل كاميليا وآدم رافضةً أن تكتبهما لأنها لم تعد تؤمن بجدوى الكتابة.
لكن بعيداً عن كل هذا، أظن أن الكتابة - في وجه من وجوهها - فعل قراءة. الكاتب يقرأ العالم ويُئوِّله ويقيم العلاقات بين عناصره بينما يكتب. في المعاجم العربية القديمة مثلاً من معاني مفردة "قرأ": جمع الشيء وضمه بعضه إلى بعض. وهذا في ظني يصلح تعريفاً أيضاً للكتابة عموماً ولكتابة الرواية على وجه الخصوص. في "أخيلة الظل" الكتابة خلق صلات وعلاقات بين أشخاص (وأشياء؟) لا علاقة ظاهرة بينهم.

3- من الملاحظ تفاعلُ نصك الروائي مع الفنون الأخرى لا سيما فن السينما والفن التشكيلي وأيضا الموسيقى هل يأتي هذا نتيجة لإعتقادك بأنَّهُ لم يُعد هناك خطوط فاصلة بين تلك الفنون والأدب؟

-        هذا الأمر يأتي عفوياً، ربما لقناعتي بأن لا خطوط فاصلة بين الفنون والأدب. الفن التشكيلي والسينما والمسرح والفوتوغرافيا مكونات أساسية في تكويني ككاتبة. في مراحل مبكرة من طفولتي أرشدتني السينما إلى كثير من القراءات. عبرها تعرفت على كثير من الكتاب وقرأت لهم، هذا غير غرامي بجمالياتها الخاصة وجماليات الصورة بشكل عام. علاقتي بالفوتوغرافيا معقدة منذ بدايتها، لطالما أدهشتني الصور الفوتوغرافية وأخافتني في الوقت نفسه. عبرها انشغلت مبكراً بفكرة توقيف الزمن؛ إماتته وتثبيته. من ناحية أخرى ذاكرتي بصرية بالأساس، بل أجازف بقول إن لغتي نفسها كذلك. المشهدية بارزة في كتابتي من أول قصة كتبتها، إلهامي يحضر في هيئة مشاهد أو صور مقتطعة من سياقها، بعضها لأشياء أو أحداث مررت بها – ولو عابراً – ثم أكتشف لاحقاً تأثيرها عليّ وقدرتها على تحفيز مخيلتي.
أما بالنسبة للموسيقى، فحضورها نابع بالأساس من طبيعة شخصيات الرواية والتقنية المختارة لكتابتها. فـ"أخيلة الظل" تستعير نوعاً من التزامن الموسيقي لتشكيل العلاقة بين شخصياتها.

4- الشخصيات الأساسية في الرواية لا تشغلها سوى الذكريات وتدوينها كأنكِ أردت بذلك توصيل رسالة وهي أن الإنسان محصلة للإشارات الصادرة من بئر الماضي على حد تعبير كونديرا هل هذا صحيح؟

-        "أخيلة الظل" - في مستوى من مستوياتها - مبنية وفق منطق الصورة، إذ تضمر بداخلها ما تتمركز حوله الفوتوغرافيا من تثبيت للزمن. التثبيت في الرواية ليس تاماً بطبيعة الحال، لكنه أقرب لتوقفات عند لحظات/ ذكريات بعينها، والتركيز عليها باعتبارها مركزية في تشكيل ذوات الشخصيات ورؤيتها لنفسها وعلاقتها بالعالم. كأن الذات مضت في طريقها مع حركة الزمن فيما وقف ظلها أمام نقطة بعينها في الماضي محدقاً فيها ومتأملاً نفسه خلالها. العلاقة بالماضي مركزية في كتابتي منذ البداية، "متاهة مريم" كانت – بشكل ما - حوار مريم مع أشباح ماضيها، وفي "وراء الفردوس" ثمة محاولة سلمى المستحيلة للانسلاخ عن الماضي والقطيعة معه، و"جبل الزمرد" يمكن النظر إليها كمحاولة لاختراع ماضٍ متوهم يُنظَر للرجوع إليه باعتباره المخلِّص والمصحح لكل الأخطاء.
من هذا المنطلق أتفق مع مقولة كونديرا، ومع رؤية ماركيز الخاصة بأن حياتنا هي ما نتذكره منها. الإنسان محصلة كل أفعاله وكل ما مر به، ونحن لا نعي الأفعال والأحداث بشكل جيد إلّا حينما تمضي، ويصير بيننا وبينها مسافة تتيح لنا إمكانية الرؤية والاستبصار فيها.

5- شهد فن الرواية في مصر مراحل مُتعددة إذ كان وراء كل مرحلة اسم أدبي بارز الآن كيف تقييمين  منجز الروائي المصري؟

-        من الصعب تقييم منجز الرواية المصرية في عجالة، فكما ذكرت ثمة مراحل متعددة واتجاهات ومدارس متباينة. هناك أيضًا كُتَّاب منسيون رغم أهمية ما قدموه. بالنسبة لمشهد الرواية المصرية الآن أراه حيويًا وصاخبًا، لكن ينقصه الفرز النقدي. ففي خضم الصخب وغياب النقد تتوارى أصوات مهمة خلف الضجيج. من ناحية أخرى لا تهتم كثير من دور النشر المصرية بتوزيع إصداراتها بشكل جيد خارج مصر، وتكتفي بالقارئ المصري، وهذا حجَّم من انتشار الرواية المصرية عربيًا باستثناءات قليلة.


·       نقلاً عن جريدة الجمهورية اللبنانية.

Monday, December 4, 2017

رواية المصرية منصورة عز الدين «أخيلة الظل»: عوالم موازية مدهشة بطلتها الكتابة







المثنى الشيخ عطية


لنتخيل رواية تكتب شخصياتُها مؤلفَها مثلما يكتبها، دون كبير جهد في «بحثها عن المؤلف»، وبمتعة تبادل الأدوار، وإيجاد «ألف ممر وممر» لعبور الشخصيات والمؤلفين خلال بعضهم، وللدرجة التي «نمسك فيها باللحظة السحرية حيث يمتزج الضوء بالظل كأنهما شيء واحد». ولنسمح لأحلام يقظتنا، وكما تفعل الحياة بخلط جيناتها، أن تشطح أكثر من ذلك بتذكر أو بابتكار الحكايات التي تصور طفولتنا، والاتجاهات التي نفترض أنها سلكتها تحت تأثيرات فرض معتقدات أهلنا وأفعالهم عليها، أو جهلنا بنتائج ما ترتكب براءاتنا. ولنسمح، كشخصيات أو مؤلفينَ أو قراء، لأنفسنا أن تقود نفسها بحرية في هذه الاتجاهات، ولا بأس علينا، بقليل من الغش في تغييرها، إن لم نستطع تحمل حزنِ فشلنا في منع وقائع حدوث ما سيعصف بحيواتنا، مثل أن تتلقى طفلة «ركلة محكمة» من قدم أب غاضب.
ولنطلق أيدينا أجنحة تحلق في سماوات لا حدود لها، وبين غيوم نشكلها وفقاً لما يدهش عيون من يشهدنا، طالما كانت لدينا فطرة قدرة التخيل البسيطة بحكم تكويننا، أو يد القدرة اللغوية التصويرية المثال، للغوص في أعماق دواخلنا حتى الإذهال.

تلك هي بعض أحاسيس متعة قراءة أو عيش رواية «أخيلة الظل» الجديدة للكاتبة المصرية منصورة عز الدين، التي يرافق أصابع كتابتها لها ظلٌ ساحرٌ يتشكل قريناً متحولاً بعفوية المطابقة والتغير، كيفما تحركت إضاءات الرواية أمام أعيننا، من أجل إشراكنا بمتعة خلقها. وهذا البطل الموازي هو: الكتابة، في لحظة صراعها مع فنائها.

في البدء، لم تكن الكلمة، بل ربما كان جوهر الفراغ الذي لا تسمع فيه حتى صوت فتح صفحةٍ بإصبعيك اللطيفين من كتاب الطاو، وفقاً لتقديم الرواية من الكاتبة، أو صوت يقظة جفنيك من كابوس نصبه لك كافكا وأنت جالس تتأمل متحفه تحت سماء براغ، التي تشكل سحبها عنك شخصية تبتكرها أحلام يقظتك: «في البدء كان هناك مقعد خشبي» في الباحة الأمامية لمتحف كافكا على ضفة الفلتافا»، تجلس عليه كاميليا، بطلة الرواية الأولى، الكاتبة، «في أقصى درجات هشاشتها وصدقها مع ذاتها». وآدم، بطل الرواية الأول، الكاتب، الغريب عنها، والذي «لم يكن هو نفسه بالضبط، بل نسخة منقحة عنها، عالقة في مخاوف الطفولة وهواجسها.»



ولنبسط «القصة بالغة التعقيد» التي وصفتها الكاتبة هكذا في عنوان أحد فصول روايتها، ببطلين يدعونا لتخيلهما راوٍ مجهول لا نستطيع الجزم إن كان هو كاميليا نفسها، بعد اكتشافنا خلال القراءة أنهما بطلان متخيلان من شخصية تكتبها كاميليا. هي شخصية كاتبة روسية تعيش في براغ: «وليكن اسمها أولغا»، تكتب عن شخصيتيْ كاتبين غريبين يلتقيان في هذه المدينة، هما كاميليا بطلة قصة أولغا، وآدم، حفيد بطلة قصتها التي تكتبها. وتقصيهما أولغا عن التسجيل كتابة، وفقاً لكاميليا، ولا تكتبهما، لأنها تريد لهما الحياة في صخب أفكارها، وأن يبقيا سراً حميماً، لا كتابة عمومية تستهدف قراء لا تعرفهم ولا يربطهم بها سوى كلمات لم تعد تؤمن بجدواها. بل تواصل الكتابة عن «طفلة ناجية من مذبحة»، تختارها من مذابح «سيفو» التي جرت ضد السريان والآشوريين، عام 1915، وتختار لها اسم «آميديا، تيمناً بزوجة نبوخذ نصر، تلك التي شيد لها حدائق بابل المعلقة كي تذكرها بتلال وجبال مسقط رأسها، فلا تشعر بالغربة أو الحنين المرضي وهي معه في موطنها الجديد». ونكتشف أن هذه الطفلة كما أرادتها مخيلة الكاتبة هي جدة آدم، التي فصمها عن واقعها شهودها للمجزرة.

وندرك، خلال مواصلتنا قراءة «أخيلة الظل»، أننا نقرأ «ألف ليلة وليلة»، لكن بنسخة عز الدين الخاصة المبتكرة، التي تفتح لنا فيها من خلال البداية ببطليها الكاتبين، ومراسلاتهما، وتحت عناوين مثقفة، غنية وأخاذة. قصص حياة شخصيات الرواية المتشابكة بعلاقاتها مع البطلين، في لعبة افتراضات ذهنية تقوم بها الشخصية المحور في الرواية، حيث «يخطر لكاميليا في هذه اللحظة أن تضيف لعبة جديدة لألعابها الذهنية اللانهائية: اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها». ولنكتشف أيضاً، خلال هذا التداخل، ما نقوم به نحن كبشر في واقع أحلام يقظاتنا، لمواجهة مخاوفنا، ولاحتمال آلامنا، ولحل تعقيدات حياتنا، ولإضفاء متعٍ حرمتنا منها تحريمات أسلافنا، كي نفكر بعمق أكثر في أوهامنا، نوازعنا، أفعالنا ومصائبنا، وربما لكي نتسامح أكثر مع أنفسنا، ومع الآخرين الذين نخضعهم جوراً لانطباعيات أحكامنا.

ولا تفعل ذلك عز الدين، من خلال بساطة شكل بنية الرواية الظاهرة كفصول، وكسرد من راوٍ عن شخصيات؛ ولا من تعقيدات البنية الداخلية في لعبة أحلام اليقظة بخلق العوالم الموازية؛ ولا بالثقافة العميقة التي تستخدمها خيوط حرير شفافة لكنها صلبة في نسج الرواية، وتستخدم فيها كتاب الطاو الصيني المقدس، وفلسفة اللغة في لسان العرب؛ وهاويات كوابيس كافكا، والموسيقى، الفن التشكيلي، السينما، وثقافة الأماكن… بل أيضاً تفعل ذلك بسحر التصوير اللغوي، الأخاذ والمؤثر بعمق، لمشاهد النفس الداخلية الغارقة في الخوف والحسرة والندم، ولمشاهد المجازر بأهوالها التي تتجاوز ما يحدث من قصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، والقنابل الفراغية والكيماوية، ومن ذبح وتقطيع وحرق، إلى ما يقصف روح الشاهدين الناجين من هذه الأهوال. كل هذا يقطع صلتهم ولغة تواصلهم بواقعهم، وبالبشر المحيطين بهم؛ ولمشاهد المكان، التي يرتقي فيها وصفه الجميل إلى عيش روح المكان، ونبضه كحياة تتفاعل وتؤثر في الشخصيات، بدءاً من لون المقعد الخشبي حيث «الأخضر بدرجاته هو اللون المفضل لكاميليا: لون الحياة الجديدة وجسد أوزيريس وعيني حورس في الميثولوجيا الفرعونية، والجشمت ــ حجر كاميليا الأثير ـــ لا مثيل لاخضراره. لو قدر لها أن تبعد عينيها عن المسافة بين قدميها المتباعدتين قليلاً لأدركت أن اللون الداكن للمقعد الخشبي، علامة وغمزة عين من القدر». وثمة مرور بالبيوت والحدائق والأنهار والبحار والصحاري والغابات والسهول والجبال، إلى المدن التي ترتسم مثلها مثل الشخصيات كعوالم موازية متغيرة بعمارتها وألوانها وفقاً لإحساس شخصياتها بها.

وأكثر من ذلك، على خلاف ما تكونه الروايات الباردة المخططة المقاسة بالمليمتر، تجرؤ عز الدين على نشر أجنحة إبداعها، في قيادة روايتها بعفوية، وترك الحرية للحميمية، ولشخصياتها أن تعبر وأن تطور نفسها، وأن تختار مساراتها. وهذا مثلما تفعل بطلتها الكاتبة كاميليا، التي «لا يمكنها الجزم بمصير بطلها النهائي، قد يفاجئها ــ أثناء الكتابة ـــ مقترحاً عليها مساراً آخر للأحداث… ما عليها سوى الصبر ومواصلة الكتابة والإنصات لهمس بطلها كما كانت تنصت لرفاق الطفولة الخياليين، وتخترع لهم حكايات مستقلة، ثم تستلهمها لاحقاً لاختراع حيوات بديلة ــ عن حياتها مع أبويها ــ تقصها على صديقات الدراسة.»

ولا يعني هذا بأية حال فقدان سيطرة الكاتبة على حرية سير الكتابة، وعلى نوافذ وأبواب وممرات التداخل المفتوحة، التي تجعل الرواية تتحرك كما الحياة، في تمازج مورثاتها، وإذهال نفسها بالتنوع والفرادة؛ فإضافة إلى التحكم بالرواية من خلال البنية، تبتكر عز الدين الختام الذي يلمّ أبعادها، بتدوير انفتاح نهايتها على بدايتها، وبانسجام حلو مع فلسفتها في تعدد مرايا الكائن وأشكال ظلاله.
وهذه في نهاية المطاف رواية ذات عذوبة مفرطة، عميقة وجديرة بقراءة متأنية، تُدخل الكتابة بطلاً، وتتسم في هذا كله بخصائص فنية رفيعة. ومثلما يحسد كثير من الروائيين غابرييل غارسيا ماركيز على روايته «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، يمكننا الزعم أن «أخيلة الظل» جديرة بإثارة حسد تلقائي مشروع لدى روائيين أفذاذ، تمنوا لو أنهم سبقوا عز الدين إلى كتابتها.

منصورة عز الدين:
"أخيلة الظل"
دار التنوير، القاهرة 2017
174 صفحة

نقلاً عن جريدة "القدس العربي".. 11 نوفمبر 2017.

Saturday, December 2, 2017

رضوى عاشور.. الرواية كوثيقة تاريخية





منصورة عز الدين


في سيرتها الجميلة والكاشفة "أثقل من رضوى"، تحكي الروائية الراحلة رضوى عاشور أن جدها عبد الوهاب عزام، اختار لها اسمها تيمناً بجبل رضوى في المدينة المنورة؛ ذلك الجبل الذي ضربت به العرب المثل في الثقل والرسوخ حين قالت: "أثقل من رضوى".
كأن الجد المثقف، باختياره هذا الاسم، كان يتنبأ بشخصية حفيدته والمسار الثري لحياتها. كانت نبؤءة أكثر منها رجاء.

مع الوقت صارت الحفيدة مثلاً ليس فقط في القوة والرسوخ، بل وأيضاً في ثراء وتعدد مجالات الإسهام. تنوع متناسق يذكر بأنغام لحن موسيقي شجي، إذ لا يمكن فصل الروائية عن الأكاديمية عن المناضلة عن الأم والحبيبة حين نتحدث عن رضوى عاشور، إنها وجوه متداخلة للشخصية نفسها، وجوه نلمح ظلالها بينما نقرأ عملاً روائياً لصاحبة "خديجة وسوسن"، رغم أنها من الكاتبات اللاتي يجدن إخفاء آثار حياتهن الشخصية داخل ما يكتبن.
الكتابة، بالنسبة لرضوى عاشور "محاولة للتعامل مع الهزيمة" و"لاستعادة إرادة منفية"، لذا من الطبيعي أن يكون الرصد والتوثيق، لمنع تجريف الذاكرة الجمعية، هاجساً يتكرر من عمل لآخر.

من الطبيعي أيضاً أن يصير التاريخ والرواية خيطين مضفورين معاً، بحيث تقترب الرواية من كونها وثيقة تاريخية، وتكتسب لغتها في أكثر من موضع نبرة المؤرخ الناظر من مسافة إلى ما يدور حوله حتى لو اشتبك معه وشارك فيه.

في رواياتها ذات البعد الوثائقي، نجدها تضفر المتخيل بوقائع التاريخ بمهارة، لا يخايل التاريخ القارئ من بعيد ولا يأتي كخلفية تتحرك عليها الشخصيات، بل يبين واضحاً مركزياً، كأن التأريخ غاية السرد ومنتهاه.

في حوار معها، تقول صاحبة "ثلاثية غرناطة" عن روايتها "الطنطورية" إنها: " رواية تمزج المتخيل بالوثاثق، والأحداث المفصلية في الرواية كلها حقيقية، فعندما أتحدث عن تاريخ هذه المرأة، فإني أتحدث عن الطنطورة. أتحدث عن قرية معينة ومعروفة في تاريخ فلسطين وجغرافيتها، حين أتحدث عن امرأة شاتيلا أدخل بعض الشخصيات الحقيقية، حيث يظهر أنيس الصايغ في النص، والدكتورة بيان نويهض الحوت مؤلفة كتاب "صبرا وشاتيلا"."

الكلام السابق يكشف منهج صاحبته في مقاربة التاريخ وتطويعه لمقتضيات الفن الروائي، كما يمكننا فهم عالمها الإبداعي ورؤيتها لفن الرواية ودوره، بدرجة أعمق، إذا تذكرنا مقولتها: "كل الروايات تاريخية بمعنى من المعاني"!

"أرجع قليلاً إلى الوراء لأن الدقة مطلوبة، والحكاية لا تخصني وحدي" هذا ما جاء على لسان "الناظر" راوي "قطعة من أوروبا"، الحكاية فعلاً لا تخصه وحده، بل أكاد أقول لا تخصه أصلاً، فحياته الخاصة شاحبة بالمقارنة مع ما يدونه عن وقائع وشخصيات تاريخية. الناظر الرائي والمراقب مشغول برسم بورتريه لقاهرة الخديوي إسماعيل بعمرانها وأماكنها وشخوصها البارزة، كأنه يعيد الحياة إلى ما أندثر وتوارى، وحين يحكي عن نفسه يقاربها كأنها أيضاً لا تخصه، فثمة مسافة بينه وبينها، بينه وبين طليقته شهرزاد وبناته الثلاث.

الناظر هنا هو قناع للكاتبة، قناع يدلنا على رؤيتها لدورها ورسالتها. هذا الدور وهذه الرسالة يمكن تلمسهما بين ثنايا كتابها الأخير "أثقل من رضوى"، ففي فقرة بالغة الدلالة تكتب أنها تريد لسلمى سعيد أن تعلم أنها أصيبت بالقرب من بيت أحمد عرابي، "وأريد لأولادها من بعدها أن يعرفوا أن أمهم وهي صبية في العشرينيات أُطلِق عليها النار في هذا المكان، وأريد ألا ينسى أولادها ولا أحفادها ولا أحفاد أحمد حرارة ومالك مصطفى وماري دانيال وأشقاء جابر صلاح أن أهلهم والمئات غيرهم ممن استشهدوا أو أصيبوا في هذا المكان، كانوا وهم يصنعون له تاريخاً جديداً، يتواصلون مع تاريخ لم يحكوا لنا عنه أو حكوا حكايات منقوصة".


نقرأ هذا، فنفهم أنها كتبت دائماً لتقود قراءها إلى التواصل مع تاريخ مسكوت عنه، كتبت دائماً رغبةً منها في سد ثغرات الحكايات المنقوصة وسعياً إلى إكمالها.

* شهادة نُشِرت بمجلة "الدوحة" في عدد يناير 2015.