Monday, December 4, 2017

رواية المصرية منصورة عز الدين «أخيلة الظل»: عوالم موازية مدهشة بطلتها الكتابة







المثنى الشيخ عطية


لنتخيل رواية تكتب شخصياتُها مؤلفَها مثلما يكتبها، دون كبير جهد في «بحثها عن المؤلف»، وبمتعة تبادل الأدوار، وإيجاد «ألف ممر وممر» لعبور الشخصيات والمؤلفين خلال بعضهم، وللدرجة التي «نمسك فيها باللحظة السحرية حيث يمتزج الضوء بالظل كأنهما شيء واحد». ولنسمح لأحلام يقظتنا، وكما تفعل الحياة بخلط جيناتها، أن تشطح أكثر من ذلك بتذكر أو بابتكار الحكايات التي تصور طفولتنا، والاتجاهات التي نفترض أنها سلكتها تحت تأثيرات فرض معتقدات أهلنا وأفعالهم عليها، أو جهلنا بنتائج ما ترتكب براءاتنا. ولنسمح، كشخصيات أو مؤلفينَ أو قراء، لأنفسنا أن تقود نفسها بحرية في هذه الاتجاهات، ولا بأس علينا، بقليل من الغش في تغييرها، إن لم نستطع تحمل حزنِ فشلنا في منع وقائع حدوث ما سيعصف بحيواتنا، مثل أن تتلقى طفلة «ركلة محكمة» من قدم أب غاضب.
ولنطلق أيدينا أجنحة تحلق في سماوات لا حدود لها، وبين غيوم نشكلها وفقاً لما يدهش عيون من يشهدنا، طالما كانت لدينا فطرة قدرة التخيل البسيطة بحكم تكويننا، أو يد القدرة اللغوية التصويرية المثال، للغوص في أعماق دواخلنا حتى الإذهال.

تلك هي بعض أحاسيس متعة قراءة أو عيش رواية «أخيلة الظل» الجديدة للكاتبة المصرية منصورة عز الدين، التي يرافق أصابع كتابتها لها ظلٌ ساحرٌ يتشكل قريناً متحولاً بعفوية المطابقة والتغير، كيفما تحركت إضاءات الرواية أمام أعيننا، من أجل إشراكنا بمتعة خلقها. وهذا البطل الموازي هو: الكتابة، في لحظة صراعها مع فنائها.

في البدء، لم تكن الكلمة، بل ربما كان جوهر الفراغ الذي لا تسمع فيه حتى صوت فتح صفحةٍ بإصبعيك اللطيفين من كتاب الطاو، وفقاً لتقديم الرواية من الكاتبة، أو صوت يقظة جفنيك من كابوس نصبه لك كافكا وأنت جالس تتأمل متحفه تحت سماء براغ، التي تشكل سحبها عنك شخصية تبتكرها أحلام يقظتك: «في البدء كان هناك مقعد خشبي» في الباحة الأمامية لمتحف كافكا على ضفة الفلتافا»، تجلس عليه كاميليا، بطلة الرواية الأولى، الكاتبة، «في أقصى درجات هشاشتها وصدقها مع ذاتها». وآدم، بطل الرواية الأول، الكاتب، الغريب عنها، والذي «لم يكن هو نفسه بالضبط، بل نسخة منقحة عنها، عالقة في مخاوف الطفولة وهواجسها.»



ولنبسط «القصة بالغة التعقيد» التي وصفتها الكاتبة هكذا في عنوان أحد فصول روايتها، ببطلين يدعونا لتخيلهما راوٍ مجهول لا نستطيع الجزم إن كان هو كاميليا نفسها، بعد اكتشافنا خلال القراءة أنهما بطلان متخيلان من شخصية تكتبها كاميليا. هي شخصية كاتبة روسية تعيش في براغ: «وليكن اسمها أولغا»، تكتب عن شخصيتيْ كاتبين غريبين يلتقيان في هذه المدينة، هما كاميليا بطلة قصة أولغا، وآدم، حفيد بطلة قصتها التي تكتبها. وتقصيهما أولغا عن التسجيل كتابة، وفقاً لكاميليا، ولا تكتبهما، لأنها تريد لهما الحياة في صخب أفكارها، وأن يبقيا سراً حميماً، لا كتابة عمومية تستهدف قراء لا تعرفهم ولا يربطهم بها سوى كلمات لم تعد تؤمن بجدواها. بل تواصل الكتابة عن «طفلة ناجية من مذبحة»، تختارها من مذابح «سيفو» التي جرت ضد السريان والآشوريين، عام 1915، وتختار لها اسم «آميديا، تيمناً بزوجة نبوخذ نصر، تلك التي شيد لها حدائق بابل المعلقة كي تذكرها بتلال وجبال مسقط رأسها، فلا تشعر بالغربة أو الحنين المرضي وهي معه في موطنها الجديد». ونكتشف أن هذه الطفلة كما أرادتها مخيلة الكاتبة هي جدة آدم، التي فصمها عن واقعها شهودها للمجزرة.

وندرك، خلال مواصلتنا قراءة «أخيلة الظل»، أننا نقرأ «ألف ليلة وليلة»، لكن بنسخة عز الدين الخاصة المبتكرة، التي تفتح لنا فيها من خلال البداية ببطليها الكاتبين، ومراسلاتهما، وتحت عناوين مثقفة، غنية وأخاذة. قصص حياة شخصيات الرواية المتشابكة بعلاقاتها مع البطلين، في لعبة افتراضات ذهنية تقوم بها الشخصية المحور في الرواية، حيث «يخطر لكاميليا في هذه اللحظة أن تضيف لعبة جديدة لألعابها الذهنية اللانهائية: اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها». ولنكتشف أيضاً، خلال هذا التداخل، ما نقوم به نحن كبشر في واقع أحلام يقظاتنا، لمواجهة مخاوفنا، ولاحتمال آلامنا، ولحل تعقيدات حياتنا، ولإضفاء متعٍ حرمتنا منها تحريمات أسلافنا، كي نفكر بعمق أكثر في أوهامنا، نوازعنا، أفعالنا ومصائبنا، وربما لكي نتسامح أكثر مع أنفسنا، ومع الآخرين الذين نخضعهم جوراً لانطباعيات أحكامنا.

ولا تفعل ذلك عز الدين، من خلال بساطة شكل بنية الرواية الظاهرة كفصول، وكسرد من راوٍ عن شخصيات؛ ولا من تعقيدات البنية الداخلية في لعبة أحلام اليقظة بخلق العوالم الموازية؛ ولا بالثقافة العميقة التي تستخدمها خيوط حرير شفافة لكنها صلبة في نسج الرواية، وتستخدم فيها كتاب الطاو الصيني المقدس، وفلسفة اللغة في لسان العرب؛ وهاويات كوابيس كافكا، والموسيقى، الفن التشكيلي، السينما، وثقافة الأماكن… بل أيضاً تفعل ذلك بسحر التصوير اللغوي، الأخاذ والمؤثر بعمق، لمشاهد النفس الداخلية الغارقة في الخوف والحسرة والندم، ولمشاهد المجازر بأهوالها التي تتجاوز ما يحدث من قصف بالصواريخ والبراميل المتفجرة، والقنابل الفراغية والكيماوية، ومن ذبح وتقطيع وحرق، إلى ما يقصف روح الشاهدين الناجين من هذه الأهوال. كل هذا يقطع صلتهم ولغة تواصلهم بواقعهم، وبالبشر المحيطين بهم؛ ولمشاهد المكان، التي يرتقي فيها وصفه الجميل إلى عيش روح المكان، ونبضه كحياة تتفاعل وتؤثر في الشخصيات، بدءاً من لون المقعد الخشبي حيث «الأخضر بدرجاته هو اللون المفضل لكاميليا: لون الحياة الجديدة وجسد أوزيريس وعيني حورس في الميثولوجيا الفرعونية، والجشمت ــ حجر كاميليا الأثير ـــ لا مثيل لاخضراره. لو قدر لها أن تبعد عينيها عن المسافة بين قدميها المتباعدتين قليلاً لأدركت أن اللون الداكن للمقعد الخشبي، علامة وغمزة عين من القدر». وثمة مرور بالبيوت والحدائق والأنهار والبحار والصحاري والغابات والسهول والجبال، إلى المدن التي ترتسم مثلها مثل الشخصيات كعوالم موازية متغيرة بعمارتها وألوانها وفقاً لإحساس شخصياتها بها.

وأكثر من ذلك، على خلاف ما تكونه الروايات الباردة المخططة المقاسة بالمليمتر، تجرؤ عز الدين على نشر أجنحة إبداعها، في قيادة روايتها بعفوية، وترك الحرية للحميمية، ولشخصياتها أن تعبر وأن تطور نفسها، وأن تختار مساراتها. وهذا مثلما تفعل بطلتها الكاتبة كاميليا، التي «لا يمكنها الجزم بمصير بطلها النهائي، قد يفاجئها ــ أثناء الكتابة ـــ مقترحاً عليها مساراً آخر للأحداث… ما عليها سوى الصبر ومواصلة الكتابة والإنصات لهمس بطلها كما كانت تنصت لرفاق الطفولة الخياليين، وتخترع لهم حكايات مستقلة، ثم تستلهمها لاحقاً لاختراع حيوات بديلة ــ عن حياتها مع أبويها ــ تقصها على صديقات الدراسة.»

ولا يعني هذا بأية حال فقدان سيطرة الكاتبة على حرية سير الكتابة، وعلى نوافذ وأبواب وممرات التداخل المفتوحة، التي تجعل الرواية تتحرك كما الحياة، في تمازج مورثاتها، وإذهال نفسها بالتنوع والفرادة؛ فإضافة إلى التحكم بالرواية من خلال البنية، تبتكر عز الدين الختام الذي يلمّ أبعادها، بتدوير انفتاح نهايتها على بدايتها، وبانسجام حلو مع فلسفتها في تعدد مرايا الكائن وأشكال ظلاله.
وهذه في نهاية المطاف رواية ذات عذوبة مفرطة، عميقة وجديرة بقراءة متأنية، تُدخل الكتابة بطلاً، وتتسم في هذا كله بخصائص فنية رفيعة. ومثلما يحسد كثير من الروائيين غابرييل غارسيا ماركيز على روايته «ليس لدى الكولونيل من يكاتبه»، يمكننا الزعم أن «أخيلة الظل» جديرة بإثارة حسد تلقائي مشروع لدى روائيين أفذاذ، تمنوا لو أنهم سبقوا عز الدين إلى كتابتها.

منصورة عز الدين:
"أخيلة الظل"
دار التنوير، القاهرة 2017
174 صفحة

نقلاً عن جريدة "القدس العربي".. 11 نوفمبر 2017.

No comments:

Post a Comment