Friday, September 23, 2016

أنتويرب روبرتو بولانيو: الكتابة للأشباح







منصورة عز الدين


"بمجرد تصويرها، تنتهي الحياة هنا. هذا رمز لهوليوود تقريباً. لم تكن هناك غرف داخل تارا. كان مجرد واجهة." بجملة ديفيد سلزنيك هذه يفتتح روبرتو بولانيو روايته المدوخة "أنتويرب". و"تارا" لمن لا يعرف هو القصر الفخم بفيلم "ذهب مع الريح" الذي أنتجه سلزنيك وحقق نجاحاً مدوياً.

يكتب بولانيو في المقطع الأول من الرواية المعنون بـ"واجهة": "يتجه الطفل نحو المنزل. زقاق من أشجار اللاريس. حرب الفروند. قلادة من دموع. الحب مزيج من السنتمنتالية والجنس (بوروز). القصر مجرد واجهة- تم فكها ليعاد نصبها في أطلانطا. 1959. كل شيء يبدو مهترئاً. ليست ظاهرة حديثة. منذ وقت طويل، كل شيء حطام. والإسبان يقلدون طريقة كلامك. إيقاع أمريكا الجنوبية. زقاق من النخيل."

اختيار كلمات سلزنيك للبدء بها لم يكن اعتباطياً، فالرواية مغلفة بجماليات السينما، كما أن الواجهات المموِّهة على الفراغ واللاشيء حاضرة فيها، وكذلك الإحساس المرير بالانتهاء الحتمي وبعرَضية الأشياء وزوالها.
"أنتويرب" مقسمة إلى مقاطع أقرب إلى شذرات قوامها أحلام وكوابيس وهلاوس. حطام كلمات وشخصيات وعوالم. كل شيء حطام كما جاء في الشذرة الأولى. السينما حاضرة بقوة على مدى شذرات الرواية ومقاطعها، في لحظات عديدة يشعر القارئ أنه أمام شريط سينمائي ما، أو بالأحرى أمام "ما وراء" هذا الشريط. "ميتا فيلم" لو جاز التعبير.

القارئ الباحث عن الوضوح، الراغب في حكاية مفهومة، أو حتى متاهة بها مفاتيح تقود إلى درب الخروج، لن تعجبه "أنتويرب"، قد يُفتَن بشعريتها وابتكاريتها، لكن إحساسه بالتيه الكامل قد يدفعه لعدم إكمال قراءتها.
ثمة راوٍ عليم، تتقاطع معه وتجاوره أصوات بولانيو ورجل شرطة، وعابرين، في أجواء تخلط العنف والجريمة مع الجنس والنبرة الشعرية مع التقطيع السينمائي لمشاهد مرسومة بعناية واقتضاب.
أبطال العمل، لو جاز لنا الحديث عن أبطال لعمل مماثل، هم مؤلف اسمه روبرتو بولانيو وضابط شرطة يحقق في جريمة قتل، وفتاة بشعر أحمر وعينين خضراوين، وأحدب ورجل إنجليزي، وليزا حبيبة المؤلف الغائبة التي يشبهها بمرض يتملكه.

"قل لهذا الغبي أرنولد بينيت إن كل قواعده عن الحبكة تنطبق فقط على روايات متنسخة من روايات أخرى." يكتب بولانيو في روايته التي يحطم فيها كل القواعد والمعايير المعروفة لفن الرواية، كأن الدافع الأول لكتابة "أنتويرب" هو إبلاغ أرنولد بينيت فنياً بسخافة قواعده وحماقة تصوراته عن الفن. إضافة طبعاً إلى ما ذكره على لسان قناعه المسمى أيضا روبرتو بولانيو: "أكتب لأفهم السكون."
فكتابته المشغولة بالفراغ والزوال تبدو كأنما تضخ المعنى في الأشياء الفارغة منه، تماما كالفتاة الصهباء حين "تخيلت أن الأثاث في الغرفة، وحتى حبيبها أشياء فارغة عليها ضخها بالمعنى."، لكنه طوال الوقت مدرك أنه لا يمكننا الفرار من العدم.

تنتهي الرواية بابتهال ملغز يدعو فيه بولانيو أن تكون كتابته مثل أبيات ليوباردي التي تلاها الشاعر الفرنسي دانييل بينجا، فوق جسر على بحر الشمال، كي تمده بالشجاعة.

كل سمات كتابة بولانيو موجودة هنا في حالتها الخام، وبأقصى درجات وضوحها، كأن "أنتويرب" حملت بذور عوالمه الروائية وشخصياته المستقبلية، ولا عجب في هذا حين نعلم أنها أول رواية كتبها صاحب "تعويذة"، وآخر رواية نشرها قبل وفاته مباشرة. فبحسب قوله كتبها وهو في السابعة والعشرين في أول انتقال له من الشعر إلى الرواية، واحتفظ بها في الدرج لأكثر من عشرين عاماً. ربما لهذا كتبها متحرراً من أي قيود، ودون خوف من صعوبة التلقي، أو حساب لتخوفات الناشرين.

في مقدمته القصيرة للرواية يشير بولانيو إلى أنه كتبها لنفسه: "كتبت هذا الكتاب لنفسي، وحتى هذا لست متأكداً منه (....) كتبت هذا الكتاب للأشباح، الذين، لأنهم خارج الزمن، هم الوحيدون الذين مع الزمن. بعد آخر إعادة قراءة (الآن فقط)، أدرك أن الزمن ليس الشيء الوحيد الذي يهم. الزمن ليس المصدر الوحيد للرعب. يمكن للمتعة أن تكون مرعبة أيضاً، وكذلك الشجاعة."
في المقدمة نفسها يعترف بولانيو أن الناشرين لم يكونوا ليرحبوا بنشر الرواية لو دفع بها للنشر حين انتهى منها، كانوا سيرفضون نشرها، وكان سيفقد المخطوط!
الطبعة الإنجليزية لأنتويرب صادرة عن دار "نيو ديركشنز" بترجمة لنتاشا ويمر.

زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.







Friday, September 9, 2016

عزاءات الفلسفة: الفلاسفة كمرشدين روحيين




منصورة عز الدين


خلال دردشة مع ستيني ألماني، في فرانكفورت خريف 2011، حكى لي الرجل بفخر عن ابنه الأكبر، المهندس الذي يدير مكتب الاستشارات الهندسية المملوك للعائلة، وتكلم بزهو مماثل عن ابنه الأوسط المحامي الواعد، مضيفًا أن نجاحاتهما تعزيه عن فشل ابنه الأصغر.
توقعت أن الابن الأصغر هذا مدمن مخدرات أو كحول، ولم أسأل عن التفاصيل تأدباً، غير أن الأب أوضح أن "فشل" ابنه تمثل في دراسته الفلسفة في جامعة "توبنجن". (إحدى أقدم الجامعات الألمانية، والجامعة نفسها التي تخرج فيها هيجل وهولدرلين ومارتن فالزر.)
وعندما أخبرته أن ابنه قد يصبح في أهمية نيتشه أو هايدجر، رد: "وهل تظنيني أكترث بشأن هذين الأحمقين؟! الطبيب يعالج المرضى والمهندس يبني البيوت ويخطط المدن، أما الفلاسفة فمجموعة من المتحذلقين غير المفيدين لغيرهم ولا لأنفسهم. الفلسفة بطالة مقنّعة."

ملايين ينتشرون شرقاً وغرباً، يشاركون الأب الألماني رؤيته هذه، ويعتبرون الفلسفة فائضة عن الحاجة، والفلاسفة متنطعين منشغلين بأفكار غير عملية محلقة في آفاق بعيدة. ولهؤلاء تحديداً أرشح كتاب آلان دو بوتون "عزاءات الفلسفة.. كيف تساعدنا الفلسفة في الحياة"، الذي صدرت طبعته العربية مؤخراً عن دار التنوير، بترجمة متميزة للمترجم السوري يزن الحاج.
غير أن كتاب بوتون لا ينحصر في كونه رسالة إلى من يتشككون في جدوى الفلسفة في الحياة العملية والواقع اليومي، بل يتعدى هذا إلى تحويل المادة الفلسفية المعقدة إلى قراءة ممتعة ومسلية ومفيدة. أو كما كتبت صحيفة "الإندبندنت": "بوتون أخذ الفلسفة إلى هدفها الأبسط والأهم: مساعدتنا في عيش حيواتنا."

يتوقف الكاتب السويسري، المقيم في بريطانيا، أمام ستة عزاءات للفلسفة وستة فلاسفة: العزاء بشأن مخالفة الآراء السائدة (سقراط)، العزاء بشأن الافتقار إلى المال (أبيقور)، العزاء بشأن الإحباط (سينيكا)، العزاء بشأن العجز (مونتين)، العزاء بشأن انكسارات القلب (شوبنهاور)، العزاء بشأن الصعوبات (نيتشه).
لا يختار المؤلف هؤلاء الفلاسفة اعتباطاً بل وفق منهج حدده في بداية كتابه، إذ يميزهم كجماعة صغيرة من البشر، "تفصل قرون في ما بينهم، يتشاركون ولاءً فضفاضاً لرؤية عن الفلسفة يقترحها الأصل اللغوي اليوناني للكلمة – فيلو، حُب؛ صوفيا، حكمة – جماعة يوحدهم اهتمام مشترك بقول عدة أشياء معزية وعملية بشأن القضايا المتعلقة بمواطن بؤسنا الكبرى. إلى هؤلاء الناس سوف ألجأ."

وإذا كان بوتون يريد من قرائه التعلم من الفلاسفة، فإنه يقدم نفسه باعتباره التلميذ الأول، ويوضح في أكثر من موضع كيف ساعده هذا الفيلسوف أو ذاك على النظر لحياته والعالم بعيون جديدة، ما يضفي على الكتاب نزعة ذاتية حميمة.
في البداية، مثلاً، يوحي بأن ما لفت نظره إلى سقراط وموته دفاعاً عن أفكاره، هو أن سلوكه الشخصي يتناقض مع هذا. "في الأحاديث كان أولويتي أن أُحَب، لا أن أجهر بالحقيقة (.....) لم أكن أشكك علناً بالأفكار التي تعتنقها الأغلبية. بل كنت أسعى إلى رضى أناس السلطة، وأشعر بقلق كبير، بعد الجدالات معهم، ما إذا كانوا لا يزالون يعتبرونني مقبولاً."
كما يبدو بوتون كأنما يحاول السير على خطى سينيكا الذي "كان قد أدرك منذ البداية أن الفلسفة منهج تعليمي يساعد البشر على تجاوز التباينات بين أمنياتهم والواقع."
ويسترشد، في منهجه بالكتابة، بخلاصة رؤية مونتين الخاصة بأن ما يهم في الكتاب هو النفع والملاءمة في ما يخص الحياة.

وهكذا، بين سطور الكتاب سنكتشف دلائل كثيرة على كيف استفاد آلان دو بوتون نفسه من الفلسفة، لكن ماذا عن قرائه المحتملين؟! كيف يمكن أن تعزيهم الفلسفة وتساعدهم في حياتهم؟! هذا ما على هؤلاء القراء اكتشافه بأنفسهم عبر قراءة هذا الكتاب الممتع الذي جرؤ مؤلفه على تحويل فلاسفة مرموقين إلى مرشدين روحيين أو مدربي تنمية ذاتية بثقافة عالية ورؤى مبتكرة، أو لو شئتم، إلى حكماء على الطريقة القديمة ممن يلجأ إليهم المريدون لسؤالهم عن حل للمعضلات الحياتية أو كيفية التصرف في موقف معين.

لا يهم أن دو بوتون وهو يفعل هذا، قد يخون هؤلاء الفلاسفة (أو بعضهم على الأقل) لصالح التبشير بهم وبأفكارهم بين جمهور أوسع، فشوبنهاور مثلاً يفضل العصامية الفكرية، ويرى أن تفكير المرء بنفسه والوصول إلى خلاصاته الخاصة أفضل مئات المرات من أن يستقي معرفته عبر القراءة.
لكن ببراجماتية تماثل تلك الخاصة بآلان دو بوتون، أقول ربما يمثل كتابه الشائق هذا عتبة أولى قد تغري قراءً عديدين بالتعمق أكثر في قراءة الفلسفة، حتى ولو بهدف أخذ العبرة والعظة من سير وأفكار كبار الفلاسفة.


وأخيراً، تبقى الإشادة ضرورية بترجمة يزن الحاج المميزة، التي تذكِّر بالمترجمين الكبار من أجيال سابقة. فإضافة إلى لغته الرصينة المحكمة، نلمس دقته في تصويب وتدقيق معلومات وإحالات سها المؤلف عن تدقيقها.

زاوية كتاب.. نقلاً عن "أخبار الأدب"..