Saturday, December 31, 2016

أخيلة الظل









خلال أيام تصدر روايتي الجديدة "أخيلة الظل" عن دار التنوير.  

 في "أخيلة الظل" نحن أمام لعبة افتراضات وتخيلات لا يتضح تمامًا من يديرها: كاميليا؟ أولجا؟ أم راوٍ خفي يحرك الجميع بين مدن واقعية وأخرى متخيلة، ويجوس في ذاكرة الشخصيات التي تشبه الأواني المستطرقة؟
سردية تتشكل من التمازج بين الوعي والذاكرة، الحلم والواقع، الماضوي والآني في لعبة سردية مثيرة؛ لعبة كتابة -أو "تراسل"- متبادلة، تتخللها قصص ومرويات يكتبها أبطال اعتادوا تبادل حكاياتهم، رغبةً في القفز لآبار الذكريات المعتمة، أو سعيًا لتفسير لحظة حاضرة، أو لملامسة خبرة الألم التي تحاصر الجميع كالهاجس أو الكابوس.
من مقعد خشبي على ضفة نهر الفلتافا في براغ، ينفتح صندوق حكايات، تُنسَج منها مرويّة ذات إرث ثقافي متنوّع.

منصورة عز الدين كاتبة مصرية من أعمالها: "متاهة مريم" و"جبل الزمرد" و"وراء الفردوس" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2010.
تُرجِمت رواياتها إلى الإنجليزية والإيطالية والألمانية والفرنسية، وقصصها القصيرة إلى أكثر من عشر لغات.


من أجواء الرواية:

"الحلم والكابوس مغزولان من الخيط نفسه، أحلامي وكوابيسي من القماشة ذاتها. بكلماتي نصبتُ الفخاخ لنفسي. كنتُ الصياد والفريسة، لم يكن "لافكرافت" سوى حجة لمعانقة الخوف. في مناماتي تطاردني طفلة لها عيون جدتي، صغيرة منهكة في مسيرات الموت. لا تبكي ولا تصرخ، فقط تنظر إليّ وفي عينيها هلع العالَم، خوفه الأكثر بدائية وقِدمًا. لم تكن جدتي ابنة المذبحة، بل يتيمتها."








Friday, December 23, 2016

بارتلبي وأصحابه: الشعاب المهلكة لمتاهة الصمت الأدبي






منصورة عز الدين


تأخرت كثيراً في قراءة هذه الرواية وهذا الكاتب، فرغم أن ترجمتها العربية صادرة عام 2010 إلّا أنني لم أنتبه لها حتى قرأت مؤخراً مقالاً للشاعرة منى كريم عن كاتبها. الرواية هي "بارتلبي وأصحابه" (ترجمها الكاتب العراقي عبد الهادي سعدون وصدرت عن دار سنابل)، وكاتبها هو الروائي الأسباني أنريكه بيلا-ماتاس.
في "بارتلبي وأصحابه" يتعقب بيلا-ماتاس كتاب الـ"لا"؛ من توقفوا عن الكتابة أو ركنوا إلى الصمت وتشككوا في جدوى الكلمة. يسميهم "البارتلبيين" نسبة إلى شخصية بارتلبي الآسرة في عمل هرمان ملفيل: "بارتلبي النسّاخ"، ذلك الذي كان يقول دوماً: "أفضل ألّا أفعل ذلك."

ستتصادى رواية بيلا-ماتاس هذه مع أفكار الكتاب/ القراء المتسائلين عن جدوى الكتابة، إذ سيجدون أنفسهم فيها، وسيلتقون مع أشباههم ويختبرون أفكارهم الخاصة في مرآة أفكار الكتاب المشار إليهم في العمل. لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه موجه لشريحة معينة من القراء، فالقارئ العادي سوف يستمتع به أيضاً إذ سيجد نفسه أمام تشكيلة كبيرة من "كتاب الـ"لا""، بعضهم مألوف لديه، وبعضهم الآخر يتعرف عليه للمرة الأولى.

الرواية تسير على الحافة بين الرواية التخييلية المتعارف عليها وبين الـ”Non-Fiction”، إذ كانت ستبدو أقرب لموسوعة مخصصة لهذا النوع من الكُتّاب لولا أن المؤلف يدخل البعد التخييلي فيها عبر الراوي الذي نتعرف عليه من خلال شذرات عابرة يخبرنا فيها من وقت لآخر عن نفسه وحياته المختلفة عن تلك الخاصة ببيلا-ماتاس. في السطور الأولى مثلاً نعرف أنه أحدب منعزل ولا حظ له مع النساء. وأنه نشر رواية قبل خمسة وعشرين عاماً، لم يعد للكتابة بعدها بسبب صدمة انتابته حين أهدى كتابه لأبيه ففهم الأخير أن جزءاً من الكتاب يضم تجديفات ضد زوجته الأولى، فأجبر ابنه على كتابة إهداء على نسخة من نسخ الكتاب بكلماته هو.
بالنسبة للراوي كان الأدب الوسيلة الوحيدة لشعوره باستقلاليته عن أبيه، لكنه في الختام رضخ وكتب ما يريده الأب: "شعرت برعب التحول لناسخ يعمل بأمر ديكتاتور إهداءات".

ولأننا أمام عمل مخصص للكتابة وعنها، فمن الطبيعي أن تنحل عقدة الراوي عبر قراءته لكتاب هو "معهد بيير مينارد" لروبرتو موريتي: "ساعدني على تهيئة الأرضية لقراري بشطب صدمتي النفسية القديمة والعودة للكتابة". الكتاب المشار إليه يدور في أجواء معهد يعلمون فيه قول كلمة (لا) بأكثر من ألف وسيلة!
يخبرنا الراوي أيضاً منذ البداية أنه بدأ تدوين هذه "اليوميات" في 8 يونيو 1999، واصفاً إياها بـ: "دفتر هوامش في أسفل الورقة تتضمن تعليقات على نص غير مرئي، والذي أرجو أن يبين قدرتي بتتبع الشخصيات الـ بارتلبية".

الكتاب بكامله جولة داخل أروقة ما وراء الكتابة، إذ يمضي المؤلف متنقلاً بين كُتّاب بارتلبيين تنوعت خلفياتهم واختلفت أسباب صمتهم، وشخصيات فنية وروايات أو كتب تناولت هذه الظاهرة بشكل أو بآخر. إنها الشعاب المهلكة لمتاهة الـ لا، كما يطلق عليها. ووسط هذا كله، يشركنا معه في كواليس وأسرار رحلة تدوينه لكتابه هذا في سرد شائق عميق وساخر في الآن نفسه.

في "بارتلبي وأصحابه" يتوقف بيلا-ماتاس أمام خوان رولفو صاحب رائعة "بدرو بارامو" الذي كان يرد على المتسائلين عن سبب توقفه عن الكتابة بـ": "لأن العم ثيلرينو قد مات، وهو من كان يلقنني القصص"! وخوان رامون خمينث الذي هجر الكتابة وسقط في صمت أدبي مطلق بعد موت زوجته زنوبيا، وله جملة تعد من أهم مقولات "تاريخ الـ لا": "عملي الأهم هو ندمي على أعمالي".

وموباسان الذي هجر الكتابة لاعتقاده أنه قد أصبح خالداً. لكن ربما يكون "ب. ترافن" هو أكثر كُتّاب الـ لا إثارة للخيال، فلا أحد تقريباً عرف اسمه الحقيقي ولا جنسيته ولا حتى الحصر الكامل للأسماء التي تخفي خلفها: "كاتب مراوغ لا مثيل له. لقد استخدم ترافن الخيال كما لو كان واقعاً، أسماء متعددة ساحقة ليغطي على حقيقته".
الشخصيات المتخيلة في رواية بيلا-ماتاس، على قلتها، لا تقل لفتاً للانتباه عن الكتاب الحقيقيين. شخصية ماريا ليما منديس مثلاً التي يشير الراوي إلى أنه تعرف عليها في باريس حيث وصلت إلى هناك مع بدء السبعينيات واستقرت في الحي اللاتيني بفكرة أنها عبر هذا ستتحول إلى كاتبة على غرار الكتاب اللاتينيين الذين سكنوا قبلها الحي نفسه، إلّا أنها "أصيبت بخرس أن تكون كاتبة".

وشخصية لويس فيليبه بينيدا، زميل دراسة الراوي، الذي كان لا ينهي قصائده، واحتفظ بدفتر أزرق سمّاه "أرشيف القصائد المنسية". وكتب أمام الراوي قصيدة على ورق لف السجائر، ثم لف بها سيجارة دخنها فوراً: "لقد دخنها، أعني دخن القصيدة"!

قراءة "بارتلبي وأصحابه" نزهة مثيرة في أروقة الأدب ودهاليزه بصحبة كاتب موسوعي واسع الثقافة. نزهة لا يقلل من كمالها سوى حاجة الكتاب إلى مزيد من التدقيق اللغوي وتدقيق أسماء الكتاب غير الأسبان وفقاً لقواعد نطقها في لغاتهم الأصلية.

* زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.





Friday, December 16, 2016

أنشودة المقهى الحزين: الحب كعاطفة هوجاء







منصورة عز الدين

عن دار مسكيلياني صدرت مؤخراً ترجمة علي المجنوني لرواية الكاتبة الأمريكية كارسن ماكالرز "أنشودة المقهى الحزين" الكاشفة عن افتتانها ككاتبة بعوالم المنبوذين والعائشين على هامش الحياة. وإذا كانت قد قدمت في "القلب صياد وحيد" شخصية الأصم الأبكم جون سنجر العصية على النسيان، فإنها هنا تنسج أنشودتها حول الأنسة أميليا الحولاء ذات المظهر الذكوري، وابن الخالة لايمن القزم الأحدب، ومارفن ميسي الوسيم لكن المنبوذ لأفعاله الشريرة، إذ "حمل معه لسنوات الأذن المجففة لرجل كان قد قتله في شجار بموسى حلاقة. كان يجز أذيال السناجب في غابة الصنوبر من أجل إرضاء نزواته، وفي جيب وركه الأيسر يحمل حشيشة القنب المحرمة لإغواء أولئك المثبطين والنازعين إلى الموت".

يمثل هذا الثلاثي الغريب مثلث حب غير مألوف، فمارفن ميسي أحب الأنسة أميليا وتغير من أجلها للأفضل، وتنازل لها عن ممتلكاته بعد الزواج منها لكسب محبتها، غير أن الزواج لم يستمر سوى لأيام فغادر البلدة مواصلاً نمط حياته القديم حتى سُجِن. ووقعت الأنسة أميليا في غرام ابن الخالة لايمن وصار موضع تدليلها وحنانها، وحين عاد مارفن ميسي عقب خروجه من السجن للانتقام من أميليا أفتتن به لايمن وصار يتبعه في كل مكان غير عابئ بضيق أميليا أو غيرتها. وفي النهاية تحالف معه ضدها في القتال الذي حطمها.

ككل الكتاب الجيدين تبرهن كارسن ماكالرز في روايتها هذه على أن الحدوتة نفسها ليست المهمة، فالأهم كيفية حكيها وكيفية تعامل الكاتب مع شخصياته وأحداث روايته.
تصوغ ماكالرز من خلال أبطالها الثلاثة عملاً لا يُنسَى، وترسم أجواء الجنوب الأمريكي برتوش من القوطية والجروتسك دون التخلي عن الرهافة وشعرية اللغة والعالم. وأظن أن هذه القدرة النادرة على المزج بين الشاعرية والنعومة وبين القوطي والجروتسكي أهم نقاط قوة كارسن ماكالرز ككاتبة.

يلفت النظر في "أنشودة المقهى الحزين" مفهوم ماكالرز عن الحب، إذ يبدو كعاطفة هوجاء بلا عقل أو منطق، تتلاعب بالواقعين في أحابيلها. تطور ماكالرز هذا المفهوم إلى ما يشبه نظرية متكاملة عن الحب يمكن تأويل أحداث الرواية وتصرفات شخصياتها الرئيسية على أساسها. ولنتأمل هذه الاقتباسات من الرواية القصيرة: "غالباً ما يكون المحبوب مجرد محفز لكل الحب المخزون الموجود بهدوء داخل المحب حتى تلك اللحظة". "قيمة أي حب وطبيعته يحددها المحب وحده. لهذا السبب يفضل أكثرنا أن نُحِب عوضاً عن أن نُحَب. يرغب كل إنسان تقريباً في أن يكون المُحب. والحقيقة الفجة أن كثيرين لا يطيقون، بطريقة عميقة وغامضة، أن يكونوا محبوبين. إن المحبوب يخشى المحب ويكرهه، ولأكثر الأسباب وجاهة. لأن المحب على الدوام يحاول أن يجرد محبوبه. يتوق المحب إلى أي علاقة ممكنة مع المحبوب، حتى وإن كان حريا ألّا تجلب له هذه التجربة سوى الألم".

وفق هذا المنطق يمكننا قول إن أميليا لم تطق أن تكون محبوبة، وأنها خشيت مارفن وكرهته لأنه أحبها، وربما هذا أيضاً ما شعر به ابن الخالة لايمن تجاهها حين وجهت عاطفتها نحوه، أما مارفن المُحب فقد تاق إلى أي علاقة ممكنة مع محبوبته، فإن كان التواصل الجسدي غير ممكن، فلا مفر من تحويل عاطفة الحب إلى كراهية وانتقام.
هل يمكننا المجازفة بقول إن القتال الأخير بين مارفن وأميليا بديل ملتوٍ ومراوغ للجنس؟! قد يبدو هذا إفراطاً في التأويل من جانبي، لكن لنتأمل هذا الوصف لمرحلة من مراحل المعركة بينهما: "لمدة من الوقت أحكم المتصارعان قبض بعضهما، عضلة عضلة حتى حاصرت عظام الوركين بعضها: تمايلا على هذا النحو، إلى الوراء وإلى الأمام، ومن الجنب إلى الجنب".

***

يعد عنوان "أنشودة المقهى الحزين" مناسباً تماماً للرواية، ليس فقط لأنه يعبر عن مضمونها، بل بالأساس لأنه يتماس مع تقنية كتابتها، فالنوفيلا المنسوجة ببراعة وحنكة تشبه في تقنيتها أنشودة مغناة، أو على الأقل قصة مروية في ليلة سمر. ثمة حس شفاهي مسيطر على الحكي، فالراوي يبدو كحكاء يوجه كلامه إلى مستمعين يراهم ويلاحظ إنصاتهم له ووقع كلماته عليهم. حين يشير في البداية إلى مارفن ميسي، ينصح قراءه/ مستمعيه: "لا تنسوا إذن مارفن ميسي هذا، لأنه سيلعب دوراً فظيعاً في القصة التي ستأتي". وفي موضع آخر يكتب/ يقول: "لندع السنوات البطيئة تمر إذن ونأتي إلى مساء يوم سبت في سادس سنة تمر منذ اللحظة التي جاء فيها ابن الخالة لايمن للمرة الأولى إلى البلدة". ويستمر هذا الملمح الشفاهي على امتداد الرواية بطرق مختلفة دون إخلال بولع ماكالرز برسم مشاهد دقيقة وحيّة تجعلنا نكاد نرى المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، بل إن المكان يكاد يحظى بالأولوية، فالمقهى حاضر بقوة منذ العنوان، والراوي يبدو كدليل يصحبنا في جولة تعريفية بالبلدة قبل الأبطال. وكما تبدأ النوفيلا بوصف البلدة وطريق شلالات فوركس حيث ينشد أفراد العصابة المصفّدة أنشودتهم، تنتهي بالعودة لوصف البلدة وطريق شلالات فوركس حيث لا يزال أفراد العصابة المصفدة أو "الهالكون الاثنا عشر" ينشدون أنشودتهم الكالحة والبهيجة في الآن نفسه. كأن البشر وأبطال حكايتنا التراجيدية على الأخص مجرد جملة اعتراضية طارئة على متن المكان. أو كأن هذا المكان القاسي سبب من أسباب شقائهم ومصيرهم القاتم.

كارسن ماكالرز كاتبة مهمة ضمن كوكبة كتاب الجنوب الأمريكي من أمثال وليم فوكنر وفلانري أوكونور وغيرهما، وترجمة على المجنوني دقيقة ومتميزة. قد تتساءل كقارئ عن سر تفضيله أحياناً لمفردات قديمة وغير منتشرة على مفردات أخرى أحدث وأكثر انتشارًا، لكنك ستغبطه على ثراء معجمه اللغوي  وتنوعه، وعلى عربيته الرصينة والسلسة في آن.


زاوية كتاب.. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب..