Monday, October 10, 2022

سر آني إرنو: حين تصير الكتابة جسرًا بين شركاء الوجع

 

 

منصورة عز الدين

 

 


مع كل قراءة جديدة لعمل من أعمال الروائية الفرنسية آني إرنو، المتوجة بجائزة نوبل لهذا العام، تبدو لي كأنما تعرف ما تريده من الكتابة بالضبط، والأهم أنها تعرف كيفية تحقيقه، فإن كانت قد كتبت يومًا: "ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا يُنسى."، فهذا ما تحققه في كتاباتها بالفعل، إذ تمنح لجروحها معنى وقيمة عبر الكتابة، ولا تكف عن تشريح الذات والعلاقات بنفاذ بصيرة يصل حد الاستبصار.

 

كلما قرأت لآني إرنو، أتذكر أيضًا جملة الكاتبة الأمريكية جوان ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب على الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، انظر بعينيّ، غَيَّر رأيك!"، مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد على التخييل والبنية المركبة، على عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين تكتب إرنو ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر في رواياتها دون حاجة إلى التخييل، كما تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين، لكنها مع هذا تنجح في التأثير فيهم، إذ يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها صوتًا وقوامًا، وتخرجها من حيز اللاوعي إلى براح الكلمة المكتوبة وملكوت الأدب.

 

تكتب آني إرنو عن علاقتها بأمها في نصها "امرأة"، فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض على جوهر العشق إن كان له جوهر، وتجسِّد قوته الكاسحة وقدرته على إعادة صياغة ذواتنا، وهشاشته المهدِّدة بتلاشيه في أي لحظة كأنما الأصل فيه الاستحالة والانقلاب من النقيض إلى النقيض.

 

في تقديمها لترجمتها لـ"الحدث" تصف الشاعرة هدى حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملًا لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة."

وفي تقديمها لترجمتها لـ"البنت الأخرى و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتى خُيِّل إليّ أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي."

 

أنا أيضًا ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب. إذ سبق أن رأيت الكثير من مشاعري وهواجسي وحتى من أحداث وخبرات ظننتها تخصني وحدي، مجسدة في أعمالها، لكن هذا الشعور تضاعف، على نحو أقوى، خلال قراءة عملها "البنت الأخرى" (صدر بالفرنسية في 2011)، لسببٍ أساسي هو أنني فقدتُ في طفولتي أختًا صغيرة مثلها، وكتبتُ عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن مجموعتي القصصية الأولى "ضوء مهتز" (2001). الفارق أنني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت" بعامين، ولم تعرف بأمرها سوى وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن للصغيرة التي خنقتها الدفتيريا.

 

ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"، تبدأ آني نصها "البنت الأخرى" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت، وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا / هي. وهو الالتباس المهيمن على النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ على الذهن حين نقرأ عنوان "البنت الأخرى"، هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير أننا نكتشف لاحقًا أن الكاتبة تقصد نفسها بـ"البنت الأخرى"! فالذات تخلت عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلى الهامش.

 

علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقًا لإرنو، حيث لا يقرها سوى السجل المدني. "لكنكِ لستِ أختي، لم تكوني أبدًا أختي. لم نلعب سويًا ولم نأكل سويًا ولم ننم سويًا. لم ألمسك أبدًا، ولم أعانقك. لم أرَ أبدًا لون عينيك. لم أركِ أبدًا. أنتِ بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في فوتوغرافيا الأبيض والأسود."

 

المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره: "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."

لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف بوجوده، ما لم ترَه سوى كغياب تام مخبَّأ في قلبَي الأب والأم باعتباره سرهما الأعظم؟

تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا عليها هي: "ليس لكِ وجود إلّا عبر بصمتكِ على وجودي. أن أكتبكِ هو ألّا أتعدى معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة."

 

اللافت أن صاحبة "الحدث" تصف نصها، في أكثر من موضع، بالرسالة. وهو فعلًا رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو أن: "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة بفوحان الشكوى، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلى أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك."

 

هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها، فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلى العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية على إنجاب طفل واحد فقط.

ثنائية مشابهة نجدها على نحو مختلف في "الاحتلال" (ترجمة: إسكندر حبش)، فنرى الذات مسكونة بالآخر، حين يتعملق شعور الغيرة بداخل الراوية بحيث تشعر بأن المرأة الأخرى، في حياة طليقها، تحتلها.

 

من ناحية أخرى، يمكننا -في أكثر من عمل لآني إرنو - أن نلحظ بين السطور  طيفًا من شعور ما بالذنب لأنها عبر التعلم والكتابة ابتعدت عن الأصول البسيطة لعائلتها، وارتقت إلى صفوف النخبة. تجلى هذا في "امرأة" و"لن أخرج من ليلي" على سبيل المثال، لكنه كان محور "المكان" (ترجمة: د. أمينة رشيد ود. سيد البحراوي)، الذي كتبت في طبعته العربية مقدمة عنوانها: "رسالة إلى القارئ العربي"، بدأت على هذا النحو: "هذا الكتاب بدأ من وجع، وجع أتاني فترة المراهقة، عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى/ بقالة. وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد (لماذا لا يقرأ أبي، لماذا "يسلك بفظاظة"، كما يكتب الروائيون؟) […] كان موت أبي المفاجئ سنة نجاحي في مسابقة الأستاذية حدثًا فاجعًا. وراء الحزن غمرني يقين "بخيانة طبقية"".

 

في النهاية ثمة الكثير مما يمكن قوله عن إرنو، لكن الأهم من وجهة نظري أنها ظلت وفية لرؤاها الجمالية وواصلت التقاط ما قد يراه الآخرون عابرًا وهامشيًا أو حتى لا يصلح مادةً لـ"الأدب الكبير"، وإحالته إلى أعمال تشرِّح فيها مشاعرها بلا هوادة وتحفر داخل ذاتها بشجاعة وصدق نادرين، هما في ظني ما يدفع القراء، مهما تباينت ثقافاتهم وخلفياتهم عنها، إلى رؤية أنفسهم ومشاعرهم الدفينة بين سطورها وفي ثنايا ما تكتبه. فتصير الكتابة، وفق هذا المعنى، مرآة تدمج بين الذات والآخر، وتجربة تشاركية بامتياز، وهو ما تعيه إرنو جيدًا، إذ سبق لها أن كتبت أن: "إذا كان ثمّة تحرّر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناسٍ مجهولين في تجربة مشتركة."

لهذا يبدو تتويج مشوار آني إرنو الروائي بجائزة نوبل، تتويجًا لمسار معين ورؤية بعينها في الكتابة، أقصد الكتابة المنحازة للخافت والذاتي والهامشي والمشغولة بتشريح الذات والغوص فيها، لكن ليس من باب التقوقع وبناء الجدران بين الذات والعالم، وإنما بهدف البحث عن مشتركات مع الآخرين، مع شركاء الوجع والألم والاخفاقات وحتى المشاعر الهوسية من بني البشر.

كما يبدو فوز إرنو بالمثل تتويجًا لحيوات أناس نعرفهم جيدًا، عبر قراءة أعمالها، بداية من الأم؛ السيدة دوشاسن المرأة البسيطة التي تعرفنا عليها في "امرأة" وعشنا معها لحظات أفولها ومرضها في "لم أخرج من ليلي" المدون في صورة يوميات كتبتها إرنو أثناء مرض الأم، ومرورًا بالأب وصولًا إلى الزوج/ الطليق والعشيق وغيرهم من أبطال إرنو البارعة في تشييد الجسور بين تجاربها الخاصة وتجارب قرائها.

 *نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.