Friday, February 2, 2024

يون فوسه: التذكير بمعنى الأدب ومغزاه

 


منصورة عز الدين

حين زرت اسكندنافيا قبل سنوات، فاجأتني الطبيعة: امتداد المياه من كل جانب، والتقشف الجغرافي وقلة النباتات نظرًا للطقس البارد. على جسر أوريسند؛ الرابط بين كوبنهاجن ومالمو، أحسستُ بأنني أمام طبيعة منيمالية أو صحراء مائية، لو جاز التعبير. وخلال قراءتي لأعمال فوسه، استحضرت تلك الطبيعة وذلك العالم الذي أثار في نفسي نوعًا من الوحشة الممزوجة بالإعجاب. شعرتُ أن ما يقابل هذا العالم لغويًا هو الصمت، أو على الأقل لغة تنبع شعريتها من التقشف والتخلص من كل الزوائد والأوصاف والمجازات المجانية. كان هذا انطباعًا عابرًا، سجلته في يومياتي وقتها، ثم وجدته متجسدًا أمامي، بينما أقرأ الكاتب النرويجي يون فوسه مؤخرًا.

عالم فوسه، كما تبدى لي في عمليه "ثلاثية" و"صباح ومساء" (دار الكرمة.. ت: شيرين عبد الوهاب وأمل رواش)، متقشف، كأنما يقدم الكاتب العمود الفقري للعيش وللوجود الإنساني، ويتخلص من كل ما هو فائض عن الحاجة. ومع هذا، البيئة المحلية واضحة، وكذلك المعالم الجغرافية للمكان. بعد الانتهاء من قراءة "ثلاثية" مثلًا، شعرت بأنني أعرف الأماكن التي دارت بها الأحداث، أنني على مقربة من البحر، تصلني رائحته وأصواته، أسمع رفيف أجنحة النوارس ونعيقها، أرى زرقة الفيورد حين يكون الجو مواتيًا، وأبحر مع أسلا وأليدا صوب بيورجيفين.

يحدث هذا، رغم أن فوسه مقتصد في أوصافه، موجز في ما يكتبه كأنما يكتفي بأقل القليل، أو كأنما يطمح إلى كتابة حيوات في حدها الأدنى، لكنه يجيد اختيار ما يخرجه من حيز الصمت، فيصبح هذا القليل كافيًا لخلق عوالم وشخصيات لا تُنسَى.

ومن نقاط تميزه أيضًا، طريقته الخاصة المازجة بين المسرح والرواية. لا أعني بهذا فقط أنه يكتب المسرح والرواية، ولكن أنه حتى في رواياته يستحضر جماليات المسرح وتقنياته، خاصة في الحوارات الموجزة؛ التي قد تميل للتكرار، أو للصمت والحوار من طرف واحد. فأحيانًا لا تكاد الحوارات تقول شيئًا. يكرر فوسه مفردة "يقول" أو "تقول" قبل كل جملة حوارية، لكن ما الذي يقال حقًا؟ لا شيء تقريبًا. كأن حيوات الشخصيات تجري داخل وعيهم، وتتأسس على ما لا يقال، على ما يُسكَت عنه.

ما يلفت النظر في "ثلاثية" و"صباح ومساء" أن العملين يمكن المجازفة بالنظر إليهما كروايتي أجيال مكتوبتين بطريقة مبتكرة جدا ومخالفة للسائد والمألوف في هذا النوع من الروايات. كأن المؤلف يأخذ العمود الفقري لهذا النوع من الروايات، ويصيغ العمل وفقا لرؤيته الخاصة. نحن في الحالتين أمام سلالة أو خط نسب، تبدو فيه الحيوات منيمالية، والخلف يكرر سيرة السلف بشكل ما، فحيوات شخصياته تبدو كما لو كانت تكرارًا لحيوات الأسلاف؛ لا شيء يكاد يتغير رغم اختلاف العصر وطبيعة المجتمع والعالم. وتبدو الوحدة عميقة ومتجذرة في الوجود البشري، كأنها علامة الإنسان وتعريفه. ومع أن شخصيات فوسه تبدو كأنما تعيش حياة خالية من الصراعات الحقيقية، لكن الصراعات الأصعب التي تخوضها هي مع الخواء والفراغ واللاصراع. وربما لهذا يدفع هذا الكاتب قراءه إلى مواجهة أسئلة وجودية معقدة عن الحياة والموت وعن معنى الوجود الإنساني وجدواه.

لقد استدعت قراءة فوسه سؤالًا ظل يلح علي وأنا أنتقل من عمل لآخر: أهذا هو الواقع المعيش؟ وتمثلت إجابتي في أن هذه عوالم شديدة الواقعية، ومشغولة بحيوات البسطاء، مَن تخلو حيواتهم من كل ما هو مثير أو صاخب، مَن قد نقابلهم دون أن ننظر لهم نظرة ثانية. حيوات لا يكاد يحدث فيها شيء. غير أنها أيضًا عوالم مفارقة للواقع وتحمل غرائبيتها الخاصة؛ غرائبية خافتة تكاد تكون متلاشية، يمكننا عبرها التواصل مع الأحبة المغيبين بالموت، والتحاور مع الأطياف والأشباح. هل أجازف بقول إن ما يكتبه يون فوسه هو ظل الواقع أو طيف الواقع؛ حيث يكاد يكون كل شيء مكتمل الواقعية، إلّا أنه يحمل بعدًا سحريًا صوفيًا مع هذا؟ ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الأدق منه قول إن ما يقدمه هذا الكاتب النرويجي الكبير هو الفن؛ الفن كما يجب أن يكون. فشأنه شأن الكتاب الكبار، لديه قدرة على غربلة ركام الواقع، والخروج منه بفنٍ خالص.



لكن ما الذي أعنيه بالضبط بالعيش مع الأشباح؟ هل يقتصر الأمر فقط على تواصل الأحياء مع الأموات، حيث لا حدود فاصلة بين العالمين؟ لا يقتصر الأمر على هذا، بل يمتد إلى العيش مع أشباح الماضي. إذ ثمة انجراف دائم نحوه. كما لو أن فوسه يكتب وفقًا لرؤية ويليام فوكنر الخاصة بأن الماضي دائمًا معنا، إنه حتى لا يمضي. على سبيل المثال، الجزء الأخير من ثلاثية، من المفترض أنه يدور حول الابنة أليس، لكن ما نجده أن بطلته هي الأم أليدا رغم موتها، سواء عبر طيفها القابع في غرفة المعيشة أو عبر أحداث ماضيها التي تسد ثغرات ما في الجزأين الأول والثاني: "سهاد" و"أحلام أولاف".

تتبدى الطيفية المهيمنة على عالم فوسه أيضا في فعل القتل. يرتكب أسلا ثلاثة جرائم قتل، على ما يبدو، فلا شيء مؤكد هنا، لكن الأمر يبدو تلقائيًا وكأن القتل فعل عادي كالتنفس، لا نراه شاعرًا بالذنب، أو مباليًا بهذا، لكن حين يتبعه العجوز، بعد أن غيَّر هو اسمه إلى أولاف، مبتزًا إياه بشكل غير مباشر ومذكرًا إياه بجرائمه، لا يتجلى لنا بدايةً إن كان العجوز هذا شخصًا حقيقيًا أم لا، إذ قد نؤوِّل ظهوره باعتباره ضمير أسلا مثلًا، أو شبحًا يتوهمه ويمثِّل ذاته الأخرى. وحدها حقيقة أن أسلا قد شُنِق فعلًا بعد إبلاغ العجوز عنه، تخبرنا أن الأخير شخص حقيقي، ساقه القدر إلى أسلا للاقتصاص منه على جرائمه المرتكبة، رغم أن الرجل في موضع سابق لم يكن يعنيه سوى نيل بعض المكاسب المادية وقدح من البيرة مقابل صمته.

لكن أهم ما يسم كتابة فوسه هو تلك المسحة الصوفية والروحانية المظللة لها. يتبدى البُعد الصوفي الروحاني في "صباح ومساء" على سبيل المثال، في أفكار أولاي عن الروح الإلهية الكائنة في كل شيء، فكلمة الله وروحه كامنة في كل شيء، والله موجود بالطبع "لكنه البعيد البعيد والقريب القريب، لأنه كامن داخل كل واحد من البشر...". فكرة كمون الروح الإلهية في البشر/ كل الموجودات تُذكِّر بمبدأ الحلول والاتحاد عند المتصوفة المسلمين.

الإيحاء الديني موجود في الرواية أيضًا من خلال أن البطل يوهانس وصديقه بيتر يعملان بالصيد، والاسمان هما النسخة النرويجية من اسمي يوحنا وبطرس، ما يستحضر تلميذَي المسيح اللذين كانا صيَّادين بدوريهما. وسير بيتر ويوهانس بجوار الماء معظم الوقت، يُذكِّر من طرف خفي بواقعة سير بطرس على الماء الواردة في إنجيل متى.

هذا بخلاف أن الرؤية الدينية الميتافيزيقية، حاضرة بقوة من خلال تلك الرحلة البرزخية إلى العالم الآخر، حيث يلتقي يوهانس بصديقة الراحل بيتر، ويبدو كأنما يسيرعلى التخوم بين عالَمي الغيب والشهادة. الخوض في عالم ما بعد الموت، والتواصل الروحي بين الأحياء والموتى حاضر بالمثل في "ثلاثية" من خلال تواصل أليدا مع أسلا بعد موته، وكذلك رؤية أليس لأمها أليدا رغم موتها كما سبق وأشرت. وكذلك قد يحيلنا حمل أليدا وهروبها مع أسلا بحثًا عن مأوى، من طرف خفي، إلى مريم العذراء، ورحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثمة أيضًا هيمنة للجريمة والعقاب على اقترافها المتمثل في شنق أسلا، أو هيمنة للخطيئة والقصاص لو لجأنا إلى اللغة الدينية.

بكلمات أخرى، تزخر عوالم فوسه بالحس الصوفي والغنوصية القائمة على المعرفة الحدسية الباطنية أو العرفان، إن اخترنا تعريفًا من صميم التصوف الإسلامي. فشخصيات هذا الكاتب النرويجي، في معظمهم، يتواصلون عبر بصيرتهم لا بصرهم.

ختامًا، هذه كتابة تُذكِّر بمعنى الأدب ومغزاه، بمعنى أن يكون للكاتب بصمته الخاصة، إضافته التي يضيفها إلى من سبقوه، واقتراحه الجمالي الجرئ غير الخاضع للسائد، وغير اللاهث خلف مقروئية أكبر أو مواءمات ومساومات خارج رؤاه الفنية. كتابة تُذكِّر بما سبق وكتبه ماكس فريش في روايته "شتيلر" (دار ممدوح عدوان، ت: سمير جريس): "ليست الكتابة تواصلًا مع القراء، أو تواصلًا مع الذات، بل تواصل مع ما لا يُباح به. وكلما باح الإنسان بما في دخيلته على نحو أدق، تجلي المسكوت عنه على نحو أنقى، أي تجلت الحقيقة التي تدفع الكاتب وتحركه."

 * نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.

 


Monday, October 10, 2022

سر آني إرنو: حين تصير الكتابة جسرًا بين شركاء الوجع

 

 

منصورة عز الدين

 

 


مع كل قراءة جديدة لعمل من أعمال الروائية الفرنسية آني إرنو، المتوجة بجائزة نوبل لهذا العام، تبدو لي كأنما تعرف ما تريده من الكتابة بالضبط، والأهم أنها تعرف كيفية تحقيقه، فإن كانت قد كتبت يومًا: "ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا يُنسى."، فهذا ما تحققه في كتاباتها بالفعل، إذ تمنح لجروحها معنى وقيمة عبر الكتابة، ولا تكف عن تشريح الذات والعلاقات بنفاذ بصيرة يصل حد الاستبصار.

 

كلما قرأت لآني إرنو، أتذكر أيضًا جملة الكاتبة الأمريكية جوان ديديون الخاصة بأن الكتابة فعل عدائي يتمحور حول قول "أنا"، حول فرض ذات الكاتب على الآخرين، حول قوله لغيره: "إنصت إليّ، انظر بعينيّ، غَيَّر رأيك!"، مع فارق أن ديديون في رواياتها تعتمد على التخييل والبنية المركبة، على عكس ما تسلكه في كتبها غير الروائية، في حين تكتب إرنو ذاتها وتضع كل تفاصيل حياتها وعلاقاتها تحت المجهر في رواياتها دون حاجة إلى التخييل، كما تبدو غير مهتمة بتغيير رأي الآخرين، لكنها مع هذا تنجح في التأثير فيهم، إذ يشعر قراؤها بأنها تحكي عنهم، وبأنها تمنح هواجسهم الخاصة ومشاعرهم المسكوت عنها صوتًا وقوامًا، وتخرجها من حيز اللاوعي إلى براح الكلمة المكتوبة وملكوت الأدب.

 

تكتب آني إرنو عن علاقتها بأمها في نصها "امرأة"، فتشعر قارئات كثيرات بأن الأم تشبه أمهاتهن، وعن علاقتها بحبيبها في "عشق بسيط" فتبدو كمن تقبض على جوهر العشق إن كان له جوهر، وتجسِّد قوته الكاسحة وقدرته على إعادة صياغة ذواتنا، وهشاشته المهدِّدة بتلاشيه في أي لحظة كأنما الأصل فيه الاستحالة والانقلاب من النقيض إلى النقيض.

 

في تقديمها لترجمتها لـ"الحدث" تصف الشاعرة هدى حسين كتابة إرنو بأنها: "تكمل عندي جملًا لم أقلها، وتنهي مراحل لا أرغب في أن أعيشها كاملة."

وفي تقديمها لترجمتها لـ"البنت الأخرى و لم أخرج من ليلي" تكتب الروائية نورا أمين: "لقد عشت قصص آني إرنو كأنها حكاياتي الشخصية. غصت فيها وتجسدتها. توحدت مع صوتها حتى خُيِّل إليّ أحياناً أنها تكتبني بشكل شخصي."

 

أنا أيضًا ينتابني إحساس مشابه حين أقرأ أعمال إرنو، رغم انحيازي عادةً للتخييل والتركيب. إذ سبق أن رأيت الكثير من مشاعري وهواجسي وحتى من أحداث وخبرات ظننتها تخصني وحدي، مجسدة في أعمالها، لكن هذا الشعور تضاعف، على نحو أقوى، خلال قراءة عملها "البنت الأخرى" (صدر بالفرنسية في 2011)، لسببٍ أساسي هو أنني فقدتُ في طفولتي أختًا صغيرة مثلها، وكتبتُ عنها قصة بعنوان "فتاة فبراير" ضمن مجموعتي القصصية الأولى "ضوء مهتز" (2001). الفارق أنني رأيت شقيقتي الصغيرة "ياسمين"، التي رحلت بعد شهرين من ميلادها، أما إرنو فوُلِدت بعد وفاة شقيقتها "جينيت" بعامين، ولم تعرف بأمرها سوى وهي في العاشرة، إذ ظلت الصغيرة الراحلة السر المقدس في حياة الوالدين، وعاشت كاتبتنا في ظل الطيف المهيمن للصغيرة التي خنقتها الدفتيريا.

 

ولأن الصور القديمة هي كل ما يربط "البنتين"، تبدأ آني نصها "البنت الأخرى" بوصف صورة سِبيا، بيضاوية للرضيعة جينيت، وكيف كانت تظنها صورتها هي، أي أننا منذ البداية نجد أنفسنا أمام التباس: أنا / هي. وهو الالتباس المهيمن على النص بكامله بداية من العنوان. فما يطرأ على الذهن حين نقرأ عنوان "البنت الأخرى"، هو أن الإشارة هنا للأخت المحكي عنها، غير أننا نكتشف لاحقًا أن الكاتبة تقصد نفسها بـ"البنت الأخرى"! فالذات تخلت عن مركزيتها وصارت آخر، والأخت الغائبة احتلت المركز وأزاحت أختها الحاضرة إلى الهامش.

 

علاقة الإخوة نفسها مشكوك فيها وفقًا لإرنو، حيث لا يقرها سوى السجل المدني. "لكنكِ لستِ أختي، لم تكوني أبدًا أختي. لم نلعب سويًا ولم نأكل سويًا ولم ننم سويًا. لم ألمسك أبدًا، ولم أعانقك. لم أرَ أبدًا لون عينيك. لم أركِ أبدًا. أنتِ بلا جسد، بلا صوت، مجرد صورة مسطحة في فوتوغرافيا الأبيض والأسود."

 

المشاعر التي تعبر عنها الكاتبة هنا بالغة التعقيد، فهي خليط من الغيرة والتنافس مع ظل خفي، والذنب لأنها نجت من التيتانوس فيما رحلت شقيقتها التي هي دافع الحكي ومبرره: "أنا لا أكتب لأنكِ متِ. لقد متِ من أجل أن أكتب. هناك فارق كبير."

لكن كيف تكتب إرنو ما لا تعترف بوجوده، ما لم ترَه سوى كغياب تام مخبَّأ في قلبَي الأب والأم باعتباره سرهما الأعظم؟

تفعل هذا عبر رصد وتشريح تأثير كل هذا عليها هي: "ليس لكِ وجود إلّا عبر بصمتكِ على وجودي. أن أكتبكِ هو ألّا أتعدى معاينة غيابكِ. إنكِ شكل فارغ يستحيل ملؤه بالكتابة."

 

اللافت أن صاحبة "الحدث" تصف نصها، في أكثر من موضع، بالرسالة. وهو فعلًا رسالة موجهة لجينيت أينما كانت. والتحدي الماثل هنا، هو أن: "ضمير المخاطب فخ. ففيه شيء خانق، ويقيم بين الأنا والأنت حميمية متخيلة بفوحان الشكوى، إنه يقرِّب كي يلوم. وبرقة يميل إلى أن يجعل منكِ سبب وجودي، وأن يحط من شمولية وجودي بسبب اختفائك."

 

هكذا تواصل إرنو الجري وراء ظل، معتبرة أن رسالتها المكتوبة لجينيت رد دين متخيل بأن تمنح أختها الوجود الذي منحه لها موتها، فلو عاشت جينيت لما أتت آني إلى العالم لأن أبويها كانا مصممين منذ البداية على إنجاب طفل واحد فقط.

ثنائية مشابهة نجدها على نحو مختلف في "الاحتلال" (ترجمة: إسكندر حبش)، فنرى الذات مسكونة بالآخر، حين يتعملق شعور الغيرة بداخل الراوية بحيث تشعر بأن المرأة الأخرى، في حياة طليقها، تحتلها.

 

من ناحية أخرى، يمكننا -في أكثر من عمل لآني إرنو - أن نلحظ بين السطور  طيفًا من شعور ما بالذنب لأنها عبر التعلم والكتابة ابتعدت عن الأصول البسيطة لعائلتها، وارتقت إلى صفوف النخبة. تجلى هذا في "امرأة" و"لن أخرج من ليلي" على سبيل المثال، لكنه كان محور "المكان" (ترجمة: د. أمينة رشيد ود. سيد البحراوي)، الذي كتبت في طبعته العربية مقدمة عنوانها: "رسالة إلى القارئ العربي"، بدأت على هذا النحو: "هذا الكتاب بدأ من وجع، وجع أتاني فترة المراهقة، عندما قادتني المتابعة المستمرة للدراسة، ومعاشرة زملاء من البرجوازية الصغيرة إلى الابتعاد عن أبي، العامل السابق، والمالك لمقهى/ بقالة. وجع بدون اسم، خليط من الشعور بالذنب والعجز والتمرد (لماذا لا يقرأ أبي، لماذا "يسلك بفظاظة"، كما يكتب الروائيون؟) […] كان موت أبي المفاجئ سنة نجاحي في مسابقة الأستاذية حدثًا فاجعًا. وراء الحزن غمرني يقين "بخيانة طبقية"".

 

في النهاية ثمة الكثير مما يمكن قوله عن إرنو، لكن الأهم من وجهة نظري أنها ظلت وفية لرؤاها الجمالية وواصلت التقاط ما قد يراه الآخرون عابرًا وهامشيًا أو حتى لا يصلح مادةً لـ"الأدب الكبير"، وإحالته إلى أعمال تشرِّح فيها مشاعرها بلا هوادة وتحفر داخل ذاتها بشجاعة وصدق نادرين، هما في ظني ما يدفع القراء، مهما تباينت ثقافاتهم وخلفياتهم عنها، إلى رؤية أنفسهم ومشاعرهم الدفينة بين سطورها وفي ثنايا ما تكتبه. فتصير الكتابة، وفق هذا المعنى، مرآة تدمج بين الذات والآخر، وتجربة تشاركية بامتياز، وهو ما تعيه إرنو جيدًا، إذ سبق لها أن كتبت أن: "إذا كان ثمّة تحرّر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناسٍ مجهولين في تجربة مشتركة."

لهذا يبدو تتويج مشوار آني إرنو الروائي بجائزة نوبل، تتويجًا لمسار معين ورؤية بعينها في الكتابة، أقصد الكتابة المنحازة للخافت والذاتي والهامشي والمشغولة بتشريح الذات والغوص فيها، لكن ليس من باب التقوقع وبناء الجدران بين الذات والعالم، وإنما بهدف البحث عن مشتركات مع الآخرين، مع شركاء الوجع والألم والاخفاقات وحتى المشاعر الهوسية من بني البشر.

كما يبدو فوز إرنو بالمثل تتويجًا لحيوات أناس نعرفهم جيدًا، عبر قراءة أعمالها، بداية من الأم؛ السيدة دوشاسن المرأة البسيطة التي تعرفنا عليها في "امرأة" وعشنا معها لحظات أفولها ومرضها في "لم أخرج من ليلي" المدون في صورة يوميات كتبتها إرنو أثناء مرض الأم، ومرورًا بالأب وصولًا إلى الزوج/ الطليق والعشيق وغيرهم من أبطال إرنو البارعة في تشييد الجسور بين تجاربها الخاصة وتجارب قرائها.

 *نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.

 

 

 

Tuesday, November 23, 2021

أن تقرأ الأدب الأمريكي في كوبا كاسترو

 


 

خوسيه مانويل بييرتو

ترجمة: منصورة عز الدين

 

هيمنجواي في كوبا، 1934



في ربيع 2007، كنت مدعواً لعشاء نظمته مجلة باريس ريفيو على شرف نورمان ميلر. كان الروائي قد نشر لتوه ما سيكون روايته الأخيرة، "القلعة في الغابة"، وكان إي إل دوكتورو سيجري حواراً معه ليلتها. ذاك المساء، حين دخل ميلر الغرفة، بِسَمته المميز جداً – لرجل كان يوماً صلباً وقوي البنية، ويتكئ الآن على عكازين بسبب تقدمه في العمر- تأثرت بعمق. عبرت له – وماذا غير هذا يُقال في ظرف مماثل؟ - عن إعجابي الشديد  بكتبه وعن أنني بدأت قراءتها عندما كنت صغيراً جداً، قبل سنوات عديدة.

بعد أيام قليلة، حكيت لصديق عن هذا اللقاء. "لكن، كيف؟" سألني مندهشاً، "هل قرأت نورمان ميلر في كوبا؟!" وأضاف، "أليس من المفترض أنه واحد من كتاب أمريكا الشمالية الممنوعين في الجزيرة؟"

تخيل صديقي، ربما لسبب وجيه، أنه لم يكن بالإمكان العثور على أدب أمريكي في كوبا، وأن هذا الأدب مُنِع لأن البلدين كانا في حالة حرب شبه معلنة، وعداء معلن بوضوح. بصبر أوضحت له أن هذا لم يحدث قط.

كُتب ميلر وكثيرين غيره من كتاب أمريكا الشمالية لم تكن ممنوعة في كوبا؛ في الحقيقة، كانت تُباع على نحو واسع. كانت متاحة في كل مكتبة؛ وبإمكان كل شخص قراءتها.                            

ومع هذا، دفعني تعليقه، للتفكير في تأثير أدب جارتنا علينا في كوبا. دفعني لتأمل الكيفية التي تغلبت بها هذه الكتب على الرقابة والظرف السياسي، وكان (أي التعليق) سبباً لأن أتذكر مساراً ثقافياً، وأن أشكل قائمة مختصرة بالكتب الأمريكية الشمالية التي قرأتها كطفل في كوبا إبان حكم كاسترو، متأملاً في كيفية تأثير هذا الأدب بقوة على تكويني الأدبي.

أتحدث عن كُتَّاب مثل إرنست هيمنجواي، وليم فوكنر، ج. د. سالينجر، كارسن ماكالرز، وليم سارويان، شيروود أندرسون، جيمس فينيمور كوبر، ثورنتون وايلدر وكثيرين غيرهم: قائمة لا نهائية. هذه الكتب كشفت لي، ولا تزال تكشف، كيف يمكن للأدب عبور الحدود، وفوق كل شيء، اختراق جدار العدائية.

كنت طفلاً خلال حرب فيتنام، حيث كانت الصحف تغص بالكاريكاتيرات المعادية لأمريكا بدرجة فظيعة. الولايات المتحدة كان تلام على كل مصيبة، على كل شيء يحدث للدولة: كل حالة وفاة، كل كارثة طبيعية. كانت أمريكا مكاناً بلا قلب، حيث يتعاطى الناس المخدرات، ويبلغ العنف معدلات غير مسبوقة، وتسيطر العنصرية على كل شيء. هذا ما كنت تجده مذاعاً في الراديو ومعروضاً على شاشة التلفزيون يومياً.

 وإذا لم تستمع إلى الراديو أو تشاهد التلفزيون، ربما يمكنك المشاركة في مجموعة دراسية، من تلك التي كانت تعقد لتحليل آخر خُطب القائد الأعظم. هذه المجموعات الدراسية كانت واحدة من اجتماعات عامة تستمر لساعات وساعات، تتهم الولايات المتحدة بالعدوانات الأكثر غدراً، تحرض الجماهير وتزعج الدُمى التي يحركها المعتدون.

لكن، ما أريد لفت نظركم إليه – ما لا يزال يدهشني اليوم – أن كل هذا لم يغسل مخي. لم يشكِّل رأييّ في العالم الخارجي وبالأخص الولايات المتحدة. لا يعني هذا، أنه لم يكن ذا تأثير عليّ، لأنني طبعاً تأثرت، وظلت رؤيتي لسنوات مشوبة بأكثر الصور النمطية شيوعاً؛ لكن هذا لم يخرب كل شيء بالنسبة لي.

أدين بخلاصي للكتب. ربما كان كتاباً لهنري جيمس قرأته خلسة بينما يتلو قائد الشباب الاشتراكي بطريقة رتيبة خطاباً سمعناه كلنا قبل أسابيع قليلة. الخطاب السياسي للمسؤول الحزبي كان مملاً جداً ولا يمكن مقارنته بالأناقة التي عثرت عليها، مثلاً، في قصة "ديزي ميلر" لجيمس. هذا الكتاب أسرني. وقعت في هوى بطلته غير العادية لدرجة أنني بعد سنوات عديدة، عنونت واحدة من قصصي الأولى، المكتوبة في روسيا، "ديزي"، وهو اسم شائع لدينا أيضاً في كوبا.

في رأيي، من الواضح أن المسؤولين عن سياسات النشر خلال السنوات الأولى للثورة الكوبية كان لديهم تركيز على الجوانب الإنسانية؛ لم يكن الأمر عقائدياً جداً. أعتقد أنهم نظروا إلى الأعمال الأساسية للكتَّاب الأمريكيين باعتبارها جزءاً لا غنى عنه من التكوين الثقافي لأي شخص متعلم. ولا أظن أن أي مكتبة تم إخلاؤها من كتب أمريكا الشمالية. لم يكن هذا ما حدث، مثلاً، في مكتبة مدرستي، وقد درست في مدرسة لينين الشهيرة، حيث اعتاد المسؤولون الحزبيون الكبار إلحاق أطفالهم.

رغم أن هذا قد يبدو متسماً بالتناقض، فإن دور النشر المملوكة للدولة هي ما غرس بداخلي شغفي بالأدب، وبالأخص أدب أمريكا الشمالية. كانت هذه الدور تفضل الأدب الذي يتناول موضوعات اجتماعية؛ مُنِحت الأولوية للكُتَّاب الذين أتموا بطريقة ما عمل وزارة الحقيقة الكوبية[i]، أو للكتب التي تدين، على نحو راقٍ وفني، الجار الشمالي الكبير. نتيجة لذلك، كانت هناك دائماً عناوين أمريكية شمالية بين الكتب التي اعتادت أمي، وهي قارئة نهمة بدورها، أن تشتريها أسبوعياً. ذات أسبوع قد يكون الكتاب هو "بدم بارد" لترومان كابوتي، الذي لا بد أنه نُشِر ليُظهِر مناخ الجريمة الدائم في الولايات المتحدة. في الأسبوع التالي "تأملات في عين ذهبية" لكارسن ماكالرز، كتاب بلا نقد واضح (لا أظن) واعتقدت، ولا أزال، أنه حافل بالغموض. ثم قد تُحضِر أمي للمنزل عملاً تراجيدياً أمريكياً لثيودور دريزر، كان قد نُشِر ليبين الوجه القبيح للرأسمالية. كان من السهل العثور على "إنهم يقتلون الجياد.. أليس كذلك؟" لهوراس ماكوي، أو "الغاب" لآبتون سينكلير. لا زلت أتذكر بوضوح  صورة من الغاب جعلت الطفل الصغير الذي كنته يرتجف: ثمة أواني طهو عملاقة يلقي فيها عمال متعبون دوماً، أحشاء الحيوانات المقتولة في مذابح شيكاغو، وذات يوم، يتعثر واحد منهم، ويقع في أحد هذه الأواني، لكنهم يتركونه فيه، لأن منطق رأس المال البائس يمنعهم من رمي كل هذا اللحم. ثم، في مطعم بشيكاغو، يقضم زبون شيئاً صلباً بأنيابه. يخرجه من فمه ويفحصه في الضوء. يتضح أنه زر يخص العامل المطبوخ. 

الكتب الأخرى التي كانت تُوزَّع على نطاق واسع، هي تلك التي تناولت استغلال السود في الولايات المتحدة. قرأتها باهتمام خاص. على سبيل المثال، قرأت "الولد الأسود" لريتشارد رايت عندما كنت صغيراً جداً، وقد صورت التمييز ضد السود في الجنوب بطريقة حيوية جداً. لا أزال أتذكر مقاطع كاملة من الكتاب وأسماء العديد من شخصياته: شورتي، الصديق البدين الكلبي لريتشارد والذي يسمح للناس بضرب مؤخرته مقابل نقود معدنية؛ السيد فولك، الأيرلندي الذي يسمح لريتشارد باستخدام كارت المكتبة الخاص به للحصول على  كتب لا يستطيع ولد أسود الحصول عليها؛ السيدة روس الحنون وابنتها بيس التي ساعدت الصغير ريتشارد كثيراً.

 

قرأت أيضاً الرواية "الاشتراكية" "طريق التبغ" لإرسكين كولدويل. قرأت ثلاثية أمريكا و"تحول مانهاتن" لجون دوس باسوس. قرأت "واينزبيرج – أوهايو" لشيروود أندرسون. قرأت سينكلير لويس وإرنست هيمنجواي، بالطبع. كان هيمنجواي مثال كاتب أمريكا الشمالية الطيب: محباً لكوبا (صورها بشغف، كما قيل لنا، في العجوز والبحر) ومؤيداً للجمهورية الأسبانية (لمن تدق الأجراس). في كوبا كان هيمنجواي معبوداً.

قرأت الكثير من أعمال وليم فوكنر. أتذكر بوجه خاص، ما بعد ظهيرة كان عليّ فيها أن أكون مع والدي في واحدة من زياراته للطبيب، لكن بدلاً من هذا، بقيت في السيارة أقرأ. كنت أقرأ طبعة قبيحة من "بينما أرقد محتضرة" صادرة عن دار النشر التابعة للدولة، وقرب النهاية، بينما تحمل العائلة جثة الأم وعليها عبور النهر بها وهو في حالة فيضان، اختبرت حالة انغماس صوتي، نوعاً من الهلوسة السمعية: كان باستطاعتي سماع هدير الريح، الماء وهو يخبط محور عجلات العربة، حفيف أغصان الشجرة. حين دق أبي أخيراً على شباك السيارة لينبهني لعودته، انتابني إحساس بأن الصمت ران على كل شيء حولي لأن أحداث الرواية توقفت عن الحدوث.

قد يمثِّل هذا مفارقة ساخرة، لكن الكتب التي مُنِعت أكثر من غيرها، كانت الكتب الخفيفة الرخيصة. "البيست سيلرز"، و"البالب فيكشن": بكلمات أخرى، كتب بإمكانها أن تكون مصدراً للتسلية. وكنتيجة لهذا، أصبحت حيازة أحدهم لكتب كهذه تعبيراً عن المكانة، حتى عندما يتعلق الأمر بشيء بلا طعم كرواية "مطار" لأرثر هايلي. أطفال الوزراء والدبلوماسيين الكوبيين تجولوا في مدرستي بهذه الكتب لأنها كانت بالضبط نوعية الكتب التي يشتريها الدبلوماسيون والوزراء الكوبيون خلال رحلاتهم للخارج. استطعت قراءة معظم الكتب الأعلى مبيعاً في هذه الفترة: "الفك المفترس" لبيتر بينشلي، "ملف الأوديسا" لفريدريك فورسيث، و العمل الأكثر ابتكاراً "بابيلون" لهنري شاريير. 

 

للأسف، هذا التحرر المبكر في ما يخص الثقافة في كوبا، والذي استفدت منه كقارئ خلال طفولتي ومراهقتي، استحال اليوم إلى انعدام مرونة، ورؤية أكثر دوجماتية لا تسمح بغزل ثقافي مماثل. رؤية القارئ الكوبي اليوم لأدب أمريكا الشمالية تنتمي، بكثير من التفاؤل، إلى السبعينيات. هي، بكلمات أخرى، متخلفة بمقدار ثلاثين عاماً. في كوبا لم يُنشَر أي عمل لدون ديليلو، توماس بينشون، أو توني موريسون. أبعاد هامة من الحياة في الولايات المتحدة، والحال هكذا، تم تجاهلها: على الأخص، التنوع العرقي الهائل في الولايات المتحدة، صعود الكتاب المنتمين للأقليات، الأمر الذي وسم المشهد الأدبي الأمريكي خلال العقود الأخيرة، وثورة المثليين.

مع هذا، لو أن تاريخي مع الكتب الأمريكية التي قرأتها طفلاً في كوبا كاسترو يوضح شيئاً ما، فإنه يوضح قدرة الأدب على دحض الصور النمطية، وإلغاء حتى أكثر الحملات الاتهامية وبرامج البروباغندا فظاعة. الأدب يقرب الأمم من بعضها البعض أفضل من آلاف الخُطب ذات النوايا الحسنة.

بالنسبة لي، الأدب ترياق مضاد للبروباغندا – ترياق أعانني على اكتساب فكرة أكثر إنسانية عن دولة قٌدِمت كعدونا الرئيسي، الذي يتجسس دائماً علينا ومتأهب لغزونا عسكرياً. ما الصورة التي وصلتني، بعد كل هذه الكتب، عن الأمريكيين؟ كانوا مهووسين عند فوكنر، وإقليميين بسطاء عند لويس، وعصابيين عند سالينجر، ووحيدين على نحو مروع عند كارفر. شعب – كيف أقولها؟ - من البشر، عاديون بشكل تام.

 

خوسيه مانويل بييرتو روائي ومترجم كوبي مقيم بنيويورك، ويدرِّس الأدب في جامعة سيتون هول.

 نُشِرت في "بستان الكتب" بجريدة أخبار الأدب، نوفمبر 2015



[i] هنا إشارة ساخرة إلى "وزارة الحقيقة" في رواية "1984" لجورج أورويل


Wednesday, November 10, 2021

جوان ديديون واللعب بمفردات الجحيم: كاتبة الخواء الإنساني

 




منصورة عز الدين




هناك قراءات تخرج منها كما دخلتها، كأنك مررت سريعاً علي سطح زلق لا قدرة له علي خدشك أو التأثير فيك، قد تقضي وقتاً مسلياً أو تبتسم إذ تصادف فكرة طريفة أو فقرة مضحكة، لكن لا شيء أكثر من هذا. في المقابل هناك أعمال تؤلمك وتوقظ جراحاً بداخلك ظننتها التأمتْ. ومنها هذه الرواية الجارحة المؤذية رغم براعتها أو بالأحري بسببها.


لا أقصد هنا، أن هذا شرط للجودة الأدبية، لكن اقترانه بها وبأن يكون العمل المقصود كاشفاً للنفس البشرية الملغزة، يضاعف من قيمته، كما يجعله أشبه بمرآة يرى فيها القارئ ذاته وحياته، مهما اختلفت تجربته الحياتية عن شخصيات العمل المقروء.


الرواية المقصودة هي"كيفما اتفق" للكاتبة والصحفية الأمريكية جوان ديديون التي تكاد تكون غير معروفة عربياً رغم كونها من أهم الكاتبات الأمريكيات، كما أنها أقرب إلى أيقونة ثقافية منذ الستينيات، حين لُقِبَّت بملكة الصحافة الجديدة، وحتى الآن. امرأة شكَّل حضورها الطاغي، وشهرتها القريبة من شهرة نجمات السينما، أسطورة وقع في حبائلها حتى من سعوا إلى تفكيكها وتفنيدها، ومنهم الكاتبة لِيلي أنولك، التي في محاولتها للاعتراض على ما سمَّته بتطويب ديديون كـ"قديسة" و"أم مقدسة"، وصفتها بـ"ملاك الموت" لمدينة لوس أنجلوس، فهي بحسب أنولك من اختلقت –مع صديقها وتوأمها الروحي والفني أندي وارهول- لوس أنجلوس، وهي وحدها من خرَّب المدينة. يبدو الأمر كأن ثمة ما يغري بالمبالغة والأسطرة في كل ما يخص حياة ديديون؛ أو المرأة القادرة على التحديق في وجه الموت وشرح وتحليل ألم الفقدان بهدوء أعصاب ووضوح ذهن لافت، كما فعلت في كتابيها "عام التفكير السحري" و"ليالٍ زرقاء".


بالعودة إلى "كيفما اتفق"، التي صدرت طبعتها العربية مؤخرًا عن دار المدى بترجمة أنجزها المترجم عماد العتيلي، أقول إن كون شخصيات الرواية تنتمي إلى عالم هوليوود المخملي وغارقة في الجنس والحفلات وتعاطي المخدرات، وكون أحداثها تدور في أواخر الستينيات، لا يحدان من قدرتها علي الوصول إلي قارئ اليوم أياً كان مكان عيشه أو نمط حياته.


لقد سبق للروائي البريطاني مارتن أميس أن وَصَف جوان ديديون بـ"شاعرة الخواء الكاليفورني الهائل"، وفي هذه الرواية، يبدو الخواء ماثلاً في كل ركن، ومطلاً بنظرته الميتة من كل شق في حائط الذات الآيلة للسقوط.

تبدأ الرواية ببطلتها الممثلة ماريا وايث في مصحة للأمراض النفسية. "قد يتساءل بعض الناس: "لماذا يُعَدُّ إياجو شريرًا؟ ولكنني لا أتساءل أبداً." هكذا تباغت ماريا قارئ الرواية بسؤال بينما تعلن أنها كفت عن الأسئلة. "أنا على ما أنا عليه الآن. فإن البحث عن "الأسباب" مضنٍ ولا معنى له. غير أن تتبع الأسباب هو الشغل الشاغل للناس هنا، ولذلك لا ينفكون عن طرح الأسئلة عليّ. ماريا، نعم أم لا..." تضيف لاحقاً.

في القراءة الأولى، لن ينتبه القارئ في الغالب إلى لماذا اختارت ديديون إياجو من بين كل الشخصيات الفنية الشهيرة المرتبطة بالشر؟ لكن السؤال سيقفز إلي ذهنه حين ينتهي من القراءة، ويجد نفسه في حاجة لإعادة القراءة مجدداً، ويري اسم إياجو، فيفهم أن السؤال لم يكن اعتباطياً، وأن مفتاحاً رئيسياً لقراءة العمل مخفي في أكثر الأماكن وضوحاً: الجملة الافتتاحية. أصفه بالمخفي لأن الرابط بين إياجو الغيور في مسرحية "عُطيل" وبين شخصية هيلين لن يظهر إلّا قرب نهاية الرواية اللاهثة سريعة الإيقاع.

سرعة الإيقاع تنبع من الدقة اللغوية وموهبة الإيجاز والصرامة في حذف كل ما هو زائد من كلمات أو أفكار أو أحداث، تنبع أيضاً من البناء الذي اختارته الكاتبة وتوفيقها في اختيار "الراوي" المناسب للعمل. هناك أربعة رواة. ماريا التي تفتتح الحكي ويتمحور حولها العمل، وهيلين "صديقتها"، والمخرج السينمائي كارتر زوج/ طليق ماريا (كلاهما يقدم إضاءة، لشخصية ماريا، مغايرة لتصورها هي عن ذاتها)، ثم الراوي بضمير الغائب المهيمن علي معظم الرواية والمتبني بشكل ما لرؤية ماريا وتصوراتها، وقرب نهاية الرواية، يتبادل الراوي الحكي مع ماريا، عبر مقاطع (فصول؟) قصيرة جداً وكاشفة للشخصية والأحداث التي ظلت غائمة ومغبشة لفترة.

يزيد التشويق أيضاً من إحساسنا بسرعة الإيقاع، فمنذ البداية تجذبنا شخصية ماريا وايث الخارجة على المألوف كما تجذبنا الحكمة في الفصل الأول المحكي بلسانها، ويزداد فضولنا لمعرفة كيف انتهى بها الحال في مصحة للأمراض النفسية؟ ولماذا فشل زواجها؟ والأهم من هو بي زي وكيف مات؟

الفصل القصير التالي المروي بلسان هيلين سوف يزيد التشويق بدوره، إذ تخبرنا هيلين أن ماريا قتلت بي زي! وسنعرف لاحقاً أن بي زي كان منتجاً سينمائيا شهيراً وزوجاً لهيلين.

"التقيت بماريا اليوم. أو بالأحرى حاولتُ أن ألتقيها.. بذلتُ ما في وسعي. غير أنّي لم أحاول كُرمى لماريا، بل كُرمى لكارتر، أو بي زي، أو كُرمى لصداقتنا القديمة أو ما شابه، المهم أني لم أحاول كُرمى لماريا. "لا أريد أن أتحدث معك، يا هيلين" كان هذا آخر ما قالته لي. "لا أعني صدَّك أنت تحديداً يا هيلين، ولكنني لا أريد أن أتحدث إلى أي أحد". ولذلك، لم أحاول كُرمى لها. وعلى أي حال، لم أرَها. قطعت الطريق كله بمركبتي كي أراها، وأمضيتُ النهار كله في تجهيز صندوق من أجلها: فيه كتب جديدة، ووشاح حريري كانت قد نسيته عند الشاطئ، ذات يوم (فقد كانت مهملة، على الرغم من أنها ابتاعته بثلاثين دولاراً. لطالما كانت مهملة ولا مبالية)". هكذا تبدأ هيلين الفصل الخاص بها، والذي نخرج منه بصورة غير مشرقة عن ماريا، فهي وفقاً لهيلين: شخصية مهملة، لا تطيق نجاح زوجها كارتر (ورغم هذا من ضمن الأشياء التي حملتها هيلين لها وهي تزورها في المصحة النفسية صفحة من النيويورك تايمز بها نبذة عن كارتر!) ماريا أيضاً قاتلة وفقاً لهيلين، ولا يزداد وزنها أبداً! وتبرر هيلين هذا بأنه صفة أصيلة في النساء النرجسيات. "السيدة لانغ تستريح الآن." هذا ما تقوله الممرضة لهيلين كمبرر لعدم قدرة (رغبة؟) ماريا علي رؤيتها، وما تعلق عليه هيلين بأنها هي من تحتاج إلى الراحة لا ماريا، إذ تقول: "لا أعني أنني أحمل ماريا مسؤولية المصائب التي حاقت بي، على الرغم من أنني أنا التي عضتها العذابات، ولذلك أنا التي يجب أن أكون مستريحة، لا هي. أنا التي خسرت بي زي جرّاء إهمال ماريا ولامبالاتها وأنانيتها.. ولكنني أحملها المسؤولية فقط بخصوص كارتر. فقد أوشكت على قتله أيضاً. لطالما كانت فتاة أنانية، ولطالما كان اهتمامها منصبّاً على ذاتها، أولاً وأخيراً ودائماً".

النبرة بالغة التحامل ضد "صديقة" قديمة من المفترض أنها مريضة تبدو لافتة ولا يبررها ادعاء هيلين أن ماريا قتلت بي زي، لأن هيلين تبدو مهتمة بكارتر طليق ماريا أكثر من اهتمامها بزوجها الراحل، لكننا لن ندرك الخلفيات سوي مع نهاية العمل، وتنجح ديديون في تدعيم حس الغموض هذا دون تكلف أو مبالغة.

جانب آخر من شخصية ماريا يقدمه الفصل الثالث القصير المروي بلسان الزوج/ الطليق كارتر. كمخرج سينمائي يستدعي كارتر ماريا عبر بضعة مشاهد، فالصورة البصرية هي الحاضرة بقوة في المقطع المروي على لسانه وتظهر ماريا فيه كشخصية غير مستقرة نفسياً توتر الآخرين وتذهلهم. فهي، وفقاً لكارتر: "لم تفهم قط معنى الصداقة، ولا الحوار، ولا أدب التواصل الاجتماعي. لدى ماريا مشكلة حقيقية في التواصل مع كل الذين لا تضاجعهم".

في أحد المشاهد التي يستدعيها كارتر تتفوه ماريا بتعليق يكذِّب ما يقوله، ينظر الجالسون إلى الطاولة معهما إليها ثم بعيداً عنها، مذهولين غير مرتاحين: شيء ما في الطريقة المتوترة ليديها علي طرف الطاولة، جعل تجاوز الأمر صعباً. وحده بي زي ظل محدقاً بها.

تفاصيل كثيرة تغمز لنا، منذ البداية، بأن بي زي يختلف عن الآخرين، هو الغائب الحاضر، ودائماً سيكون هناك خيط خفي يربطه بماريا، ماريا التي سيطلب منها، في النهاية، أن تنام قابضةً على يده فيما يبدأ رحلته نحو العدم أو الأبد.

"أنا وأنتِ ندرك أمراً ما. لأننا أدركنا أن لا شيء في الحياة يستحق." هذا ما يجمعهما وفقاً له، وما يعزز اختلافهما عن الآخرين، لكن هذا الاختلاف لا يعني بالضرورة أن المؤلفة تنظر إلي ماريا وبي زي كشخصيات جيدة في مقابل شخصيات أخرى شريرة، فهذا لا يعنيها. كل الشخصيات غارقة في جحيم رمزي وكلها تقترب من مفهوم البطل- الضد، الفارق أن ماريا وبي زي مدركان للخواء المحيط بهما، أنهما يعرفان شيئاً، لأنهما كانا هناك حيث اللا شيء! أما كارتر وهيلين فـ"ما يزالان يتساءلان. أنا كنت أتساءل في الماضي، وبتُّ أعرف الإجابة: لا شيء. الإجابة هي: لا شيء". تقول ماريا، ثم تنهي الرواية بصوتها "أنا أعرف أمراً يجهله كارتر، وتجهله هيلين، وربما تجهلونه أنتم أيضاً. أنا أعرف معنى اللا شيء، وسأظل صامدة في هذه اللعبة! ولماذا تستمرين في اللَّعِب، قد يسأل بي زي. وأنا أجيب: ولِمَ لا"!

هي هنا لا تميِّز نفسها عن كارتر وهيلين فقط، بل تعلن اختلافها عن بي زي نفسه، فمع معرفتهما لمعنى الخواء والعدم قرر هو مقاطعة لعبة الحياة، في حين قررت هي الاستمرار في اللعبة حتي ولو بعقل خامل وإحساس مُخدَّر، حتي ولو كانت تجهل طبيعة اللعبة باعترافها في الفصل الأول: "ربما كانت بين يدي كل الأوراق الرابحة، ولكن.. ماذا كانت اللعبة؟"

 ويعود سبب رغبتها في الاستمرار إلى غريزة الأمومة وتعلقها بطفلتها كيت ذات السنوات الأربع المريضة والمحتجزة في مستشفى ما، وحلمها بأن تتمكن يوماً من الاستقلال بحياتها مع صغيرتها. ويمكن القول إن غريزة الأمومة، أو بالأحرى حلم الأمومة المجهض، هو المحرك الخفي لأفعال ماريا والمسبب لأزمتها.

التفاصيل التي تشتغل عليها جوان ديديون -في المجمل- خارجة من قلب الجحيم الأرضي، جحيم النفس البشرية، حيث الظلمة والشر، وشخصياتها الفنية تعاني من شتى أنواع المآسي، إلّا أنها تنجح بمهارة لافتة في كتابة هذا كأنه تفاصيل حياة يومية، لا تستحق التوقف أمامها أو الشكوي منها. يحضرني هنا الجزء الذي تحكي فيه ماريا عن الميتة البشعة لأمها التي انحرفت سيارتها على الطريق السريع في صحراء نيفادا ومزقت الذئاب جثتها لدرجة صعّبت التعرف عليها، والطريقة العادية التي تقبلت بها قرار بي زي الأخير وأمسكت بيده وعادت للنوم، كما طلب منها، رغم إدراكها أنها حين تستيقظ سيكون النائم بجوارها ويده في يدها جثة هامدة.

لا يعنيني هنا حكي أحداث الرواية، فالفكرة ليست في الأحداث ولا حتى في الموضوع، بل في تقنية الكتابة، والمستويات المتعددة للحكي، بحيث تكتشف مع كل قراءة جديدة بعداً مخفياً وتفصيلة تدعم تأويلك الأولي أو تسخر منه. هذا تحديداً ما لا ينقص من إعجابك بالعمل حين تقرأه مرة ثانية وثالثة، بعد أن عرفت مصائر شخصياته، وما لا يقلل من حس التشويق الذي يغلفه ويجعله صامداً أمام قراءات تالية باحثة عن الثغرات والنواقص، فتمسك جوان ديديون بالبعد عن المباشرة وانحيازها إلي الإيحاء لا الكشف، يسمان العمل بحيوية فائقة.
والأهم، هنا، ليس ما دونته ديديون، بل ما حذفته. ليس ما أوضحته وأعلنته علي لسان شخوصها أو الراوي بضمير الغائب، بل ما تركته مغبشاً غائماً. ربما لهذا تحمل شخصية بي زي جاذبية مضاعفة رغم هامشيتها مقارنة بالشخصيات الثلاث الأخرى، فمساحة المخفي والمحذوف في ما يخصها أكبر. المثير للاهتمام أن ديديون اعترفت في حوار لباريس ريفيو بأنها لم تدرك أن بي زي شخصية مهمة في الرواية إلا خلال الأسابيع الأخيرة من العمل عليها، وحينها بدأت في العودة للشخصية والاشتغال عليها أكثر.

يمكن قراءة الرواية، في مستوى من مستوياتها، باعتبارها نقدًا غير مباشر لـ"الحلم الأمريكي" وكشفًا للخواء الكامن فيه، هذا إذا انطلقنا في تأويلنا من أكثر الشخصيات هامشية: هاري وايث الأب المقامر لماريا وأمها وصديقهما بيني أوستن، فالثلاثة يحلمون بالثراء السريع ويخيب مسعاهم المرة تلو الأخرى. وهاري وايث هو من غرس في عقل ابنته فكرة أن العالم لعبة قمار، وعليها اللعب كيفما اتفق ووفق ما ترميه الحياة في وجهها من أوراق.





دقة ديديون وقدرتها علي حذف كل ما هو زائد يذكران بإرنست هيمنجواي، لذا لن يفاجئنا كثيراً اعترافها بتأثرها بهيمنجواي، لكن عاملاً آخر لعب دوره في هذه المسألة، كما سبق ومثَّل تأثيراً علي أسلوب هيمنجواي ذاته، وأقصد بهذا العمل بالصحافة، ولا يجب أن يندهش القارئ حين يعرف أن العمل في مجلات مثل "فوج"، "لايف"، "فانيتي فير" تحديداً أثر تأثيراً مضاعفاً في حالة ديديون. في حوارها لباريس ريفيو، تسألها المحاوِرة عن كيف تأثر أسلوبها بالعمل كمحررة في "فوج" حيث تعلمت الدقة اللغوية من آلين تالمي. فتجيب ديديون: "اعتدت دخول مكتبها يومياً ومعي ثمانية أسطر من نسخة أو تعليق أو شيء ما. واعتادت الجلوس هناك وتصحيحها بقلم رصاص وهي غاضبة جداً بسبب كلمات زائدة أو أفعال غير ملائمة. لا أحد لديه الوقت لفعل هذا إلّا في مجلة مثل "فوج". لا أحد، لا معلم. لقد تعلمت وحاولت أن أفعل هذا بدوري، لكن ليس لدي كل هذا الوقت، وكذلك التلاميذ ليس لديهم وقت. في تعليق من ثمانية أسطر، كل شيء يجب أن يكون له وظيفة، كل كلمة، كل فاصلة. سينتهي به الأمر ليكون تعليقاً في "فوج"، لكن بشروطه الخاصة يجب أن يتسم بالكمال."


براعة ديديون مع اللغة، وتمرسها في تفجير أقصى طاقاتها، تدعمهما عين قوية الملاحظة وعقلية قناص. بكلمات قليلة يمكنها رسم شخصية فنية لا تُنسى في أعمالها الإبداعية أو إضاءة شخصية واقعية ممسكة بجوهرها في كتاباتها الصحفية. في "الألبوم الأبيض" مثلاً، وضمن فقرة عابرة تصف جيم موريسون نجم فرقة "The Doors" فتشعر بأنك تفهم شخصيته للمرة الأولى رغم قراءتك لمقالات عديدة عنه ومشاهدتك لفيلم مستلهم من قصة حياته. في الكتاب نفسه صكت ديديون الوصف الأشهر لهذه الفرقة: نورمان ميلّرز الموسيقى! وصف ارتبط بأفراد الفرقة وصار كافياً لتقديم قراءة كاملة في أفكارهم وكلمات أغانيهم وعلاقة الجنس بالموت فيها.


عن الفرق بين كتابة الرواية وكتاباتها غير الروائية تقول صاحبة "عام التفكير السحري" (دار المدى 2020): "في الكتابة غير الروائية، عنصر الاكتشاف لا يحدث أثناء الكتابة نفسها، بل خلال البحث وجمع المادة. هذا يجعل كتابة نص صحفي مسألة مملة. أنت تعرف مسبقاً عن أي شيء هو."

وقد لفت انتباهي، اختلاف مهم بين كتابات ديديون الإبداعية وكتاباتها الصحفية، في المقالات والريبورتاجات الصحفية التي قرأتها، ديديون حاضرة دوماً، كتابتها تحمل لمسة اعترافية وتسعى بشكل ما للبوح، حتي لو كانت تكتب عن حادثة اغتيال بشعة، أو قضية رأي عام، في هذه الرواية وفي رواية "كتاب صلاة جماعية"، أجدها ليست معنية بالبوح، بل مولعة بالإخفاء والإعجام، وإثارة الخيال وفتح الباب للتخمينات، وحتي لو لجأت ماريا مثلاً للبوح في بعض الأجزاء المروية علي لسانها، فهو بوح يخص الشخصية الفنية، كما أنه مُتحَكَّم به تماماً، وكل جملة منه، تضيف الكثير إلي العمل بحيث لا يمكن الاستغناء عنها.

لكن سواء كان الأمر يخص كتابات ديديون الإبداعية أو مقالاتها الصحفية، فالثابت هو ولعها بحكي القصص، فكما كتبت في "الألبوم الأبيض"، الحكي وسيلة بقاء: "نحكي قصصاً لأنفسنا كي نعيش. الأميرة محبوسة في القلعة. رجل الحلوى سيقود الأطفال إلى داخل البحر. المرأة العارية على الإفريز الخارجي لنافذة الدور السادس عشر ضحية لا مبالاة، أو المرأة العارية شخصية استعراضية، وسيكون مثيراً معرفة أيهما هي. نخبر أنفسنا أنه سيشكل بعض الفرق إذا ما كانت المرأة العارية على وشك ارتكاب خطيئة مميتة، أو على وشك تسجيل احتجاج سياسي، أو على وشك أن تكون رؤية أريستوفانية، تعاد إلي الشرط الإنساني بواسطة رجل إطفاء بثياب قِس يظهر في النافذة خلفها مباشرة، الرجل المبتسم لعدسة كاميرا التليفزيون. نبحث عن العظة في الانتحار، عن الدرس الاجتماعي أو الأخلاقي في اغتيال خمسة أفراد. نحن نؤوِّل ما نراه، نختار الأكثر ملاءمة من بين اختيارات متعددة. نعيش بالكامل، خاصة إذا كنا كتاباً، بفرض سطر سردي على صور مختلفة، بـ"الأفكار" التي تعلمنا عبرها تجميد الصور المتحولة والمتلاحقة التي هي خبرتنا الواقعية."

نُشِر المقال قبل سنوات قليلة في "أخبار الأدب"، وأعيد نشره هنا، مع بعض التعديلات، بمناسبة صدور الطبعة العربية للرواية مؤخرًا عن دار المدى، بترجمة أنجزها المترجم عماد العتيلي، والفقرات المقتبسة من الرواية من هذه الترجمة.