Friday, February 2, 2024

يون فوسه: التذكير بمعنى الأدب ومغزاه

 


منصورة عز الدين

حين زرت اسكندنافيا قبل سنوات، فاجأتني الطبيعة: امتداد المياه من كل جانب، والتقشف الجغرافي وقلة النباتات نظرًا للطقس البارد. على جسر أوريسند؛ الرابط بين كوبنهاجن ومالمو، أحسستُ بأنني أمام طبيعة منيمالية أو صحراء مائية، لو جاز التعبير. وخلال قراءتي لأعمال فوسه، استحضرت تلك الطبيعة وذلك العالم الذي أثار في نفسي نوعًا من الوحشة الممزوجة بالإعجاب. شعرتُ أن ما يقابل هذا العالم لغويًا هو الصمت، أو على الأقل لغة تنبع شعريتها من التقشف والتخلص من كل الزوائد والأوصاف والمجازات المجانية. كان هذا انطباعًا عابرًا، سجلته في يومياتي وقتها، ثم وجدته متجسدًا أمامي، بينما أقرأ الكاتب النرويجي يون فوسه مؤخرًا.

عالم فوسه، كما تبدى لي في عمليه "ثلاثية" و"صباح ومساء" (دار الكرمة.. ت: شيرين عبد الوهاب وأمل رواش)، متقشف، كأنما يقدم الكاتب العمود الفقري للعيش وللوجود الإنساني، ويتخلص من كل ما هو فائض عن الحاجة. ومع هذا، البيئة المحلية واضحة، وكذلك المعالم الجغرافية للمكان. بعد الانتهاء من قراءة "ثلاثية" مثلًا، شعرت بأنني أعرف الأماكن التي دارت بها الأحداث، أنني على مقربة من البحر، تصلني رائحته وأصواته، أسمع رفيف أجنحة النوارس ونعيقها، أرى زرقة الفيورد حين يكون الجو مواتيًا، وأبحر مع أسلا وأليدا صوب بيورجيفين.

يحدث هذا، رغم أن فوسه مقتصد في أوصافه، موجز في ما يكتبه كأنما يكتفي بأقل القليل، أو كأنما يطمح إلى كتابة حيوات في حدها الأدنى، لكنه يجيد اختيار ما يخرجه من حيز الصمت، فيصبح هذا القليل كافيًا لخلق عوالم وشخصيات لا تُنسَى.

ومن نقاط تميزه أيضًا، طريقته الخاصة المازجة بين المسرح والرواية. لا أعني بهذا فقط أنه يكتب المسرح والرواية، ولكن أنه حتى في رواياته يستحضر جماليات المسرح وتقنياته، خاصة في الحوارات الموجزة؛ التي قد تميل للتكرار، أو للصمت والحوار من طرف واحد. فأحيانًا لا تكاد الحوارات تقول شيئًا. يكرر فوسه مفردة "يقول" أو "تقول" قبل كل جملة حوارية، لكن ما الذي يقال حقًا؟ لا شيء تقريبًا. كأن حيوات الشخصيات تجري داخل وعيهم، وتتأسس على ما لا يقال، على ما يُسكَت عنه.

ما يلفت النظر في "ثلاثية" و"صباح ومساء" أن العملين يمكن المجازفة بالنظر إليهما كروايتي أجيال مكتوبتين بطريقة مبتكرة جدا ومخالفة للسائد والمألوف في هذا النوع من الروايات. كأن المؤلف يأخذ العمود الفقري لهذا النوع من الروايات، ويصيغ العمل وفقا لرؤيته الخاصة. نحن في الحالتين أمام سلالة أو خط نسب، تبدو فيه الحيوات منيمالية، والخلف يكرر سيرة السلف بشكل ما، فحيوات شخصياته تبدو كما لو كانت تكرارًا لحيوات الأسلاف؛ لا شيء يكاد يتغير رغم اختلاف العصر وطبيعة المجتمع والعالم. وتبدو الوحدة عميقة ومتجذرة في الوجود البشري، كأنها علامة الإنسان وتعريفه. ومع أن شخصيات فوسه تبدو كأنما تعيش حياة خالية من الصراعات الحقيقية، لكن الصراعات الأصعب التي تخوضها هي مع الخواء والفراغ واللاصراع. وربما لهذا يدفع هذا الكاتب قراءه إلى مواجهة أسئلة وجودية معقدة عن الحياة والموت وعن معنى الوجود الإنساني وجدواه.

لقد استدعت قراءة فوسه سؤالًا ظل يلح علي وأنا أنتقل من عمل لآخر: أهذا هو الواقع المعيش؟ وتمثلت إجابتي في أن هذه عوالم شديدة الواقعية، ومشغولة بحيوات البسطاء، مَن تخلو حيواتهم من كل ما هو مثير أو صاخب، مَن قد نقابلهم دون أن ننظر لهم نظرة ثانية. حيوات لا يكاد يحدث فيها شيء. غير أنها أيضًا عوالم مفارقة للواقع وتحمل غرائبيتها الخاصة؛ غرائبية خافتة تكاد تكون متلاشية، يمكننا عبرها التواصل مع الأحبة المغيبين بالموت، والتحاور مع الأطياف والأشباح. هل أجازف بقول إن ما يكتبه يون فوسه هو ظل الواقع أو طيف الواقع؛ حيث يكاد يكون كل شيء مكتمل الواقعية، إلّا أنه يحمل بعدًا سحريًا صوفيًا مع هذا؟ ربما يكون هذا صحيحًا، لكن الأدق منه قول إن ما يقدمه هذا الكاتب النرويجي الكبير هو الفن؛ الفن كما يجب أن يكون. فشأنه شأن الكتاب الكبار، لديه قدرة على غربلة ركام الواقع، والخروج منه بفنٍ خالص.



لكن ما الذي أعنيه بالضبط بالعيش مع الأشباح؟ هل يقتصر الأمر فقط على تواصل الأحياء مع الأموات، حيث لا حدود فاصلة بين العالمين؟ لا يقتصر الأمر على هذا، بل يمتد إلى العيش مع أشباح الماضي. إذ ثمة انجراف دائم نحوه. كما لو أن فوسه يكتب وفقًا لرؤية ويليام فوكنر الخاصة بأن الماضي دائمًا معنا، إنه حتى لا يمضي. على سبيل المثال، الجزء الأخير من ثلاثية، من المفترض أنه يدور حول الابنة أليس، لكن ما نجده أن بطلته هي الأم أليدا رغم موتها، سواء عبر طيفها القابع في غرفة المعيشة أو عبر أحداث ماضيها التي تسد ثغرات ما في الجزأين الأول والثاني: "سهاد" و"أحلام أولاف".

تتبدى الطيفية المهيمنة على عالم فوسه أيضا في فعل القتل. يرتكب أسلا ثلاثة جرائم قتل، على ما يبدو، فلا شيء مؤكد هنا، لكن الأمر يبدو تلقائيًا وكأن القتل فعل عادي كالتنفس، لا نراه شاعرًا بالذنب، أو مباليًا بهذا، لكن حين يتبعه العجوز، بعد أن غيَّر هو اسمه إلى أولاف، مبتزًا إياه بشكل غير مباشر ومذكرًا إياه بجرائمه، لا يتجلى لنا بدايةً إن كان العجوز هذا شخصًا حقيقيًا أم لا، إذ قد نؤوِّل ظهوره باعتباره ضمير أسلا مثلًا، أو شبحًا يتوهمه ويمثِّل ذاته الأخرى. وحدها حقيقة أن أسلا قد شُنِق فعلًا بعد إبلاغ العجوز عنه، تخبرنا أن الأخير شخص حقيقي، ساقه القدر إلى أسلا للاقتصاص منه على جرائمه المرتكبة، رغم أن الرجل في موضع سابق لم يكن يعنيه سوى نيل بعض المكاسب المادية وقدح من البيرة مقابل صمته.

لكن أهم ما يسم كتابة فوسه هو تلك المسحة الصوفية والروحانية المظللة لها. يتبدى البُعد الصوفي الروحاني في "صباح ومساء" على سبيل المثال، في أفكار أولاي عن الروح الإلهية الكائنة في كل شيء، فكلمة الله وروحه كامنة في كل شيء، والله موجود بالطبع "لكنه البعيد البعيد والقريب القريب، لأنه كامن داخل كل واحد من البشر...". فكرة كمون الروح الإلهية في البشر/ كل الموجودات تُذكِّر بمبدأ الحلول والاتحاد عند المتصوفة المسلمين.

الإيحاء الديني موجود في الرواية أيضًا من خلال أن البطل يوهانس وصديقه بيتر يعملان بالصيد، والاسمان هما النسخة النرويجية من اسمي يوحنا وبطرس، ما يستحضر تلميذَي المسيح اللذين كانا صيَّادين بدوريهما. وسير بيتر ويوهانس بجوار الماء معظم الوقت، يُذكِّر من طرف خفي بواقعة سير بطرس على الماء الواردة في إنجيل متى.

هذا بخلاف أن الرؤية الدينية الميتافيزيقية، حاضرة بقوة من خلال تلك الرحلة البرزخية إلى العالم الآخر، حيث يلتقي يوهانس بصديقة الراحل بيتر، ويبدو كأنما يسيرعلى التخوم بين عالَمي الغيب والشهادة. الخوض في عالم ما بعد الموت، والتواصل الروحي بين الأحياء والموتى حاضر بالمثل في "ثلاثية" من خلال تواصل أليدا مع أسلا بعد موته، وكذلك رؤية أليس لأمها أليدا رغم موتها كما سبق وأشرت. وكذلك قد يحيلنا حمل أليدا وهروبها مع أسلا بحثًا عن مأوى، من طرف خفي، إلى مريم العذراء، ورحلة العائلة المقدسة إلى مصر. ثمة أيضًا هيمنة للجريمة والعقاب على اقترافها المتمثل في شنق أسلا، أو هيمنة للخطيئة والقصاص لو لجأنا إلى اللغة الدينية.

بكلمات أخرى، تزخر عوالم فوسه بالحس الصوفي والغنوصية القائمة على المعرفة الحدسية الباطنية أو العرفان، إن اخترنا تعريفًا من صميم التصوف الإسلامي. فشخصيات هذا الكاتب النرويجي، في معظمهم، يتواصلون عبر بصيرتهم لا بصرهم.

ختامًا، هذه كتابة تُذكِّر بمعنى الأدب ومغزاه، بمعنى أن يكون للكاتب بصمته الخاصة، إضافته التي يضيفها إلى من سبقوه، واقتراحه الجمالي الجرئ غير الخاضع للسائد، وغير اللاهث خلف مقروئية أكبر أو مواءمات ومساومات خارج رؤاه الفنية. كتابة تُذكِّر بما سبق وكتبه ماكس فريش في روايته "شتيلر" (دار ممدوح عدوان، ت: سمير جريس): "ليست الكتابة تواصلًا مع القراء، أو تواصلًا مع الذات، بل تواصل مع ما لا يُباح به. وكلما باح الإنسان بما في دخيلته على نحو أدق، تجلي المسكوت عنه على نحو أنقى، أي تجلت الحقيقة التي تدفع الكاتب وتحركه."

 * نقلًا عن جريدة أخبار الأدب.

 


No comments:

Post a Comment