Tuesday, July 18, 2017

منصورة عز الدين.. ألعاب الكتابة والتخلي





حسن عبد الموجود


تؤمن منصورة عزالدين بأن الإنسان «مفرد بطبعه»، وأن «وحدته قدرٌ»، بعيدا عن العواطف، الإنسان بالنسبة لها يأتي وحيدا ويغادر وحيدا. كانت منصورة شديدة التعلق بأبيها، ولكنه، مع الأسف، رحل وهي في عامها التاسع. تتذكر عمرها بالضبط: «كان لديَّ تسع سنوات، وأربعة أشهر، وخمسة وعشرون يوما، كان يصطحبني إلى كل مكان، ولا نفترق فعلا.. نشأت وسط أصدقائه ومعارفه، ولكنه اختفى فجأة، وهو ما ترك لديَّ شعورا بالخوف من التعلق بأحد، وأن تجمعني بشخص علاقة إنسانية عميقة، لقد فتحت عيني على فكرة الحياة والموت، وقد كان هذا مخيفا إلى أقصى درجة».بدأت منصورة في تجاوز الأمر بمرور السنوات، وكان بديلها «أحلام اليقظة». كانت تبتكر سيناريوهات تعيد أباها إلى الحياة، تضعه في عالم مثالي، ولكن فكرة الموت لم تفارقها عموما، فقد فاجأها الموت باختطاف ابن عمها في حادثة، وكذلك أختها الصغيرة ياسمين التي أهدت إليها مجموعتها «ضوء مهتز». كانت فتاة جميلة جدا، كما تصفها منصورة، جميلة بشكل غير معتاد، وهكذا انفتح عقلها على أسئلة تتعلق بالحياة والموت.

منصورة منعزلة إلى حد كبير، ربما كانت بدايتي معها من هذه النقطة محاولة لتفسير سبب ابتعادها الدائم، حتى، عن المقربين منها، ومنهم أصدقاؤها. تعترف مبدئيا بأن هناك عزلة: «لديَّ أصدقاء بالتأكيد، ولكن لا أشعر أن لقاءهم من ضمن شروط الصداقة، ظروفي لا تسمح بأن أكون متواجدة جسديا، الموضوع بدأ مع تحولي إلى أم، بالإضافة إلى عملي الصحفي، وفكرة البعد تحولت إلى عادة. كان هذا مريحا في الحقيقة، ولكن الفيسبوك مكَّنني من تعويض شيء مما يفوتني، التواصل ولو عن بعد. وبالطبع بعض الناس يتضايقون، وربما يفكرون في أنني أتعمد تجاهلهم، ولكنني لا أستطيع شيئا حيال الأمر».

بدأت العزلة مع منصورة منذ الطفولة، رغم أن كل المؤشرات كانت تقول إنها يجب أن تكون شخصا آخر، وعلى سبيل المثال كانت لها شعبية كبيرة في فصلها، حينما تغيب تُفاجأ بأن زملاءها بالكامل قطعوا مشوارا من قرية إلى أخرى ليزوروها ويسألوا عنها. كانت تقضي فترات طويلة بمفردها، ولاحظت الأم ذلك الأمر، وكانت تُجبرها على الذهاب إلى المدرسة أحيانا، لأنها شعرت بأن ابنتها ميالة إلى الوحدة. كان كل ما ترغب فيه هو أن تختلي بنفسها لترسم وتقرأ ولا شيء آخر. تقول منصورة: «كان لي أصدقاء كثيرون بالمعنى العام، أو بالنظر إلى من يهتمون بي من الزملاء في المدرسة، كان الطلبة يختارونني في كل عام أمينا للفصل، ولكن لم تكن لي صداقة قوية باستثناء صداقتي لفتاة تدعى نجوى استمرت معي حتى نهاية الثانوية وافترقنا حينما سافرت هي إلى الخارج، وأنا إلى القاهرة».لم تنشغل منصورة بفكرة تعريف الصداقة، ولكنها متأكدة من أن لديها صداقات عميقة، حينما تقابل أصدقاء لم تقابلهم منذ سنوات يستعيدان معا تفاصيل مشتركة، ويتعاملان كأنهما كانا معا بالأمس.

كانت القراءة هوايتها المفضلة، والجزء الممتع من طفولتها، وحينما التحقت بالمدرسة لم تكن قادرة على قراءة حرف واحد، في الوقت الذي وجدت فيه زملاءها يحفظون القرآن بالكامل، كان هؤلاء الزملاء مدرسين صغارا، يجيدون القراءة والكتابة، كان هذا هو المستوى، وقد جاء التحدي أخيرا حينما طلب منها المدرس النهوض لقراءة الدرس. صمتت الطفلة منصورة وربما لم يكن هناك شيء يدور في ذهنها إلا الإحساس بأن الإحراج قادم لا محالة، وهو ما تحقق فعلا، سخر منها المدرس، خصوصا وأنها الابنة المدللة لأبيها وربما للعائلة بأكملها، وقررت الدخول في تحد. بدأت التعويض، بقراءة الجرائد كالأهرام، وتعرفت على أهم الكتاب المصريين من خلال الجريدة، مثل أنيس منصور، وأحمد بهاء الدين، كما قرأت سلسلة «الثورة الفرنسية» التي يكتبها لويس عوض، وقرأت ألغاز الجيب، مثل «رجل المستحيل» أدهم صبري، وروايات شيرلوك هولمز، وأجاثا كريستي، وأرسين لوبين، وبالطبع بدأت في انتقاء الكتابات التي تتحدث عن الحياة والموت بسبب تفكيرها الدائم في رحيل أبيها، وفي سنة «5 ابتدائي» وقعت في يدها رواية «حديث الصباح والمساء» لنجيب محفوظ، ولكن قراءتها ستتأجل حتى الصف الأول الإعدادي، كان هناك مدرس يحضر نسخا مختلفة من أعمال محفوظ، وكان يمنح كل طالب عملا وحينما ينتهي منه يستطيع كل منهم استبداله مع زميله، تتذكر منصورة أنها استبدلت «الشحاذ» بـ«السمان والخريف» من صديقتها التاريخية نجوى، وتقول: «بدأت البحث عن يوسف إدريس، كما بدأت قراءة سلسلة (كتابي) لحلمي مراد، وفي الإعدادية أعطتني نجوى مجموعة قصصية وجدتها عند أحد أقربائها لإدجار آلان بو، طبعة غريبة مكتوب عليها ألغاز إدجار آلان بو، كانت بها تعبيرات لاتينية أحببتها، كما وجدت نجوى عددا قديما من مجلة العربي يحتوي على ملف عن ألبير كامو، كان نقطة تحول بالنسبة لي، حيث عرفت معنى الفلسفة الوجودية من خلاله، كان يجيب عن الأسئلة التي أطرحها عن الحياة والموت. لم أكن أبحث عن كاتب أحبه، ولكن عن كاتب يجيب على تساؤلاتي، القراءة لم تكن منتظمة بالطبع، وكانت تخضع للصدفة، وأخي على سبيل المثال حينما كان يذهب إلى طنطا كان يبحث عند بائع الجرائد عن كتب جديدة يحضرها لي. كانت القراءة نشاطا ممتعا بالنسبة لي ولم أفكر وقتها أبدا في أنني سأصبح كاتبة».

بدأت منصورة كتابة الرواية البوليسية في الابتدائية، ولكن لم يكن الأمر جديا، حتى قابلتْ مدرس اللغة الإنجليزية الأستاذ محمد العزب الذي يحب القراءة. سأل مرة: «مين في الفصل بيكتب؟!». لم تكن منصورة تكتب فعليا، ولكنها كانت تتخيل الأمر أحيانا، أنها قد تصير كاتبة، وهكذا قررت رفع يدها، ونظر إليها باندهاش، وسألها بمحبة: «بتكتبي من ورايا؟! هاتي نماذج من كتاباتك بكرة». أحضرت منصورة كراسة ثم بدأت في تأليف قصائد. تعلق ضاحكة: «كان شعرا ما أنزل الله به من سلطان»، لكن المدرس تعامل مع الأمر بجدية شديدة، كان يعرف العَروض جيدا، وأحضر لها كتبا لتتعلَّمه. جاءت الثانوية وفكرت في مستقبلها. كان حلم أمها لها أن تصبح طبيبة، وكان أمامها إما دخول كلية الطب أو الصيدلة. أحبت الكيمياء جدا، وحلمت أن تدرسها بتوسُّع، ولم يكن أمامها إلا كلية العلوم وقيل لها وقتها «آخرك هتبقي مُدرِّسة علوم»، وبسبب نصف درجة وجدت المجموع يناسب «هندسة طنطا»، ولكنها لم تحب ذلك الأمر، وكانت تفضل إما عين شمس، أو الإسكندرية، ثم انتهى بها المطاف أخيرا في كلية «الإعلام»، بعد أن قال لها أخوها: «بتتعبي نفسك ليه؟! انتِ بتحبي القراية، فروحي إعلام». تتذكر: «لو كلية الإعلام لم تقبلني لكانت السنة راحت عليَّ، في هذا العام كتبت أول قصة في حياتي، كان عندي 18 سنة، وعنوانها (لنا موعد) تتحدث عن قرية يأتي إليها البدو في الصيف، وطفل له علاقة عاطفية بهؤلاء البدو. كانت بداية معقولة».

استمرت منصورة أثناء الجامعة في كتابة القصص، غير أنها لم تعرض ما تكتبه على أحد باستثناء أصدقائها المقربين، كانت تقول لنفسها إن هناك شيئا ناقصا، ويجب أن تبحث عما يطوِّر من أدواتها، كانت تتهيَّب فكرة الكتابة عموما، وتراها شيئا كبيرا، وبالصدفة عرف، أحمد حامد، أحد زملائها، السر، وطلب منها أن يقرأ بعض القصص ولكنها رفضت وأمام إلحاحه منحته قصة، وأرسلها من ورائها إلى مسابقة كان يفوز بها لمدة ثلاث سنوات متتالية، ثم فوجئت بمعيدة في «دار العلوم» تبحث عنها وتخبرها بأنها فازت بالمركز الأول في المسابقة، وطلبت منها مقابلة لجنة التحكيم: «كنت مندهشة جدا من سلوك زميلي، وقابلت عضوي اللجنة محمد جبريل ومدحت الجيار اللذين انهالا عليَّ بالمديح. كانت لحظة مؤثرة جدا».

تتذكر منصورة مقابلتها لسعد القرش وميرال الطحاوي في المؤتمر الذي كان يُقام بالجامعة. هل كان سعد في لجنة التحكيم؟ تسأل نفسها وتجيب: «مش متأكدة». سعد عموما نشر لها بعد ذلك في الأهرام، كما نشر لها محمد جبريل في «المساء» وفي «مجلة القصة»، ومن خلال ندوة جبريل قابلت نجلاء علام ومنال السيد وسيد الوكيل ومحمود الحلواني وأحمد شافعي ومحمد عبدالنبي: «لكن لم نتحدث في هذه الفترة»، ثم فازت القصة بالمركز الأول أو الثاني على مستوى جامعات مصر، وكانت الجائزة تحمل اسم يحيى حقي وهو ما أسعد منصورة جدا، ثم جاء الدور على «محمد البساطي» الذي كانت تحب كتاباته. قابلتْه في «زهرة البستان» هي وزميلها أحمد حامد لإجراء حوار معه لمجلة «صوت الجامعة». وافق البساطي ليعرف إن كان طلاب الجامعة يقرؤونه فعلا أم لا، ومن خلال أسئلتها عرف أنها تكتب، وسألته هي ببراءة: «حضرتك عرفت ازاي؟!»، فأجابها: «باين جدا، وماتقوليش إنك مش بتكتبي!». المهم أنها أعطته نسخة من قصة لها، ووجدته متحمسا جدا لها ويحكي لكل من يصادفه عنها، ثم أرسل قصة لإبراهيم أصلان نشرها في الحياة اللندنية، ثم طلب منها أصلان بعد مدة قصصا أخرى: «كان البساطي يعيرني كتبا بانتظام، وقرأت من خلاله معظم الأدب العالمي، ثم أشاع عني أنني لا أعيد الكتب، وانتشرت هذه الشائعة في أوساط الستينيين».

سيطر هاجس المرض على منصورة بعد وفاة أمها بالسرطان، لم تتخلص من هذا الهاجس نهائيا ولكن تسامحتْ معه: «استيقظت مرة وأنا متأكدة أنني أُصبت به، ظللت بهذا الهاجس ثلاثة أيام حتى أكدت التحاليل كذبه». هواجس الطفولة كانت لها علاقة بالأمور غير العقلانية، كالخوف من الظلام: «كان هناك مجموعة من الحكَّائين مثل جدتي وجدي لأمي، كانوا بارعين في حكي قصص الأشباح، وجنيات النيل». منحها ذلك قوة التخييل، عاشت مع المشاهد التي تخلقها حكاياتهم أجواءً من الغرائبية والكابوسية، وحتى حينما بدأت في الكتابة كانت حكاياتها غرائبية. عمها الأصغر كان يحفظ السيرة الهلالية، والأكبر كان مهووسا بقصص الأنبياء، ما كان له تأثير على خيالها أيضا. تقول منصورة: «في طفولتي كانت قصصي قائمة على فكرة تحليل الخوف، كأنها رد فعل على الهواجس التي تحيط بي، وأحيانا كان الخوف غير منطقي وليست له أسس صلبة، كان أقرب إلى هلاوس أو جنون ما، وقد ظهر في أعمالي بعد ذلك، يمكن أن تنظر مثلا إلى صوفيا في (متاهة مريم) وبدر في (وراء الفردوس) وسلمى نفسها التي كان لديها شعور بأنها غير طبيعية، وأيضا لا تنس شخصية المتشرد الذي يلامس سلوكه الجنون في (جبل الزمرد)، نعم، لا يهم أن يكون هناك منطق خلف هذا الخوف».

لا تحب منصورة التصنيف الجيلي، تقول مع ماركيز إن الكتابة أكثر المهن فردية، كل كاتب له هواجسه وأفكاره، ولكن، بحسب منصورة أيضا، قد يتصادف أن مجموعة كتاب لديهم نظرة متقاربة إلى الكتابة. تقول: «من الممكن أن تكون عندي قرابة لكاتب عاش قبل عقود في بلد آخر من كاتب عاش في نفس بلدي، الجيل هو محاولة لوضع إكلشيهات حول مجموعة من الأشخاص بدون اجتهاد لتحليل أو لفهم عالم كل كاتب بمفرده».تعشق منصورة بورخيس ورؤيته للكتابة، ومفهومه «الكتابة على الكتابة». ترى أنه يتعامل باعتباره قارئا، وتحب انفتاحه على الثقافات الأخرى بما فيها العربية، ويأتي كورتاثر على نفس المستوى، تحب غرائبيته ومزجه بين ما فوق الطبيعي والواقعي «بالأدق روح اللعب عنده»، ثم كافكا كما يتحدث عنه كونديرا «والنقلة التي أحدثها في الفن»، وكونديرا نفسه في فترة من الفترات. أسألها «هل انقلبتِ عليه؟!» وتجيب: «لم أنقلب عليه ولكن لم يعد يعجبني كالسابق، حينما تقرؤه كاملا وتمعن في كتابته تجد أن عنده وصفة يطبقها على كل شيء، إذن ما الجديد؟! نحن نتحدث عن أساتذة الفن الروائي ولهذا نطلب ما هو أبعد وليس وصفات»، وتضيف: «كونديرا له مقولة جميلة، أن العمل العظيم هو الأذكى من كاتبه، ولكنه لم يطبق مقولته على نفسه، لأن عقله هو المسيطر دائما، وعموما روايته (الخلود) من أهم رواياته، وحقق فيها ما لم يستطع في (خفة الكائن) بطريقة أكثر صفاء ونعومة فنية».

لا تحب ماركيز، وتقول إنها تحترم قدراته الحكائية والبنائية، لكن لا ترى أنه كاتب عميق، ولا توجد لديه أفكار إنسانية أو فلسفية كبرى تقف عندها، وإذا كان يركز على «الحدوتة» فإن بعض الكتاب العظام يركزون على أمور أخرى، ففي رواية كبرى مثل «الطبل الصفيح» يبدأ جونتر جراس من غرائبية أوسكار الذي لا يكبر، ويحلل صعود النازية في ألمانيا، ويطرح أسئلة فلسفية عميقة انطلاقا من أوسكار نفسه، والعظيم في تلك الرواية أيضا، بحسب منصورة، أن شخصياتها يمكن رؤيتها في أي مكان بالعالم. تقول بجدية شديدة: «هناك شخصية من تلك الرواية رأيت من يشبهها في قريتي»، تتحدث أيضا عن دوستويفسكي: «قرأته في الجامعة، وهو مثل كافكا، يجبرانك على إعادة النظر إلى العالم».

تحب منصورة النباتات، ولا يخلو عمل لها من استعراض جنَّةٍ خضراء تتخيلها بمحبة وبحنو، هي التي لديها خبرة كبيرة بالمجتمع الريفي: «كنت أعلِّم الأماكن بالأشجار، بيت العائلة كان أمامه بستان خوخ، كما كنت أعرف مواعيد الإزهار والطرح، جزء من تواصلي مع أبي كان بالأساس من خلال معرفته التي نقلها إليَّ عن تلك النباتات، جدي لأمي كانت لديه بساتين ممتدة من البرتقال، والموالح عموما، واللوز». تضيف: «ارتباطك بالنبات حُب لا يمكن تبريره، وأنا أكتب (وراء الفردوس) كنت أكتب عن مجتمع ريفي وأردت نقله بأساطيره ونباتاته وخرافاته وروائحه. كان كل شيء مقصودا في هذا العمل، حتى التشبيهات من عينة: فستان بلون وريقات الفول الأخضر. كنت أريد للقارئ أن يشاهد هذا العالم كما ينبغي، بحيواناته، وبثعابينه التي تزحف في التراب».

تحب منصورة السينما أيضا، لم تفوت فيلما عُرض منذ منتصف الثمانينات وحتى منتصف التسعينات على التلفزيون إلا وشاهدتْه: «أستطيع ادعاء هذا، كنت أتابع جيدا خاصة في (أوسكار، ونادي السينما، وبانوراما فرنسية)، كنت أحب سينما الخمسينيات والستينيات، وربطتني السينما بالأدب تماما، وأتذكر على سبيل المثال فيلم (قطة على صفيح ساخن) كانت المذيعة تشرح في مقدمة البرنامج وقبل عرضه أنه عن مسرحية لتينيسي ويليامز فأسعى لقراءة ويليامز، وعرفت أيضا أن فيلم (شرق عدن) مأخوذ عن عمل لجون شتاينبك، ثم بعد مشاهدة (صيف طويل حار)، بحثت عن قصتي ويليام فوكنر اللتين تم إعداد الفيلم عنهما، السينما كانت مصدرًا للتثقيف في طفولتي، وقد أحببت أفلاما عظيمة وأعود إليها في بعض الأحيان مثل (ذهب مع الريح، وقصة الحي الغربي، والطيب والشرس والقبيح) وكل أفلام بول نيومان، والويلزي ريتشارد بيرتون خاصة (من يخاف فيرجينا وولف)، والأفلام الإيطالية والفرنسية وأحب جدا أعمال المخرج البريطاني جاي رتشي، وأيضا الإسباني بيدرو ألمودوبار، والأمريكي ديفيد فينشر، وأيضا لا أنسى الأمريكي ديفيد لينش».. وفيما يتعلق بالفن التشكيلي كانت منصورة مأخوذة بشاجال، وأحبت ماجريت، وحامد ندا، وهي تسمع كل أنواع الموسيقى. أما طموحها فأن تظل تكتب: «أريد عملا في كل مرة أفضل من سابقه، لو حصل على نجاح وترجمات فهذا شيء عظيم، ولكن ما يعنيني أن أكون مقتنعة بأنني قدمت جديدا، أي شىء أقوم به مُعرَّض لعدم الاكتمال، فأنا شخص كسول للغاية، مجموعتي (ضوء مهتز) على سبيل المثال نشرتها بإلحاح من ياسر عبدالحافظ، (نحو الجنون) ظلت مركونة عامين كاملين ولم أسأل عنها، وهو أيضا ما حدث مع (جبل الزمرد) التي سحبتها من المطبعة وأجلت نشرها لأكثر من عام، ولكن عموما أتمنى الاستمرار في الكتابة».


وأخيرا ما الصفة التي تعبِّر عنكِ؟! أسأل وتجيب: «التخلي، يمكنني التخلي عن أي شيء خارجي، ربما لهذا علاقة بفقدان الأب مبكرا، لقد درَّبت نفسي على الأمر، وعرفت بعد ذلك أن التخلي هو ما يجلب الأشياء إليك، عدم الاكتراث مفيد للغاية، لأنك لا تخشى في هذه الحالة من الفقد، ثم ستكتشف أنك ستحصل في النهاية على ما تريد، ولن تهتم كثيرا إن لم يحدث هذا. لقد شعرت بالراحة حينما توصلت إلى هذه القناعة لكن التوصل إليها لم يكن بتلك السهولة أبدا».

نقلاً عن جريدة عُمان

Saturday, July 8, 2017

منصورة عز الدين: لا أستطيع تخيل حياتي من دون كتابة





إيهاب محمود الحضري


 19/06/2017


عرفتُ منصورة عز الدين عام 2012، عندما قرأت روايتها «وراء الفردوس» (القائمة القصيرة للبوكر العربية 2010). جذبتني عوالمها، لغتها، وسردها، وهو ما تأكد عندي عندما قرأتُ روايتها «جبل الزمرد». بحثت عن كتابات أخرى لها، فاهتديتُ إلى قصص متناثرة من مجموعتيها «ضوء مهتز» و «نحو الجنون» منشورة على موقع «الكتابة». مطلع العام الحالي، صدرت رواية «أخيلة الظل» (دار التنوير) التي تمارس فيها منصورة هوايتها باللعب والغوص في الخيال وعوالم الأحلام، وتتوالد فيها الخيالات في شكل لا نهائي، وتحضر فيها الظلال على امتداد صفحات الرواية التي لم تتعدَّ 180 صفحة. هنا تحكي منصورة عن روايتها الأخيرة، مشوارها مع الكتابة، وعملها في الصحافة الثقافية.

> في «أخيلة الظل»، يقول آدم لأمه موضحاً لها رغبته في التخلص من ظله: «لا أريده، تخلصي منه، لا أحبه ولا أريده أن يتبعني»، ما يتماهى مع ما قاله لوركا من قبل: «أيها الحطَّاب، اقطع ظلي». هل الظل هنا يرمز إلى الماضي أو يدل إليه؟
- شخصية آدم تخاف من كل شيء حولها. علاقته بالأشياء غريبة، وذاته مسكونة بهواجس كثيرة. فكرة الظل في ما يخص هذه الجملة مرتبطة تماماً بشخصية آدم، وتعبر عنه، ولكن إذا تحدثنا عن فكرة الظل في الرواية ككل سنجد أنها متنوعة ولها صور عدة، يمكن القول أن الظل هو امتداد الإنسان كمرآة من مراياه، كتبتُ في الرواية مثلاً أن: «الظل مرآه يرى الضوء فيها وجهه ممعناً في الغياب». هو أحد انعكاسات الذات، فلكل شخصية أو شعور ظل بل ظلال. قد يكون الظل هو الماضي أيضاً، فشخصياتي - في معظمها - مسكونة بماضيها. «سلمى» مثلاً في رواية «وراء الفردوس» أحرقت الصندوق الذي تركه لها أبوها، في محاولة منها للتخلص من ماضيها، غير أنها تصل في النهاية إلى أن القطيعة مع الماضي مستحيل.

> التجريب في الكتابة غاية أم وسيلة؟
- عندما جلست لأكتب «أخيلة الظل» لم أجد طريقة أخرى. أنا هنا لم أحاول التجريب من أجل التجريب، بل وجدت أن هذا القالب هو الأنسب للمضمون الذي أكتبه. العلاقة بين الشكل والمضمون في الرواية، أي رواية، جدلية، يؤثر كلاهما في الآخر، لكن بالأساس أرى أن المضمون ينادي الشكل الملائم له، ومنطق الحكاية يختار بناءها اﻷنسب. يبقى أن ينصت الكاتب إلى ما يهمس به العمل ويسير خلفه. ثم إن التجريب ليس ضمانة في حد ذاته على جودة عمل ما. قد يجرب كاتب على مستوى الشكل في حين يكون المضمون ضعيفاً وتقليدياً.

> هناك فقرة في الرواية قد تصلح مدخلًا للتعرف إلى عالمها: «ليس الأمر أنها كانت تتبرأ من أهلها أو لا تحبهم كفاية. كانت فقط مسحورة بتخيل فضاءات أخرى، إمكانات وخبرات تتيحها لها أحلام يقظتها وأكاذيبها»؟
- أرفض اختصار عمل روائي في فقرة أو جملة، غير أن الفقرة التي ذكرتَها تعتبر مدخلاً جيداً إلى عالم الرواية التي تقوم بالأساس على فكرة التخيلات والافتراضات وأحلام اليقظة.

> في رواية «جبل الزمرد» عبارة تقول: «الكتابة موت الكلمات» كأنك تتساءلين حول جدوى الكتابة بالأساس في ظل عالم عنيف كالذي نعيش فيه؟
- بدءاً من «جبل الزمرد» وبعدها «أخيلة الظل»، بدأ يتشكل عندي سؤال حول أهمية الكتابة، أو جدواها بالأساس، هذا الانشغال بفكرة الكتابة يسيطر عليَّ في شكل كبير. ثنائية الكتابة في مقابل الشفاهة حاضرة بقوة في «جبل الزمرد»، وهي ثنائية شغلت بال كثيرين من قبل، مثل جاك دريدا في «صيدلية أفلاطون»، وأفلاطون الذي طرح الفكرة في «محاورة فايدروس»، انطلاقاً من قصة اختراع «الإله تحوت» للكتابة في الميثولوجيا الفرعونية ورفض ملك مصر ذلك لاعتقاده أن الكتابة ستنتج النسيان والمعرفة الزائفة، فمن وجهة نظره لا يمكن التذكر بذاكرة مستعارة. لا يوجد رأي نهائي بخصوص التدوين في مقابل الشفاهة في الرواية، بل ثمة صراع بين رؤيتين، الأولى تنتصر لحيوية الكلام واندفاعه في مواجهة صمت الكتابة، والثانية ترتقي بالكتابة إلى مصاف المقدس.

> في «جبل الزمرد» وردت مصادر عدة اعتمدتِ عليها أثناء الكتابة مثل «محاورة فايدروس» لأفلاطون وكتاب منطق الطير لفريد الدين العطار... كيف تفسرين ذلك؟
- في الرواية، تناص مع ألف ليلة وليلة، كما أن هناك اشتباكاً مع «صيدلية أفلاطون» و «محاورة فايدروس» فكان لا بد من الإشارة إلى هذه الأعمال.

> لماذا يتكرر في أعمالك التململ من الواقع المباشر، ويبرز دمج الغرائبي بالواقعي؟
- في بداياتي كانت الغرائبية عندي نابعة من فكرة الإيهام أو اللعب مع فكرة الجنون. في «متاهة مريم»، ستجد أن ثمة علاقة بفكرة القرين في التراث الإسلامي لكن في شكل غير مباشر، وفي إطار رواية ما بعد حداثية. في «وراء الفردوس» سيطرت الحالة الغرائبية النابعة من الغيبيات السائدة في الريف. أما «جبل الزمرد» ففيها حضور للعجائبي والأسطوري مع الواقع.

> لماذا تكتبين؟ هل تعتقدين أنه لا بد من أسباب منطقية للكتابة؟
- الأجوبة المحتملة كلها عن هذا السؤال تقع في منطقة الكليشيهات، كما أنها تختلف من وقت إلى آخر. لا يمكنني الإجابة عن سؤال مماثل إجابة أرتاح إليها. الكتابة عندي فعل وجود، لا يمكن تخيل حياتي من دونها. لا أنشر كل ما أكتب وهناك نصوص تظل حبيسة الأدراج. الكتابة متطلبة جداً، وفي الغالب لا يكون لها مردود مباشر أو سريع خصوصاً في العالم العربي، لذا الإخلاص لها والاستمرار فيها يكون بدافع الحب والشغف بغض النظر عن حجم التلقي والمقروئية. ماركيز كان يرى أن الكتابة من أكثر المهن فردية وأنا أتفق معه، فالكاتب يقطع المشوار بكامله وحده، هو وحده من يستطيع تطوير أدواته والبحث عن إجابات لأسئلته الفنية. أنا مثلاً أقدر تجربتي نجيب محفوظ ومحمود درويش، لأن كلاً منهما أجاد إدارة موهبته وتطوير نفسه، يصل إلى مستوى ما ثم يتجاوزه، لا يرتكن إلى نجاح حققه في منطقة ما، بل يجرب في منطقة أخرى كاسراً التوقعات ومفضلاً المغامرة على الثبات والسكون.

> رواياتك من الحجم الصغير نسبياً. ألم تفكري في كتابة رواية من 600 صفحة مثلاً؟
- لنتفق أولاً على أن حجم الرواية في حد ذاته ليس معياراً لشيء، هناك روايات تقع في 120 صفحة وتجدها مترهلة وفيها حشو كبير ويمكن اختصارها في حجم أقل، في المقابل قد تقرأ رواية 700 صفحة وتجدها مشدودة ولا يمكن اختصارها أو حذف فصل منها. لكن المشكلة تكمن في أن كثيراً من الروايات الضخمة تعاني من الترهل والحشو. هذه ليست قاعدة عامة، لكنها تعبر عن شريحة واسعة. عندما أبدأ الكتابة لا يشغلني حجم العمل بمقدار ما أنشغل بمعايير وأسئلة فنية وجمالية. أثناء كتابة «أخيلة الظل» كنت أعرف منذ البداية أنني أمام رواية قصيرة، وساعدني هذا في المحافظة على إيقاع سريع. متعتي وأنا أكتبها كانت كبيرة، وانتقالي من مرحلة إلى أخرى لم يكن صعباً أو مرهقاً. في «جبل الزمرد» مثلاً اختصرتُ تفاصيل كثيرة تخص شخصيتي «شيرويت» و «إيليا» لأنني لاحظتُ أنها لا تضيف إلى العمل. في مرحلة التحرير أتبع نصيحة وليام فوكنر عندما قال: «Kill your darlings». أحذف الزوائد التي قد تكون جيدة في حد ذاتها وعزيزة عليَّ لكنها قد تصيب العمل بالترهل أو تثقل إيقاعه. في شكل عام أرى أن الكاتب الجيد يُعرف من إجادته الحذف والاستغناء عن كل ما هو زائد، أكثر مما يُعرف بقدرته على الإضافة.

> أصدرتِ مجموعتين قصصيتين، «ضوء مهتز» 2001 و «نحو الجنون» 2013... لماذا كان الفاصل الزمني بينهما كبيراً إلى ذلك الحد؟
- لم أمتنع مطلقاً عن كتابة القصة، لكن المسافة بين قصة وأخرى كبيرة. عندما أخرج من رواية وأجد لديَّ فكرة لرواية أخرى، تقل هنا احتمالية كتابة القصص، لذلك أقول أن المسافة الزمنية كبيرة بين قصة وأخرى. لديَّ مشكلة مع القصص القصيرة، حيث كثيراً ما أعود إلى قصة كتبتُها وأجد أنني لا أزال مسكونة بعالمها الذي يبدأ في الاتساع والنمو في مخيلتي، وهناك بالفعل أكثر من قصة أعدتُ الاشتغال عليها، كما أن هناك قصصاً أخرى نشرتُها وحين أعيد قراءتها أشعر بأنها مغوية بمزيد من التخييل على تفاصيلها، لذلك أصبحت أتردد قبل نشر القصص.

> كيف تنظرين الآن إلى تأثير عملك في الصحافة في كتابتك الأدبية؟
- عندما أنهيت المرحلة الثانوية، التحقتُ بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، وبدأتُ كتابة القصص القصيرة ونشرها في مجلات ودوريات عدة. عملتُ لفترة قصيرة في قسم العلاقات العامة في إحدى شركات البترول قبل أن أعمل معدة برامج في التلفزيون، غير أن الأمر لم يناسبني، رغم المقابل المادي الجيد. وجدتُ أن هذه الأعمال تأكل وقتاً كثيراً ولا تضيف لي على مستوى الخبرات الشخصية شيئاً. وجدتُ أن العمل الصحافي يناسبني أكثر. كانت «أخبار الأدب» ذات علاقة وثيقة بمجال اهتماماتي ودراستي. بدأتُ العمل وكانت تواجهني صعوبة كبيرة في أن أحتفظ بوقت للقراءة والكتابة.
مجموعتي القصصية الأولى «ضوء مهتز»، لاقت إعجاب الناقد محمود أمين العالم الذي نصحني بترك الصحافة، والتفرغ للكتابة الإبداعية. كان الأمر محيراً، لأني كنت متخوفة فعلاً من أن يشغلني العمل الصحافي عن الكتابة. استشرت الدكتورة أمينة رشيد، فنصحتني بالاستمرار في العمل، كي أظل على اتصال بالواقع وكي أتيح لشخصيتي أن تنمو. الروائية الأميركية جوان ديديون ذكرت مرة أن العمل الصحافي هو ما صقل أسلوبها وعلَّمها الإيجاز، وأظن أن العمل صحافية أو للدقة محررة قسم الكتب ومشرفة على ملحق شهري عن الكتب والنشر، قد أضافَ إلى حساسيتي اللغوية.
في آب (أغسطس) 2011، حصلتُ على إجازة من عملي لمدة ثلاث سنوات. كانت من أفضل فترات حياتي على مستوى القراءة والكتابة. تعودتُ خلالها أن تكون الكتابة فعلاً يومياً. نجاح هذه التجربة قد يغريني بتكرارها مستقبلاً لفترة أطول.

> لماذا يندر ظهورك في الندوات والفاعليات الثقافية رغم ارتباطها بمجال عملك؟
- وقتي ضيق جداً. أقوم بعملي الصحافي وأمارس الكتابة اليومية والقراءة، فضلاً عن الاهتمام بطفليّ، لذا أستغني عن كل ما يمكنني الاستغناء عنه، كما أن العزلة بالنسبة لي أسلوب حياة. حدث قبل ذلك أن بقيت لمدة شهرين متتاليين لا أخرج من البيت. كان ذلك خلال فترة إجازتي من العمل الصحافي. مذ كنت طفلة اعتدت قضاء معظم وقتي في حجرتي، منغمسة في القراءة والرسم. مع الوقت تعلمتُ الحفاظ على مساحتي الشخصية حتى وسط الآخرين.

> عام 2011، رفضتِ عضوية لجنة القصة في المجلس الأعلى المصري للثقافة... لماذا؟
- فوجئت بوضع اسمي في تشكيل جديد لتلك اللجنة من دون استشارتي. السبب الأساسي لرفضي هو الاحتجاج على أحداث مجلس الوزراء ومذبحة محمد محمود قبلَها مباشرةً، كما أن لي تحفظات كثيرة عن دور وزارة الثقافة عموماً وجدوى وجودها وكتبت عن هذا أكثر من مرة في «أخبار الأدب».

> تكتبين الآن رواية، فهل يمكن أن تحدثينا عنها؟
- أكتب رواية تدور أحداثها على خلفية التغيرات في مصر خلال السنوات الست الأخيرة. قطعتُ شوطاً كبيراً في كتابتها، وأتمنى أن أنتهي من مسودتها الأولى قريباً. ما يشغلني في هذه الرواية هو السعي إلى تقديم زاوية جديدة للرؤية، فأنا أكتب على خلفية أحداث يعرفها الناس جيداً وما زالت حية في ذاكرتهم، وهذا يمثل تحدياً فنياً وجمالياً بالنسبة لي.

عن جريدة الحياة.
This article has been published at alhayat.com. Unauthorised replication is not allowed.

Bottom of Form





Friday, July 7, 2017

منصورة عز الدين: الكاتبة في صباحاتها الضبابية





حوار: سارة عابدين 




يعرف قارئ أعمال الروائية منصورة عز الدين، أن سردها منهمك دائماً بالبعد النفسي لشخصياتها، وأنها محترفة في مزج الواقع بالخيال، وفي استخدام أدوات تمكّنها من الغرائبية في النص. تلك السمات لأدب الكاتبة المصرية تجعل ذهن القارئ متيقظاً من اللحظات الأولى في أعمالها، وكأنها تحاول اختراع عالم، وليس أن تعكس واقعاً ما محدداً بزمان ومكان معلومين.

في حديثها إلى "العربي الجديد"، تقول عز الدين إنها لا تكترث كثيراً بالتصنيفات والقوالب الأدبية، بل يروقها التداخل في ما بينها، وتتذكر أن التحوّل من القصة إلى الرواية لم يكن قصدياً ولم تخطط له، لكن تجربة الكتابة الروائية كانت أكثر تركيباً وأكثر قدرة على استيعاب عوالم أوسع وتنفيذ بنى سردية أكثر تعقيداً.

تذكر صاحبة "متاهة مريم"، أنه حين لاحت لها شخصية مريم وخايلتها، سارت خلفها، حتى بدأت تتكشف لها شخصيات أخرى، وتواريخ وسير لهذه الشخصيات، وعالم متكامل لا يمكن تقديمه إلا في صيغة رواية. وعن طريقتها أو أسلوبها في إعداد العمل وخلق وبناء الشخصيات، توضح صاحبة "ضوء مهتز"، أنه لا قواعد نهائية أو جاهزة؛ يتحدّد كل شيء وفق فهم الكاتب لطبيعة ما يكتبه من دون قواعد جامدة.

"
لجأت إلى الأدب في محاولة لإعادة والدها إلى الحياة
"
وتكمل عز الدين قائلة إنها في كتابة "متاهة مريم" و"وراء الفردوس" كتبت ملاحظات كثيرة تخصّ كل شخصية، وكان هناك تركيز على البعد النفسي للشخصيات وحفر في نفسياتها، لكن وأثناء الإعداد لرواية "جبل الزمرد"، لاحظت أن التركيز على الجانب النفسي سيشوّش على طبيعة الرواية وعالمها، وبالتالي تعمّدت عدم التركيز عليه دون أن يعني هذا اهتماماً أقل برسم شخصيات العمل.

الكتابة كعمل تحتاج إلى مشقة، كما تصفها عز الدين، وتعتبر أنها بارعة في إعداد خطط مسبقة للكتابة تساعدها في الإقلاع فيه، رغم أنها لاحقاً تتجاهل هذه الخطط وتعيد الكتابة أكثر من مرة، إلى الحد الذي قد تختلف المسودات المتتالية تماماً مع المخطوطة الأولى، وهذه بدورها تختلف تماماً عن المخطوطة النهائية، لكن الأساس أن هناك دائماً خطوطاً عامة مرشدة لها في مسار الحكاية.

تعتبر صاحبة "وراء الفردوس"، أن إغواء الكتابة الأكبر يكمن في الاكتشاف والمفاجأة، تقول "لو عرفت ما أنا مُقدمة عليه لما كتبت"، ومثلما كانت تسير إلى مدرستها في الصباحات الباردة الضبابية، لا تكاد ترى الطريق، ترى أن بدايات الروايات الجديدة تبدأ هكذا عادةً بمشهد غامض يخايلها أو بشخصية أو حتى بعبارة تسير خلفها. لتكتب بإحساس من يسير محاطاً بضباب كثيف، "يعرف أن الأشياء موجودة حوله؛ ثمة طريق وأشجار وربما جبل وبشر، لكن الضباب يمنعه من رؤيتهم، ووحده السير (أي مواصلة الكتابة) كفيل بأن يظهرهم إلى حيّز العلن".

قضت عز الدين (1976)، طفولتها وصباها في ريف دلتا النيل، حيث لا انفصال بين الغرائبي والواقعي. تتذكّر تلك الفترة وذاك المكان، حين كانت جنيات النيل والأشباح وأشد الأمور غرائبية مجرد تفاصيل حياة يومية عند الكثيرين، وتظن أن هذه الأجواء قد تقف خلف الشكل الغرائبي في كتاباتها. تقول عز الدين "ترى عيناي الواقع على هذا النحو، أبسط تفصيلة واقعية تحولها مخيلتي في الحال إلى سيناريو كابوسي مفترض. كان هذا مرهقاً بل مخيفاً في طفولتي".

في روايتها "جبل الزمرد"، تشتبك عز الدين مع حكايات "ألف ليلة وليلة" وكأن هناك زمنين متوازيين، الزمن الواقعي والزمن الفانتازي، وعن كيفية إيجاد تضافر واتزان بين العالمين، تقول إن الروايات المكتوبة على شكل خيطين سرديين متوازيين، قد يحدث أن يكون أحد الخيطين أكثر رشاقة وجذباً للقارئ من الآخر، وهذا ما كنت واعية له أثناء الكتابة، وحاولت تجنبه قدر الإمكان، عن طريق إعادة الكتابة وحذف شخصيات، أدى وجودها إلى طغيان الجانب الواقعي على الغرائبي، حتى يكتشف القارئ في النهاية، أن الخيطين السرديين المتباعدين ظاهرياً يتضافران معاً ويصبّان في خط سردي واحد.

"
لا ندرك ما يشغلنا حقاً إلا بعد أن يتكرر في الكتابة
"
تتحدّث عز الدين عن طريقة الموازنة بين ما يلح على عقلها الباطن ككاتبة، وبين ما ترغب هي في تنفيذه في مشروعها الكتابي، وترى أن الكتابة تنطوي دوماً على شيء باطني، والروايات الجيدة يجب أن تتجاوز وعي كتّابها ومقاصدهم، إذ اللغة تتسم بالمكر، ولها لاوعيها الخاص، الذي قد يُفاجئ كاتبها نفسه. وتعتقد أن رغبة الكاتب في السيطرة التامة على مجريات ومقاصد ما يكتبه تنتج في الغالب كتابة مسطحة غير مفتوحة على تأويلات متعددة أو كتابة مثقلة بالصنعة والتكلّف.

تعتقد عز الدين أن الموازنة بين الأمرين، تتحقّق عبر الإنصات لمنطق العمل وشخصياته، وعدم فرض شيء معيّن لمجرد أن الكاتب يروق له هذا. وتتذكر عز الدين نصيحة وليم فوكنر للكُتَّاب حين قال "في الكتابة عليك أن تقتل أحباءك"، أي أن على الكاتب، خلال مرحلة التحرير والتنقيح، التخلص من كل ما أضافه لمجرد رغبته الشخصية، أو لمجرد أن هذه الإضافة عزيزة عليه.


تستعيد عز الدين التحوّلات الشخصية في حياتها والتي أثّرت بشكل كبير على كتاباتها، وتذكر أن رحيل والدها وهي صغيرة، كان أهم أسباب اتجاهها للكتابة، لأنها عبرها وعبر أحلام اليقظة، كانت تحاول رسم سيناريوهات تعيده إلى الحياة. تضيف عز الدين أن مرض والدتها أيضاً، كان دافعها الأول لإكمال "متاهة مريم" بعد ركن المسوّدة لأكثر من عام ونصف. تستعيد الكاتبة مشاوير رافقت فيها والدتها إلى المستشفى، بينما كانت تحثّها على العودة إلى الكتابة، حتى عادت مجدداً لأجواء الرواية المهجورة.

الكتابة بالنسبة لعزّ الدين هي أرض الاغتراب، هنا تذكر كيف انفصلت مبكراً عن عائلتها، بمعنى أنها قررت أن تعيش مستقلة عنهم، عن ذلك تقول "كنتُ دائماً أبحث عن فرديتي وأشعر بعدم التواؤم مع الواقع المحيط، وأتذكر أن أمي كانت تقول إنني أعيش داخل ذاتي". وتتابع "بعد وفاتها عرفت من صديقة مقربة منها أنها كانت تصفني بالغريبة، وأنها قصدت الغُربة لا الغرابة، بمعنى أنها كانت مدركة لإحساسي الدائم بالغربة عمّا وعمّن حولي".


أما عن الأفكار التي تخص العائلة والهوية، والتي تسيطر على أغلب أعمالها، فتبيّن عز الدين أن كتابتها – بشكل أو بآخر – وليدة ما عايشته، حتى لو خضعت لكثير من التخييل والتركيب واللعب الفني، فثمة دوماً أصل واقعي ما، من ذلك استقلالها المبكر عن عائلتها، وكيف أثّر على شخصيتها وبالتالي على كتاباتها، وبالنسبة إلى الأفكار التي قد تتكرّر، بأشكال مختلفة، من عمل لآخر، تقول "أظن أننا لا ندرك ما يشغلنا حقاً إلّا بعد الكتابة، كما أن هناك أسئلة تظل بلا إجابات واضحة".

* عن جريدة العربي الجديد.. 28 مايو 2016

Sunday, July 2, 2017

Maryam's Maze



Mansoura Ez Eldin’s Maryam’s Maze is a deeply dream-like novel focusing on a woman who is increasingly between worlds in a limbo where dreams and forgetting as well as history collapses. Ez Edlin’s narrator cuts back and forth between Maryam’s fugue-like state in the story present as her boyfriend and the life she knows seems to fade away, and a very mythological seeming childhood at the Palace of El Tagi. Paul Starkey’s translation is extremely readable in precise prose, but without losing that fugue-like quality that the narrative must maintain.
Elements of the novel are deeply rooted in exploration in the relationships between women and their own bodies as well as the way those embodied selves interact with identity in time. The entire saga begins when Maryam’s ghost double stabs her in a dream, and then Maryam awakens in her family flat, her past life seemingly erased and the life of her family playing more and more a dominant role in the narrative. Maryam’s own identity seems to be increasingly subsumed by the relationships and histories of women in her past and the men around her. Furthermore, the line between life and death is crucial to the book as much of it seems to be a mediation on exactly how dreams are like being between life and death, history and self-mythology.   An understanding of Islamic beliefs around spirit doubles and the history of Egypt—as many of Maryam’s ancestors seem to represent different ways Egyptians and the many ethnicities within Egypt reacted in the translation out of the colonial period and into Egypt’s modernity as a nation are crucial. Naser and other events in modern Egyptian history make appearances in various places into the background of Maryam’s life.
Female bodies, ghosts, the shadows of male figures that seem almost entirely exterior paint the book. Ez Eldin’s style is fragmented, bold, and highly lyrical in Starkey’s translation and I imagine even more powerful in the original Arabic. The cultural context enriches the interiority of Maryam, but it is not dependent on it. Ez Eldin seems keenly interested in humanity as whole as well as woman in general—Maryam’s particularities and the boldness of the women in Maryam’s life are fascinating specific but also easily can be imagined in other cultural contexts.
Ez Eldin’s work is deeply poetic even in translation, and moving in a way that both innovative but sincere in way innovative writing often seems not to be. It is my hope that her work is translated more widely into English and that she is read more in the English speaking world.

Maryam’s Maze by Mansoura Ez Eldin (translated by Paul Starkey) (AUC Press, 2007).


Via: Symptomatic Commentary.

SYMPTOMATIC COMMENTARY

SYMPTOMATIC COMMENTARY