Thursday, February 27, 2014

لا أسعى لقتل آبائي بل أنظر إليهم نقدياً



عناية جابر
السفير 7–10-2009

منصورة عز الدين روائية مصرية شابة، ما زالت تتابع، على غرار ما فعلت في كتابيها السابقين «ضوء مهتز» و«متاهة مريم» الحفر عميقاً في مجرى السرد الذي رفع روايتها «وراء الفردوس» الصادرة حديثاً عن «دار العين»، بدأب يصلح لان يكون مزية الروائيين المتمهلين، المتطلعين الى قطف ثمار النجاح بعد ان تستوفيه شرطاً شرطاً، من دون استعجال. في جديدها قيل الكثير عن قلمها القاطع كالسكين في حدّته وشراسة نقله للواقع، وعن جوب الكتابة عندها فضاءات تتجاوز الهوية الوطنية الجنسية وكتابة تكشف دون ان تبوح.
عز الدين ترى أن أي كتابة لا تسعى لكشف المأزق الوجودي للإنسان في هذا العالم، ولا تحاول فك متاهة النفس الإنسانية هي عبارة عن كلمات ملساء مرصوصة بجوار بعضها بعضا لدغدغة المشاعر. فالكتابة الجيدة برأي عز الدين هي تلك التي تطرح اسئلة شائكة وتتماس مع المسكوت عنه بمعناه الواسع. هي التي تهدف لإقلاق القارئ واستفزازه وهز يقينه الثابت، والرواية تحديداً هي نوع أدبي ضد اليقيني والمستقر، فمن بين السطور تتوالد مئات الاحتمالات والمعاني، التي ربما حتى لم يقصدها الكاتب مباشرة، لان للكلمات سلطتها الخاصة البعيدة عن سلطة مبدعها، فاللغة بحسب عز الدين «خوّانة» بطبيعتها والعمل الجيد هو ذلك الذي يخون صاحبه، ويخلق لنفسه وجوداً قائماً بذاته بحيث ينفتح على تأويلات الجديدة مع كل قارئ. وماذا عن «وراء الفردوس» روايتك الجديدة في سياق الروايات الجديدة في مصر، التي يحيط بعضها الكثير من الالتباس، وماذا عن تجربتك في سياقها؟ هناك بالطبع روابط تجمع بين من تم الاصطلاح على تسميتهم بكتاب الرواية الجديدة في مصر. لكنني ـ تقول منصورة ـ أنزعج بشدة من الميل المتوارث لوضع الجميع في سلة واحدة لمجرد وجودهم في جيل واحد.
أهم الروابط الجامعة في جيلنا هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي او السخرية الشديدة منه، أو التعامل معه بحياد مطلق، او حتى رميه في وجه القارئ بكل تناقضاته وفجاجته دون أي محاولة للفلترة. كما تتسم الكتابة الجديدة ايضا في معظمها بالتجرؤ على الكثير من المسلمات القديمة، واعادة النظر فيها، سواء كانت مسلمات سياسية او دينية او اجتماعية، وقبل كل ذلك تتسم بالاعلاء من شأن الهامش والخافت، بل حتى ما اصطلح طويلا على تصنيفه خارج نطاق الأدب الرفيع. الا انه في الوقت نفسه هناك تباينات عديدة على مستوى الخبرة والتجربة والرؤية للعالم، ان اخطر ما يهدد الكتّاب الجدد ـ من وجهة نظر منصورة ـ هو ذلك الاصرار على التعامل معهم باعتبارهم كتلة واحدة متماثلة تكتب نصاً واحداً.
كيف ترين الاختلاف في نصك؟ وما الذي تريدينه من الكتابة؟ سألنا عز الدين التي بدأت الكتابة في منتصف التسعينيات، حيث كانت كتابة الذات هي الأعلى صوتاً والأكثر وجوداً بين الكتاب الجدد في مصر. منصورة لم تجد نفسها في هذا النوع من الكتابة، بل التقت مع هؤلاء في نظرتهم التي تعلي من شأن الشك ونسبية المعرفة، ورغبتهم في تجاوز الواقع بمفهومه القديم، واختلفت معهم في إيمانهم بأن كتابة الذات هي الطريقة المثلى والوحيدة للكتابة في زمن سقوط الحكايات الكبرى. لم ترغب منصورة في محاكاة الواقع، ولم تسع لتغييره على طريقة الرومانسيين الثوريين، بل رغبت في نقل حيرتها المعرفية أمامه. حيرة معرفية في مواجهة الوجود الإشكالي للإنسان، «الكتابة عندي هي محاولة لفهم ومساءلة هذا الوجود الهش والملتبس والمحكوم بالفناء. الحياة بالنسبة لي هي حياة من الزجاج، حياة هشة قابلة للكسر في اية لحظة وفق اية مصادفة». الاسئلة هي البطل الاساسي في ما أكتب، والكتابة في جزء منها هي رحلة بحث ومغامرة مقلقة في المجهول. وفي غياهب النفس الإنسانية بجوانبها المظلمة والشريرة فتأمل الوجود يصبح فعلا بلا طائل اذا لم يكن خلال ما هو جارح ومظلم، ومن خلال مزج المعرفة بالألم.
ربما لهذا تتماس كتابتي في جانب من جوانبها مع أدب الرعب، حيث تنتشر الدماء، ويسود العنف، ويصبح العالم مكاناً كابوسياً مخيفاً وشرساً. في طفولتي كان الخوف هو الشعور الأبرز عندي، كان على التعايش في مخيلة شرسة تفاجئني بكل الخيالات المرعبة والمخيفة، كان خيالي هو عدوي الاول الذي يحاربني ويهدد ثبات واستقرار الواقع أمام عينيّ.
الغرائبية
عن رأيها بالكتابة الغرائبية تقول عز الدين إن الكتابة التي تتوسل الغرائبي ليست جديدة تماما عن الأدب العربي، بل ربما يحتوي تراثنا الثقافي على الكثير من الغرائبي مقارنة بالثقافات الاخرى. التراث الديني عامة هو في ظني المصدر الاول للعجيب والغريب في معظم الثقافات. الاحلام لا تنفصل عن الواقع بل هي جزء منه. هي لغة اللاوعي ووسيلته للتعبير عن نفسه. عندما نقوم بتفكيك عالم الاحلام والكوابيس، سوف نتمكن من اعادة بناء الواقع بمعناه الاوسع. الوقوف على الحافة بين الوهم والحقيقة يمنحنا فهماً أعمق للعالم الذي نعيش فيه. أؤكد هنا، أن الكتابة الجديدة في مصر رغم فوضاها البادية واحتياجها لنوع من الفرز النقدي، نجحت في إحداث نوع من الخرق الايجابي لأسطورة الأدب الرفيع بالمفهوم القديم.
عن سؤالنا منصورة، عن لغتها الهادئة، غير المنفعلة، ان كانت تنتمي لطباع الكاتبة، ام استدعاها السرد في «وراء الفردوس» أجابت: أعتقد أن موضوع الرواية هو ما استدعى هذه اللغة غير المنفعلة. في مجموعتي «ضوء مهتز» كانت اللغة متوترة تحمل عنفها الكامن كون القصص في معظمها تنويعات على أدب الرعب، وعوالمها كابوسية متوترة. في «متاهة مريم» نقلت اللغة حالة الشك في وانعدام اليقين المسيطرة على الرواية وشخصياتها، حيث حاولت فيها الوصول الى لغة مراوغة، حمالة أوجه تنفتح على تأويلات مختلفة. في «وراء الفردوس» كنت مدركة ان قماشة العمل تحتوي على أبعاد تراجيدية عديدة فأردت التخفيف من حدتها قدر الامكان عبر لغة هادئة غير منفعلة كما تصفينها، وعبر مسحة من السخرية الخفيفة أحيانا أو الحياد في أحيان اخرى. منصورة عز الدين التي نشرت على ما ذكرنا، ثلاثة كتب فقط خلال ما يقرب من عقد، حققت (ولدت عام 1976) حضوراً مميزاً في المشهد الثقافي المصري، وهي الآن محررة الكتب في جريدة «أخبار الأدب». في إجابات الروائية عز الدين ما أفاد الاسئلة التالية ايضا.
حلقات متواصلة
* كتابتك تصعب على قارئها معرفة جنس الكاتب، هل هو كاتب أم كاتبة؟ وهي وريثة جيل الرواد المصريين، الذكور تحديداً بكل إنجازاتهم الريادية المشهودة؟
- الكتابة بلا جنس، من وجهة نظري. الفن يقع في المنطقة البينية المخاتلة والملتبسة بين الشيء ونقيضه، بين الضوء والظلمة، بين الذكورة والأنوثة، بين الواقع والحلم. أحب مناطق الالتباس والغموض. حين أكتب أقوم بتحييد جنسي، وانحيازاتي الخاصة، أحاول الابتعاد عن الافكار اليقينية والمطلقة قدر الامكان. عندما صدرت مجموعتي القصصية الاولى قوبلت بحفاوة كبيرة، ووصفت ـ كنوع من المديح ـ بأنها كتابة «ذكورية» لجهة خشونة العالم والعنف الكامن فيه، وايضا لقطيعتها مع الغنائية والرومانتيكية. لكنني كنت أؤكد انها ليست ذكورية بقدر ما هي «اندروجينية» فالعين التي وراءها تحمل سمات الذكورة والأنوثة في الوقت نفسه. هذه العين الاندروجينية تضمن نوعا من الحياد وعدم الانحياز، لان الكاتب ـ كما أردد دائما ـ يجب ألا يكون ناطقا رسميا باسم جنسه أو دينه أو وطنه، أو قبيلته، أو حتى باسم أفكاره الشخصية وحدها. الانحياز يشوش ويعمي العين عن رؤية ما وراء الاشياء.
بالنسبة لوصف كتابتي بأنها وريثة لجيل الرواد من الكتّاب المصريين، فهذا أمر يسعدني، لان الكتابة هي حلقات متواصلة، سؤال القطيعة التامة غير مطروح في الفن، ودعاوى قتل الأب التي تتردد من وقت لآخر معظمها يأتي مراهقا واعتباطيا، لكن في ظل هذا التواصل يجب أن تكون هناك بصمة مختلفة لكل كاتب. لم أسع لقتل آبائي، بل فقط تعلمت النظر إليهم نظرة نقدية متشككة. لا أحب الأصنام، والقداسة الزائفة. وأرى أن الدرجة الاقوى من احترام كاتب ما تحبه، هو أن تتعامل مع كتابته بندية وتنظر لها بعين نقدية متشككة باحثا عن اختلافك أنت.
* في «وراء الفردوس» وقبلها في «متاهة مريم» حضرت العائلة كتيمة أساسية، ما سبب ذلك؟
- احيانا نكتشف ما يشغلنا بعد الكتابة لا قبلها، بعد انتهائي من «متاهة مريم» لاحظت حضور العائلة بكثافة فيها، لكن في «وراء الفردوس» قاربت الموضوع بدرجة ما من التعمد، وربما يعود ذلك في الحالتين لانشغالي بفكرة معاداة المجتمع الذي أعيش فيه للفردية وخوفه منها. نشأت في عائلة كبيرة، مترابطة، وقوية، لكن دائما ـ كما في مجتمعنا ككل ـ كان الفرد يتم التضحية به على مذبح المجموع يتساوى في ذلك الرجال والنساء. وأعتقد ان هذا أساس معظم مشكلاتنا. استقللت عن عائلتي وعمري ثمانية عشر عاما، وعشت في القاهرة وحدي، حماية لفرديتي واستقلالي، وهو ما أتاح لي مراقبة فكرة العائلة من بعيد. لاحظت أن المجتمع كله، يميل للتصرف كعائلة كبيرة، قوية، وقاهرة. وصلت هذه الفكرة لذروتها مع السادات الذي كان يقدم نفسه باعتباره كبير العائلة المصرية، وأرسى القيم الريفية في المجتمع ككل، غير ان هذه الفكرة كانت موجودة قبله، ولا تزال موجودة حتى الآن. ومن هنا لا احترام كافيا لفكرة المواطنة، هي غير مطروحة بجدية كافية في معظم السجالات الدائرة.
هوامش
* ما الذي يميز الكتابة الجديدة عما سبقها؟ وكيف ترين مشهدها الحالي؟
- عادة ما أهرب من أي حكم تعميمي، وأتحفظ أمام مصطلحات مثل «الكتابة الجديدة» لمطاطيتها، إلا انه يمكنني القول ان المشهد في مصر الآن فوضوي الى حد كبير، غير انها فوضى خلاقة، أو على الاقل، أحب أن أراها على هذا النحو. وأود هنا أن أستحضر جملة الصديق الكاتب أحمد العايدي «نحن جيل لا يسعى لتحقيق حلم، بقدر ما يهرب من كابوس». عندما أتكلم عن «كتابة جديدة» فأنا أقصد بالاساس عددا من الكتّاب الذين أرى نفسي في إطارهم، وفي حالة حوار إبداعي معهم مثل: ياسر عبد الحافظ، طارق إمام، ابراهيم فرغلي، محمد عبد النبي، ويوسف رخا. ايضا يمكنني القول ان إحدى فضائل الكتابة الجديدة في مصر انها أعادت الاعتبار لأنواع أدبية ظلت مهمشة لفترات طويلة، فهي على سبيل المثال وضعت الكتابة الغرائبية في مكانة بارزة ضمن المشهد الحالي عبر كتابات عدد من الكتّاب الذين رأوا ان الواقع أصبح ضيقا فسعوا الى توسيعه عبر الخيال، كما أعادت الاعتبار الى الكتابة البوليسية وكتابة الرعب عبر الاستفادة من تقنياتها بعيدا عن التحفظات القديمة، بل انها استفادت ايضا من شخصيات وعوالم الكارتون والرسوم المتحركة والبوب آرت عموما.
من هنا يمكنني ان أخلص الى ان الكتابة الجديدة في مصر رغم فوضاها البادية واحتياجها لدرجة ما من الفرز النقدي، نجحت في إحداث نوع من الخرق الايجابي لأسطورة الأدب الرفيع بالمفهوم القديم.
على الرغم انها نشرت ثلاثة كتب فقط خلال ما يقرب من عقد، حققت منصورة عز الدين (ولدت 22 مارس 1976) حضورا مميزا في المشهد الثقافي المصري منذ ان تخرجت في جامعة القاهرة عام 1998. هي الآن محررة الكتب في جريدة أخبار الأدب التي التحقت بالعمل بها في عام تخرجها من الجامعة.
عام 2001 صدرت مجموعتها القصصية الاولى «ضوء مهتز» لتلقى حفاوة بالغة من حشد كبير من أساتذتها السابقين والكتّاب من أجيال أكبر والمعجبين بكتابتها، ومن ضمنهم أسماء مرموقة مثل: الناقد محمد بدوي، الروائي جمال الغيطاني، الروائي محمد البساطي، وحتى المفكر الراحل محمود أمين العالم.

… من بين كل الكتّاب والشعراء الذين ظهروا خلال عقد التسعينيات، ربما تظهر منصورة عز الدين باعتبارها الشخص الاكثر اتزانا نفسيا: هادئة، شغيلة (تعمل بدأب)، قادرة على التركيز في كتابتها. ليس هناك أي لغط يحيط بها، بل درجة عالية من الاحترام لها.

Monday, February 17, 2014

متاهة مريم.. استبطان أحلام اليقظة


نضال حمارنة
متاهة مريم الرواية الأولى للقاصة منصورة عز الدين. من الصفحة الأولى نجد أنفسنا تحت سطوة الرواية، نمضي مع عينها السحرية لنستبطن شخوصها المتحركة على الورق، شخصيات في طياتها شخصيات أخرى تحرّكها وتسيّرها على طريق محتوم كأنه قدر لا مفر منه. 
عبر سرد يعتمد على التداعي المحكوم بتقنية التكثيف والاختزال دون أن ينفي قدرته­ أي التداعي­ على توصيف الحالات وتشابكها مع الأحداث المتقاربة أو المتباعدة زمانياً ومكانياً من حيث علاقتها بالبطلة... ‏
(مريم المعاصرة) التي تعيش وتعايش متاهتها إن في سرايا عائلة التاجي أو في شوارع بلدتها وحدائقها أو في العاصمة.. وكيف تستحضر كل هؤلاء الشخوص من عمر الطفولة إلى أيامها الحاضرة.. أو كيف تلاحقها تلك الشخوص. لكل شخصية ثنائيتها وخيالاتها وأحلام يقظتها. هذا ما أقنعتنا به الرواية وأمتعتنا به على حد سواء. رواية مكتوبة بجهد واقتدار، بلغة رشيقة لا تعتمد على الحوار بين الأطراف؛ ربما لأنها تريد أن تقول لنا: أن هناك قطيعة ما رغم بحث كل طرف من الأطراف عن انتمائه الخاص ضمن المكان الواحد الذي يعيش فيه الجميع ولعله يشبه (الوطن). ‏
مريم تحمل ثنائيتها الخاصة بها أو قرينتها المتعايشة معها، تلك القرينة التي لا تشبه البشر (لأنها بلا مشاعر تقريباً لا تعرف الحب أو الكراهية وهذا هو جحيمها الخاص.. كان عليها أن تستغل الرغبة الوحيدة التي استطاعت تنميتها، وهي الرغبة في الخلاص، كي تخرج نهائياً من ذلك المأزق وتلك المتاهة.. لم يكن لمريم أو لغيرها يد في مأساتها لكن مصائرهما المتعارضة والمتحدة في آن هي ما يحتم الصراع) (ص110­ 111)
مريم تبحث لنفسها عن انتماء ما.. من خلال الشخوص من حولها ومن خلال الأمكنة.. وهي جنين كانت عبئاً على جسد نرجس­ أمها­ ومن بعد تحولت إلى عبء معنوي خوف الأم من وجودها في حياتها ومن فقدانها. ‏
مريم بمعنى ما لا تنتمي لأحد؛ فالأب هو يوسف فقط صاحب الصيدلية الذي تجلس عنده ويأخذها معه إلى قذارة غريزته أو إلى عشيقته.. والأم هي نرجس.. والجدة هي صوفيا.. حتى يحيى الرجل الذي تحبه تربطه بمخيلتها بصديقتها رضوى.. (كان يحيى محباً للحياة مواجهاً لها وحاول دفع مريم إلى المسلك نفسه، كان يعلم أنها آتية من عائلة من الموتى) (ص75). ‏
إحساس مريم المتواتر بالوحدة، بالاغتراب الروحي، بالانفصام بين ما يجب عليها أن تكون بنظر الجميع وما ترغب أن تفهمه لتكون ما تريد أن تكون. من أول يوم في حياتها انقطع حبل الانتماء المعنوي بعائلتها وأفراد عائلتها أنفسهم، يمارسون القطيعة مع بعضهم البعض، لكنها كلما ابتعدت عنهم.. عائلتها، أقاربها، ومعارفها تشعر أنهم يلاحقونها (لم تعد تعرف: من هؤلاء الذين يطاردونها أينما حلت مطالبين إياها أن تعود للانضمام إليهم أن تعترف بهم) (ص67). ‏
حتى الأمكنة بداية من سرايا التاجي في بلدتها إلى الأماكن الحميمة الى نفسها في العاصمة ­شقة يوسف­ أو بيت المغتربات، مقاهي وسط البلد إلى شقة يحيى.. الخ، كلها تختلط عليها، تارة توجد فيها وتارة أخرى تفتش عنها فلا تجدها.. أو تجد سكانها. ‏
(أضحت الشوارع بالنسبة لها كائنات خبيثة تتآمر عليها، مسلمة إياها للعبة التكرار المرعبة) ص73. ‏
(هكذا تورطت مريم مع هذه المدينة، بالغت في محاولة الانتماء إليها.. توغلت في الإلمام بكل ما يخصها، حفظت تاريخها عن ظهر قلب، ارتبطت بمقاهيها وحاناتها وبأحجار مبانيها.. لذا كانت خيبتها مفزعة حين تنكرت لها المدينة و أقصتها عنها) ص118. ‏
عالم الرواية وتقنيات كتابتها ليست مجرد فانتازيا لآلام فتاة قادمة من الأقاليم إلى العاصمة وليست ميتافيزيقا ما وراء الواقع أو هلوسات هستيرية.. إنه الواقع المتخيل لحيوات بشر، عبّرت عنه منصورة عز الدين بقلمها وكأنها تعيد اصطفاء أحلام اليقظة وهواجس المعاش، تعرضه كشريط يتابع بشفافية حركة الشخصيات ويرصد الدواخل الجوانية (المسكوت عنها) كلٌ حسب زمانها وانتمائها الاجتماعي وتناوب أزماتها. من الصفحات الأولى عندما شعرت أن قرينتها قتلتها ثم سقطت بجوارها قتيلة هي الأخرى. ‏
وصحت بعدها لتجد نفسها مازالت على قيد الحياة.. إلى آخر صفحات الرواية ظلت تغرق في متاهة محكمة الصنع يصعب الفرار منها.. أما قرينتها فهي (تعرف أن أحداً لن يصدقها وإن محاولاتها لإثبات هويتها ستكون مجرد ألعاب في الفراغ، ربما لأن مريم سبقتها في الوجود الجسدي بهذا العالم، وربما لأنهما وجدتا نفسيهما في تلك المتاهة معاً دون أدنى قدر من اليقين.. أن تطرد الأخرى من هذا الحيز الضيق الذي يكاد الجميع أن يختنقوا فيه ومع هذا يستميتون في المحافظة عليه) ص107. ‏
مريم نفسها في متاهتها حين تفتش عن شخص ما أو مكان ما يلاحقها شبح آخر ومكان آخر، حتى الزمن اختلط عليها وكأنها تسأل: إلى أي زمن تنتمي أو تحيا؟! إلى أي مكان؟! ‏
هي مكشوفة وواضحة للجميع (كل ما يحيط بها زجاج شفاف لا يخفي ما وراءه..) ص95­ لكنها مجهولة وغير معروفة الانتماء لنفسها، مازالت تبحث عن هويتها.. ‏
في النهاية (أصبحت قريبة هكذا من الوصول إلى مفاتيح المتاهة التي وجدت نفسها فيها رغماً عنها) ص124­ ودخلت السرايا التي تعرفها جيداً، وجدت أفراد أسرتها جميعاً في أماكنهم المعتادة، الأموات منهم والأحياء لم يحس بها أحد ولم يرها أحد.. فسقطت مريم مغشياً عليها.. وعندما أفاقت وجدت نفسها في أرض مزروعة بالقرب من نهر النيل وبجوارها بناء طيني فلا حي، بابه من الخشب المتهالك (أبصرت كفاً مطبوعة فوقه بالدم، وضعت كفها عليها فتطابقت معها) ص127­ وهناك في الداخل بدأ يتسلل شعاع ضوء ضئيل.. هنا تنتهي متاهتها أو يكمن مفتاح خلاصها.. ربما. ‏


متاهة مريم.. عالم مشبَّع بدمويته وجنونه


نائل الطوخي

تبدأ القاصة المصرية منصورة عز الدين روايتها الأولى "متاهة مريم" بالحديث عن قرينة لمريم تقتلها في الحلم, ثم تموت القرينة, لدى دخولهما سوياً مكاناً غامضاً ترى فيه مريم أطيافاً غريبة لكل من رأتهم في حياتها.. هكذا يبدأ الفصل الأول من الرواية والذي صدرته الكاتبة بفقرة أسطورية عن تاريخ بناء سراي التاجي, تلك السراي التي نشأت فيها مريم والتي امتصت كل جنونها ودمويتها في خلاياها..
لم يكن موت مريم في بداية الرواية مجازاً بحال, يبدو موت مريم هو التيمة الأساسية للرواية, فبالرغم من تحرك مريم وحديثها وتفكيرها إلا أن ثم شيئاً ما تغير فيها.. منذ بداية الرواية تتطلع مريم للمرآة وتصاب بالذهول "لم يكن وجهها كما تعرفه.. شيء ما تبدل فيه. حل به او اختفى منه.. لا يهم إنما لم يعد يخصها".. تسأل مريم عن يحيي الجندي في الجريدة التي يعمل بها فتكتشف أنه ليس ثم من أحد اسمه يحيي الجندي في هذه الجريدة.. تفتح صفحات الجريدة لتفاجئ بأن هذا الاسم غير موجود بها على اي من صفحاتها.. إذن من كان الرجل الذي تحبه والذي أقامت علاقة معه.. ولأول مرة تسأل نفسها "هل يمكن لأسرة كأسرتها ان تترك ابنتها تعيش بمفردها دون مجرد سؤال عنها او حتى زيارة لها؟ اين هذه الاسرة اذن؟ ولماذا لم تجد ما يدل عليها حينما زارت البلدة التي من المفترض ان تكون بلدتها؟" هذه اسئلة لم تخطر ببال مريم من قبل.. هي الآن تكتشف زيف كل ما كانت تحياه من قبل.. بالمعنى الحقيقي لا المجازي.. يحيى الجندي غير موجود.. أسرتها غير موجودة "سراي التاجي نفسها لم يكن لها وجود".. "أنا لا أحد" قالتها مريم" .. أي أن مريم نفسها غير موجودة ..هي تشعر انها تلاشت.. وبدلاً من وجودها السابق تبدأ كل شخوص عائلة التاجي تشاركها جسدها.. تحضر المقابلة أولاً بين صوفيا جدتها وبينها.. صوفيا ماتت بعد رحلة جنون طويلة وبدأ شبحها منذ ذلك الحين يجول في القصر.. وشبح صوفيا يعاني من الصمم بالضبط مثلما كانت صاحبته تعاني من الصمم.. هنا تقابل صوفيا التي هي روح خالصة دونما جسد خاص بها جسد مريم الخالص والذي تسكنه أرواح عديدة ما عدا روحه الخاصة.. تبدو صوفيا هي المقابل الحقيقي لمريم من بين كل من عرفتهم مريم الموصومون بالجنون وبالموت.. (يحيي الجندي يبدو مسكوناً بالموت.. صالح الخادم المغرم بالجنازات.. زينب الجدة التي ظلت لأيام تحرس جثة زوجها خوفاً عليها من التمثيل بها.. نرجس الأم التي تحتضن جثة زوجها وتشعر لأول مرة أنها امتلكته دونما شريك.. على العموم يبدو طقس مضاجعة الموتى حاضراً في الرواية بشدة) بالإضافة إلى هذا فأفراد عائلة التاجي يموتون ويتركون وراءها أثاراً تراود مريم كل الوقت.. "هكذا يمكن لرائحة النعناع والريحان ان تستدعي صوفيا بشحمها ولحمها, ويمكن لسحابة من الدخان ان تذكر بيوسف وعلى الفور تختزل تكشيرة محفورة على الوجه كل تفاصيل نرجس, وتستحضر سرادقات العزاء روح صالح المسالمة" أي أن أفراد العائلة لا يموتون بالرغم من كون الموت هو هاجسهم الأصلي.. إنهم يرحلون غير أنهم يتركون وراءهم أثرا ما.. بالضبط كصوفيا التي رحلت ولكنها تركت وراءها شبحها.. وتتحول هذه الأثار لتصبح جزءاً من مريم.. والتي تخلت منذ بداية الرواية عن روحها عندما قالت أنا لا أحد.. "الأشخاص الذين كانوا جزءاً من عالمها تحولوا إلى اشباح تزورها من حين لآخر".. هذه الأشباح ليس فقط أنها تحل في جسد مريم.. وإنما تطاردها أيضاً على الدوام.. تطالبها بأن تنضم إليهم.. تتآمر عليها.. وتثير رعبا دائما في نفسها.. هنا بالتحديد لا يضحي الأمر خاصاً بعائلة مريم والتي هي عائلة التاجي وإنما يصبح الأمر متعلقاً بكل من عرفتهم مريم.. بمن فيهم يحيي الجندي ورضوى وإديث وفتاة المترو..
في مرحلة ما من حياة مريم تفقد ذاكرتها السابقة. تنسى كل ما تعلمته عن الرياضة والمعادلات الكيميائية ليتفهم عقلها فقط الفلسفة والمقارنات بين نيتشة وهيجل وماركس, وهذا ناتج عن طبيعة دراستها التي تحولت من القسم العلمي إلى كلية الأداب.. وهنا تلوح صوفيا لمريم.. تلك العجوز المجنونة التي أخذت في أيامها الأخيرة تجمع قصاصات الورق من الشوارع ومن اكوام القمامة.. وتتساءل مريم: هل كانت هذه الأوراق "هي ذاكرة وعقل بديلين لذاكرتها وعقلها [ذاكرة وعقل صوفيا] اللذين نخرهما السوس".. هنا ترتعب مريم من أن يكون لها مصير صوفيا جدتها التي تخلت عن ذاكرتها الأولى ومضت تقيم أو تجمع ذاكرة جديدة تماما.. ألا يبدو الأمر مشابها لواحدة تخلت عن نفسها في أول الرواية ومضت تجمع في جسدها قصاصات نفوس من كل من عرفتهم على مدار حياتها؟
هنا نصل إلى واحد من أهم فصول الرواية.. فصل كامل مروي من وجهة نظر الأخرى التي غادرت جسد مريم.. هذه القرينة التي بدأت الرواية بها وبقتلها لمريم تسمعنا صوتها.. تحدثنا عن حلولها في جسد مريم ثم عن مغادرتها إياه.. تحدثنا عن حقدها على مريم .. عن رغبتها في إضعافها كل تلك السنوات أو خلخلة ثقتها بالعالم الذي تتحرك فيه.. ثم صراع كان يدور بين مريم و بين تلك التي غادرتها.. فهما الاثنتان وجدتا نفسيهما في متاهة لا فكاك منها "و على من تقدم منهما أدلة كافية على عدالة موقفها وصحته أن تطرد الأخرى من هذا الحيز الضيق". تنظر القرينة (والتي أطلقت عليها الكاتبة لقب الأخرى) في المرآة فلا تجد نفسها. وترى من الشرفة امرأة حولاء تحتضن رجلاً يشبه التاجي.. هل هذه المرأة الحولاء هي صورة حالية لزينب الجدة والتي احتضنت فيما قبل جثة التاجي خوفاً عليها من الثأر منها والتمثيل بها.. هذا ليس مستبعدا.. خاصة أن مريم نفسها فيما بعد و في المشهد الختامي سوف ترى أباها الذي مات و هو يحتضن فتاة صغيرة هي مريم الطفلة نفسها .. في هذا العالم يتحول الزمان إلى متاهة ولكنه بخلاف المتاهة التقليدية.. هو متاهة بفضل كون كل طرقه مفتوحة على بعضها بشكل مطلق.. في المتاهة التقليدية تنغلق الطرق أمام بعضها البعض غير أنه تكون ثم مساحة للتواصل بين الطرق, أي انها طرق مغلقة إلا قليلاً, تسهم هذه الفرج بمخاتلة التائه, بتذكيره بأنه قد يصل يوماً, كيما يتحقق الهدف النهائي: التائه لايصل وفي ذات الوقت لا يتوقف عن السعي نحو الوصول, أما هنا فالطرق كلها مفتوحة تماماً, التقمص بين الشخصيات يتم بحرية شديدة.. كل الأرواح تحل في كل الأجساد.. كل الأزمنة تتداخل.. متاهة عصرية تناسب عالماً يعاني من الجهل بسبب تدفق المعلومات ولا محدويتها تحديداً.. هنا تبدو الكتابة نقيضاً لتيمة العزلة و التي اعتمدها مسرح العبث, لا عزلة هنا وإنما تدفق وسيولة لا متناهية, غير أن هذا بالتحديد ما يجعل من العالم كابوسياً.. تتلاشى هنا الحدود لا لتحقيق حلم رومانسي بعالم أكثر حرية وانفتاحاً وإنما لخلق عالم آخر أكثر بشاعة من الأول.
في فصل كامل تسرد الكاتبة عذاب (الأخرى) القرينة.. تسردها من وجهة نظر متعاطفة.. هذه الأخرى التي تمنت دوماً ملامح مريم والتي كرهتها والتي تشكو كونها تعرف كل مشاعر أهل القصر و لكنها لا تملكها.. هي المشاهدة من بعيد.. لا تعيش و إنما تشاهد.. بعد هذا الفصل نعود إلى مريم.. لا تحرص الكاتبة على وصف داخل مريم بهذا الشكل وإن فعلت فبحيادية و لامبالاة.. هي تحرص فقط على تأكيد المتاهة الوجودية التي تخضع لها مريم.. على كون كل الأشخاص الذين عرفتهم يتسيدون على تفكيرها ويتشابهون فيما بينهم وكلهم يتقدمون تجاهها محملين بنظرات شريرة.. تنقذها فتاة واحدة تشاهدها في المترو من الجنون المطبق.. تعيد لها ثقتها في ذاكرتها.. تذكرها بأن ثم أشخاصاً يمكن لها أن تذكر ملامحهم.. تذكرها الفتاة بإديث صديقة طفولتها.. وتبدأ هدنة كرفة العين تريح مريم من الأزمة الوجودية التي تعصف بها قبل أن تندلع الأزمة بأبشع صورها..
قبل نهاية الرواية تقول صاحبة بيت المغتربات لمريم بأن رضوى صديقتها وزميلتها, والتي غادرت البيت منذ أسبوع كما تؤكد لنا مريم نفسها, قد سافرت منذ ثلاث سنوات لتلحق بأبيها.. هل المرأة تكذب أم أن مريم فقدت ذاكرتها؟  كلا الاحتمالين خاطئان. ببساطة فمريم لا أحد.. مريم تتلاشى تماماً في الفصل الأخير.. لا أحد يراها.. لا أحد يسمعها.. لا تلفت انتباه ولو معارفها القدامي.. وهي ترى نفسها طفلة وترى أباها الذي مات منذ زمن طويل شاباً.. تصبح فراغاً مطلقاً.. مجرد شبح كما أصبحت صوفيا من قبل.. لم تكن مريم تملك القدرة على الحياة بمفردها منذ البداية.. كانت مغادرة الأخرى لها بمثابة قتل لها, سواء على مستوى الحلم أو الواقع, بمثابة إخفاء لها عن الأعين.. من هي تلك الأخرى؟ هل كانت تاريخ قصر التاجي المشبع بالدماء و الوساوس؟ هل كانت الأشخاص الذين عرفتهم.. نرجس وكوثر وصوفيا ويحيي ورضوى, والذين التحموا بها, كل بطريقته, وأضحوا يشكلون جزءا من حياتها ومن روحها؟ لا أحد يعلم ولكن المؤكد أن ثم قوة رهيبة قد غادرت مريم فلم تقو بعدها على الحياة.. هنا يبدو انتصار الأخرى كاسحاً.. وهنا يبدو أنها قد صارت هي الأجدر بحجز مكان مؤقت لها في هذا الوجود في مقابل انسحاب مريم إلى دائرة لا مرئية ولا مسموعة تمارس فيها هذياناتها الخاصة.

عن جريدة القدس العربي


وراء الفردوس: لعبة السرد ومغامرة التأريخ


طارق إمام
هي ــ بداءة ــ  رواية داخل رواية. "مسودة"  رواية اختبأت في طيات رواية اكتملت. رواية تكتبها "سلمى" الشخصية المركزية، كنوع من العلاج النفسي، التطهر.. ورواية أخرى كتبتها "منصورة"، ضمت سلمى نفسها و"مسودتها". هل تشبه الرواية التي كتبتها سلمى، الرواية التي قرأناها؟. لن نعرف أبداً.  نحن أمام روايتين: واحدة مخفية، تلك التي تنهمك سلمى طوال الوقت في كتابتها، تصحبها  أينما حلت،  رواية موجودة بالقوة وليس بالفعل، وأخرى معلنة، اسمها "وراء الفردوس".  كلتاهما كانتا تسيران أمام أعيننا. في الرواية الأولي نشاهد المؤلف في عذاباته ومكابداته ولا نرى نصه، في الثانية  نواجه النص ولا نعرف أبدا كيف كتبه المؤلف. حياة المؤلف في الأولى تساوي موت كتابته، بينما موت المؤلف في الثانية كفل تحققها. ربما كانت الرواية الأولى هي "الفردوس" الذي لا يتحقق، لذا لم تكتمل، بينما الثانية هي "ما وراء الفردوس"، تأويله، ومساءلته، حواشيه وهوامشه التي غدت متناً في ذاتها، لذا تمت. أخفقت المحاكاة إذن لصالح الخلق. أخفق الشخصي لحساب الملحمي، وغاب الصوت الواحد لتعلو الأصوات المتشابكة. إنه موقف جمالي أيضاً، حتى إن لم يكن تدشينه تم بشكل واع تماماً.
هكذا صارت الرواية الأولى موضوعاً للرواية الثانية. إنه تمثيل رمزي لفن الرواية نفسه: الرواية دائما تكتب رواية أخرى، شفهية، تدونها. الفارق الجوهري بين الروايتين ــ من ضمن فوارق كثيرة ــ أن "سلمى" المؤلفة كانت تكتب عن نفسها، حتى وإن حرفت حياتها، مستعينة بأناها كسارد يخط همه الضيق.. بينما استعانت مؤلفة "وراء الفردوس" بسارد عليم، يعرف الكثير غير أن تورطه نفسه خافت، واختلقت أكثر مما حرفت، اكتنهت العالم بالمخيلة وليس بذات مفردة،غنائية.
أعلنت المؤلفة عن حضورها في الهوامش، مُذكِّرة، حينا بعد آخر، أننا أمام روايتها. بدءاً بالإشارة لمقطع كان قصة في مجموعتها الأولى " ضوء مهتز "، وكان يمكن ألا تفعل.. وتارات بتصويب أو تدقيق حدث داخل السرد  والتعليق عليه رغم أنه لم يكن من الصعب دمج ذلك في المتن نفسه، بدلا من كسر إيهامه المفترض عبر الهامش. اتنتا عشر هامش كان يمكن ــ فيما عدا الإشارة الأولى ــ أن تدخل في لحمة السرد، وما كان ذلك ليستعصي على سارد ملم، تديره المؤلفة، غير أنها لم تشأ..
 إنه اللعب. مؤلف واقعي أمهر من مؤلف فني، رهان غير مرئي، كسبه الأول  بإتمام روايته بينما ترك المؤلف الآخر مسودة مجهولة المصير!، رغم أنه هو نفسه مؤلف المؤلف الآخر!.
 كان يمكن للّعبة أن تتحول إلى تماهٍ محكم، يذهب بعيدا، فلا نعود نعرف أي رواية نقرأ. كان يمكن أن يتفرق نسب الرواية عمداً بين مؤلفين ــ أو مؤلفتين ــ وأن يتوزع دمها بين ساردين يتبادلان الأدوار، غير أن إرادة السارد أبت، مفضلة أن تكون اللعبة في اتجاه آخر: أن تشعر بأن الرواية التي لم تظهر تامة  من قبل أن تخط يد سلمى حرفا فيها، بينما تظل متعطشا لاتمام الرواية التي اكتملت فعلا.
تلك المغامرة الجوهرية في تشكل بنية النص،  منحته قدراً غير هين من سبل تحققه الفني. لقد خلقت مبدئيا الحبكة الرئيسية التي يلتم حولها العمل، وهي حبكة توحي بطبيعتها أن ما هو قادم من سرد سيمنحها الصدارة، كفضاء فني مثير يغري بالاشتغال. غير أن  السارد يجعل من تلك الحبكة نفسها ــ في مستوى تالٍ ــ حبكة فرعية، ذلك أن مهمته كانت إعادة تكوين ما هو مقوض بالفعل لحظة بدأ السرد. ثمة حوار آخر بين البنية اللعوب تلك، ولغة السارد الراسخة، التي تلائم وضعية التأريخ. السارد الذي يوحي بأنه لابد أن يُصدق، حتى في التفاته للغرائبي وغير المعقول. إنها لغة تجوب شخوصَها لو صح التعبير. تعود بالزمن للخلف وقد تتقدم به للأمام مستبقة ما سوف يحدث.
ليس عبثاً أن تجيء الفقرة الافتتاحية محملة بكل ذلك التواشج بين مفردات الطبيعة، في شكلها الأولي والطبيعي والبري.. و التي تقدم للظهور الإنساني، تمهد للحظة انبثاقه، توسع له، كأنه يخرج من بينها، أو كأنه محض مفردة كبقية المفردات. بل إن تقديم الإنسان نفسه يجيء مقترنا ــ بفعل التشبيه ــ بالصفة الحيوانية البرية.
 " كنمرة هائجة نزلت سلمى رشيد درجات سلالم بيتهم الثماني، يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبي الضخم الذي يحمله... بدت غير مهتمة بالحر القائظ الذي نفثته تلك الظهيرة الأغسطسية، ولم تنتبه للثعبان الأسود الذي أطل برأسه من بين كومة القش القريبة قبل أن يختفي بداخلها من جديد، ولا للفأر الرمادي السمين الذي مرق بسرعة هاربا من المشهد الذي احتلته هي. على مقربة اختفت حرباء مشاكسة بين أوراق العنب المتدلية عناقيده بزهو من التكعيبة المدهونة بلون برتقالي بهت بفعل الزمن ".
 هذا مفتاح أولي لأشخاص متماهين مع وجودهم الطبيعي، مصدقين لغرائزهم. أقصد تحديدا الأشخاص الذين سبق وجودهم دخول التصنيع بقيمه  في فضاء الرواية، وظهور الجيل التالي في الرواية.. مفتاح يجعل من الطبيعي بعد ذلك أن تسلم " بشرى " زوجة صابر جسدها بسهولة لـ"جابر" ــ في علاقة محرمة ثم في زواج ــ وكلا المؤسستين يمكن أن تخاصمهما امرأة أخرى في مكانها ببساطة.. يتسق ذلك أيضا مع "رشيد" والد سلمى النزق. يتسق مع "لولا" أخت ثريا ــ أم سلمى ــ التي تدخل علاقة جسدية مع شاب تحبه، بل وتترك نفسها إلى أن تنتفخ بطنها، قبل أن تنتحر.
سؤال الجسد حاضر بقوة ضمن هذا الإطار، والأدهي أنه معبر عنه من قبل شخوصه، الخارقة للتابوهات رغم ضيق العالم الاجتماعي وقيمه وأعرافه المقيِّدة، ورغم أن وعي شخصيات عديدة منها لا يحفل بتعقيدات الوعي الجدلي وأسئلته العميقة.
تقدم "وراء الفردوس" مقاربة لطبقة ناشئة شهدتها سبعينيات القرن الماضي، لتلتحق بركب الطبقة الرأسمالية.. متجاوزة ــ في قفزة ــ الطبقى الوسطى نفسها في شكلها المتعارف عليه. الرواية تقترب  من ريف الدلتا في حقبة مفصلية، بدأ فيها التحول من قيم الإقطاع لقيم التصنيع.. من خلال الأرض بالذات ــ بكل ثقلها الثقافي والروحي ــ التي جرى تجريفها لتصير مادة لصناعة الطوب الأحمر. هذا العالم الذي يحضر للمرة الأولى في الرواية المصرية، يبدو جزءا من مسكوت عنه واسع بمعنى ما. يدعم خصوصيته أن الوعي الكامن خلفه هو وعي شخصية ثلاثينية الآن، شهدته كجزء من طفولتها، وازدهر وخبا قبل أن تتجاوز هذه الذات منحنى طفولتها. إنه هنا الموقف العام، ليس للمؤلفة أوالسارد، بل للمؤلف الضمني  ــ وفق أدبيات السرد ــ ذلك الضمير الأشمل لكل عمل روائي، والذي يستحيل القبض عليه متجسداً رغم ذلك. ارتفعت البيوت بينما انخفض سطح الأرض بعد تجريفه. يالها من مفارقة!. هذا الانتقال سيشكل قطيعة ما مع التماهي بالطبيعة الذي أسلفت إليه، في الجيل التالي.
التصنيع، كأفق، يخلق قيماً نقيضة تماما، في مقدمتها بزوغ  الفردية مقابل انسحاب قيم الانضواء في سياق المجموع. غير أن ذلك، في سياق قرية  مثل تلك الحاضرة في "وراء الفردوس"، يظل جزءاً من مراوحة مربكة. نعم.. ثمة  فردية وسمت حياة من جاءوا في سياق المرحلة الجديدة، وخلقت توحدهم: سلمى، وجميلة، وخالد.. مقابل الجمعية التي اتسمت بها حياة سابقيهم.. حتى أن خالد عندما يشاهد إيذاء اخته سلمى على يد الشيخة في "الكُتَّاب"، لا يحرك ساكنا. الشيخة نفسها لم تكن تعاقب سلمى لسبب ديني في الملبس وحسب، بل لصعقتها القيمية في "فرد" يخالف قيم القطيع. رغم ذلك يظل الارتباك قائماً في سياق بقي نصف مديني نصف ريفي.
إن المكان ــ غير المسمى ــ يبقى إشكالية، كونه يظل ريفا يستعير  قيم التمدن من القرى والمدن المجاورة ، أو يحاول.  لقد دخل قيم التصنيع بشكل فوقي بينما ظل على مستوى  البنية التحتية غارقاً في قيم  الإقطاع. ربما يفسر ذلك سؤالاً لحوحاً: لماذا تم تنكير اسم القرية، بينما تم الإعلان عن أسماء كافة القرى والمراكز والمدن الأخرى المتعالقة بعالمها في الرواية؟.. من سنباط لبلبيس لميت دمسيس  وصولاً لطنطا والقاهرة؟. إن الاسم ــ حسب الرواية ـ هو الكائن نفسه. كائن بلا اسم هو كائن لم يحقق استقلاله في الوجود بعد.
القرية ليست بها مدرسة حتى هذه اللحظة، ولا كهرباء، ولا كنيسة ــ في إشارة لغياب التعددية الدينية ــ ولا أماكن للهو. قيم التصنيع أتت كبنية فوقية ناتئة، لم تنبع من قاع البنية التحتية، فحدث الصدع. نحن أمام شخصيات نصف ريفية نصف متمدنة. لقاء الريف بالمدينة لا يتحقق: مارجو ميشيل  تنفر من عايدة، رغم أنها قبطية مثلها. مصطفى يتزوج من قاهرية برجماتية  تأنف من زيارة البلدة.. حتى عندما يصمم بيتا  ريفياً يفشل في جعله متساوقا مع البيئة التي تضمه، ربما لو كان بيتا في القاهرة ما وقعت المشكلة.
 حتى  الوجود الواقعي في "وراء الفردوس"  يظل مشدوداً بقوة للعالم الأسطوري، المفارق في تفسيره للعالم. لقد خلق التحول إلى التصنيع ميثولوجيات جديدة  بدلاً من أن يزيح القديمة. هكذا ساد الاعتقاد بأنه لابد من قربان بشري لكل مصنع جديد، يكون كبش الفداء فيه أحد العاملين. بهذه الطريقة جرى تفسير ميتة "صابر" البشعة عندما حول " خلَّاط " المصنع جسده إلى كتلة من اللحم المفروم. التفسير المنطقي بقى غائباً. حتى " وابور المياه " الذي يمنح القرية كلها حياتها ووجودها " ذُبح له طفل صغير " حسبما تؤكد " رحمة "، جدة سلمى. ثمة إصرار على تحويل كل ما هو "وضعي" لـ" طبيعي ". تلك المؤاخاة، فقط، هي التي تسمح باستقباله، غير أنه يظل جسداً ناتئاً.. ويجب ألا ننسى أن التصنيع هنا جاء على حساب الوجود الطبيعي للأرض تحديداً.. وكأن القربان لابد من وجوده تكفيرا عن ذنب الانبتات عن الوجود الأصلي.
يبدو سؤال "العائلة" في القلب من ذلك العالم، جوهرياً في "وراء الفردوس".. مثلما كان في "متاهة مريم " وإن بتشكل آخر. الرواية تقدم محاولة عميقة لقراءة تاريخ عائلي. تقارب العائلة كقبيلة، ككيان قوي، كتمثيل رمزي للسلطة في شكلها العميق القار، وليس "الأسرة" في معناها المديني الضيق والهش. تبدو العائلة أقوى بكثير من حقيقتها بفعل وجودها الرمزي وتمثلها الغرائبي في بعض حناياه. الجد الغائب ــ في متاهة مريم ووراء الفردوس ــ  يبدو ذلك الإله غير المرئي، الحاضر طوال الوقت دون تمثل جسدي مرئي. بانتقال  العائلة من قيم الإقطاع إلى قيم التصنيع، يتفتت البيت، مركز السلطة الأحادي، إلى عدة بيوت. تتفتت الأحادية الأبوية الألوهية  إلى تعددية أبوية بشرية، لها بؤر، يحتل كل واحد في الأخوة الثلاثة الذكور: سميح، وجابر، ورشيد، واحدة منها.
لنلاحظ أن الرواية تقدم " سلمى " في أول سطر باسمها الثنائي: " سلمى رشيد "، وهي تقنية لم نتعودها في تقديم الشخصية الروائية، التي غالباً ما تبدأ وجودها باسمها المفرد. هذا تأكيد أولي على أن "الفرد" هنا ليس كل شيء، حتى لو حارب للحصول على فرديته تلك، ورغم كل التحولات السابقة التي حققت له قدراً من الانزياح عن الجماعة.
لنلاحظ أيضاً أن  عالم العائلة دائما يستعاد عبر وعي أحدث، وتلعب الشفاهية التي تنقل سيرته من جيل لجيل دور البطولة. عالم من التكهنات بحقيقته، تستعيده الذاكرة، محرفاً بالضرورة وغير مكتمل. هو هنا أيضا عالم ما قبل الكتابة، حتى أن ما يتركه الجد مكتوباً ضمن أوراقه، نكتشف أنها رموز تستعصي على الفهم. سميح ــ أكبر الأبناء ــ يتعلم القراءة خصيصاً ليتمكن من فهم ما كتبه الأب، غير أنه يفشل في النهاية. رغم ذلك يبدو قدر الكتابة محكوماً بالفشل، بدليل رواية " سلمى " التي لا تكتمل أبداً. الشفاهية تتيح التحريف، وإخفاء العورات، وتضخيم مناطق القوة. تتيح تاريخاً أقرب للمقدس، أكثر تماسكاً ونصوعاً من تحققه، أما الكتابة فلا.
في هذا السياق يجيء الحضور اللافت لعالم الحكايات الشعبية، الشفاهية، والقابلة للتحريف أيضاً حسب المغزي الذي يقصده منتجها.  إن الحكاية الشعبية ــ كخطاب ــ تتواشج مع عالم الرواية وتعمقه. الحكاية الشعبية من أقرب الأشياء التي تقرب الماثل من الخفي في المخيلة الجمعية، بل  إنها تغدوــ عند مجتمعات ما ــ أقرب للنصوص المقدسة. هي  تتحقق وفق منطق "المعقولية" وليس "المصداقية". في الحكاية الشعبية ثمة أشياء ملائمة تماما لسياق رواية مثل وراء الفردوس: انها نتاج الوعي الجمعي القابل للتحريف حسب كل راوي، وحسب موقعه الايديولوجي أو يقينه. هي على جانب آخر توائم السياقات غير المدينية أكثر، وتؤاخي بين الموجودات من طبيعة وأشياء وبشر. هذا نفسه عالم "وراء الفردوس". الكتابة تعارض الحكاية، عندما تحكي ثريا حكاية "كمونة" لسلمى، مبتورة، وتكملها المؤلفة في هامش.. تكملها في الحاضر بفعل الكتابة بعد أن عاشت في الماضي على هذا النحو شفاهة. إنها  الكتابة التي تكمل ماضي سلمى الشفاهي، أو تصححه وتضبطه إن شئنا الدقة، مثلما تحاول هي نفسها أن تفعل.  بل إن المؤلفة ذاتها أعادت كتابة الحكاية "بتصرف" ومن الذاكرة، كما تشير في هامش آخر.. كانها بدورها تكتب الحكاية التي تخصها في سياق خدمة السرد، وفق وجهة نظرها.. وكأنها محض محاولة من ضمن محاولات كثيرة محتملة.
تتحقق شخوص "وراء الفردوس" في ضوء غرائبي، غير أنه نابع بالأساس من داخلها. كل شخصية تحمل شذوذها الخاص، عنفها الكامن، وتناقضاتها الفادحة.على جانب آخر تحضر العلاقات المتشابكة بين الشخوص، مبنية في معمار شديد الإحكام.
   إن سلمى تتحقق روائياً في ظل  تناقض جوهري. هى "من ذلك النوع  من الناس المؤمنين بأن كل فعل إنساني لابد له من مبرر منطقي. لم تتعلم أن المبررات الحقيقية من الصعب الإمساك بها، حتى بالنسبة لصاحب الفعل نفسه ". هكذا يجري توصيفها بدقة صفحة 122، رغم أنها "عادت إلى بيت أبيها مدفوعة بحلم !"، مثلما نعرف مبكراً جداً، صفحة 10.
عالم سلمى الواقعي تديره في الحقيقة أحلامها العنيفة، بينما عالمها المتخيل ــ المتمثل في كتابة رواية ــ لا يتحقق لأنها تبحث عن مبررات منطقية له!.المفارقة فادحة في تلك الشخصية الروائية. إنها تقرأ الواقع بالوهم، وتطمح في قراءة الوهم بمبررات الواقع وشروطه. إنه فصام ما. فصام تعانيه سلمى أيضاً في علاقتها بنفسها، باعتبارها " جميلة " بالأساس.. جميلة التي سطت على اسمها الأصلي الذي كانت العائلة تنوى منحه لسلمى، قبل أن يجردها أبوها منه ببساطة بناء على طلب موظفة السجل المدنى. " جميلة صابر اللعنة التي سوف تسكنها من الآن إلى مالا نهاية ، أناها الأخرى التي انفصلت عنها، وقطعت علاقتها بها من دون ذرة تردد ". بشرى ــ أم جميلة ــ قبلت باسم "جميلة " بعد أن استخدمه أسيادها، ببساطة، رغم أنها رفضت بعد ذلك استخدام ملابس سلمى المستخدمة لجسد ابنتها.   إنها مفارقة أخرى.
 سلمى تتصل بالعالم عبر أحلامها، حتى أنها بعد موت أبيها "اعتادت أن تتواصل معه عبر الأحلام".
نظلة.. شخصية أخرى وثيقة الصلة بعالم الأحلام. إنها "المفسرة"، القادرة على كشف مغاليق أعتى الأحلام.. رغم ذلك ــ أوربما بسببه ــ تخفق في الواقع. تخرج من زيجة سريعة بجسد غير مخدوش. كان لابد ــ بشكل ما ــ أن تظل نظلة عذراء، مخلصة لعالم الأحلام وليس الواقع، لتظل قادرة على الاحتفاظ بموهبتها.
 سميح، بلا نسل. هل لذلك علاقة بمغادرته مبكراً لـ"البيت الكبير" واستقلاله بحياته؟ هل لأنه أدرك أنه بلا امتداد، وبالتالي ليس بحاجة للانضواء تحت كيان البيت أوالعائلة؟ لأنه أيقن أن حياته ستنتهي بموته؟ وأي اتساق مدهش بين افتقاده للامتداد، بموازاة افتقاده  للنسب المكتمل للأسرة؟ ذلك أنه ليس ابن "رحمة"، ليس أخاً شقيقاً لجابر ورشيد.
سميح يولع فجأة بتعلم القراءة والكتابة، ليتمكن من فك شفرات أوراق أبيه، التي شعر أنها رسالة مجهولة تخصه وحده.. بينما يترك رشيد "العلام" طواعية رغم نبوغه، مفضلاً الإنصات لنزقه.
بعد سنوات طويلة، ستفعل "هيام" ابنة رشيد الكبرى الشيء نفسه، ستترك الدراسة طواعية لتتزوج. ستكرر نزقه، لكن في اتجاه آخر.
 لنقترب من العلاقة المرسومة بدقة بين بشرى وابنتها، في علاقتيهما بجابر وابنه هشام في سيميترية متقنة: بشرى تمارس الجنس المحرم مع جابر مرة واحدة، لأنها ظنته شبحا.. بينما فعلت جميلة الشيء نفسه مع هشام لأنها أحبته. جابر وابنه يضاجعان بشرى وابنتها. في علاقة مبنية بهندسية فائقة، لكن شتان. بشرى تقبل بالزواج دون أن تسأل عن الحب، رغم أنها لا تخشى الفضيحة مثلا، وليست ثمة إشارة لتطلعها الطبقى مثلاً.. بينما ترفضه جميلة ــ التي فقدت عذريتها، ما يجعل موقفها أصعب، والمتطلعة في الوقت ذاته ــ  عندما تكتشف أن هشام لم يحبها. إنه التجلي المرسوم بعناية للمفارقة بين جيلين.
هناك حضور من نوع مختلف للشخصيات الغائبة، بفعل الموت أو الاختفاء، والتي تجمعها مشتركات جوهرية تبدومتعدية للاختلافات بينها.
"بدر الهبلة" شخصية ملفتة رغم حضورها الثانوي. تظهر وتختفي سريعاً. إنها صوت الجنون في هذا العالم، مرادف آخر للعالم الباطني، ولذلك هي مرادف آخر لـ"سلمي". هذا ما يجعل من المتساوق تماماً أن تنتهي الرواية بسلمى وهي تردد اسمها في غيبوبتها ــ بعد أن تعرضت لحادث سيارة ــ وأن "تنصت لصوت ارتطام جنزير قديم يكبل ساق بدر بدرجات سلم بيت العائلة وهي تصعده زاحفة".هذا الجنزير هو الذي كانت تجيء به بدر ــ التي يحبسها أبوها ويقيد جسدها في سرير  ــ ليحررها منه جابر في بيت العائلة. تستدعيه سلمى في نهاية الرواية، التي بدأت بها وهي  تنزل درجات سلم آخر، وتنتهي بها وهي تحاول التحرر من جنزير ما يعوق "صعودها" بالمعنى الرمزي لفكرتي التحقق والانعتاق. بدر أيضا كانت الوحيدة القادرة على معاملة "جابر" ــ العملي البراجماتي ــ ببساطة وإباحية، ليرد عليها ضاحكاً بنفس الطريقة.
الثاني هو "كرم" ، ابن "عوف" الصياد، الذي اختفى أيضاً مبكراً ــ لكن بفعل الموت غرقاً ــ.. وتكون "بدر " هي الموجودة لحظة البحث عن جسده عقب غرقه بلحظات، كأنما تضلل الناس عن جسده، كتوطئة لاختفائها هي القادم!.
ثم هناك  "لولا".. التي اختفت أيضا ــ بفعل الانتحار ــ بعد أن حملت سفاحاً.
إن حضور الشخصيات الغائبة يبدو فادحاً في هذه الرواية، وكلها شاذة عن سياقاتها، جميعها حالمة بمنطق ما: جنون بدر في عالم يفترض أنه عاقل، إصرار كرم على مواصلة تعليمه في سياق أسرة لا تقرأ ولا تكتب، إقامة لولا لعلاقة خارجة عن الأخلاق بالمنطق الاتفاقي. من يختلف، يُعاقب، يغيب.
جابر كان ذكياً عندما حول ولعه بـ"بشرى" لعلاقة اتفاقية، حتى وإن ضحى بزوجته الأولى "حكمت"، لذا ازدهرت أعماله. عاش طويلاً بينما مات "رشيد"، المختلف، الحالم بطريقته.
كذلك "رزق " القبطي  ــ الحرِّيق في مصنع الطوب ــ نجا عندما  قرر في لحظة أن يعود لموطنه في الصعيد، ليبحث عن زوج لابنته في بلدته. فرديته كـ"قبطي" جعلت منه شخصاً يعاقب  لاختلافه هو وأسرته طوال الوقت، وعودته للقطيع سيشكل له النجاة.
نجت "ثريا"  أيضاً من مصير اختها بالزواج الفوري، مثلما نجا أخوها مصطفى بالزواج من قاهرية.
توازيات وتعارضات عديدة تلتم عبرها علائق الشخصيات الروائية وخطاباتها، لتخلق في كل اختبار علاقة جديدة، ووجهاً قابلاً للتأويل.
   على جانب آخر، هناك تقنية حاضرة في تقديم الشخصيات في مواضع بعينها، تجعلها تبدو كما لو كانت تقدم للمرة الأولى روائياً. يؤكد الراوي  على تلك التقنية في غير موضع . التجهيل لما هومعلوم سلفاً يحيل لتأويل ملائم: أن الشخصيات في "وراء الفردوس" بحاجة طوال الوقت لأن تُعرَّف من جديد: "ينبعث ـ من وقت لآخر ـ اسم صابر في ذهن امرأة شابة تدعى جميلة" ص 38.."بعد ما يقرب من ربع قرن ستسير امرأة شابة في الأماكن والطرقات نفسها..... ستتذكر امرأة شابة متسربلة بملابس سوداء، تسحب بيدها الخشنة طفلة صغيرة.... تدمع عينا المرأة الأنيقة التي صارتها جميلة " "ص 51." لن تخبره أي شيء عن امرأة تدعى بشرى "ص  52." تقود نظلة الضيوف بهدوء للداخل كي يجلسوا في الصالون بعيدا عن المرأة غريبة الأطوار التي صارتها سلمى " ص73. تحضر هذه التقنية كأنما لتذكر مرة بعد أخرى أن ثمة لا اتفاق نهائي فيما يخص ما تم تدشينه سلفاً فيما يخص الشخوص، خاصة "سلمى" و"جميلة"، اللتين تبدو الذاكرة بالنسبة لهما محركاً أصيلاً في التعامل مع الحاضر.
جميلة تقدمت للأمام في الزمن، كأنما لتعود من حيث بدأت. انها تحضر دراسة عن الموالد القبطية، التي ارتبطت في ذكراها برحلتها مع أمها لبيع الجبن والبيض في الأسواق المصاحبة لهذه الموالد بالذات. كذلك تتقدم سلمى للأمام، مبتعدة بكل ما أوتيت من قوة عن البيت، لتعود إليه في النهاية، ولتكتب حياتها فيه تحديداً: "ذلك البيت الذي حاربت طويلاً كي تخرج منه مستقلة بحياتها، لكنها عادت بالفعل في النهاية، ورغم هذا ما يزال يطاردها في الأحلام".
في سياق ذلك، لا يُغفَل الجانب الطبقى أو المرجعية الاجتماعية للشخصيات، لكن ثمة انزياح عن رسم الشخصية وفق مرجعيتها التي من هذا النوع، والتي تجعلها محض ترجمة هشة ــ في ظني ــ لسياقها العام. ثمة موقف هنا من الشخصية الروائية، كامتداد للشخصية الإنسانية:  ما يحرك الشخصيات سؤال الوجود ــ حتى لدى الشخصيات البسيطة ثقافياً ــ وليس مشاكل مباشرة تخص الوضعية الاجتماعية مثلاً. وراء الفردوس تنجو من فخ اختصار الشخصية الروائية في مقولة أو تفسيرها وفق قانون حتمي.
المدى  الزمني  بين مشهدي الافتتاح والختام ــ اللذين تحتلهما سلمى ــ ربما لا يتسع في ذاته لسرد حيوات ممتدة، رغم ذلك يترى في محدوديته الزمن الأسع، الذي يبدأ قبل مجيء سلمى نفسها بعدة أجيال.
زمن "وراء الفردوس" متسع جداً، يستوعب حقباً عديدة مختلفة، وممتدة.. تشتبك معها الرواية بآليات عديدة، منها الاسترجاع الواضح "الفلاش باك" و"الكولاج" الذي يؤاخي أحياناً بين أكثر من زمن في مشهد سردي واحد.
يتحقق استحضار  الزمن عبر آليات عديدة ــ كما عند "بروست" في البحث عن الزمن المفقود ــ من خلال أشياء، أو روائح، أو حكايات قديمة تلقى شذراً.
دائما ما يتحقق الماضي المفارق عبر لحظة حاضرة ماثلة، يبدأ بها الفصل، أو المشهد،  لتبدأ معها عملية  الاسترجاع الزمني.. إن يوم الجمعة، الذي تعتبره رحمة يوم شوم ــ في الفصل الثالث من الرواية ــ يستدعى شبيهه الذي مات فيه كرم، ويستدعي معه عالما كاملا من حياة سلمى الطفلة وأقرانها، وعددا من الشخوص التي تظهر للمرة الأولى مثل "بدر الهبلة" وأبوها الحاج ابراهيم. كذلك يستدعي تملي شجرة البونسيانا في الفصل الخامس  حضور الجد عثمان والجدة رحمة ليتم استعراض تاريخهما كله. وعربة النقل المهملة في الفصل السابع تستدعي قدرا كبيرة من حياة العم سميح، كذلك المطعم النيلي في الفصل الأخير الذي تستدعي عبره سلمى مشهداً مختلفاً من تاريخها  الأسري، في نزهة. إنه الحضور الذي يستدعي الغياب، وينتهي باستحضاره ليصير وجوده أكثر حضوراً وكثافة من الماثل نفسه.
إن مشاهد وأحداث   "وراء الفردوس" تبدو مثل مزق التمت على مهل، وبدقة، بما يجعل من كل قطعة فيها كيانا لا يمكن الاستغناء عنه في سياق الحبكة الكلية  المرسومة بعناية، وبما يزيح الزائد عن الحاجة في إطار الحكاية مهما كانت أهميته في ذاته. ليست هناك قطعة مكتملة، فكل منها  تحمل من الثقوب والفجوات قدر ما تحمل من المناطق المتماسكة والمرتقة. غير أنها معاً تشكل اللبنات والمشاهد الجوهرية والمحورية في النص.  إنه عالم التأمت بقاياه بدأب، لتنتج صورة مشدودة بعيداً عن أصلها الذي قد يكون عامراً بالترهلات. ثمة العديد من القفزات الزمنية، ووقائع يسبق وجودها في زمن السرد وقائع وأحداثاً أخرى رغم أنها تالية لها في التعاقب الواقعي المفترض.الرواية لم تلتزم التتالي الخطي، استبعدت الزمن في أفقيته، خالقةً فلسفة أخرى للتجاور بين العلاقات. العلاقات هنا مكانية ــ بالمعنى الشعري ــ الذي يعيد تشكيل الدلالة وفق قانون العلاقات بين الأحداث والشخصيات، من توازيات وتقابلات وتعارضات، وليس وفق قانون التصاعد الزمني. هذه الخلخلة الزمنية للتماسك الأصلي للحكاية، ولبنيتها الكرونولوجية التعاقبية  تعيدنا لسؤال السارد أو الراوي.كان يمكن للسارد أن يكتفي بمشهد البداية ـ الحاضر ـ ليشتغل على الاسترجاع مرة واحدة ، خاصة وأنه يملك الصلاحيات التي تؤهله لذلك.. غير أنه فضل "محاكاة" الوعي المركزي في الرواية ــ وعي سلمي ــ كأنه يتحرك عبره، يحاكيه لكن بحرفية أكبر، ممارساً سلطته في قراءته والاشتغال عليه بفنية. ثمة " إطار " ، حكاية كبرى، تتخلق عبرها حكايات أصغر. سلمى تكتب كي لا تموت ــ في تناص ما مع ألف ليلة وليلة ــ وقبل تعرضها للحادث الذي كاد يودي بحياتها، مباشرة، تمنح ما كتبت ل"جميلة ".. كأنها القاريء الوحيد الذي تطمح في أن يطلع على ما فعلت.
انتهت رواية سلمى عند "جميلة". لم تدفع بها لناشر. لم تقرأها لطبيبتها النفسية التي اقترحت عليها فكرة الكتابة برمتها. لم تفكر في إرسالها لزوجها "ظيا" الذي فارقها، وربما كان أحوج لقراءة ما يفسر له إحباطه حيال علاقته بها. ذهبت لقارئة وحيدة، كأنها كتبت من أجلها فقط.
إنه فضاء عامر بالأسئلة، يتحقق في نهاية "وراء الفردوس". أسلمت سلمى ما كتبت لمستحقه، قبل أن تتعرض لحادث كان يمكن أن يودي بحياتها. كأن روايتها  تحولت لـ"وصية" ما. كأن اكتمال الكتابة جعل الموت قريباً، وكأن الحياة  ــ كشفاهة ــ ماتت  بتحققها الموازي كحياة مكتوبة.

عن مجلة الثقافة الجديدة

شبح أنطون تشيخوف: في مديح الهُجنة والالتباس


منصورة عز الدين

في مجموعته القصصية الثالثة «شبح أنطون تشيخوف» يخلق الكاتب المصري محمد عبد النبي أسلافه وفقاً للمعنى البورخيسي. بدايةً من العنوان يحيلنا الكاتب إلى أنطون تشيخوف أهم الآباء المؤسسين لفن القصة القصيرة، عنوان المجموعة هو عنوان القصة الأخيرة فيها، وهي معارضة قصصية لقصة «البدين والنحيف» للكاتب الروسي الشهير. هذه المعارضة تعد المفتاح الأول لمحاولة فهم العمل ككل، ولفهم علاقة الكاتب بأسلافه، وهي علاقة مراوغة لعوب تحمل من المكر والمخالفة أكثر مما تحمل من الطاعة والامتثال.
يأتي أنطون تشيخوف كشبح، بكل ما تحمله كلمة شبح من معانٍ متعددة. هو شبح الأب أكثر منه الأب ذاته، شبح من أشباح الماضي المسيطرة على شخوص المجموعة رغم محاولاتهم المتنوعة للفكاك من أسرها، رغم محاولاتهم للنسيان مستعينين بالنار «سنحاول أن ننساه وستساعدنا النار على ذلك»! فالنار كما تظهر في أولى قصص المجموعة المعنونة بـ«يناير» (القسم الأول يضم 12 قصة تحمل أسماء الشهور) تبدو كشيء سحري وسري يربط مجموعة الأصدقاء المتحلقين حولها متأملين فيها. للنار هنا وظائف متعددة أهمها الإمتاع. «نعرف نحن أن التحديق في النار أمتع من الذهاب للسينما ومن قراءة الروايات، لأننا نختلق بأنفسنا الصور التي نشاهدها، ونرتجل لحظة بلحظة النص الذي نقرأه. بالطبع كان النص المرتجل، شأنه شأن مشاهد الفيلم المتخيل، يتبدد ما إن يظهر، وهذا نفسه سر روعة هذه العادة».
هكذا، وربما من دون أن يقصد، يقدم عبد النبي لقارئه «وصفاً» مناسباً لقصصه، فقراءتها أشبه بالتحديق في نار مبهمة وغامضة، وعبر هذا التحديق يختلق القارئ تأويلات وصوراً مرتجلة، أي أنه يشارك في ارتجال تأويل مناسب للنص الذي يقرأه، في حين يقف الكاتب بعيداً مستمتعاً باللعب متظاهراً بالبراءة التامة، لأن ظاهر النص، إذا اكتفى القارئ به، لن يجعله يشك في غموض ما، أو شيطنة مختفية وراءه. بل ربما يمدح بساطة الكاتب و«التزامه» بكلاسيكية تناسب خلفاً مطيعاً لأسلاف في حجم محفوظ وتشيخوف.
التأويلات المرتجلة التي يخرج بها القراء المتشككون في الظاهر والباحثون عما وراءه، تشبه هي الأخرى «نصوص النار» تتبدد ما أن تظهر تاركة أصحابها في سديم اللايقين، كأن «المسألة كلها أوهام في أوهام». فالبدين حين لا يتذكره «صديقه» النحيل في قصة «شبح أنطون تشيخوف»، يغمز له بأنه ليس عليه بالضرورة أن يتذكره فعلياً، وليس بالضرورة أن يكونا صديقين من الأساس، يمكنهما فقط إدّعاء ذلك وتلفيقه، أي عليهما الاستسلام لغواية اللعب والتظاهر والإيهام.
هذا التواطؤ الذي يتوقعه البدين من النحيل، هو نفسه التواطؤ الذي ينتظره عبد النبي من قرائه، وهو تواطؤ ضروري لفك الشيفرات المبثوثة بعناية بين ثنايا النصوص. لذا من الطبيعي أن يتساءل النحيل قرب نهاية القصة، إذ يجد نفسه مهجوراً في عراء الشك والأسئلة: «ماذا لو كان البدين يسخر منه، ويتلاعب به؟ هل وقع هو أيضاً ضحية بهلوان أفاق؟ كيف انطلت عليه كذبة حقيرة وتافهة كتلك؟».
وهي أسئلة مشروعة إذا طرحها القارئ، حين يكتشف مع السطور الأخيرة لقصة «شبح أنطون تشيخوف» أنه وقع، على امتداد قصص المجموعة، ضحية سارد أفاق ومضلل متخفٍ في ثياب آخر بسيط ومباشر يحكي بألفة خادعة تقترب من الحكي الشفاهي.
أهم «خدع» المجموعة، الصادرة عن دار فكرة، هو هذا الاستدعاء المراوغ لتشيخوف، فباستثناء تسمية البطلين بالبدين والنحيل، والإشارة في الهامش إلى أن القصة معارضة قصصية لقصة الكاتب الروسي، سيكون من الصعب على القارئ أن يجد ما يربط بين القصتين، في قصته يحكي تشيكوف عن صديقين حقيقيين (موثوق في صداقتهما) يتقابلان بعد سنوات من الفراق بالصدفة في محطة سكة حديد نيقولاي، صديقين يتذكر أحدهما الآخر تماماً وبلا مشقة، ويتعاملان بألفة إلى أن يكتشف النحيف أن صديقه البدين قد أصبح مستشاراً سرياً رفيع المستوى في حين ما يزال هو محكم هيئة، فترتفع الحواجز تلقائياً بين الصديقين، ويبالغ النحيف في معاملة صديقه بتكلف واحترام تضيع معهما الألفة والحميمية.
أما محمد عبد النبي، إذ يعارض قصة المعلم الروسي، نراه ينقل بطليه، المختلفين عن بطليّ تشيخوف، إلى غرفة انتظار بإحدى العيادات، بادئاً من الشك منذ الكلمة الأولى: «أغلب الظن أنهما التقيا في غرفة الانتظار بإحدى العيادات». الراوي هنا غير متيقن من شيء، والبطل النحيل، إذ يذكره البدين بصداقة قديمة وتاريخ مفترض بينهما، يبدو غارقاً في النسيان، لا يتذكر أي شيء عن هذا «الصديق» المتلاعب به، وسرعان ما يخرج من النسيان إلى الشك حين يمرر له البدين في حوارهما المشترك إشارات خفية تحيل إلى أن المسألة قد تكون ملفقة، ولا تعدو كونها لعبة يلعبانها معاً.
على عكس العالم الواضح المعالم والبالغ اليقينية في قصة تشيخوف، نجد العالم بأكمله مشكوكاً فيه ومفبركاً في قصة عبد النبي، الصداقة قد تكون ملفقة، والمسألة كلها «وهم في وهم»، بل إن القصة بأكملها قد تكون مجرد خدعة، وإلا كيف يبدأها الراوي بجملة «أغلب الظن أنهما التقيا في غرفة الانتظار بإحدى العيادات» ثم يبني ما يلي ذلك من أحداث على هذا الافتراض المشكوك فيه؟!

في مواجهة أشباح الماضي

البدين، هنا، يظهر كأحد أشباح الماضي، وأشباح الماضي كما ذكرنا من بين الأفكار المركزية للقصص، هي أشباح مهدِدة مخيفة طوال الوقت. «صارت أشباح الماضي تترصد حتى الفنانين، أتقى عشاق للحياة والمباهج». الفنانة التشكيلية أرملة الشاعر في قصة «يونيو» تعيش في ظل شبحه الذي وضع حدوداً واضحة بينها وبين أصدقائه، حدوداً لم تكن موجودة أثناء حياته. وحنان في قصة «يوليو» تعيش علاقة جدلية مع شبح أمها المتوفاة، في لحظة زوال الحب بينها وبين زوجها أحمد. هي التي عاشت خائفة من أن تصير كأمها، ترهل جسدها واخشوشن صوتها وصارت أخرى أقرب لصورة الأم. «أنا الآن أمي، وما العيب في ذلك؟».
وفي قصة «أغسطس» يحضر ضيف ثقيل من طفولة الراوي لزيارته، فيفتح باباً لكل أشباح الماضي التي يحاول طردها دونما جدوى.
المجموعة إذاً، في وجه من وجوهها، محاولة لصرف أشباح الماضي والتحرر منها، وهي إذ تسعى لذلك، فإنها تقوم وعلى نحو مفارق باستدعاء أشباح أسلاف الكتابة - ممثليّن في تشيخوف ومحفوظ - للعب معهم و(خيانتهم؟). وإذا كان تشيخوف يحضر بشكل واضح ومباشر بداية من العنوان، فإن محفوظ يظهر بشكل مراوغ بين السطور، يمكن تلمس حضوره مثلاً في لغة السرد في بعض المواضع، حيث نجد جملاً كأنها خارجة من عمل لمحفوظ «كل آت قريب، عهدي بك أقوى من ذلك»، كما يحيل الكاتب إليه في معرض وصفه للرسامة «ما زالت لها السمرة الحارة، السمرة المذهبة. سمرة المغيب الرائقة التي يحب نجيب محفوظ أن يشير إليها كثيراً في رواياته، معه الحق، ما أندر السمرة الرائقة يا عم محفوظ». غيرأن التقاطع الأوضح مع صاحب «الحرافيش» يظهر في قصة «ديسمبر» حيث يخطف «الفتوة» الصحافية الثورية مصطحباً إياها في عربة تجرها الخيول إلى الحسينية، في رحلة عبر المدينة وعبر الزمن في الوقت عينه، إذ تجد الصحافية نفسها في النهاية ترقص مرتدية بذلة رقص قديمة الطراز وفوق رأسها شمعدان مذهب، وحولها حلقة من رجال بالأبيض والأسود، «شواربهم مبرومة ومعاطفهم داكنة واقفين وفي يد كل منهم عود خيزران».

وما إن يطمئن القارئ لإمساكه بخيط هذا اللعب مع عوالم محفوظ، حتى يعود المؤلف لهوايته الأثيرة «ومجونه» الفني، إذ في هذه اللحظة بالذات، يتمرد على دقة محفوظ وانضباطه الأسلوبيين، ويغرق - مستسلماً لغواية اللعب - في تكرار مفردات جمع المؤنث السالم على امتداد صفحتين كاملتين: «كلا، لا أرغب في التحول إلى واحدة منهن، مع كل احترامي للعاهرات الداعرات الساقطات الفاجرات الفاسقات المشتهيات الرخيصات................».
فاللغة هنا، في نهاية الأمر «ذات نيات ومقاصد تختلف عن نيات ومقاصد محفوظ، فأنا لا أعرف أين أذهب باللغة في أحيان كثيرة، ومن أسعد لحظات حياتي حين ظللت أتداعى بمفردات جمع المؤنث السالم (قصة ديسمبر) وكأنني كمبيوتر أصابه العطب، أو كأن جهازي اللغوي لم يعد وظيفياً أو أدائياً براجماتياً، بل جمالياً ولعوباً، ولنقلها صراحة: متهتكاً ومستهتراً». يقول عبد النبي.

الأنوثة والذكورة وما بينهما من أطياف

إلى جانب العلاقة الجدلية مع الماضي وأشباحه والأسلاف وأثرهم، ثمة خيط آخر لا تخطئه العين يربط بين نصوص المجموعة، ويسيطر على لا وعي السرد، إن جاز لنا استخدام هذا التعبير، وأقصد به الانحياز للمناطق البينية بين الأنوثة والذكورة، واللعب على الأطياف والظلال بين هذين القطبين. «الأنوثة» هنا، هي في الأغلب أنوثة افتراضية، مشكوك فيها. و«الذكورة» هي ذكورة خائفة مهدَدة تخشى الاغتصاب كما في قصة «يناير»: «هل كنت حقاً تخاف أن نغتصبك ذات ليلة أم تتمنى هذا ولا تدري كيف تصرح لنفسك به؟». وحتى حين يظهر النموذج الذكوري التقليدي والخشن ممثلاً في الفتوة / المعلم (قصة ديسمبر) فإنه يتلاشى فجأة أو ينتهي به الأمر وجرمه الهائل «مكوم على السجادة بلا حراك».
الانحياز للمناطق الملتبسة بين الذكورة والأنوثة يتضح أكثر ما يتضح في قصص: «مارس»، «سبتمبر»، و«أكتوبر».
في الأولى نجد أنفسنا أمام شاب ناعم الملامح الذي «لو رآه كفافيس لانعقد لسانه ولما كتب سطراً واحداً يشي بطلعته البهية»، والذي فشل «في العمل كما يعمل الرجال، وفي الحب كما يحب الرجال». هذا الشاب الناعم هو ضحية أم أجمل من اللازم وأكثر قسوة من اللازم أيضاً، يجلس مأزوماً في البار محاولاً التخلص من «شبحها»، (ها قد عدنا لأشباح الماضي مرة أخرى).
وفي قصة «أكتوبر» نقابل أزميرالدا الرفيقة المؤقتة في مؤتمر ما. وهي كائن بيني بامتياز. كانت ببساطة شيئا آخر. «لا بنتاً تربك الرجال ولا شاباً يغوي البنات. كانت امرأة ما (......) امرأة قد تتجنبها البنات، عندما يشعرن بالحفاوة الزائدة التي تخصهن بها، وتصدم هي الرجال، برفضها محاولات التقرب في استهانة. أدرك الآن، أننا معاً، كنا شيئاً آخر».
أما قصة «سبتمبر» فإنها تمثيل للهُجنة في أعلى مستوياتها، فتقنياً، يقع النص على تخوم الأنواع الأدبية، إذ يمكن النظر إليه باعتباره نصاً مسرحياً (النص بأكمله عبارة عن حوار بين شخصين)، كما يمكن اعتباره نصاً قصصياً، أو حتى تمثيلية إذاعية. ومضمونياً نجد تبادل الأدوار بين «الأنوثة» و«الذكورة» في أوضح صوره، تبدأ القصة بصحافي يجلس مع رجل آخر انتظاراً لـ رجل/ سيدة (على الأغلب ترانس) رغبةً في إجراء حوار صحافي معه/ معها. يطلب منه الرجل أن يخاطبها حينما تأتي بصيغة المؤنث ويبدأ في سرد سيرتها، ثم يعرض على الصحافي المساعدة طالباً منه أن يخاطبه على أنه هي، كي يدربه على الحديث معها. وفجأة تنقلب اللعبة إلى «حقيقة»، إذ يتقمص الرجل شخصية «الأنثى» بالفعل، ويثور على الصحافي حين يخاطبه كرجل، ووسط ضباب المشهد الدائر أمامنا، نجد أنفسنا في حيرة الصحافي نفسها، لا نعرف هل «الرجل» أمامه هو «الترانس» بالفعل، أم أنه يسخر منه ويتلاعب به، كما تلاعب البدين بالنحيل في قصة «شبح أنطون تشيكوف»؟
وبهذا يوجه محمد عبد النبي ضربته الموفقة ضد أسطورة النقاء، وضد المعنى الوحيد، الواضح، والمحدد بألف لام التعريف. كل قصة تقدم اقتراحاً ما، هو في النهاية مجرد اقتراح يقع في المناطق البينية والملتبسة، وكل قارئ يمكنه أن يخرج بتأويل ما، هو في النهاية مجرد تأويل ضمن تأويلات متعددة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن جريدة السفير اللبنانية

وراء الفردوس: الريف والتغيرات الإجتماعية متكأ لتقنية السرد الحديثة


إبراهيم فرغلي

لا يستهويني كثيرا الأدب الذي يتناول الريف، ربما لإحساسي أن الرواية هي ابنة المدينة، ووثيقة التعبير الفني المرتبط بالمدنية. لكن، على الرغم من أن رواية منصورة عز الدين الجديدة، "وراء الفردوس"، الصادرة أخيرا عن "دار العين للنشر" في القاهرة، تتناول عالم الريف، فإنها منذ سطورها الأولى قد خلّصتني من مخاوفي، أولا لأن الطبقة المعبَّر عنها في النص، كطبقة وسطى عليا في الريف، لم يتم تناولها كثيرا من قبل، وتاليا لاعتمادها على نسق سردي كانت اختارته في مجموعتها الأولى، "ضوء مهتز"، سجلت به صوتها الخاص، ورؤيتها للكتابة. لكن ذلك النسق لم يستمر طويلا في النص، فقد استبدلته بتقنيات جديدة مزجت فيها بين التداعي الحر للذاكرة، والأحلام، والحدوتة الشعبية، والسرد، والمشاهد المرسومة ببراعة.
عندما انتهيت من القراءة الأولى، أحسست أنني في إزاء لوحة نسيج ملونة غزلت الكاتبة تفاصيلها الدقيقة بدأب وجدية. كنت أحاول أن أتأمل ملامح وجوه أفراد عديدين يمثلون ثلاثة اجيال، بدءا من الجدة رحمة التي توثق لنشأة الجيل الأول منذ الأربعينات وصولا الى الحفيدة الراوية سلمى، وصديقتها أو أناها الثانية، أو قرينتها جميلة. لم يتسن لي ذلك بسهولة بسبب تعدد الأسماء، وخصوصا أن الرواية تعبر بين الأزمنة والأجيال، ذهابا وإيابا. لكني مع القراءة الثانية كنت قد رسمت المعالم العائلية لهذه الأجيال بوضوح، أما الملامح فقد لا ترسخ في المخيلة، على رغم تكرار ظهورها جميعا، عبر وقائع متباينة، قدر ما تنحفر ملامح شخصيتين مركزيتين، مع أن الإشارة إليهما تكاد تكون عابرة: لولاّ، التي أحرقت نفسها لإصرارها على إخفاء اسم عشيقها الذي حملت منه وغاب، ولتجنيب عائلتها فضيحة تلوّث شرفها. وبدر المجنونة والمربوطة بالسلاسل، والتي ما إن تمشي حتى يُسمَع صوت القيود التي قيّدها بها أبوها.
بدر، كانت محلا لسخرية الأطفال، وشفقة الرجال، وبينهم جابر عم الراوية سلمى رشيد، وزوج أم قرينتها جميلة التي توفى ابوها الحقيقي صابر، الذي كان يعمل في مصنع الطوب لدى العائلة، قبل أن يقع ضحية "المعجنة الآلية"، ممزق الجسد متناثر الأشلاء.
كانت بدر تحب جابر وتداعبه بسخرية، وتنادي عليه ليفك وثاقها الحديد. على رغم جنونها قررت، بإباء، أن تغادر القرية وتختفي غضباً، بسبب حبيبها الذي طلّق زوجته حكمت ليتزوج من أم جميلة، لا ليتزوجها هي. رحلت بدر وبقيت أسطورة في خيال الأطفال، وأهل البلدة ايضا، بل وفي خيال الراوية سلمى التي كانت في أعماقها تخشى أن تقع يوما في براثن الجنون.
أما لولاّ المسكوت عنها وعن ذكر اسمها في العائلة، كأنها رجس يجب اجتنابه، فلا تحضر إلا كطيف. هي مثار لفضول الجيل الثالث، سلمى خصوصا، التي لم تعرف حقيقة ما حدث لها إلا من خلال أوراق ابيها رشيد بعد وفاته. تحتفظ بصورتها، من بين أوراق اخرى كثيرة قررت أن تحرقها، مع صندوق الذكريات الذي جعله أبوها في حيازتها. هكذا تنجو ذكراها، كما يليق بعاشقة وفية مثلها.
كان غياب الشخصيتين مثارا لشائعات وتندرات وأساطير تكشف عن التراث الأخلاقي للريف المصري، وهذا ما تناولته عز الدين ببراعة، في هاتين الشخصيتين، وعلى هامش التاريخ الشخصي للعديد من الشخصيات الأخرى في النص. وإذا كان مستوى الوعي من ذاكرة سلمى يوضح أزمتها في علاقتها بتراثها الشخصي، وفي بحثها عن نفسها، فإن مستوى اللاوعي، ممثلا في أحلامها، يجسد مخاوفها من الجنون، ويعبّر عن رغبة مطمورة في أعماقها لاستعادة ذاتها مجسّدةً في نصفها الثاني جميلة، حيث تتقاطع مصائر حياة كل منهما بشكل درامي. فهي ترغب في قتلها في الحلم، لكنها لا تفهم هل يعني ذلك عقاباً لجميلة على نأيها عنها، واختيارها طريقاً مختلفة، أم تعبيراً عن العلاقة الملتبسة بين الحب والكراهية، التي تجمع بينهما. أو لعلها تعبّر في لاوعيها عن رغبتها في ان تصل إلى حيث تريد ان تعيش في فردوس ملون، لا ترى فيه سوى ألوان الطيف.
تلعب الأحلام دورا جوهريا، وهي سمة في اعمال منصورة عز الدين بشكل عام. غير أنها في هذه الرواية تجنح الى الكابوسية أكثر بكثير، بديلا من التناقضات الصارخة التي كانت الكاتبة تضفي عليها، في عمليها السابقين، لمسة من المرح الساخر. تعبّر هنا عن لاوعي مراوغ للراوية سلمى رشيد، وعن إلغاز لما تريد النفس أن تقوله. تلجأ الى اللاوعي الذي يعدّ فقيرا، لأنه لا يمتلك سوى تجميع الصور من أزمنة شتى. فلا يزيد الأمر إلا إلغازا، كما هو شأن الحلم الذي تماهت فيه الراوية مع صورة والدها، فلم يعد واضحا هل هو تعبير أوديبي، أم أن له مغزى آخر.
على كل حال، فإن الأحلام تكفي لإيضاح ان لدى اللاوعي من الدهاء وسعة الحيلة ما لدى رئيس طهاة كسول، مستبدلا أحد التوابل بآخر ليس موجوداً لديه، فيمزج أشد المكونات اختلافا ليصنع يخنة خرقاء، مثلما يعتمد حلمٌ بصورة انتهازية على "بقايا النهار" فيخلط وقائع حصلت خلال الشمس او احاسيس تم الشعور بها اثناء النوم مع صور مستلة من عمق طفولتنا.
تبدو منصورة عز الدين مدركة لذلك تماما، لكنها تجعل من الأحلام متكأ للمسة الغرائبية التي تجدل بها النص من جهة، وتجعل الراوية مهتمة من جهة أخرى بمحاولة فك شفرات تلك الأحلام عبر التفسيرات التي شاعت في التراث العربي، لتكشف بين آن وآخر، لغزا حلميا، وتفك شفرات غرائبيته، بما تجود به التفاسير، وأهمها حلم فقدان الناب التي أدركت منها أنها ترغب في التخلص الكامل، وربما القطيعة مع إرثها العائلي، من الحياة والذكرى، من دون أن تعرف ان هذا القرار ستقابله مخاوف أخرى، تعيش في لاوعيها، وأقوى هذه المخاوف هاجس الجنون.
على عكس الشائع في كتابة التسعينات، يتناول النص عددا من القضايا التي تصور عز الدين تفاصيلها وانعكاساتها على المجتمع الريفي اجتماعيا واقتصاديا في ثمانينات القرن الماضي، وهي قضية تجريف الأراضي، وما استتبعه من تحول صناعي، استلزم تجرد الفلاحين من تربة أراضيهم بإرادتهم، تحت ضغط الجشع، والرغبة في الثراء، حتى لو كان على حساب الأرض التي يمتلكونها وقدراتها الإنتاجية المستقبلية، بكل دلالات ذلك من تغير في القيم، وفي الطريقة التي دمر بها رأس المال الجديد الاقتصاد الزراعي.
يبدو جليا الجهد البحثي الذي بذلته الكاتبة في هذا الصدد، وفي تسمية الأشياء بأسمائها، وخصوصاً النباتات والأشجار والطيور والكائنات، التي يفيض بها الريف، وترتبط في الكثير من الأحيان بالتراث الشعبي والمعتقد، وهذا ما نثرته الروائية ببراعة في ثنايا النص، حيث الأشباح والعفاريت والمعتقدات المرتبطة بالتشاؤم من الغربان والخوف من انتقام الأفاعي، إضافة إلى تراث الحكي الشعبي الذي قدمت فيه لمستها الخاصة من خلال حكاية الطفلة كمونة التي خطفها عملاق، وخبأها في جيب معطفه وانطلق.
هذا الجانب المعرفي لا يخص المؤلفة فقط، وإنما يدلل على النص الذي كتبته سلمى، وأرادت به أن تستعيد ذاتها وذكرياتها. كانت تعتقد أن أحد أبرز مظاهر التحضر، أن تذكر الأشياء باسمائها، وهو أحد دوافعها الى التغير، من بين دوافع أخرى، ربما أحدها، تعلقها بحب شخص ينتمي الى ثقافة غربية، هو ضيا البريطاني من أصول باكستانية، لا لتصبح محررة قصص أدبية في إحدى الصحف فحسب، وإنما لتقترب من النموذجين الأقرب الى وجدانها وتطلعاتها: جميلة ومارغو.
صحيح ان سلمى وجميلة، بتفاصيل حياتهما المتناقضة والمشتركة والمتنافرة أيضا، اقتسمتا، حتى رجلا واحدا هو هشام، ابن عم سلمى، لكنهما تجسدان نموذجين للفتيات المتطلعات الى الخروج على أعراف القبيلة الريفية، من وحي وعي طبقي وثقافة مختلفة، وتكمل كل منهما الأخرى، ربما، بينما تظل بدر ولولاّ النموذجين الأكثر تمردا لأنهما تمردتا على تلك الأعراف وهما تنتميان إلى عمق تلك الثقافة الريفية المتحفظة ذاتها، وهذا مكمن قوتهما الرمزية على رغم أنهما معا لم تحتلا مساحة كبيرة السرد مقارنةً ببقية أبطال هذا النص.
"وراء الفردوس" رواية جديدة، عميقة، ومعرفية، تؤكد سعي جيل التسعينات للبحث عن شخصية خاصة على مستويي الأسلوب والبناء، فيما تأتي الموضوعات متكأ للتعبير عن تلك الأنساق التعبيرية الجديدة، وهذا احد مكامن قوة هذا النص الجميل.
سبق لمنصورة عز الدين إصدار مجموعة قصصية بعنوان "ضوء مهتز"، ورواية "متاهة مريم".

عن جريدة النهار اللبنانية

"نحو الجنون".. كيف تصنع كابوساً محكماً


حسن عبد الموجود

بالتأكيد هناك تيمات تتكرر في أعمال منصورة عزالدين، الجنون، الوحدة، الفقد، المتاهة، وغيرها مما يشكل الخيط القوي الذي يربط أعمالها، ويشكل عقدها الإبداعي الذي يزينه عملها الأهم "وراء الفردوس"، وفي الوقت ذاته يبدو كل عمل لها قائماً بذاته، بعوالمه، بشخوصه، والأهم بلغته، واللغة في مجموعتها الجديدة "نحو الجنون" الصادرة عن دار "ميريت" تناسب رحلة في متاهة جديدة، متاهة الإنسان المعاصر، المحاط بالخوف، والمطارد، حتى، من أفكاره. مجموعة قصص تشكل كابوساً مرعباً وممتداً في مدن غريبة.

في فيسبادن تستعيد البطلة قصة "خاكوبو". لقد حاول شبح امرأة إنجليزية تشبه خلد الماء أن يحذره من المصير المحتوم داخل المطعم البلقاني الخاوي وانتهى بهما الأمر إلى أن يصيرا معاً شبحين ينتظران في ليالي المطر. في تلك المدينة وجدت نفسها فجأة تدخل من دهليز إلى آخر، "غابة الممرات" بتعبير منصورة، وإمعاناً في الكابوسية يبدو صوت وقع الحذاء على الأرضية المعدنية قريباً من موسيقى تصويرية لفيلم رعب شديد الإحكام، ومن الدهاليز إلى اللامكان، ثم في مواجهة باب حديدي صدأ ومنه إلى المدينة الأم. ستجد نفسها في مواجهة جيش من رجال الشرطة، وهي تحتج بجملة واحدة ويغطون هم في ترقبهم الحذر. تركض فتنهار حوائط قديمة "كأنها بطلة في لعبة كومبيوتر". تشبيه يناسب حتى تغيُّر ملابس البطلة من مستوى إلى مستوى ومن مرحلة إلى أخرى، فمن فستان ملون وحذاء بكعب قصير، إلى سروال جينز ضيق وسترة جلدية بنية اللون وحذاء رياضي، ثم حافية تسير في محيط شاسع من الرمال الملتهبة، ثم فوق أرصفة متكسرة، فتاة ينهمر الرصاص فوق رأسها، وأخيراً تشاهد نفسها "تسير تحت مطر خفيف في مدينة غريبة مع شخص لا تعرفه وإن بدا كـخاكوبو كما تخيلته". هل تماهت البطلة مع شبح المرأة الإنجليزية؟ أم أنها هي ذاتها تلك المرأة؟

لقد انتهت قصة "مطر خفيف" من حيث بدأت، وهذه سمة أخرى لكتابة منصورة القصصية، وأقصد الدائرية، التي تناسب فكرة المتاهة، وهو ما تكرر أيضاً في قصة "ليل قوطي"، ففي المدينة الجديدة تبدو مشكلة البطلة تلك المرة، في العملاق ذي المعطف الأسود وصاحب السحنة المتجهمة الذي يسير بخطى ثقيلة، فهذا العملاق حينما يشير بسبابته إلى أحد الأشخاص يختفي من الوجود. لست معنياً بسرد تاريخ العملاق، ولا قصة فقده لبصره في المدينة التي لا تعرف الليل، ولا في الأشخاص الثانويين الذين يأتي السرد عليهم، وإنما في دائرية النص. لقد انتهى بتلك الجملة "أسمع وقع صاخب لخطوات ثقيلة كأنما تصدر عني". أسأل أيضاً.. أليست الخطوات الثقيلة للعملاق؟ هل حل في البطلة الجديدة كما حلت المرأة الشبح في بطلة القصة السابقة؟ بالتأكيد هناك قصدية كبيرة في هذا. البطلة أيضاً في القصة التالية "مارين" ستبصر نفسها في وجه الشخصية التي تحمل اسم القصة "لم تستغرق التفاتها إلا ثواني معدودات لكنها كانت كافية كي أبصر في وجه مارين الشاحب قلقي وفي تعبها خوفي وإرهاقي". في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها "نحو الجنون" يبدو الأمر أكبر من الحلول في شخصية واحدة. الجارات يشبهن مرايات للبطلة. أنت لن تصدق شيئاً في كل الأحوال، والبطلة أيضاً في دفاعها عن نفسها ستدفعك إلى عدم تصديقها. لقد قالت إنها تعيش بمفردها بلا زوج أو أبناء، قبل أن تؤكد لإحدى الجارات أنها تعيش مع ابنتها. الجارة "غريبة الأطوار" تنشر ملابس أبنائها بانتظام، وتعنفهم بشدة. البطلة لم تر هؤلاء الأطفال أبداً وفي أول زيارة للجارة ستسرق شريط كاسيت منها، ومن خلاله ستكتشف الكذبة الكبيرة التي تحياها الجارة، فلا وجود للأطفال، وهم مجرد صوت مسجل على الشريط. ستقفز منصورة من هذه العلاقة إلى علاقات عابرة بين البطلة والجارات الأخريات. من هم؟ لا تعرف. المقصود بذلك صناعة المتاهة حتى ولو كنا في الواقع، ثم تعود مرة أخرى في ختام النص إلى بدايته كما تفعل في معظم النصوص "وجود عباءتها وملابس أطفالها في دولاب ملابسي لا يثبت أي شيء. يجب أن يصدقوني. يمكنهم أن يتصلوا بطليقها الذي انتزع أطفالها منها بحكم محكمة كي يؤكد لهم جنونها هي لا أنا". مرة جديدة هل حلت البطلة في جسد جارتها أم أنهما شخص واحد من البداية؟ في الأغلب أميل إلى تصديق فكرة الشخص الواحد، والشكل الدائري أيضاً يخدم تلك الفكرة. نحن نبدأ من حيث ننتهي، ولكننا سنضيف معلومة جديدة أن الشخصيات تشكل مرايات لبعضها البعض.

هل الحياة في مدن غريبة تعني أننا نحيا بلا قوانين؟ الإجابة لا. في إحدى المدن "كان الإيقاع سريعاً والناس يسيرون كما لو أن حياتهم مرهونة بمدى اتساع خطوتهم"، وفي مدينة أخرى "بشر كثيرون يسيرون في الشوارع الباهتة ببطء مرتدين مسوحاً داكنة"، وفي مدينة أخرى مهما غطاها السواد فإن الربيع قادر على معادلته.

هل الشخصيات تعشق المتاهات؟ الشخصيات في الأغلب خائفة من مطاردة الكوابيس، وهي أيضاً تبحث عن الحياة في مواجهة الشر الكامن في كل التفاصيل "ا.ل.ح.ي.ا.ة كانت تنتظرك هناك وسط الجموع الهاتفة الغاضبة: أصوات رصاص، نيران تشتعل خلفك وبجوارك، وغازات تحرق جلدك وتعميك عن الرؤية ويد باطشة تلقيك بقسوة فوق الرصيف الصلب. كل هذه الأشياء كانت دليلاً على أنك لا تزالين حية".

نُشٍرت المقالة في موقع 24 بتاريخ 23 يناير 2014.