نضال حمارنة
متاهة مريم الرواية الأولى للقاصة منصورة عز الدين. من الصفحة
الأولى نجد أنفسنا تحت سطوة الرواية، نمضي مع عينها السحرية لنستبطن شخوصها
المتحركة على الورق، شخصيات في طياتها شخصيات أخرى تحرّكها وتسيّرها على طريق
محتوم كأنه قدر لا مفر منه.
عبر سرد يعتمد على التداعي المحكوم بتقنية التكثيف والاختزال دون أن
ينفي قدرته أي التداعي على توصيف الحالات وتشابكها مع الأحداث
المتقاربة أو المتباعدة زمانياً ومكانياً من حيث علاقتها بالبطلة...
(مريم المعاصرة) التي تعيش وتعايش متاهتها إن في سرايا عائلة التاجي
أو في شوارع بلدتها وحدائقها أو في العاصمة.. وكيف تستحضر كل هؤلاء الشخوص من عمر
الطفولة إلى أيامها الحاضرة.. أو كيف تلاحقها تلك الشخوص. لكل شخصية ثنائيتها
وخيالاتها وأحلام يقظتها. هذا ما أقنعتنا به الرواية وأمتعتنا به على حد سواء. رواية
مكتوبة بجهد واقتدار، بلغة رشيقة لا تعتمد على الحوار بين الأطراف؛ ربما لأنها
تريد أن تقول لنا: أن هناك قطيعة ما رغم بحث كل طرف من الأطراف عن انتمائه الخاص
ضمن المكان الواحد الذي يعيش فيه الجميع ولعله يشبه (الوطن).
مريم تحمل ثنائيتها الخاصة بها أو قرينتها المتعايشة معها، تلك
القرينة التي لا تشبه البشر (لأنها بلا مشاعر تقريباً لا تعرف الحب أو الكراهية
وهذا هو جحيمها الخاص.. كان عليها أن تستغل الرغبة الوحيدة التي استطاعت تنميتها،
وهي الرغبة في الخلاص، كي تخرج نهائياً من ذلك المأزق وتلك المتاهة.. لم يكن لمريم
أو لغيرها يد في مأساتها لكن مصائرهما المتعارضة والمتحدة في آن هي ما يحتم الصراع)
(ص110 111)
مريم تبحث لنفسها عن انتماء ما.. من خلال الشخوص من حولها ومن خلال
الأمكنة.. وهي جنين كانت عبئاً على جسد نرجس أمها ومن بعد تحولت إلى عبء معنوي خوف الأم من
وجودها في حياتها ومن فقدانها.
مريم بمعنى ما لا تنتمي لأحد؛ فالأب هو يوسف فقط صاحب الصيدلية الذي
تجلس عنده ويأخذها معه إلى قذارة غريزته أو إلى عشيقته.. والأم هي نرجس.. والجدة
هي صوفيا.. حتى يحيى الرجل الذي تحبه تربطه بمخيلتها بصديقتها رضوى.. (كان يحيى
محباً للحياة مواجهاً لها وحاول دفع مريم إلى المسلك نفسه، كان يعلم أنها آتية من
عائلة من الموتى) (ص75).
إحساس مريم المتواتر بالوحدة، بالاغتراب الروحي، بالانفصام بين ما
يجب عليها أن تكون بنظر الجميع وما ترغب أن تفهمه لتكون ما تريد أن تكون. من أول
يوم في حياتها انقطع حبل الانتماء المعنوي بعائلتها وأفراد عائلتها أنفسهم،
يمارسون القطيعة مع بعضهم البعض، لكنها كلما ابتعدت عنهم.. عائلتها، أقاربها،
ومعارفها تشعر أنهم يلاحقونها (لم تعد تعرف: من هؤلاء الذين يطاردونها أينما حلت
مطالبين إياها أن تعود للانضمام إليهم أن تعترف بهم) (ص67).
حتى الأمكنة بداية من سرايا التاجي في بلدتها إلى الأماكن الحميمة
الى نفسها في العاصمة شقة يوسف أو
بيت المغتربات، مقاهي وسط البلد إلى شقة يحيى.. الخ، كلها تختلط عليها، تارة توجد
فيها وتارة أخرى تفتش عنها فلا تجدها.. أو تجد سكانها.
(أضحت الشوارع بالنسبة لها كائنات خبيثة تتآمر عليها، مسلمة إياها
للعبة التكرار المرعبة) ص73.
(هكذا تورطت مريم مع هذه المدينة، بالغت في محاولة الانتماء إليها.. توغلت
في الإلمام بكل ما يخصها، حفظت تاريخها عن ظهر قلب، ارتبطت بمقاهيها وحاناتها
وبأحجار مبانيها.. لذا كانت خيبتها مفزعة حين تنكرت لها المدينة و أقصتها عنها) ص118.
عالم الرواية وتقنيات كتابتها ليست مجرد فانتازيا لآلام فتاة قادمة
من الأقاليم إلى العاصمة وليست ميتافيزيقا ما وراء الواقع أو هلوسات هستيرية.. إنه
الواقع المتخيل لحيوات بشر، عبّرت عنه منصورة عز الدين بقلمها وكأنها تعيد اصطفاء
أحلام اليقظة وهواجس المعاش، تعرضه كشريط يتابع بشفافية حركة الشخصيات ويرصد
الدواخل الجوانية (المسكوت عنها) كلٌ حسب زمانها وانتمائها الاجتماعي وتناوب
أزماتها. من الصفحات الأولى عندما شعرت أن قرينتها قتلتها ثم سقطت بجوارها قتيلة
هي الأخرى.
وصحت بعدها لتجد نفسها مازالت على قيد الحياة.. إلى آخر صفحات
الرواية ظلت تغرق في متاهة محكمة الصنع يصعب الفرار منها.. أما قرينتها فهي (تعرف
أن أحداً لن يصدقها وإن محاولاتها لإثبات هويتها ستكون مجرد ألعاب في الفراغ،
ربما لأن مريم سبقتها في الوجود الجسدي بهذا العالم، وربما لأنهما وجدتا نفسيهما
في تلك المتاهة معاً دون أدنى قدر من اليقين.. أن تطرد الأخرى من هذا الحيز الضيق
الذي يكاد الجميع أن يختنقوا فيه ومع هذا يستميتون في المحافظة عليه) ص107.
مريم نفسها في متاهتها حين تفتش عن شخص ما أو مكان ما يلاحقها شبح
آخر ومكان آخر، حتى الزمن اختلط عليها وكأنها تسأل: إلى أي زمن تنتمي أو تحيا؟! إلى
أي مكان؟!
هي مكشوفة وواضحة للجميع (كل ما يحيط بها زجاج شفاف لا يخفي ما وراءه..)
ص95 لكنها مجهولة وغير معروفة
الانتماء لنفسها، مازالت تبحث عن هويتها..
في النهاية (أصبحت قريبة هكذا من الوصول إلى مفاتيح المتاهة التي
وجدت نفسها فيها رغماً عنها) ص124 ودخلت
السرايا التي تعرفها جيداً، وجدت أفراد أسرتها جميعاً في أماكنهم المعتادة،
الأموات منهم والأحياء لم يحس بها أحد ولم يرها أحد.. فسقطت مريم مغشياً عليها.. وعندما
أفاقت وجدت نفسها في أرض مزروعة بالقرب من نهر النيل وبجوارها بناء طيني فلا حي،
بابه من الخشب المتهالك (أبصرت كفاً مطبوعة فوقه بالدم، وضعت كفها عليها فتطابقت معها)
ص127 وهناك في الداخل بدأ يتسلل
شعاع ضوء ضئيل.. هنا تنتهي متاهتها أو يكمن مفتاح خلاصها.. ربما.
No comments:
Post a Comment