Friday, April 21, 2017

الطريق إلى إيدا: كشف القاتل عبر لغته





منصورة عز الدين


في روايته "الطريق إلى إيدا"، الصادرة عن سلسلة الجوائز في 2015 بترجمة لعبد السلام باشا، يتعامل الروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا مع "ثيمة" تم ابتذالها عشرات المرات في السينما والروايات البوليسية الخفيفة، ويخرج منها بالجديد والمختلف.

كم مرة مثلاً شاهدنا فيلماً هوليوودياً عن قاتل متسلسل يقتل الضحية تلو الأخرى لهدف متثاقف أحياناً أو غامض وملتوٍ غالباً؟! هنا يتمحور العمل حول قاتل متسلسل يرتكب سلسلة من الاغتيالات بحق علماء وأكاديميين مرموقين، دون أن يدرك أحد  دافع الجرائم أو الرابط بينها. لا يقدم بيجليا بطله عالم الرياضيات كشخص مخبول على عادة هذا النوع من الأفلام والروايات، فبشكل ما تبدو الشخصية منطقية ومقنعة، حتى في رؤيتها للأخلاق: "الأخلاق انفجار. يهوه هو الإرهابي الأول. لكي يفرض قانونه أخذ يدمر مدناً، ويقتل أبناء يعقوب. أم لماذا تعتقدون أن ديستوفسكي كان يفكر في تحويل إليوشا كرامازوف، الراغب في القداسة، إلى ثوري؟"

في مقدمته المعرِّفة بعوالم وانشغالات ريكاردو بيجليا، يشير عبد السلام باشا إلى اتباع أعمال بيجليا السردية لتقليد أرجنتيني عريق هو الاهتمام بالرواية البوليسية ورواية التقصي والبحث والغموض متلاقيا في هذا مع بورخيس وأدولفو بيوي كساريس وآخرين، كما نلمح أيضاً بين سطور الرواية أصداءً بورخيسية متمثلة في درجة من الكتابة الورقية والإحالات المستمرة لكتب مؤلفين آخرين، غير أن بيجليا يفعل هذا بأسلوبه هو ليطرح انشغالات وأسئلة تخصه وحده.

تستعير "الطريق إلى إيدا" من جماليات رواية السيرة الذاتية ليس فقط لأن هناك تشابهات بين سيرة المؤلف وحياة الراوي إيمليو رانزي، بل لأن بيجليا يبذل ما في وسعه حتى الخاتمة للإيحاء بأن ما يكتب عنه حادثة وقعت بالفعل ودوره فيها هو توثيقها والشهادة عليها. في الفقرة الأولى مثلاً، يكتب أن الأمر انتهى به إلى "التدريس في الولايات المتحدة، والتورط في واقعة أريد أن أترك شهادتي عليها."
وفي خاتمة الرواية، وعلى عادة الأفلام السينمائية المأخوذة عن قصة حقيقية، يسجل بيجليا المصير النهائي لبطله، ذاكراً الحكم الذي حصل عليه.

كما يستعير من جماليات الرواية البوليسية، لكنه لا يتقيد بقواعدها المألوفة، ولا يرثيها ساخراً من نواقصها كما فعل فريدريش دورنمات مثلاً في رائعته "الوعد"، إذ لا يبدو بيجليا مشغولاً بها لهذه الدرجة، بل يستخدم قالبها لتقديم آراء واستبصارات لافتة حول مجموعة من الأدباء وأعمالهم الأدبية، مقدماً نموذجاً مختلفاً للتناصات الأدبية، لا يقتصر على جعل أعمال سابقة مرجعية لعمله، بل يتعدى هذا إلى حد أن تتصرف إحدى شخصياته (توماس مونك) على هدي شخصية فنية من إبداع جوزيف كونراد: "توماس مونك هو من نفذ هذه العقيدة. ألا يلفت النظر أن سلسلة من الأحداث وملامح شخصية فرد محدد يمكن وصفهما بنسخ جزء من عمل أدبي؟ لم يكن الواقع هو ما يسمح بفهم رواية، كانت الرواية هي التي تشرح واقعاً ظل خلال سنوات عصياً على الفهم."

لعل أكثر ما لفت نظري في رواية بيجليا هذه (إلى جانب نجاحه في تقديم رواية جيدة من فكرة مكررة لدرجة تحولت معها إلى كليشيه) كان عدم اكتراثه بالتشويق بشكله الشائع والمرتبط دوماً بالرواية البوليسية وروايات الإثارة والغموض، وربما يعود هذا لإدراكه حقيقة أن ضَعف الأعمال القائمة على التشويق بالكامل، عادة ما ينبع من ميزتها الأهم المتمثلة في قدرتها على حبس أنفاس القارئ وإثارة فضوله ورغبته في كشف اللغز والغموض. ففي معظم الحالات، قد لا يصمد العمل أمام قراءة ثانية بعد أن صارت عقدته مكشوفة أمام القارئ، وهذا ما يتلافاه ريكاردو بيجليا بمهارة.

ليس المهم في "الطريق إلى إيدا" كشف لغز مقتل إيدا براون ولا كيفية ارتكاب توماس مونك لجرائمه، بل "لماذا؟" ذلك السؤال الذي يتم تجاهله، عن عمد، غالباً. والأهم هذه التشكيلة من الشخصيات المرسومة جيداً والتي تعيش على الكتب وبها دون أن يثقل هذا على الرواية أو يحولها إلى عمل ذهني ممل. فمعظم شخصيات الرواية أكاديميون متخصصون في الأدب، كل منهم متبحر في أعمال كاتب بعينه والراوي نفسه كاتب وأكاديمي من الأرجنتين تماماً مثل ريكاردو بيجليا.

سيتوقف القارئ المدقق قطعاً أمام آراء نينا حول تولستوي ودوره في تغيير طريقة الكتابة باللغة الروسية، وآراء دا-أماتو حول ملفيل، وتلك الخاصة بالراوي إيميليو حول وليام هدسون، غير أن جوزيف كونراد هو الطيف المهيمن على رواية بيجليا، والساكن بين سطورها. ومن أمتع أجزاء الرواية على الإطلاق تلك الأجزاء الخاصة بمحاولة اكتشاف القاتل عبر أسلوبه اللغوي، فأولاً سألت نينا: "هل يمكن معرفة شكل شخص انطلاقاً من كتابته؟" وحاولت معرفة هوية مرتكب جرائم القتل، هي وإيمليو، عبر تحليل المانفيستو الذي كتبه. "انتبهنا إلى أن ما قمنا نحن بتحليله بعمق، كما يحدث كثيراً في النقد الأدبي يمكن أن يدركه أي قارئ عادي على الفور. المؤلف كان أكاديمياً، ربما عالم رياضيات أو متخصص في المنطق، شديد الذكاء، رجل وحيد، معتاد على الكلام بمفرده وإلى الإشارة إلى نفسه بصيغة الجمع (........) وهي صيغة معتادة للكلام عن الذات لدى الأفراد (في الغالب ذكور) الذين أمضوا سنوات كثيرة في الجيش أو في جماعة ثورية أو مجتمع أكاديمي مغلق."
وثانياً توصل شقيق توماس إلى أن أخاه هو كاتب المانفيستو ومرتكب الجرائم حين لمح لازمة لغوية يرددها شقيقه غالباً مكررة مرتين في المانفيستو.

تحفل "الطريق إلى إيدا" أيضاً بنقد واعٍ للرأسمالية ونمط الحياة في المجتمع الأمريكي وسمات العنف فيه ببصيرة لا تتوفر عادة إلّا لعين الغريب القادرة على الرؤية متخلصة من الحجاب الذي يفرضه الاعتياد. النقد هنا على مستويين الأول ممثل في رؤية الراوي النقدية، والثاني في ثورة توماس مونك على المجتمع الرأسمالي والتطور التكنولوجي، ويعد مونك غريباً هو الآخر إذ يتحدر (مثل جوزيف كونراد) من أبوين بولنديين، كما أنه رافض للمجتمع الأمريكي خارج عليه، بل ومحتقر له: "الروس فقدوا كل شيء لكنهم احتفظوا باحتقار الأمريكيين. وفي هذا أنا أيضاً روسي." كما قال قرب نهاية الرواية.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.



Saturday, April 15, 2017

زمردة منصورة عز الدين








إيمان اليوسف*



 قبل نحو خمس سنوات قرأت بالمصادفة مسرحية "مصير صرصار" لتوفيق الحكيم. وقعت على الفور في عشقه. أذكر أني اقتنيت جميع مسرحياته من شهرزاد وبنك القلق وأهل الكهف إلى الأيدي الناعمة والملك أوديب وغيرها. عندما تطلع على جميع أعمال كاتب بعينه، تصبح جزءاً من حرفه. دون أن تشعر، تلتحم وقلمه فتتحدان بطريقة أدبية لذيذة.

 تطوعت مؤخراً لإدارة جلسة أدبية ضمن جلسات مهرجان طيران الإمارات للآداب. كان قد بقي جلستان حين عُرض عليّ إدارة الجلسة. وافقت مدفوعة بالفضول لاقتحام تجربة جديدة عليّ. اخترت المرأة بين الكاتبين لانحيازي للكاتبات، فكانت الكاتبة المصرية منصورة عزالدين من نصيبي.

 كنت قد اقتنيت روايتها "جبل الزمرد" قبل عام بعد فوزها بجائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة للكتاب 2014، ولم أكن قد قرأتها بعد. بدأت بقراءة رواياتها وفق الترتيب الزمني لصدورها، وذلك للشروع في إعداد الأسئلة.
بدأت بروايتها "وراء الفردوس" التي رُشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2010. هذه الرواية أقرب لجغرافية مصر من الروايتين اللتين تلتاها، "جبل الزمرد" ثم "أخيلة الظل".

 من الجدير بالذكر أن جميع روايات منصورة تقودها بطلات إناث، فبطلة رواء الفردوس هي سلمى رشيد، وبطلة رواية جبل الزمرد هي بستان البحر وهدير، كما أن بطلة رواية أخيلة الظل هي كاميليا.

 يشارك الرجل البطلات في نضج وتطور شخصياتهن على مر الرواية حتى لنراه يقف في صفها، بمحاذاتها أحياناً كما في حال شخصية آدم في رواية أخيلة الظل.
 يتواطأ قلم منصورة مع كل شيء عدا الجغرافيا. تفتنها الأمكنة وتسحرها الرحلات وأدب السفر. قد تكون أكثر رواياتها استقراراً هي وراء الفردوس، إذ تقع أغلب أحداثها في الريف المصري وسط أسرة من أصحاب مصانع الطوب (الأحمر ثم الطَفلي).




 يتشظى المكان لديها في رواية جبل الزمرد ليقتحم المُتخيل والأسطوري إلى جانب الواقعي، فنرحل مع شخصياتها إلى جبل المغناطيس وجبل الزمرد ومدينة قاف في عالم ألف ليلة وليلة الساحر حيث العنقاء والحية العملاقة والطيف. السفر عند منصورة واقعي أيضاً فنتعرف في روايتها على مدينة ثاكاتيكاس وجبل سيرو دي لا بوفا بالإضافة إلى مدن إيرانية كأصفهان وشيراز وحتى كندا وعدد من الدول الأوروبية، كذلك الثيمة التي تربط جميع رواياتها كعمود فقري، بل بؤرة المكان التي تنطلق منها الرحلات كافة والسفر الأوحد الذي لا يكون إلا منها، القاهرة.

 الجغرافيا في أخيلة الظل واسعة أيضاً، تتمركز في مدينة براغ وتتناول مدناً أخرى كسياتل وأريزونا وغيرهما بشغف وسعة إطلاع. 

 كتابات منصورة عزالدين ثرية إلى حد لم أره عند أي كاتب أو كاتبة غيرها على سعة اطلاعي وغزارة قراءاتي. تمتد يدها لتشاكس مختلف المواضيع والزوايا، فهي تناقش تفسير الأحلام وقراءة الفنجان، وتتحدث برشاقة وطلاقة لا نظير لها عن علوم الألوان والميثولوجيا وأنواع الأقمشة وعلوم الطاقة والعوالم المتوازية وحتى أنواع الأحجار الكريمة ودلالاتها.

 لمنصورة عزالدين اهتمامٌ واضح بصورة سافرة بالأزهار والأشجار. يرد ذكر أسمائها ورمزيتها واستخداماتها في كل رواية من رواياتها الثلاثة. في وراء الفردوس تأتي على ذكر نباتات الريف المصري كأشجار الليمون والكافور وأزهار النرجس والآس. أما في رواية جبل الزمرد فتذكر نباتات المانجو وأخرى ذات طبيعة غريبة تتناسب والعالم الآسر الأسطوري للرواية. أما أشجار الجميز والحور وأزهار الدفلى والبيلسان في رواية أخيلة الظل وغيرها الكثير.
أثناء قراءتي لروايات منصورة عزالدين كنت كمن تمر في حديقة سرية ريانة، حديقة جميلة لا تنتهي من زروع باسقة تنتفض فيها الحياة.

 لا يوغل أديب في تعقيدات النفس البشرية كما تفعل منصورة. تشبه الجراح، أو تبدو أقرب إلى من يقشر بصلة آدمية. تحكي شخصياتها بدءاً بالشكل الخارجي واختيار الهندام وطريقة النطق والمشي وصولاً إلى تفاعل كل شخصية مع غيرها من الشخصيات ومع المواقف والتحديات. تنتهي الرواية لنكتشف أننا أمام شخصية مختلفة تماماً عما فهمناه في البداية. الأمور لا تبدو دائماً على ما هي عليه في الحقيقة، أليس كذلك؟

 في روايتيها "وراء الفردوس" و"أخيلة الظل" تستخدم منصورة صوت الراوي العليم أسلوباً للسرد، بينما تلجأ لأسلوب "الحكي" في رواية "جبل الزمرد" التي تأتي على لسان بستان البحر أو بوستان دريا أو باغ دريا كما هو اسمها في موطنها الأصلي. وكأن منصورة بهذا الاختيار في هذه الرواية بالتحديد والتي تحكي عن القصة المفقودة من كتاب الليالي تدرك أهمية حكي الأنثى وقدرتها الساحرة على القص، فتنافس شهرزاد ببستانها.

 تسرد منصورة شخصياتها بشكل عجيب. يتكرر ذلك في رواياتها الثلاث، إذ يواجه القارئ كماً كبيراً من الشخصيات (ملاحظة: كان علي في كل رواية خاصة "وراء الفردوس" لكتابة أسماء الشخصيات على ورقة منفصلة وصنع شجرة لتسلسلها منعاً للخلط). 

 تحكي منصورة سيرة كل واحدة من هذه الشخصيات، تتنقل بينها برشاقة وحرفية لكنها لهذا السبب تفقد سرعة تواتر الحدث. البطل في روايات منصورة هو الشخصية وليس الحدث. هو المحرك وهو المتحرك والمُحرك به. غالباً ما تخلو أجزاء من فصول رواياتها من الأحداث المفصلية وتجنح أغلب المقاطع لهدوء الحدث، مقابل نضج وتبدل الشخصيات والحفر والتنقيب داخلها بالإضافة إلى العودة للماضي (تقنية الفلاش باك).

 تحولت منصورة عز الدين من كاتبة أحضر لإدارة جلستها ضمن المهرجان إلى إحدى الكاتبات اللاتي أعشق حرفهن وأتابعهن بشغف. أقرب رواياتها كانت "أخيلة الظل". التقنية التي تستخدمها منصورة من بداية الرواية وتمحورها حول مقعد خشبي مطلي بالصبغ الأخضر أمام متحف كافكا، تقنية مذهلة. 

 لن أحرق أعمالها بذكر المزيد. أترككم مع توصية كبيرة بالاستمتاع بقلم هذه الكاتبة المميزة صاحبة القلم ذو البصمة الخاصة أو كما يصفه أ. محمود أمين العالم "قلم قاطع أشبه بالسكين في حدته وشراسة نقله للواقع".






* كاتبة إماراتية

نقلاً عن مجلة الإمارات الثقافية، العدد 55



Friday, April 14, 2017

السرد والجنوسة في سيرة بني هلال: البحث عن صوت الأنوثة المتواري في الذكورية






منصورة عز الدين


منذ صادفني عنوان كتاب "السرد والجنوسة في سيرة بني هلال" للدكتور محمد حسن عبد الحافظ، تحمست لقراءته ليس فقط لعلاقتي بالسيرة الهلالية منذ الطفولة، ولكن لاهتمامي بالجنوسة في علاقتها بالسرد. توقعت أن دراسة عن الجنوسة بمعناها المركب في نص حافل بالتغني بقيم الفحولة والبطولة سوف تكون ثرية ولافتة، والحقيقة فاقت الدراسة القصيرة توقعاتي.

في كتابه يسعى د. عبد الحافظ "للبحث عن صوت الأنوثة المتواري في الذكورية، وإعادة النظر إلى الذكوري الذي يبطن الأنثوي"؛ مؤكداً على أنه يحاول فعل هذا "دون التورط في الوقوع في أحد شركين: تنظير يجدد تطرف المنظور الذكوري، أو تنظير يمتثل لنسوية تؤدي إلى إنكار تركيب المرأة ونتائجه: أي إنكار المرأة ذاتها: أي التفكير وفق استراتيجية نُجاوِر بها خطابين: المهيمِن والمهيمَن عليه."

يحاول المؤلف خلخلة ما درج الباحثون عليه من ربط للسيرة الشعبية بعالم الذكور، حيث أن الشائع أن معظم رواتها (على تنوع طرائقهم) رجال، ومتلقيها المباشرين الظاهرين رجال، والفضاء السردي السيري  من خلق الرجال ويتحكم فيه الرجال.

يبدأ من تساؤل بسيط مفاده: هل السيرة الهلالية إنتاج حكائي أنثوي، وأداؤها الشعري ذكوري؟ السؤال أقرب لفرضية يضعها الباحث موضع الاختبار، رغبةً منه في الإجابة على سؤال آخر: "هل السيرة الهلالية سيرة نسوية؟"، وهو سؤال تبادر إلى ذهنه بعد لقائه عام 1996 بالسيدة رتيبة فرغلي الراوية الأسيوطية للسيرة الهلالية.
لاحظ د. عبد الحافظ أنها تعيد صوغ الأساس الذي يقوم عليه مولد البطل في سيرة بني هلال بحيث تتحول خضرا الشريفة لا "أبو زيد" إلى البطل المحوري. "تضع السيدة رتيبة النساء في مرتبة البطولة، أو ترتقي بالبطولة إلى مرتبة النساء" كما يكتب.

يقصد المؤلف لفت النظر إلى أن سيرة بني هلال حكاية من خلق النساء وإبداعهن كحال "ألف ليلة وليلة"، وتحتل النساء بطولة المشاهد المركزية فيها، "بينما يمثل الرجال حراسا للسيرة الهلالية ورواة ومؤدين لها، على نحو أتاح لهم حرية صوغها في أشكال شعرية تتسم بالفحولة."
من موقع الحراسة هذا، أصبح للرجال سلطة التشويش على السمات والأنساق النسوية داخل السيرة الهلالية، ووسمها بما يتفق مع رؤيتهم، أي أصبحوا حراس البوابة التي تصل عبرها السيرة إلى المتلقين.

يتوقف د. عبد الحافظ أمام صراع الأنواع الشعرية في "الهلالية"، فالمربع هو النوع الشعري الشائع في أداء الرواية المصرية لها في أسيوط وسوهاج وقنا، لكن هناك أيضا "الفرادى" و"الموال" و"الحداء" في مناطق أخرى، كما أن نسخ السيرة الهلالية المخطوطة والمطبوعة منذ القرن التاسع عشر تحوي قصائداً عمودية وزجلاً. وحين سأل الباحث الراوي مصطفى عبيد عن مصادره، أجاب الأخير بأنه تلقى قصص السيرة عن النساء، بوصفها حكايات، وأعاد نظمها بالقصيد التقليدي ذي الحس البدوي التونسي.

يلاحظ المؤلف أيضاً أن السرود المدونة حافلة بشخصيات أنثوية لا تذكرها السرود الشفهية، في مقابل درجة ثبات أعلى للشخصيات الذكورية! (في إحدى المدونات المطبوعة طبعات عديدة لدى ناشرين مختلفين، نجد أن ثلثي القصص معنونة بأسماء نساء). وهذا يعيدنا من جديد إلى الدور الذي يمارسه رواة السيرة كحراس للبوابة، وتأثيرهم على الصورة التي يصل بها العمل لمتلقيه، إذ يكون مصبوغاً برؤاهم وأفكارهم ومشاعرهم ونظرتهم للعالم.
فكون السيرة الهلالية نصاً شعبياً تمثل الشفاهة دوراً مركزياً في أدائه وتلقيه يعني أننا أمام نص دائم التحول والتبدل وأنه خاضع طوال الوقت لعملية مستمرة من الإزاحات تجعله في حالة ابتكار وإعادة خلق لا تنتهي.

"الرواة الساردين والمؤدين والشعراء الشعبيين (الرجال) عملوا على الإيهام بالسيطرة على "خطاب السيرة الهلالية"، لكن الحقيقة لا تعدو غير نجاحهم في إبداع منظومات متعددة من الأداء المتقن الذي راكم النصوص، دون أن يعني ذلك طمس العلامات السردية المتصلة بحس النساء، أي دون أن يكون في مستطاع "هيمنة" الأداء الذكوري "وأد" حس المرأة وإبداعها السردي، بل الأدائي، الذي أسهم في خلق جماليات السيرة الهلالية.".

ثمة سمة لافتة أخرى تخص الاختلاف بين السيرة المدونة والمرويات الشفاهية لها، تتمثل في تهرب المؤدين والرواة الرجال من أداء عديد النساء في السيرة والتحايل عليه بتحويله إلى "مربع" أو "فرادي"، إذ يرون في العديد انتقاصاً من الفحولة الشعرية وغير الشعرية. ويخلص الكاتب إلى أن ""سردية السيرة الهلالية" ليست ذكورية حصراً، فالشفرات النسوية جذر إبداعيتها."

وفي الفصل الأخير المعنون بـ"في سردية الشخصية النسوية" يتوقف المؤلف أمام مركزية الشخصيات النسائية في الهلالية خاصة خضرا الشريفة والجازية التي يصفها بـ"الشخصية السردية المحورية في سيرة بني هلال، بدورها المركزي في الأفعال السردية: في التدبير القبيلي لشؤون الرحلة. في قرار الحرب. في الصراع المركب والمتراوح بين الأبطال." والجازية أيضاً هي التي يعرف بها اسم العلم "حسن"، إذ "يُلقب حسن بـ"أبو علي أخو الجاز"، على نحو نادر في تاريخ النصوص القولية الشعبية العربية، يكنى فيه رجل عن شخصية امرأة ليست أمه (على نحو ما ينسب "أبو زيد" إلى أمه: "ولد خضرا الشريفة"؛ "ابن الشريفة"؛ "ابن الغريبة"؛ "ولد الغريبة".. إلخ)"

قرب نهاية كتابه، الصادر عن معهد الشارقة للتراث، يشير محمد حسن عبد الحافظ إلى أن تلك الإضاءة لا تمثل "مخططاً كاملاً لمقاربة كلية لموضوع الشخصية السردية النسوية في السيرة الهلالية، كما أن التركيز على نموذج شخصية "الجازية" ليس مكتملاً هنا، وإنما يجري على نحو سياقي. إنها إضاء- علامة إشارية فحسب."
كما عرفت منه أن دراسته هذه جزء من مشروع أوسع يشتغل عليه.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.


أنتَ قلتَ: تيد هيوز وسيلفيا بلاث كشخصيتين روائيتين







منصورة عز الدين


في روايتها "أنتَ قلتَ"، الصادرة مؤخراً عن سلسلة الجوائز بترجمة للمياء المقدم، تعيد الروائية الهولندية كوني بالمن تشييد العلاقة الشائكة بين الشاعر الإنجليزي تيد هيوز وزوجته الأولى الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.
على امتداد صفحات الرواية تمنح بالمن تيد هيوز صوتاً بعد أن آثر تغييب صوته لعقود مفضلاً الصمت على الدفاع عن نفسه أمام طوفان الاتهامات التي حصرته في دور "القاتل" و"الخائن".

"بالنسبة للكثيرين نحن غير موجودين إلا في الكتب. أنا وزوجتي. تابعت، على مدى الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة، بكثير من العجز والاستنكار، كيف تعفنت حياتها وحياتي تحت طبقة من المغالطات والشائعات، والقصص الملفقة والشهادات الكاذبة والأساطير والخرافات والهراء. ورأيت بعينيّ كيف تم تحوير شخصيتينا المركبتين إلى شخصيتين عاديتين، بملامح باهتة وبسيطة صُنِعت خصيصاً لإرضاء نوع معين من القراء الطامحين للإثارة: هي المقدسة الهشة، وأنا الخائن القبيح."

هكذا تبدأ الرواية، ومن بدايتها لنهايتها يبدو أن ما تطمح المؤلفة لفعله هو نزع العادية عن هاتين الشخصيتين الفريدتين وإلباسهما ما يستحقان من تعقيد وتركيب وثراء، كما تطمح بالأساس إلى وضع الثنائيات الضدية جانباً والبعد عن الأبيض والأسود للغرق في المساحات الرمادية المخاتلة حيث يوجد الفن.

"أنت قلت" أشبه برحلة قطعها هيوز، كشخصية فنية، من رفض لأدب الاعتراف  حتى جرؤ على تعرية كاملة للأنا المفردة التي أخفاها دائماً خلف التعبيرات الرمزية والاستعارات. لذا كان من الطبيعي أن تنتهي الرواية بكلمة: "أنا".

تعتمد الروائية الهولندية بالأساس على قصائد عيد الميلاد الثمانية والثمانين التي نشرها تيد هيوز قبل وفاته (عام 1998) بأشهر قليلة، وعلى أعماله الشعرية الأخرى، كما استنتجت وقائع اللقاء الأخير بين هيوز وبلاث من قصيدته غير المنشورة "الرسالة الأخيرة" التي اطلعت عليها حين عُرِض أرشيفه الموجود في جامعة "إيموري" بأتلانتا للعموم.

التفاصيل الخاصة بالعلاقة بين هيوز وآسيا فيفل (الطرف الثالث في مثلث الحب) تتطابق في معظمها مع ما ورد في سيرة فيفل كما كتبها كل من إيهودا كورين وإيلات نيجيف في كتابهما الصادر عام 2006. كما أن هناك تفاصيل معروفة ومدونة، في هذه العلاقة الشائكة، تجاهلتها بالمن وأظنها فعلت هذا لأنها تكتب بلسان هيوز وتتبنى رؤيته كما استشفتها من قصائده وبالتالي من غير المتوقع أن يذكر هو ما يتناقض مع أو يشوش على روايته لما حدث. من هذه التفاصيل المُتَجاهَلة مثلاً أن بلاث عرفت بحمل آسيا فيفل من زوجها قبل إقدامها على الانتحار بأيام (وهو حمل أجهضته آسيا بعد انتحار سيلفيا مباشرة قبل أن تنجب لاحقاً ابنتها شورا التي ماتت معها حين انتحرت هي الأخرى بالغاز عقب رحيل سيلفيا بسنوات ست)، وأن هيوز استقبل عشيقته آسيا فيفل في شقة زوجته بمجرد انتحارها، وأن فيفل كانت ترتاح في غرفة نوم بلاث بلا حرج وهو ما اعتبرته الأوساط الأدبية في لندن، وقتها، انعدام لياقة صادم وعدم احترام لا يُغتَفَر لذكرى الشاعرة الراحلة لتوها.

لكن بعيدًا عن هذه التفاصيل المهمشة عمداً، تبقى أهمية الرواية في ذلك الوعي الحاد من الكاتبة بدواخل الشخصيتين الرئيسيتين، وفي عدم اكتفائها بتقديم سيرتهما معاً فقط، إنما طرحها أفكاراً فلسفية حول الفن وعلاقته بالذات والحياة والأسطوري والغيبي انطلاقاً من رؤية هيوز بالأساس للشعر والفن في تقابلها مع رؤية بلاث لهما. كل هذا بشكل خافت ومتوارٍ لا يثقل على إيقاع الرواية ولا يعيق خيطها السردي.

كما كل علاقة تجمع بين زوجين شهيرين، ثمة صراع مضمر أو معلن بين روايتين للأحداث نفسها. في حالة زواج بلاث وهيوز كانت الغلبة لرواية بلاث التي خلّدها انتحارها، أو بالأحرى للرواية التي صاغتها الحركة النسوية عنها بعد وفاتها انطلاقاً من كتابتها وحياتها القصيرة، وبكتابته قصائد "رسائل عيد الميلاد" بدا هيوز كأنما يرغب في منح روايته الخاصة لما جرى فرصة في الخلود، أو كما تكتب كوني بالمن على لسانه عن هذه القصائد: "كانت تعكس روايتي للحب الذي جمعني بها، استعدت ذكرياتي معها كما لو كانت من حقي وحدي، كما لو أنها ميراث شرعي لا يشاركني أحد فيه، وكنت كالصدى أردد ظلال قصتها داخل أشعاري."

"أنت قلت" رواية شائقة تلعب على فضول القارئ ورغبته في التلصص على حياتيّ شاعرين مهمين كانت قصتهما معاً أقرب لتراجيديا إغريقية محكومة منذ البداية بالفجيعة. غير أن التشويق هنا ليس التشويق المألوف في روايات أخرى إنما التشويق القائم على النبش في حياة شخصيتين حقيقيتين وتعريتهما حتى العظم، لذا فالتشويق هنا مغلف بالألم أو بذلك الأسى الناجم عن متابعة مأساة نوقن أنها جرت فعلاً لشخصيات من لحم ودم وخلفت ضحايا رحلوا وآخرين بقوا على قيد الحياة مطاردين بأشباح الماضي.

الترجمة جيدة في المجمل، لكن ثمة بعض التفاصيل الدقيقة التي قد يغيب معناها عن القارئ المصري مثل الإشارة إلى أن آسيا فيفل تعمل في "مكتب إشهار"، فبعض القراء قد لا ينتبهون إلى أن المقصود هو "وكالة إعلان". أيضاً عند ذكر أن "جيمس جويس كان الروح التي باركت" زواج بلاث وهيوز الذي عُقِد في 16 يونيه 1956، أظن أن الأدق الإشارة إلى هذا اليوم باعتباره "يوم بلوم" وليس "يوم الإزهار"، لأن المقصود هنا هو بلوم بطل رواية "عوليس" التي جرت أحداثها يوم 16 يونيه، الموافق لتاريخ ميلاد جويس نفسه، والذي يحتفل فيه محبوه سنوياً به وبروايته وببطله بلوم. لكن يبقى توجيه الشكر للمترجمة والشاعرة التونسية لمياء المقدم على ترجمتها لهذا العمل وعلى اختيارها له، لأنه ليس من نوعية الأعمال التي قد يصل لها الناشرون العرب بأنفسهم، ولولاها لما تعرفنا عليه بعد صدوره بالهولندية بفترة وجيزة نسبياً.

نُشِرت المقالة بأخبار الأدب عدد 19 فبراير الماضي، زاوية كتاب.

Thursday, April 13, 2017

أخيلة الظل: رواية تشركنا في لعبة من الخيال والافتراضات



فايز علام


13.04.2017

"تخيّلوا معي مقعداً خشبياً في الباحة الأمامية لبيت على ضفة الفلتافا، قريباً من جسر تشارلز. على المقعد تجلس امرأة مكتنزة، شعرها يتلاعب به هواء الربيع وملابسها سوداء متقشفة. مستغرقة في تأمل مساحة صغيرة من الأرض بين قدميها المتباعدتين قليلاً".
هكذا تبدأ منصورة عز الدين روايتها الأخيرة "أخيلة الظل" بأن تشرك القارئ في لعبة الخيال والافتراضات هذه، دون أن تحاول إيهامه بواقعية ما سيقرؤه.

نحن أمام رواية تحتفي بالخيال إذاً، وتحتفي بالتجريب أيضاً، فـ"تخيّلوا معي"، "لنفترض"، "لنختر"، "كي نفهم"، "لننسَ مؤقتاً"... كلها عبارات تخاطب بها الكاتبة القارئ بينما النص يتابع نموّه في مخيّلة نتشاركها معه وفيه.

نقرأ عن مجموعة شخصيات تتشارك لعبة ظلال كتابية، فـ"كاميليا" التي يبدأ السرد معها هي كاتبة مصرية أتت إلى براغ في زيارة لمهرجان أدبي، وهناك أمام متحف كافكا التقت بـ"آدم" الكاتب الأمريكي، تبادلا بضعة أحاديث، باحا لبعضهما بأسرار عميقة يسهل البوح معها أمام غرباء قد لا نلتقيهم مرة ثانية، وأخبرته عن حلمها بكتابة قصة تراها وتشترك في أحداثها في الوقت نفسه.

"قصة عن كاتبة روسية تعيش في براغ، تكتب بدورها عن طفلة ناجية من مذبحة، يسكن مع الكاتبة عازف بيانو رغبت خلال الحلم في اختيار جنسية مناسبة له، ثم قررت إرجاء الأمر لوقت لاحق! كان ثمة أيضاً عجوز يسير بلا انقطاع، جيئة وذهاباً، على جسر تشارلز، فيما أتابعه من شرفة الكاتبة الروسية في بناية تشرف على الفلتافا".

اللعب والتجريب سيكملان حين ينتقل السرد إلى "أولغا" الكاتبة الروسية نفسها، لنفاجأ بأنها تكتب قصة عن كاتب وكاتبة يلتقيان في براغ، ما هما إلا "كاميليا" و"آدم"، وبين هذه التخيّلات التي ندخل في متاهاتها، يقودنا سؤال "من يكتب من؟" لننغمس مع الشخصيات التي تروي أحاسيسها وتروي بأحاسيسها لحظات الفقد التي عاشتها وتعيشها.

"كاميليا" الفاقدة لنوع من القبول الاجتماعي في طفولتها فهي "دبدوبة، بطيئة الحركة والفهم"، وهي تعيش الآن لحظة إحساس بحفرةٍ آخذةٍ في الاتساع بجوفها بعد أن أجهضت جنينها، أما "آدم" الفاقد لاستقرار نفسي يريحه ويبعد عنه مخاوف الطفولة وهواجسها، فما زال مسكوناً بقصة جدته الناجية من مجزرة، في حين تعاني زوجته "روز" من فقد مزدوج: فهي لا تنجب، وما زالت ظلال موت شقيقتها الصغيرة تؤرق نهاراتها ولياليها، دون أن تملك القدرة على صدها أو نسيان ما قد حصل منذ زمن بعيد.

أما "أولغا" الكاتبة الروسية فقد فقدت إيمانها بالكلمات، وغرقت في أحلام يقظة باحثة عن أي إلهام يشحذ خيالها، وزوجها "ساندرو" الذي عانى من فقدان أمه طفلاً، يعاني اليوم من فقدان أصابعه القدرة على العزف. أما طليقها "فلاديمير" الرجل المشّاء الذي يمشي جيئة وذهاباً، فهو فنان تشكيلي خضع لجراحة في عينيه فصارتا تضفيان أطياف الأزرق على كل ما يراه.


أقوال جاهزة

روائية تقودنا نحو الجنون ونحن نسأل "من يكتب من؟"...

ما هو لافت في "أخيلة الظل" أن الكاتبة لا تتقيد بحدود لأي شيء، تنغمر في الخيال وتغمرنا فيه...


إننا أمام مجموعة من الشخصيات التي تعاني من الفقد بأشكال مختلفة، كما أنها تشترك في أن لها جميعها علاقة مباشرة بالفن، تركّز الرواية على لحظة يصبح فيها فنهم هذا موضع قلق وفزع أو سؤال بالنسبة إليهم، فبعضهم فقد قدرته على إنتاجه وبعضهم الآخر فقد إيمانه بجدواه وماهيته.

وما بين هذه المخاوف التي يعيشونها الآن: زمن الكتابة، وما عاشوه في مواضيهم: الزمن المتذكَّر، تناقش الرواية علاقة الفن بالواقع وعلاقة الظل بالأصل، لترسل ضوءاً مهتزاً يشكّل ظله أخيلةً وتخيّلات مراوغة، تحكي عن أثر مرور الزمن وعبء هذا المرور، وعن شعور أليمٍ بالفقد نحاول ترميمه بالفن، وعن متاهاتٍ للعب تقودنا وراء الفردوس، فردوس الخيال الذي لا ينضب بل ينبع كشلالٍ متفجّر، هو وحده من يسمح باختراع صلة بين شخصيات لا علاقة بينها، ويضيف لعبة جديدة لألعاب كاميليا الذهنية اللانهائية: "اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها".

ورغم أن الرواية تنحاز بلا مواربة للخيال، فإنها تبني صلاتٍ مع ما نعيشه اليوم في العالم العربي من ثورات وعنف ومجازر وحروب، يبدو هذا جلياً في قصتين يكتبهما كل من "آدم" و"كاميليا" ويتضمنهما السرد.

ستكون قصة "كاميليا" عن قائدٍ يدعوه أتباعه "المنقذ" ويحكم بلاده بقبضة من حديد ونار، ورويداً رويداً ينسج حول نفسه شبكة هلاكه، بعد أن تبدأ التمردات عليه، وستكون قصة "آدم" عن مدينة للخوف، مدينة في لحظة فنائها، تلقى عليها أطنانٌ من القنابل الحارقة، وتتحول بيوتها إلى قبور لساكنيها، وثمة رجلاً، هو الذي تدور حوله القصة، مدفوناً تحت الأنقاض يتخيّل ظلال حيوات سابقة عاشها في أجساد مختلفة، ويتذكر إخلاصه للعابر والمتطاير، وتمجيده للعدم، وللهدم بعد التشييد.

في الرواية تقوم "عز الدين" بفعله نفسه، تشيّد افتراضاتٍ وخيالات ثم تهدمها لتعيد تشكيل غيرها من جديد، وتقودنا نحو الجنون ونحن نسأل "من يكتب من؟"، فنغرق في بحر من الاحتمالات بينما هي مشغولة بتخيّل غرقٍ لذيذ آخر، هو الغرق في اللغة ومعها، ويبدو هذا على مستويين، المستوى الأول هو في استخدام اللغة نفسه ضمن السرد، والمستوى الثاني هو الأفكار حول اللغة نفسها، ما الذي تعنيه كلمة ما كالخيال مثلاً، وما هي المفردات التي تندرج تحتها ضمن المعجم، مثل: "الظن، التوهم، السحاب، الطائر خاطف ظله..." هذه المفردات ستشكّل مفاتيح جديدة لحكايات وقصص أو مشاهد أخرى ضمن السرد.

سؤال اللغة، لن يتوقف عند هذه الحدود، بل سيتعداها لتأمل العلاقة بين الإنسان ولغته، كيف يمكن للغة أن تحمل الذكريات والذاكرة، وهل ينفع للخلاص من الألم اللجوء إلى لغة جديدة غريبة، يولد فيها الإنسان من جديد بلا ذاكرة قديمة، كما هو حال "آميديا" جدة آدم الناجية من مجزرة، والتي حاولت دفن لغتها الأصلية والالتجاء إلى لغة جديدة؟

بدورها "كاميليا" ستتخيّل شيئاً أكثر تطرفاً، وأكثر لعباً مع اللغة وفيها، "لا بد من وجود كتاب له أثر الفيضان وفعله، يطيح بكل ما يقابله ويشظي كل ما فيه. كتاب يُغرق شخصياته وقراءه في بحار لا نجاة منها، ويبتلع كلماته ومعانيها في فجوات مظلمة بداخله. خطر لكاميليا أن هذا هو الغرق الجميل، تخيلت الكلمات الطافية فوق السطح بعد أن فقدت معانيها".

ما هو لافت في "أخيلة الظل" أن الكاتبة لا تتقيد بحدود لأي شيء، تنغمر في الخيال وتغمرنا فيه، "فكما تعرفون كل شيء مباح في لعبة الافتراضات، وما نحن بصدده مجرد لعبة" هذا ما تخبرنا به منذ بداية الرواية، وتتشبث به بشراسة أثناءها، وتتركنا نتأمل فيه بعد انتهائها لنعيد رسم "أخيلة الظل" الخاصة بنا.

منصورة عز الدين، كاتبة مصرية من مواليد عام 1976، لها مجموعتان قصصيتان: "ضوء مهتز"، "نحو الجنون". ولها أيضاً أربع روايات: "متاهة مريم"، "وراء الفردوس" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية 2010، و"جبل الزمرد" التي نالت جائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة للكتاب 2014، و"أخيلة الظل". ترجمت رواياتها إلى الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، وقصصها إلى أكثر من عشر لغات.

الناشر: دار التنوير/ بيروت – القاهرة – تونس
عدد الصفحات: 176
الطبعة الأولى: 2017
يمكن شراء هذه الرواية من موقع نيل وفرات.

نقلاً عن  موقع رصيف22












Saturday, April 8, 2017

اللغة في آخر البئر





ممدوح رزق


تنتمي رواية (أخيلة الظل) لمنصورة عز الدين، والصادرة حديثًا عن دار التنوير إلى ذلك الفضاء السحري الذي يدفعنا للتأمل على نحو نقي في ما يمكن أن يعنيه الخيال والكتابة كلاهما للآخر. القراءة هنا ليست إعادة كتابة بل كتابة أصلية للنص ذلك لأن التفاصيل الروائية ليست ناجمة عن الكتابة بل هي الكتابة ذاتها، أي أنها الفعل الكتابي الخام، المشغول بنفسه قبل أن يتحوّل إلى معطيات سيتم لاحقًا الاشتباك معها وخلخلة نظامها. نحن نعبر المدى المراوغ الذي يستطيع أن يجعل كل شيء يبدأ بهذا التحريض الشهواني: (تخيّلوا معي).
الخيال في الرواية قوة طاغية لا تتعطل من خلق الاحتمالات، وتنطوي بداهة على إمكانية الاستمرار في تطوير صورها دون توقف. هذا التوالد القهري تتكفل الكتابة بحمايته من الثبات، وتحافظ على بقائه منذورًا للمحو. يمكننا التفكير في هذا المحو باعتباره قابلية التبدد طوال الوقت بأشكال متغيرة ولانهائية. الكتابة إذن بوسعها أن تمنح تعريفًا للضياع بأنه القدرة الدائمة على أن يظل الاحتمال مراقبًا لكينونته، أن يتتبع تناثرها واختفاءها وإعادة تجسدها بشكل متواصل. يبدو الأمر أشبه بفقدان محسوب للذاكرة، ذلك لأن كل تعمية يتم تعويضها أو استداركها في تمثّل آخر مختلف، وهو ما يجعلها بالضرورة لعبة حضور وغياب، أو طريقة مثالية لتشريح كل ماض. هي الحالة التي يمكن اعتبارها درجة القرب القصوى من هذه السطور التي كتبها (آدم) في قصته (ناسك في غابة):
(فضّل أن يكتب نصوصه في الهواء، أو يخطها على الرمال بيد مرتعشة، ويسارع إلى محوها في الحال. على طريقته الخاصة وبطقوس غير مفهومة لسواه، أخذ يمجد الفناء ويتعبّد في محراب العدم. لطالما كان وسوف يظل ابنًا مخلصًا للعابر والمتطاير).
هناك مقارنة أجدها ملفتة بين كسر كاميليا للمزهرية الثمينة التي تمتلكها أمها في (أخيلة الظل)، وتضييع هدير لخاتم أمها في رواية منصورة عز الدين السابقة (جبل الزمرد) .. أفكر في الكسر والضياع كفعل واحد يمثل بداية تصدع العالم، الشرخ الطفولي الذي سيمتد ويتسع لتتحول الحياة بعده إلى فقد متواصل. يصبح هذا الفعل أيضًا في الروايتين إشارة لسفر، للقاء غريب في مدينة بعيدة، للبحث عن الحكايات التي يمكنها أن تعوّض هذا الفقد في نسخ مختلفة من الذات. للقبض على أسلوب ما لتغييب هذه الحكايات، واللعب بالتخلي سعيًا وراء حكاية أصلية مبهمة، والهروب منها.  سنلاحظ أيضًا حضور الشخصيات والعوالم الموازية، وكذلك التكرار في الروايتين كصيغة جمالية لإعادة التأسيس المستمرة، وهو ما يفجر بالتالي هواجس المطابقة والتماثل والتحريفات بين النسخ. في الروايتين أيضًا هذه الروح الكونية التي ترتحل داخلها منصورة عز الدين مع الاختلاف بين الجوهر الأسطوري لـ (جبل الزمرد)، والحلمي أو التخييلي / الكتابي في (أخيلة الظل). تكتب كاميليا حكايتها بنفسها وعبر شخصيات أخرى، أي تمارس تحريفها الخاص قبل أن يحدث بفضل اللاحقين. تراقب عملية التدوين لهذه الحكاية، كأنها ـ أي كاميليا ـ تتصرف وفقًا للحكمة ـ أو هكذا تبدو ـ التي اكتشفتها هدير. لننتبه كذلك إلى أن شظايا الكريستال حاضرة مثلا في علاقة أولجا وفلاديمير، كأنما فكرة الهوة تعلن عن نفسها دائمًا بهذه الشظايا أو ما يعادلها.
(أغمضت عينيها فواجهتها هُوّة سوداء تتسع داخل جسدها، التهمت في البداية الرحم، ثم المبيضين والكبد والكليتين، فارتجفت كاميليا وحدّقت في الغيوم المنسحبة خوفًا من أن تتضاعف الهُوّة وتطرد قلبها من تجويفه، خُيّل إليها أن السُحب ترسم صورة طفل يحبو، فامتنعت عن النظر لأعلى).
أفكر في أن الاستغراق في تأمل مساحة صغيرة من الأرض بين قدمين متباعدتين هو إغلاق الجسد على وعي سيحفر عميقًا في الداخل عند هذه اللحظة بالذات. هو وقت التنقيب إذن، طقس انفصال يأخذ (هنا والآن) لأسفل، وراء طبقات الذهن. كأنه شكل من التصالح مع التشويش الباطني، حيث يمكن الحصول على إدراك أكثر تركيزًا لما هو ضعيف وشاحب، بإقصاء ما هو قوي، وساطع، أي أنه إدراك أقوى للحقيقة الذاتية.
(حتى ذكرياته، لا ينحفر منها بداخله إلا أشدها خفوتًا وهشاشة. من طفولته تحضره فقط الروائح والانطباعات والأحاسيس، وتغيب الحوادث الكبرى. لا ينساها بالضرورة، فما زال يفخر بذاكرة متقدة، فقط لا تلح عليه، ولا يستعيدها مرارًا كعادته مع التفاصيل الهامشية).
تتحرك الظلال في رواية منصورة عز الدين كأن حياتها تقوم كليًا على العلامات التي تنتجها لتؤكد من خلالها هويتها كظلال، كاحتمالات خاضعة للتبدّل، ليس هذا فحسب، بل وتنطوي هذه العلامات أيضًا على استعداد كل ظل لأن يخلق ظلالا أخرى. هي صيرورة تكاثرية إذن. تناسل مطلق للاحتمالات، حيث يولد الظل من ظل آخر إثر مفارقة، احتياج، شرط مبهم لا ينبغي أن يُطالب بإثبات منطقيته، ذلك لأننا نتحدث عن شيء بعيد عن الحبكة، وعن الأبنية الحكائية الملتزمة بتبرير مواقفها. كل نسخة تبدو كأنما تخوض مغامرة أبدية لاكتشاف ماهيتها، لحل لغزها الخاص بواسطة ردم فجوات النسخ الناجمة عنها، أو بالأحرى الكامنة فيها، سد ثغراتها بكيفية لا تبقيها عالقة بها، بل تساعد على تجاوزها لمواصلة رحلة يجب ألا تكتمل. من هنا يمكن التطلع إلى كاميليا ليس باعتبارها ذات تعيد خلق نفسها في حكايات الآخرين، ورؤية ما فقدته ـ أو أوهامه ـ في صور مختلفة (الأب، دولت، منير، فريدة، آدم، روز، آميديا) ، أو أن (أولجا) تقوم بذلك أيضًا في حكاياتها فحسب (ساندور، فلاديمير، إيفان) بل إن كلا من كاميليا وأولجا تمارسان هذه الإعادة للخلق، وملامسة الفقد في حياة الأخرى، داخل كل شخصية تبدو للوهلة الأولى أنها تخص إحداهما فقط. كأنه نوع من التخاطر الذي يمتلك شفراته الخاصة ويتيح لهما استدعاء قصص، وجوه، مشاهد مبتورة، جزئيات عابرة، ولحظات تبدو هامشية، لتكوين حلم مشترك يتيح لكل امرأة منهما أن تحضر فيما يُعتقد أنها ذخيرة الأخرى. هناك دائمًا رجل وامرأة يعيدان دائمًا أسطورة خلق العالم عبر نسخ / ظلال أخرى لهما. رجل وامرأة ترتب منصورة عز الدين موعد لقاءهما عبر تخيلات وأحلام متواصلة ومتداخلة، لا تهمد، كأن كل موعد انتهى قبل أن يبدأ. لابد أن يكون هناك أيضًا طفل يموت، أو يُفقد بشكل أو بآخر.
(ليس الأمر أنها كانت تتبرأ من أهلها، أو لا تحبهم كفاية. كانت فقط مسحورة بتخيل فضاءات أخرى، إمكانيات وخبرات تتيحها لها أحلام يقظتها وأكاذيبها).
بالتمعن في الخبرة التي يستعملها الخيال؛ يمكننا مقاربتها بوصفها اقتفاءً للأثر. لكن الذات ـ وهي غير مركزية حتمًا، حيث لا توجد بداية أو نهاية، وإنما إرث مشتت من الدوائر المتقاطعة ـ لا تمارس الذات هذا الفعل كنوع من التماهي مع خطوات الآخرين، بل كأنها تؤدي نفس الخطوات التي سبق أن حققتها ولكن في حيوات أخرى، وهي بذلك تقتفي أثر نفسها، كأنما تجرّب وجودها للمرة الأولى، حيث كل خطوة بمثابة وعد ببداية ما تقاوم الذاكرة. هكذا يمكن لكل ما هو خارج الذات أن يكون فاعلا في هذه الخبرة، أي أن يكون ظلا: المدن والبيوت والأشياء. هنا يمكننا تفحص الخيال باعتباره الحضور المستقل للظلال. العوالم المنفصلة لعناصر الماضي التي تحلم بنا. هذا التواطؤ بين البشر والمدركات الملموسة الذي ينجزه الخيال عبر المناورات الزمنية والمسارات المقنّعة، كأنه محاولة للوصول إلى المشهد المصيري الذي يرسل أشلاءه وشظاياه داخل الأحلام.
(الشخصيات الفنية هي ما يغويها، لا مبتكريها من الكتّاب. ليست لديها أوهام رومانتيكية عن عباقرة الكتّاب. على العكس، تؤمن تمامًا بأن بداخل كل منهم وحشًا يتغذى على ذاته والآخرين. معظمهم قاتل متسلسل، والإبداع وسيلته للتوازن أو للإيغال في تدمير الذات).
هناك حسية فائقة في سرد منصورة عز الدين لا تكمن في الإحاطة المهيمنة أو التشريح المجهري للتفاصيل، بل بدرجة أعمق في ضبط إيقاع الكتابة على تفاوت الشعور بالألوان والروائح والمذاقات والملامسات والأصوات. يتوحد السرد بالمكوّن الحسي المرصود نفسه، فلا يكون مجرد وصف له، الأمر الذي يجعلك ترى أضواء وظلال الموجودات والظواهر بمستوياتها المتباينة، وهو ما يحدد فاعليتها في الخبرة التي يستعملها الخيال كما سبق وذكرت، فضلا عن تكريس استقلاليتها.
(أسرته الفكرة لفترة: لغة تنكمش حتى تغرق في الصمت والسكون ويستعيض متحدثوها عنها بالإشارات. لغة تتلاشى، لا ريب، بما أنها محدودة، وبما أن الموت حدث يومي. ذكّره هذا بجدته، بشكل ما، بدت له كأنما كانت تنتمي إلى هذه القبائل وتحذو حذو أفرادها).
تكمن هذه الحسية أيضًا في تجسيد الانفعالات لا تمريرها، وذلك بواسطة التحكم في تدفق اللغة، الذي يمكن بطريقة أخرى أن نعتبره ترسيخًا متنوعًا لطبقات الحكي: الجُمل القصيرة، كأنها اختلاس للنظر، أو إخفاء للسر. الكلمات المتلاحقة في عبارة طويلة، كأنها زفرة مثقلة تتدافع في نَفَس واحد، أو كأنها ردم محموم للهوات السوداء التي تتسع داخل الأجساد. التأرجح. التمهل. التكرار لتأكيد شعور معين والاستمرار في مواجهته. الجموح الذي يقوده الثأر، أو محاولة التخلص سريعًا من حصار ما.
(تحمله ضلالاته إلى أراضٍ أخرى. يرى نفسه فوق قمة جبل والسحاب يمر بجواره بحيث يمكنه الإمساك به لو أراد، تزوره غابة أشجارها على وشك التجمد من شدة البرد، وفي بدايتها كوخ صغير ـ تغطيه من الخارج نباتات متسلقة بزهور أرجوانية وحمراء ـ ويخرج منه رجل وامرأة منشغلان بنفسيهما عمّا حولهما).
ربما نتصوّر أن جميع الأصوات داخل (أخيلة الظل) كأنما هي نبرات متعددة لصوت واحد، غامض، يخص ذات كونية تريد إيجاد تاريخها عبر الشخصيات والأزمنة والأماكن، أو عبر التبادل القائم فيما بينهم بشكل أدق. ذات عالقة في وضعية عابرة، تتخيل، داخل خفاء ما، أو أنها تخلصت من نفسها، أو ربما تعيش فناءها داخل هذه الظلال التي تحاول الكتابة مراقصتها. حسنًا، يبدو أن أحد الاستفهامات الأساسية للرواية تتعلق بهذه الفكرة: هل في الرقص الذي تؤديه الكتابة مع الظلال بلوغ غاية أم منعها، أم تأجيلها أكبر وقت ممكن؟.
(لا دليل على ماضيه، سوى ارتعاشة يد الماكيير، وهي تقترب من وجهه. ولا ضمانة لحاضره، سوى انغماسه في أداء دور لا يدرك أبعاده).
تمثل الأخيلة نوعًا من الوفرة التي لا تنبعث فقط كصلات غير مباشرة بين ظلين، بل تقتحم الأطياف الجدلية للظل كافة الظلال الأخرى، وهو ما يؤلف اندماجًا وتخطيًا للذكوري والأنثوي في هذه الظلال. كأنه طريق يُمهّد تدريجيًا عبر نسخ تمزج بين الطبائع المتنافرة نحو تجانس ما، مخيلة موحدة تستوعب جميع الظلال، وبكيفية تبقيها منفلتة من الأطر النمطية. كأن الظل يسعى لتجميع غنيمة عند حافة ملغزة، متجهزًا لعبورها، كي تكون خارج السياق المفترض لذاكرته. سرقة المتوقع وتحريره من المسالمة كنسخة وحيدة قادرة على خيانة الجميع.
(ثم كأن رسامًا بدأ يرسم الملامح المفقودة، ظهرت لها عينان، تلاهما أنف، حاجبان، وفم. كف عن أن يكون وجهها الأليف القديم. رأت نفسها فريدة وهي تتمسح في منير ويتلوّى جسدها في حضنه بحفلة ما، ثم صارت أمها وهي تفرد أوراق "التاروت" أمامها، ثم تعبس حتى تنحفر تجعيدتان بين حاجبيها وتزم شفتيها مترددة هل تعلن ما باحت به الأوراق أم تتحايل وتلطّف تنبوءاتها).
أين تنتهي الأخيلة؟ .. أفكر في هذا التساؤل كأنني أنظر في بئر كالتي كانت حاضرة في لقاء كاميليا وآدم. كأنني أراقب غرق الظلال في هذه البئر. في غرق اللغة، وفي ما الذي يمكن أن يوجد في آخر البئر. أفكر في كتاب له أثر الفيضان كمقابل لكتاب منقذ كفلك نوح. لأنني أقرأ رواية منصورة عز الدين ببصيرة تعيد التأمل فيما يسمى بـ (الواقع) كسلطة لغوية محتومة، تم تقديس عدائيتها أو تناقضها ـ على الأقل ـ مع سلطة لغوية أدنى وهي (الخيال). الضوء في مقابل الظل. إذا كان على (أخيلة الظل) أن تبدأ بـ (تخيلوا معي) فإن ذلك أدعى حقًا بكل ما هو مؤكد، ومحسوم، ومصدّق تمامًا خارجها، أي ضمن حدود هذا (الواقع) أن تبدأ كل استعادة له بهذا التحريض الشهواني.


نقلاً عن موقع "الكتابة".. 31مارس2017