Friday, April 14, 2017

السرد والجنوسة في سيرة بني هلال: البحث عن صوت الأنوثة المتواري في الذكورية






منصورة عز الدين


منذ صادفني عنوان كتاب "السرد والجنوسة في سيرة بني هلال" للدكتور محمد حسن عبد الحافظ، تحمست لقراءته ليس فقط لعلاقتي بالسيرة الهلالية منذ الطفولة، ولكن لاهتمامي بالجنوسة في علاقتها بالسرد. توقعت أن دراسة عن الجنوسة بمعناها المركب في نص حافل بالتغني بقيم الفحولة والبطولة سوف تكون ثرية ولافتة، والحقيقة فاقت الدراسة القصيرة توقعاتي.

في كتابه يسعى د. عبد الحافظ "للبحث عن صوت الأنوثة المتواري في الذكورية، وإعادة النظر إلى الذكوري الذي يبطن الأنثوي"؛ مؤكداً على أنه يحاول فعل هذا "دون التورط في الوقوع في أحد شركين: تنظير يجدد تطرف المنظور الذكوري، أو تنظير يمتثل لنسوية تؤدي إلى إنكار تركيب المرأة ونتائجه: أي إنكار المرأة ذاتها: أي التفكير وفق استراتيجية نُجاوِر بها خطابين: المهيمِن والمهيمَن عليه."

يحاول المؤلف خلخلة ما درج الباحثون عليه من ربط للسيرة الشعبية بعالم الذكور، حيث أن الشائع أن معظم رواتها (على تنوع طرائقهم) رجال، ومتلقيها المباشرين الظاهرين رجال، والفضاء السردي السيري  من خلق الرجال ويتحكم فيه الرجال.

يبدأ من تساؤل بسيط مفاده: هل السيرة الهلالية إنتاج حكائي أنثوي، وأداؤها الشعري ذكوري؟ السؤال أقرب لفرضية يضعها الباحث موضع الاختبار، رغبةً منه في الإجابة على سؤال آخر: "هل السيرة الهلالية سيرة نسوية؟"، وهو سؤال تبادر إلى ذهنه بعد لقائه عام 1996 بالسيدة رتيبة فرغلي الراوية الأسيوطية للسيرة الهلالية.
لاحظ د. عبد الحافظ أنها تعيد صوغ الأساس الذي يقوم عليه مولد البطل في سيرة بني هلال بحيث تتحول خضرا الشريفة لا "أبو زيد" إلى البطل المحوري. "تضع السيدة رتيبة النساء في مرتبة البطولة، أو ترتقي بالبطولة إلى مرتبة النساء" كما يكتب.

يقصد المؤلف لفت النظر إلى أن سيرة بني هلال حكاية من خلق النساء وإبداعهن كحال "ألف ليلة وليلة"، وتحتل النساء بطولة المشاهد المركزية فيها، "بينما يمثل الرجال حراسا للسيرة الهلالية ورواة ومؤدين لها، على نحو أتاح لهم حرية صوغها في أشكال شعرية تتسم بالفحولة."
من موقع الحراسة هذا، أصبح للرجال سلطة التشويش على السمات والأنساق النسوية داخل السيرة الهلالية، ووسمها بما يتفق مع رؤيتهم، أي أصبحوا حراس البوابة التي تصل عبرها السيرة إلى المتلقين.

يتوقف د. عبد الحافظ أمام صراع الأنواع الشعرية في "الهلالية"، فالمربع هو النوع الشعري الشائع في أداء الرواية المصرية لها في أسيوط وسوهاج وقنا، لكن هناك أيضا "الفرادى" و"الموال" و"الحداء" في مناطق أخرى، كما أن نسخ السيرة الهلالية المخطوطة والمطبوعة منذ القرن التاسع عشر تحوي قصائداً عمودية وزجلاً. وحين سأل الباحث الراوي مصطفى عبيد عن مصادره، أجاب الأخير بأنه تلقى قصص السيرة عن النساء، بوصفها حكايات، وأعاد نظمها بالقصيد التقليدي ذي الحس البدوي التونسي.

يلاحظ المؤلف أيضاً أن السرود المدونة حافلة بشخصيات أنثوية لا تذكرها السرود الشفهية، في مقابل درجة ثبات أعلى للشخصيات الذكورية! (في إحدى المدونات المطبوعة طبعات عديدة لدى ناشرين مختلفين، نجد أن ثلثي القصص معنونة بأسماء نساء). وهذا يعيدنا من جديد إلى الدور الذي يمارسه رواة السيرة كحراس للبوابة، وتأثيرهم على الصورة التي يصل بها العمل لمتلقيه، إذ يكون مصبوغاً برؤاهم وأفكارهم ومشاعرهم ونظرتهم للعالم.
فكون السيرة الهلالية نصاً شعبياً تمثل الشفاهة دوراً مركزياً في أدائه وتلقيه يعني أننا أمام نص دائم التحول والتبدل وأنه خاضع طوال الوقت لعملية مستمرة من الإزاحات تجعله في حالة ابتكار وإعادة خلق لا تنتهي.

"الرواة الساردين والمؤدين والشعراء الشعبيين (الرجال) عملوا على الإيهام بالسيطرة على "خطاب السيرة الهلالية"، لكن الحقيقة لا تعدو غير نجاحهم في إبداع منظومات متعددة من الأداء المتقن الذي راكم النصوص، دون أن يعني ذلك طمس العلامات السردية المتصلة بحس النساء، أي دون أن يكون في مستطاع "هيمنة" الأداء الذكوري "وأد" حس المرأة وإبداعها السردي، بل الأدائي، الذي أسهم في خلق جماليات السيرة الهلالية.".

ثمة سمة لافتة أخرى تخص الاختلاف بين السيرة المدونة والمرويات الشفاهية لها، تتمثل في تهرب المؤدين والرواة الرجال من أداء عديد النساء في السيرة والتحايل عليه بتحويله إلى "مربع" أو "فرادي"، إذ يرون في العديد انتقاصاً من الفحولة الشعرية وغير الشعرية. ويخلص الكاتب إلى أن ""سردية السيرة الهلالية" ليست ذكورية حصراً، فالشفرات النسوية جذر إبداعيتها."

وفي الفصل الأخير المعنون بـ"في سردية الشخصية النسوية" يتوقف المؤلف أمام مركزية الشخصيات النسائية في الهلالية خاصة خضرا الشريفة والجازية التي يصفها بـ"الشخصية السردية المحورية في سيرة بني هلال، بدورها المركزي في الأفعال السردية: في التدبير القبيلي لشؤون الرحلة. في قرار الحرب. في الصراع المركب والمتراوح بين الأبطال." والجازية أيضاً هي التي يعرف بها اسم العلم "حسن"، إذ "يُلقب حسن بـ"أبو علي أخو الجاز"، على نحو نادر في تاريخ النصوص القولية الشعبية العربية، يكنى فيه رجل عن شخصية امرأة ليست أمه (على نحو ما ينسب "أبو زيد" إلى أمه: "ولد خضرا الشريفة"؛ "ابن الشريفة"؛ "ابن الغريبة"؛ "ولد الغريبة".. إلخ)"

قرب نهاية كتابه، الصادر عن معهد الشارقة للتراث، يشير محمد حسن عبد الحافظ إلى أن تلك الإضاءة لا تمثل "مخططاً كاملاً لمقاربة كلية لموضوع الشخصية السردية النسوية في السيرة الهلالية، كما أن التركيز على نموذج شخصية "الجازية" ليس مكتملاً هنا، وإنما يجري على نحو سياقي. إنها إضاء- علامة إشارية فحسب."
كما عرفت منه أن دراسته هذه جزء من مشروع أوسع يشتغل عليه.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.


No comments:

Post a Comment