فايز علام
13.04.2017
"تخيّلوا
معي مقعداً خشبياً في الباحة الأمامية لبيت على ضفة الفلتافا، قريباً من جسر
تشارلز. على المقعد تجلس امرأة مكتنزة، شعرها يتلاعب به هواء الربيع وملابسها
سوداء متقشفة. مستغرقة في تأمل مساحة صغيرة من الأرض بين قدميها المتباعدتين
قليلاً".
هكذا
تبدأ منصورة عز الدين روايتها الأخيرة "أخيلة الظل" بأن تشرك القارئ في
لعبة الخيال والافتراضات هذه، دون أن تحاول إيهامه بواقعية ما سيقرؤه.
نحن أمام
رواية تحتفي بالخيال إذاً، وتحتفي بالتجريب أيضاً، فـ"تخيّلوا معي"،
"لنفترض"، "لنختر"، "كي نفهم"، "لننسَ مؤقتاً"...
كلها عبارات تخاطب بها الكاتبة القارئ بينما النص يتابع نموّه في مخيّلة نتشاركها
معه وفيه.
نقرأ عن
مجموعة شخصيات تتشارك لعبة ظلال كتابية، فـ"كاميليا" التي يبدأ السرد
معها هي كاتبة مصرية أتت إلى براغ في زيارة لمهرجان أدبي، وهناك أمام متحف كافكا
التقت بـ"آدم" الكاتب الأمريكي، تبادلا بضعة أحاديث، باحا لبعضهما
بأسرار عميقة يسهل البوح معها أمام غرباء قد لا نلتقيهم مرة ثانية، وأخبرته عن
حلمها بكتابة قصة تراها وتشترك في أحداثها في الوقت نفسه.
"قصة عن
كاتبة روسية تعيش في براغ، تكتب بدورها عن طفلة ناجية من مذبحة، يسكن مع الكاتبة
عازف بيانو رغبت خلال الحلم في اختيار جنسية مناسبة له، ثم قررت إرجاء الأمر لوقت
لاحق! كان ثمة أيضاً عجوز يسير بلا انقطاع، جيئة وذهاباً، على جسر تشارلز، فيما
أتابعه من شرفة الكاتبة الروسية في بناية تشرف على الفلتافا".
اللعب
والتجريب سيكملان حين ينتقل السرد إلى "أولغا" الكاتبة الروسية نفسها،
لنفاجأ بأنها تكتب قصة عن كاتب وكاتبة يلتقيان في براغ، ما هما إلا
"كاميليا" و"آدم"، وبين هذه التخيّلات التي ندخل في متاهاتها،
يقودنا سؤال "من يكتب من؟" لننغمس مع الشخصيات التي تروي أحاسيسها وتروي
بأحاسيسها لحظات الفقد التي عاشتها وتعيشها.
"كاميليا"
الفاقدة لنوع من القبول الاجتماعي في طفولتها فهي "دبدوبة، بطيئة الحركة
والفهم"، وهي تعيش الآن لحظة إحساس بحفرةٍ آخذةٍ في الاتساع بجوفها بعد أن
أجهضت جنينها، أما "آدم" الفاقد لاستقرار نفسي يريحه ويبعد عنه مخاوف الطفولة
وهواجسها، فما زال مسكوناً بقصة جدته الناجية من مجزرة، في حين تعاني زوجته
"روز" من فقد مزدوج: فهي لا تنجب، وما زالت ظلال موت شقيقتها الصغيرة
تؤرق نهاراتها ولياليها، دون أن تملك القدرة على صدها أو نسيان ما قد حصل منذ زمن
بعيد.
أما
"أولغا" الكاتبة الروسية فقد فقدت إيمانها بالكلمات، وغرقت في أحلام
يقظة باحثة عن أي إلهام يشحذ خيالها، وزوجها "ساندرو" الذي عانى من
فقدان أمه طفلاً، يعاني اليوم من فقدان أصابعه القدرة على العزف. أما طليقها
"فلاديمير" الرجل المشّاء الذي يمشي جيئة وذهاباً، فهو فنان تشكيلي خضع
لجراحة في عينيه فصارتا تضفيان أطياف الأزرق على كل ما يراه.
أقوال
جاهزة
روائية
تقودنا نحو الجنون ونحن نسأل "من يكتب من؟"...
ما هو
لافت في "أخيلة الظل" أن الكاتبة لا تتقيد بحدود لأي شيء، تنغمر في
الخيال وتغمرنا فيه...
إننا
أمام مجموعة من الشخصيات التي تعاني من الفقد بأشكال مختلفة، كما أنها تشترك في أن
لها جميعها علاقة مباشرة بالفن، تركّز الرواية على لحظة يصبح فيها فنهم هذا موضع
قلق وفزع أو سؤال بالنسبة إليهم، فبعضهم فقد قدرته على إنتاجه وبعضهم الآخر فقد
إيمانه بجدواه وماهيته.
وما بين
هذه المخاوف التي يعيشونها الآن: زمن الكتابة، وما عاشوه في مواضيهم: الزمن
المتذكَّر، تناقش الرواية علاقة الفن بالواقع وعلاقة الظل بالأصل، لترسل ضوءاً
مهتزاً يشكّل ظله أخيلةً وتخيّلات مراوغة، تحكي عن أثر مرور الزمن وعبء هذا
المرور، وعن شعور أليمٍ بالفقد نحاول ترميمه بالفن، وعن متاهاتٍ للعب تقودنا وراء
الفردوس، فردوس الخيال الذي لا ينضب بل ينبع كشلالٍ متفجّر، هو وحده من يسمح
باختراع صلة بين شخصيات لا علاقة بينها، ويضيف لعبة جديدة لألعاب كاميليا الذهنية
اللانهائية: "اختراع صلة بين أشياء لا صلة ظاهرة بينها".
ورغم أن
الرواية تنحاز بلا مواربة للخيال، فإنها تبني صلاتٍ مع ما نعيشه اليوم في العالم
العربي من ثورات وعنف ومجازر وحروب، يبدو هذا جلياً في قصتين يكتبهما كل من
"آدم" و"كاميليا" ويتضمنهما السرد.
ستكون
قصة "كاميليا" عن قائدٍ يدعوه أتباعه "المنقذ" ويحكم بلاده
بقبضة من حديد ونار، ورويداً رويداً ينسج حول نفسه شبكة هلاكه، بعد أن تبدأ
التمردات عليه، وستكون قصة "آدم" عن مدينة للخوف، مدينة في لحظة فنائها،
تلقى عليها أطنانٌ من القنابل الحارقة، وتتحول بيوتها إلى قبور لساكنيها، وثمة
رجلاً، هو الذي تدور حوله القصة، مدفوناً تحت الأنقاض يتخيّل ظلال حيوات سابقة
عاشها في أجساد مختلفة، ويتذكر إخلاصه للعابر والمتطاير، وتمجيده للعدم، وللهدم
بعد التشييد.
في
الرواية تقوم "عز الدين" بفعله نفسه، تشيّد افتراضاتٍ وخيالات ثم تهدمها
لتعيد تشكيل غيرها من جديد، وتقودنا نحو الجنون ونحن نسأل "من يكتب
من؟"، فنغرق في بحر من الاحتمالات بينما هي مشغولة بتخيّل غرقٍ لذيذ آخر، هو
الغرق في اللغة ومعها، ويبدو هذا على مستويين، المستوى الأول هو في استخدام اللغة
نفسه ضمن السرد، والمستوى الثاني هو الأفكار حول اللغة نفسها، ما الذي تعنيه كلمة
ما كالخيال مثلاً، وما هي المفردات التي تندرج تحتها ضمن المعجم، مثل: "الظن،
التوهم، السحاب، الطائر خاطف ظله..." هذه المفردات ستشكّل مفاتيح جديدة
لحكايات وقصص أو مشاهد أخرى ضمن السرد.
سؤال
اللغة، لن يتوقف عند هذه الحدود، بل سيتعداها لتأمل العلاقة بين الإنسان ولغته،
كيف يمكن للغة أن تحمل الذكريات والذاكرة، وهل ينفع للخلاص من الألم اللجوء إلى
لغة جديدة غريبة، يولد فيها الإنسان من جديد بلا ذاكرة قديمة، كما هو حال
"آميديا" جدة آدم الناجية من مجزرة، والتي حاولت دفن لغتها الأصلية
والالتجاء إلى لغة جديدة؟
بدورها
"كاميليا" ستتخيّل شيئاً أكثر تطرفاً، وأكثر لعباً مع اللغة وفيها،
"لا بد من وجود كتاب له أثر الفيضان وفعله، يطيح بكل ما يقابله ويشظي كل ما
فيه. كتاب يُغرق شخصياته وقراءه في بحار لا نجاة منها، ويبتلع كلماته ومعانيها في
فجوات مظلمة بداخله. خطر لكاميليا أن هذا هو الغرق الجميل، تخيلت الكلمات الطافية
فوق السطح بعد أن فقدت معانيها".
ما هو
لافت في "أخيلة الظل" أن الكاتبة لا تتقيد بحدود لأي شيء، تنغمر في
الخيال وتغمرنا فيه، "فكما تعرفون كل شيء مباح في لعبة الافتراضات، وما نحن
بصدده مجرد لعبة" هذا ما تخبرنا به منذ بداية الرواية، وتتشبث به بشراسة
أثناءها، وتتركنا نتأمل فيه بعد انتهائها لنعيد رسم "أخيلة الظل" الخاصة
بنا.
منصورة
عز الدين، كاتبة مصرية من مواليد عام 1976، لها مجموعتان قصصيتان: "ضوء
مهتز"، "نحو الجنون". ولها أيضاً أربع روايات: "متاهة
مريم"، "وراء الفردوس" التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة
البوكر العربية 2010، و"جبل الزمرد" التي نالت جائزة أفضل رواية عربية
في معرض الشارقة للكتاب 2014، و"أخيلة الظل". ترجمت رواياتها إلى
الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والألمانية، وقصصها إلى أكثر من عشر لغات.
الناشر: دار التنوير/ بيروت – القاهرة – تونس
عدد
الصفحات:
176
الطبعة
الأولى:
2017
نقلاً عن موقع رصيف22
No comments:
Post a Comment