Friday, April 7, 2017

أصوات المساء: كلمات ضائعة في صمت الليل






منصورة عز الدين


في روايتها "أصوات المساء" تأخذنا الكاتبة الإيطالية نتاليا جينزبورج في رحلة خاطفة داخل حيوات شخصيات تعيش في بلدة إيطالية صغيرة، ورغم أن السرد مقتصد إلى أبعد حد ويركز على أكثر الأشياء هامشية في حيوات هذه الشخصيات، نشعر أننا نعرفهم تمام المعرفة ومررنا بما مروا به؛ عانينا ويلات الفاشية وأثرّت أهوال الحرب العالمية الثانية علينا وعلى أقدارنا وغيرت عالماً كان مألوفاً لنا حتى وقت قريب.
لا يعني هذا أن جينزبورج تكتب عن الحرب بشكل مباشر أو تهتم برصد مجرياتها، بل فقط تقترب منها عبر آثارها المخاتلة وظلالها التي تكاد تكون خفية وغير ملموسة على نفسيات الأشخاص العاديين وحيواتهم.
نحن هنا أمام كاتبة بارعة شديدة الذكاء والمكر، تتقن المواربة والإخفاء والتلميح باعتبارها الأبواب المشرعة على الفن.
يلعب الحوار دوراً رئيسياً في العمل، فهو طريقة جينزبورج في قول الكثير بأقل الكلمات الممكنة، من خلاله نعرف دواخل الشخصيات وخواء حياتهم، وميل بعضهم إلى ثرثرات لا نهائية تُقابَل غالباً بصمت الطرف الآخر، فالحوار هنا ليس آداة تواصل وتحاور بقدر ما هو آلية لإعلان القطيعة النفسية بين الذات والآخر.
معظم "الحوارات" تنقلها البطلة والراوية إلسا لنا كمونولوج متقطع لشخصية ما دون ردود من الآخرين، في الصفحات الأولى من العمل مثلاً، تنقل لنا ثرثرات أمها على النحو التالي: "قالت أمي:...، قالت:.....، ثم قالت:....." تتكلم الأم وترد على نفسها كأن إلسا لا وجود لها أو ليست مطالبَة بالرد، وحتى إن ردت فردها لا أهمية له ولا يستحق التدوين. باختصار تبدو إلسا تحديداً صامتة صمتاً أبدياً في مواجهة ثرثرات الآخرين.
تتكرر حالة "اللاحوار" هذه بين شخصيات أخرى على امتداد الرواية، وفي الحالات القليلة التي يحدث فيها أن ترد شخصية ما على أسئلة شخصية أخرى يأتي هذا في مقام الزجر أو الشجار أو عدم الفهم، كأن الأصل في العلاقات الإنسانية هو انعدام التواصل.
وفي سياق متصل، تبدو كل علاقات الرواية تقريباً محكومة بالفشل، فحب جيمينا لنيبيا من طرف واحد، وزواج ماريو بزينيا ينتهي بموته وزواجها لاحقاً بالطبيب المعالج له خلال مرضه الأخير، ويطلق فينتشينزينو زوجته كاتي بعد خياناتها المتكررة له أثناء علاقة مسكونة بالصمت والضجر. ولا تشذ علاقة إلسا وتومازينو عن هذه القاعدة.
اللافت للنظر أن معظم هذه "الحوارات" تحدث بعد الغروب، من هنا يمكن فهم عنوان الرواية، غير أن وصف ما يقال بحوارات ينطوي على عدم دقة، فالكلمات المنطوقة – كما سبق وذكرت - ليست لغة مفتوحة على التحاور بقدر ما هي أصوات ضائعة ومتناثرة في صمت المساء ووحشته.
من السمات المميزة للرواية سخرية نتاليا جينزبورج  الخفيفة التي تكاد تكون متجهمة، ورغم هذا التجهم أو ربما بسببه، أراها تتسم بالذكاء والفرادة.
من أمثلة هذه السخرية المتجهمة والمبطنة، حين تقول زوجة بالوتا المسن له:
"- يعيش المرء ما دام الرب يسمح بذلك."
فيرد عليها:
 - "رب ماذا؟ لا ينقصنا إلّا وجود رب أيضًا!"
عبر هاتين الجملتين الموجزتين، يمكننا تلمس شخصية كل منهما وملامح العلاقة بينهما.
أيضا حين تخبر إلسا تومازينو أنها منذ أحبته وقلبها يدق بسرعة من فرط الانفعال إذا رأت سيارته مركونة أو صادفت أحد أفراد عائلته، يقول لها:
"- لا أفهم، هل يبدو لكِ شيئاً مثيراً للانفعال رؤية "مانيا ماريا"؟
قلت: - عندما أرى مانيا ماريا يبدأ قلبي يدق بسرعة.
قال: - لا أفهم! أنا عندما أقابل أباكِ في ممر المصنع، لا أشعر على الإطلاق بأن قلبي يدق."
وفي معرض وصفها لشخصية جيمينا بإيجاز مثير للإعجاب تكتب جينزبورج:
"عندما عادت من سويسرا قالت: - لن يأخذ مني أحد "الكازيتا".
أراد إخوتها أن يذهبوا ليعيشوا معها، بعد أن عادوا إلى البلدة، ولكن أصرت هي على أن تردد: - "الكازيتا" كان منزل أبي وأمي، ولن يأخذه أحد مني.
باءت بالفشل محاولة أن يشرح لها أحد أن والديها، هما أيضاً والدا إخوتها الآخرين، لا والداها هي فقط."
في الأمثلة السابقة، وعلى امتداد صفحات الرواية، سخرية جينزبورج لا تكاد تُحس، وهذا تحديداً ما يجعلها عصية على النسيان.
تبدأ الرواية بإلسا وهي في طريق عودتها مع أمها إلى البلدة بعد زيارة الطبيب، الأم منغمسة في ثرثرات من طرف واحد، وعلى وقع هذه الثرثرات تعرفنا إلسا بأسرتها، ثم بعائلة "بالوتا المسن" أصحاب مصنع القماش الذي تتمحور حوله حياة سكان البلدة، تحكي إلسا قصة كل فرد من أفراد عائلة بالوتا المسن حتى تصل إلى الابن الأصغر تومازينو الذي نعرف لاحقاً أنه حبيبها السري الذي تقابله مرتين أسبوعياً في شقة بالمدينة المجاورة.
ما أن تظهر علاقة تومازينو بإلسا حتى نشعر أنها قلب الرواية ومركزها، وأن الشخصيات والأحداث السابقة، على أهميتها، مقدمة الغرض منها مساعدتنا على فهم خلفيات حب إلسا وتومازينو بدرجة أعمق. وما يميز قصة الحب هذه أنها خافتة، ومع هذا أراها واحدة من أعذب قصص الحب المكتوبة. يخبر تومازينو إلسا المرة تلو الأخرى أنه لن يتزوجها، ولأنها تحبه، تستمر معه على أمل أن يغير رأيه. ورغم إصراره هو على الإيحاء بأنه لا يحبها حباً متأججاً، فإنه بالتدريج يفعل كل ما بوسعه لإسعادها: يزورها في منزلها ويجالس أهلها رغم كرهه لهذا النوع من التواصل، ثم يتقدم لخطبتها. لكن لأن البشر في عالم نتاليا جينزبورج الإبداعي جُزر منعزلة والعلاقات الإنسانية محكومة بالاخفاق، يفترق تومازينو وإلسا. وكما بدأت الرواية بإلسا وأمها عائدتين إلى البلدة من عند الطبيب، تنتهي بعودتهما في أكتوبر أيضاً من بستان الكروم المملوك للأسرة. حلَّ الليل وأُضيئت مصابيح الشوارع بينما تسير إلسا على وقع ثرثرات أمها بعد أن اكتملت الدائرة وتفرقت السُبل بمعظم شخصيات الرواية.

"أصوات المساء" صادرة عن دار الكرمة، بترجمة متميزة أنجزتها عن الإيطالية مباشرة المترجمة أماني فوزي حبشي.

زاوية "كتاب".. نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.

No comments:

Post a Comment