إيمان اليوسف*
قبل نحو خمس سنوات قرأت بالمصادفة مسرحية "مصير صرصار" لتوفيق الحكيم. وقعت على الفور في عشقه. أذكر أني اقتنيت جميع مسرحياته من شهرزاد وبنك القلق وأهل الكهف إلى الأيدي الناعمة والملك أوديب وغيرها. عندما تطلع على جميع أعمال كاتب بعينه، تصبح جزءاً من حرفه. دون أن تشعر، تلتحم وقلمه فتتحدان بطريقة أدبية لذيذة.
تطوعت مؤخراً لإدارة جلسة أدبية ضمن جلسات مهرجان طيران الإمارات للآداب. كان قد بقي جلستان حين عُرض عليّ إدارة الجلسة. وافقت مدفوعة بالفضول لاقتحام تجربة جديدة عليّ. اخترت المرأة بين الكاتبين لانحيازي للكاتبات، فكانت الكاتبة المصرية منصورة عزالدين من نصيبي.
كنت قد اقتنيت روايتها "جبل الزمرد" قبل عام بعد فوزها بجائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة للكتاب 2014، ولم أكن قد قرأتها بعد. بدأت بقراءة رواياتها وفق الترتيب الزمني لصدورها، وذلك للشروع في إعداد الأسئلة.
بدأت بروايتها "وراء الفردوس" التي رُشحت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2010. هذه الرواية أقرب لجغرافية مصر من الروايتين اللتين تلتاها، "جبل الزمرد" ثم "أخيلة الظل".
من الجدير بالذكر أن جميع روايات منصورة تقودها بطلات إناث، فبطلة رواء الفردوس هي سلمى رشيد، وبطلة رواية جبل الزمرد هي بستان البحر وهدير، كما أن بطلة رواية أخيلة الظل هي كاميليا.
يشارك الرجل البطلات في نضج وتطور شخصياتهن على مر الرواية حتى لنراه يقف في صفها، بمحاذاتها أحياناً كما في حال شخصية آدم في رواية أخيلة الظل.
يتواطأ قلم منصورة مع كل شيء عدا الجغرافيا. تفتنها الأمكنة وتسحرها الرحلات وأدب السفر. قد تكون أكثر رواياتها استقراراً هي وراء الفردوس، إذ تقع أغلب أحداثها في الريف المصري وسط أسرة من أصحاب مصانع الطوب (الأحمر ثم الطَفلي).
يتشظى المكان لديها في رواية جبل الزمرد ليقتحم المُتخيل والأسطوري إلى جانب الواقعي، فنرحل مع شخصياتها إلى جبل المغناطيس وجبل الزمرد ومدينة قاف في عالم ألف ليلة وليلة الساحر حيث العنقاء والحية العملاقة والطيف. السفر عند منصورة واقعي أيضاً فنتعرف في روايتها على مدينة ثاكاتيكاس وجبل سيرو دي لا بوفا بالإضافة إلى مدن إيرانية كأصفهان وشيراز وحتى كندا وعدد من الدول الأوروبية، كذلك الثيمة التي تربط جميع رواياتها كعمود فقري، بل بؤرة المكان التي تنطلق منها الرحلات كافة والسفر الأوحد الذي لا يكون إلا منها، القاهرة.
الجغرافيا في أخيلة الظل واسعة أيضاً، تتمركز في مدينة براغ وتتناول مدناً أخرى كسياتل وأريزونا وغيرهما بشغف وسعة إطلاع.
كتابات منصورة عزالدين ثرية إلى حد لم أره عند أي كاتب أو كاتبة غيرها على سعة اطلاعي وغزارة قراءاتي. تمتد يدها لتشاكس مختلف المواضيع والزوايا، فهي تناقش تفسير الأحلام وقراءة الفنجان، وتتحدث برشاقة وطلاقة لا نظير لها عن علوم الألوان والميثولوجيا وأنواع الأقمشة وعلوم الطاقة والعوالم المتوازية وحتى أنواع الأحجار الكريمة ودلالاتها.
لمنصورة عزالدين اهتمامٌ واضح بصورة سافرة بالأزهار والأشجار. يرد ذكر أسمائها ورمزيتها واستخداماتها في كل رواية من رواياتها الثلاثة. في وراء الفردوس تأتي على ذكر نباتات الريف المصري كأشجار الليمون والكافور وأزهار النرجس والآس. أما في رواية جبل الزمرد فتذكر نباتات المانجو وأخرى ذات طبيعة غريبة تتناسب والعالم الآسر الأسطوري للرواية. أما أشجار الجميز والحور وأزهار الدفلى والبيلسان في رواية أخيلة الظل وغيرها الكثير.
أثناء
قراءتي لروايات منصورة عزالدين كنت كمن تمر في حديقة سرية ريانة، حديقة جميلة لا
تنتهي من زروع باسقة تنتفض فيها الحياة.
لا يوغل أديب في تعقيدات النفس البشرية كما تفعل منصورة. تشبه الجراح، أو تبدو أقرب إلى من يقشر بصلة آدمية. تحكي شخصياتها بدءاً بالشكل الخارجي واختيار الهندام وطريقة النطق والمشي وصولاً إلى تفاعل كل شخصية مع غيرها من الشخصيات ومع المواقف والتحديات. تنتهي الرواية لنكتشف أننا أمام شخصية مختلفة تماماً عما فهمناه في البداية. الأمور لا تبدو دائماً على ما هي عليه في الحقيقة، أليس كذلك؟
في روايتيها "وراء الفردوس" و"أخيلة الظل" تستخدم منصورة صوت الراوي العليم أسلوباً للسرد، بينما تلجأ لأسلوب "الحكي" في رواية "جبل الزمرد" التي تأتي على لسان بستان البحر أو بوستان دريا أو باغ دريا كما هو اسمها في موطنها الأصلي. وكأن منصورة بهذا الاختيار في هذه الرواية بالتحديد والتي تحكي عن القصة المفقودة من كتاب الليالي تدرك أهمية حكي الأنثى وقدرتها الساحرة على القص، فتنافس شهرزاد ببستانها.
تسرد منصورة شخصياتها بشكل عجيب. يتكرر ذلك في رواياتها الثلاث، إذ يواجه القارئ كماً كبيراً من الشخصيات (ملاحظة: كان علي في كل رواية خاصة "وراء الفردوس" لكتابة أسماء الشخصيات على ورقة منفصلة وصنع شجرة لتسلسلها منعاً للخلط).
تحكي منصورة سيرة كل واحدة من هذه الشخصيات، تتنقل بينها برشاقة وحرفية لكنها لهذا السبب تفقد سرعة تواتر الحدث. البطل في روايات منصورة هو الشخصية وليس الحدث. هو المحرك وهو المتحرك والمُحرك به. غالباً ما تخلو أجزاء من فصول رواياتها من الأحداث المفصلية وتجنح أغلب المقاطع لهدوء الحدث، مقابل نضج وتبدل الشخصيات والحفر والتنقيب داخلها بالإضافة إلى العودة للماضي (تقنية الفلاش باك).
تحولت منصورة عز الدين من كاتبة أحضر لإدارة جلستها ضمن المهرجان إلى إحدى الكاتبات اللاتي أعشق حرفهن وأتابعهن بشغف. أقرب رواياتها كانت "أخيلة الظل". التقنية التي تستخدمها منصورة من بداية الرواية وتمحورها حول مقعد خشبي مطلي بالصبغ الأخضر أمام متحف كافكا، تقنية مذهلة.
لن أحرق أعمالها بذكر المزيد. أترككم مع توصية كبيرة بالاستمتاع بقلم هذه
الكاتبة المميزة صاحبة القلم ذو البصمة الخاصة أو كما يصفه أ. محمود أمين العالم
"قلم قاطع أشبه بالسكين في حدته وشراسة نقله للواقع".
* كاتبة إماراتية
نقلاً عن مجلة الإمارات الثقافية، العدد 55
No comments:
Post a Comment