منصورة عز الدين : الكتابة مرادف للحرية، ولا مجال معها للقيود والمحددات
حوار: سامر مختار
ما يميز
رواية "أخيلة الظل" للروائية المصرية منصورة عز الدين –
صدرت مؤخراً عن دار التنوير – عدم إصرارها على إيهام قارئها بواقعية القصة، ولا
حتى الإيقاع بوهم أحداثها، بل هو الاستسلام التام للعبة لا يمكن دخولها بنوع من
الاستخفاف، لأن خيوط لعبة الخيال في "أخيلة الظل" تحمل من الغموض بقدر
ما تحمل من الوضوح. فعندما نقرأ هذا الرواية، وأعمالاً أخرى للكاتبة، نشعر أنها
تمسك بإحدى يديها قلم الكتابة، وفي اليد الأخرى ممحاة، هذه الممحاة لها وظيفة
أساسية على ما يبدو؛ وهي إزالة الفواصل التي من الممكن أن ينتبه إليها القارئ، بين
الواقع والخيال. لنعرف أكثر كواليس هذه الكتابة، وانشغالات كاتبتها، هنا حوار
معها:
* في
روايتك الجديدة "أخيلة الظل" ثلاث شخصيات، هم كتّاب (كاميليا – آدم –
أولجا)، ومن ناحية أخرى الرواية قائمة على لعبة الخيال والفرضيات. ما هو الدافع
لتربطي مثلاً أحلام وتخيّلات (كاميليا، أولجا) بعضها ببعض؟
ككاتبة
أدين للأحلام وأحلام اليقظة بالكثير. يمكن القول إنهما أهم منابع التخييل عندي.
كتابتي مزيج من الأحلام والخيالات المفارقة للواقع لكن ضمن حوارية أو علاقة
ديناميكية مستمرة مع هذا الواقع. في الكتابة، لا يمكنني الحديث عن دافع واضح
وصريح، المسألة دائماً ما تبدأ باستيهامات ضبابية أركض وراءها لأستكشف
السيناريوهات المحتملة لها. هنا، حاولت إشراك القارئ في عملية التخليق تلك.
الكتابة بالنسبة لي لعبة افتراضات وتخيلات، لكن هذا الأمر يتضاعف ويتكثف في
"أخيلة الظل" التي أظن أنها لا تتوقف أمام معضلة الكتابة فقط بل الفن في
المجمل بسرابيته ومراوغاته. الشخصيات التي أشرت إليها شخصيات مركزية في العمل، لكن
إلى جانبها شخصيات أخرى ضمن لعبة ظلال ومرايا. كل شخصية تقريباً لها علاقة بالفن
بطريقة ما سواء كتابة أو فن تشكيلي أو موسيقى، وتلتقطهم الرواية في لحظة مأزومة أو
لحظة تشكك في جدوى الفن أو تساؤل حوله أو هلع من فقدان القدرة على إنتاجه أو حتى
لحظة انحياز للعدم على حساب الفن.
لحظة
الإلهام الأولى جاءت أثناء زيارتي الأولى لبراغ في ربيع 2011، وبدأت كتابة أجزاء
من الرواية وقتها ثم تركتها لانشغالات كتابية أخرى، لكن المدينة كانت تلح عليّ حتى
في الحلم دون أن تغيب أدق تفاصيلها عن ذهني، فعدت لمسودات العمل من جديد، ولم أشعر
أن الوقت الذي ابتعدته عنها كان وقتاً ضائعاً لأن الفكرة بدت كأنما تخمرت وتعتقت
في ذهني بشكل أوضح.
أثناء
الكتابة كنت أطمح إلى تفحص علاقة الفن بالواقع والظلال بأصولها وعلاقة الأخيرين
بالتخييل، كما رغبت في لعبة ظلال كتابية بين الشخصيات المختلفة، وأظن أن طريقة
بناء العمل كانت الأكثر ملاءمة لنمط العلاقات بين هذه الشخصيات المتصادية مع بعضها
بعضاً.
* في
الرواية ذاتها أيضاً، تفردين مساحة لسرد تفاصيل الصورة التي تتأملها أولجا على سطح
المكتب الخاص بحاسوبها "منظر شتوي من يوركشاير بإنكلترا"، وفي مقال نشر
في جريدة المدن الإلكترونية في عام 2013 تحت عنوان "ما تخفيه الصورة" تقولين
إن "حامل اللوحة الخشبية ستبقيه الكاميرا أسير زمن ميّت لا يتقدم". هل
يستفزك تثبيت الزمن بالصورة الفوتوغرافية؟
علاقتي
بالفوتوغرافيا معقدة منذ الطفولة. اعتدت النظر للصور الفوتوغرافية باعتبارها فضاءً
سحرياً أرى فيه من أعرفهم يشبهون أنفسهم ويختلفون عنها في الوقت نفسه. ثبات الصورة
وصمتها وسكونها كان مخيفاً لي ومثيراً لمخيلتي. كنت أخاف من الكاميرا، وأصاب
بـ"هستيريا" كلما حاولوا تصويري. لا وجود للطفلة التي كنتها في الألبومات
العائلية ولم أتخلص من هذا الهلع الطفولي من التصوير سوى مؤخراً. في المقابل ظل
تثبيت الزمن في الصور يأسرني وكذلك المسافة بين الصور (خاصة غير الملونة) وبين
أصلها. أظن أن الفن، على اختلاف أنواعه، ينطوي على هذا التثبيت للحظة مصيرها
الزوال لولاه. الفنون، بشكل أو بآخر، في علاقة إشكالية بالزمن، ما بين الرغبة في
إيقافه أو إبطائه من أجل التأمل والفهم والرغبة في مراوغته واللعب معه أو تحديه،
لكن هذا يتكثّف بشكل خاص في الفوتوغرافيا. كما يتضح من المقال المشار إليه، فإن ما
يشغلني ليس فقط ما تُظهره الصورة بل ما تضمره وتخفيه وتموِّه عليه.
بالنسبة
لتأمل أولجا للمنظر الشتوي من يوركشاير، فهذا متناغم تماماً مع شخصيتها في العمل
ككاتبة غارقة في أحلام اليقظة، على حافة الكفر بالكلمات والكتابة، وباحثة، في كل
ما حولها، عن إلهام لشحذ خيالاتها.
* هناك
مقال لكِ بعنوان "كهوف الذاكرة" نشر في 30 سبتمبر/أيلول 2012 بمجلة
"الصدى" الإماراتية. كان مفتاحه بطل قصة "ذاكرة فونس" للأرجنتيني
خورخي لويس بورخيس "يحيا تحت وطأة ذاكرة لا نهائية، لا تنسى أياً مما يمر
بها". في المقطع الختامي للمقال قلت إن "الهوية الشخصية تتأسس على
الذاكرة، وتغيب وتضمحل بفقدانها. إن حياتنا، من وجهة نظر كثيرين، ليست ما نحياه،
إنما ما نتذكره مما عشناه".
بالمقابل
كانت هناك شخصية اللاجئة "آميديا – جدة آدم" في رواية "أخيلة
الظل"، والتي في سنواتها الأخيرة تقلع عن الكلام باللغة الإنكليزية إلا
للضرورة، وترتد للغة الآشورية (لغتها الأم) من خلال مونولوجات طويلة لا يفهمها
أبناؤها وأحفادها. هل تعتقدين أن الهوية الشخصية هي أشبه بقدر، أو مصير
محتوم، لا مهرب للإنسان من تغييره؟
سوف أبدأ
من النقطة الأخيرة، لا أعترف بهوية جامدة منجَزة، الهوية في رأيي في حالة تشكل
وتكوّن مستمرة. آميديا هي جماع كل ما مر بها، هي علاقتها المرتبكة باللغة
و"المفردات الصديقة"، وهي أيضاً من دفنت المفردات والذكريات العنيفة في
جوفها وتظاهرت بعدم وجودها. هي الصغيرة المفجوعة وهي آمي كوستاكي اللاجئة مع زوجها
اليوناني إلى وطن جديد ولغة أخرى. الشيء الذي لا فكاك منه هو الذاكرة التي قد
تتحول إلى لعنة بصور عديدة تختلف عمّا أورده بورخيس في "ذاكرة فونيس".
رأيت حالات كثيرة لشيوخ يرتدون للعيش في طفولتهم قرب نهاية حيواتهم. تتلاشى
ذاكرتهم القريبة وتعود ذكريات الطفولة، والتي توارت لعقود، ساطعة. الذاكرة وثيقة
الصلة بالخيال والتخييل. "الخيال هو الذكرى" في رأي بروست،
و"الخيال هو الذاكرة" بكلمات جيمس جويس. وهذا التعريف الرابط بين
الذاكرة والخيال هو في الأصل للفيلسوف والمفكر الإيطالي جيامباتيستا فيكو الذي
فتنت أفكاره جويس وأثرت على إبداعه. من ناحية أخرى يضع جون بانفيل يده على دور
الخيال في تشكيل الذكريات وإعادة اختراعها حين يقول: "للتذكر نستخدم خيالنا.
نأخذ جدائل قليلة من الواقع الحقيقي، ونحملها معنا، ثم مثل محارة نبتكر لؤلؤة
حولها". هويتنا، بشكل ما، ابنة هذه العلاقة الجدلية بين ما نتذكره وما نختلقه
ونخترعه.
* تكاد
اليوم كلمة "خيال" تكون مضللة بعض الشيء، وصف عمل أدبي بأنه قائم على
الخيال، ومن بعدها نصمت. برأيك كيف يمكن للكاتب أن يمتحن مخيلته ويضعها تحت
المساءلة، وهل خياله هذا نابع من صميم تجربته الإنسانية ورؤاه الشخصية، أم
استعارها من دون يشعر؛ نتيجة تأثره بأعمال أخرى؟
مفردة
"خيال" ليست مضللة بقدر ما هي غامضة وزئبقية، فمنابع الخيال ثرية
ومتنوعة ومركبة. ينبع الخيال أحياناً من أغوار سحيقة في ماضي الكاتب أو من مشهد
رآه أو جملة عابرة سمعها. المخيلة الإبداعية هي في النهاية بوتقة صهر. أظن أن على
المبدع تحرير مخيلته والسير خلفها والوعي بنقاط تميزه وتعزيزها والأهم الوعي
بنواقصه والعمل على تلافيها. بالنسبة للتأثيرات الأدبية، لا يوجد كاتب خارج تاريخ
الكتابة، وتاريخ الكتابة قائم على التأثيرات المتبادلة. هل يمكن قراءة كافكا مثلاً
قراءة معمقة بدون الوعي بالتأثيرات الطاوية الصينية على إبداعه؟ إذا نظرنا إلى
بورخيس، والذي ينبني إبداعه على التأثيرات الأدبية، عبر هذه العدسة الراغبة في
"امتحان" مخيلته ما الذي سيبقى منه؟ وماذا عن تأثيرات بورخيس وفليسبرتو إرنانديث على إيتالو كالفينو مثلاً وتأثيرات كافكا على بورخيس؟ وماذا عن زيبالد
الذي يحفل إبداعه بالتناصات المتوارية والظاهرة؟! لا يوجد مَن لم يتأثر بكُتّاب
آخرين، المهم كيف تنصهر هذه التأثيرات ليصل الكاتب إلى صوته الخاص وبصمته الخاصة.
مقال بورخيس "كافكا وأسلافه" مهم جداً في هذه النقطة، وكذلك دراسة
الناقد ريكس باتلر حول هذا المقال. يكتب بورخيس في المقال المشار إليه أن كل كاتب
يخلق أسلافه، وهذه الخلاصة من أعمق ما قيل حول التأثيرات الأدبية، فكافكا (وكذلك بورخيس)
ليس مجرد حاصل جمع المؤثرات الأدبية المكونة له، الأمر أبعد وأكثر تركيباً من
الرؤى التبسيطية.
*
"الرواية" هي الجنس الأدبي المهيمن في عصرنا الحالي. هل تتوقعين أن يأتي
يوم وتنتهي هذه الهيمنة على حساب صعود جنس جديد أو آخر قديم للكتابة الأدبية؟ هل
تخيلتِ شكلاً جديداً للكتابة لا يمكن تصنيفه مثلاً؟
لم يعد
التصنيف يشغلني كثيراً. أؤمن بالتجاور والتحاور والتداخل بين الأجناس الأدبية
المختلفة، بأن يستعير جنس أدبي ما من جماليات أجناس أخرى. ما أفكر فيه حالياً، هو
أن الشكل الصارم قد يتحول إلى قناع يخفي العيوب ونقاط الضعف. كُتّابي المفضلون، في
معظمهم، لا يتقيدون بالتصنيفات المعتادة، يمكن القول إنهم عابرون للأنواع. في
السابق كانت الأعمال الروائية التي تنال إعجابي يجب أن تتسم بالتخييل الجامح
والتركيب المعقد على مستوى البناء، الآن صارت ذائقتي أكثر تنوعاً وانفتاحاً. يهمني
كقارئة بالمثل جودة النثر وأسلوب الكاتب وقدرته على الوصول بلغته إلى أقصى طاقاتها
التعبيرية والعمق الفكري لما يكتب. قد أبحث عن الشعر في الرواية، وأبحث عن السرد
في الشعر. قد يغضب مني الشعراء إذا قلت إن أجمل الشعر قرأته في روايات لا قصائد.
يحضرني هنا كارلوس فوينتس كنموذج. لا أعرف كيف يرسم هذه المشاهد خالصة الشعرية
والمتخلصة من هنات الشعر ونواقصه في آن.
قد تظهر
أجناس أو حتى فنون جديدة، لكن هذا لن يؤثر على وجود الأجناس الأخرى. السينما كفن
لم تؤد إلى انقراض الأدب المكتوب مثلاً، على العكس حدث تكامل وتداخل بينها وبينه.
* كيف
نفهم سؤال الكتابة النسائية الآن وقد تحول الرجل والمرأة معًا إلى حطام على أيدي
أنظمة الاستبداد التي تدافع عن مصالحها بتدمير المدن والحواضر. وفي ظل تصاعد
الأصولية الدينية التكفيرية التي تبدو الوجه الآخر لنظام الاستبداد؟ هل من مطرح في
الكتابة الأدبية العربية لسؤال الذكورة والأنوثة؟
أتحفظ
أولاً على مصطلح "الكتابة النسائية" إذ يبدو لي كمصطلح غائم وغير دال
على سمات بعينها، كما لا أحبذ أي تصنيفات في ما يخص الإبداع لأن التصنيف مجحف
ومختزِل بطبيعته. تسألني: "هل من مطرح في الكتابة الأدبية العربية لسؤال الذكورة
والأنوثة في ظل تحول المرأة والرجل معاً إلى حطام على أيدي أنظمة الاستبداد التي
تدافع عن مصالحها بتدمير المدن والحواضر؟" وألمح أسئلة أخرى مضمرة بين طيات
سؤالك، أسئلة مغلفة بأطياف وظلال الاستنكار. حين أمد خيط السؤال على آخره أراه
كالتالي: "هل من مطرح للكتابة أصلاً في ظل الأهوال الحالية؟".
وجوابي
هو: نعم، ثمة مطرح للكتابة وأسئلتها وهواجسها. في عقود سابقة كان الشعار الأشهر
هو: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وفي ظل هذا الشعار القاهر تم تأجيل
الحياة نفسها، ووصلنا إلى ما نحن عليه الآن. الكتابة مرادف للحرية، ولا مجال معها
للقيود والمحددات، ولا لجداول زمنية تقترح على الكاتب الفرد أولوياته على إيقاع
الأحداث الجارية.
حين بدأت
الكتابة لم أنشغل كثيراً باختلافي عن الرجل، ولم أفكر في نفسي بالأساس كامرأة
تكتب، بل ككاتبة إندروجينية. مؤكد أنّي حاولت وما أزال أحاول أن أحقق تمايزي -
كذات محملة بخبرات وتجارب وإرث يخصها - عن الآخرين رجالاً ونساءً، لكني لم أعتبر
نفسي قط ممثلة لجنس أو لجماعة بعينها، بل حتى لم أعتبر نفسي – كروائية - ممثلة
لأفكاري وحدها.
لم أطمح
إلى تأنيث المخيلة أو العالم، بقدر ما طمحت إلى إعلان حيرتي المعرفية أمام عالم
موسوم بالغموض والالتباس، ومع هذا رأى نقاد كثيرون في رواياتي تأنيثاً للعالم، وإن
دل هذا على شيء، فهو يدل على أن الإبداع له مساراته الخاصة ومساحاته التأويلية
المتمردة حتى على قناعات كاتبه.
لا أسهر
الليالي مؤرقة بالتفكير في سؤال الذكورة والأنوثة في الإبداع، لكنّي أنام وأصحو
وأنا أفكر في عمل أكتبه محاولة تقمص منطق شخصياته وبلورة ملامحها، وألتمس طريقي
ورؤيتي لكثير من القضايا والأسئلة الفنية عبر الكتابة وخلالها أي بالخبرة والتجربة
العملية.
* تغييرات
كثيرة شهدتها مصر في السنوات الماضية؛ من بينها ازدياد التضييق على حرية الرأي
والإبداع، هذا عدا حملة الاعتقالات لصحافيين وناشطين حقوقيين، وإغلاق مراكز
حقوقية، وسجن كتّاب بتهمة "ازدراء الأديان" أو "خدش الحياء
العام" ما رأيك بما يجري؟
رأيي أن
حلم الثورة قد تحول إلى كابوس كامل الأوصاف، والاعتراف بالفشل أولى خطوات الخروج
من هذا الكابوس. منذ يناير/كانون الثاني 2011 حتى منتصف 2016 اعتدت الكتابة بشكل
شبه دوري عمّا يحدث في مصر لملحق "نوافذ" بجريدة المستقبل اللبنانية في
البداية ثم لصحيفة "نويه تسوريشر تسايتونج" السويسرية وموقع قنطرة
التابع للدويتشه فيلله، وهو ما أتاح لي متابعة التحولات بعين مدققة، وقد أعود إلى
هذه الكتابات إضافة إلى يوميات غير منشورة لإنجاز عمل موسع مستقبلاً.
No comments:
Post a Comment