Friday, April 21, 2017

الطريق إلى إيدا: كشف القاتل عبر لغته





منصورة عز الدين


في روايته "الطريق إلى إيدا"، الصادرة عن سلسلة الجوائز في 2015 بترجمة لعبد السلام باشا، يتعامل الروائي الأرجنتيني ريكاردو بيجليا مع "ثيمة" تم ابتذالها عشرات المرات في السينما والروايات البوليسية الخفيفة، ويخرج منها بالجديد والمختلف.

كم مرة مثلاً شاهدنا فيلماً هوليوودياً عن قاتل متسلسل يقتل الضحية تلو الأخرى لهدف متثاقف أحياناً أو غامض وملتوٍ غالباً؟! هنا يتمحور العمل حول قاتل متسلسل يرتكب سلسلة من الاغتيالات بحق علماء وأكاديميين مرموقين، دون أن يدرك أحد  دافع الجرائم أو الرابط بينها. لا يقدم بيجليا بطله عالم الرياضيات كشخص مخبول على عادة هذا النوع من الأفلام والروايات، فبشكل ما تبدو الشخصية منطقية ومقنعة، حتى في رؤيتها للأخلاق: "الأخلاق انفجار. يهوه هو الإرهابي الأول. لكي يفرض قانونه أخذ يدمر مدناً، ويقتل أبناء يعقوب. أم لماذا تعتقدون أن ديستوفسكي كان يفكر في تحويل إليوشا كرامازوف، الراغب في القداسة، إلى ثوري؟"

في مقدمته المعرِّفة بعوالم وانشغالات ريكاردو بيجليا، يشير عبد السلام باشا إلى اتباع أعمال بيجليا السردية لتقليد أرجنتيني عريق هو الاهتمام بالرواية البوليسية ورواية التقصي والبحث والغموض متلاقيا في هذا مع بورخيس وأدولفو بيوي كساريس وآخرين، كما نلمح أيضاً بين سطور الرواية أصداءً بورخيسية متمثلة في درجة من الكتابة الورقية والإحالات المستمرة لكتب مؤلفين آخرين، غير أن بيجليا يفعل هذا بأسلوبه هو ليطرح انشغالات وأسئلة تخصه وحده.

تستعير "الطريق إلى إيدا" من جماليات رواية السيرة الذاتية ليس فقط لأن هناك تشابهات بين سيرة المؤلف وحياة الراوي إيمليو رانزي، بل لأن بيجليا يبذل ما في وسعه حتى الخاتمة للإيحاء بأن ما يكتب عنه حادثة وقعت بالفعل ودوره فيها هو توثيقها والشهادة عليها. في الفقرة الأولى مثلاً، يكتب أن الأمر انتهى به إلى "التدريس في الولايات المتحدة، والتورط في واقعة أريد أن أترك شهادتي عليها."
وفي خاتمة الرواية، وعلى عادة الأفلام السينمائية المأخوذة عن قصة حقيقية، يسجل بيجليا المصير النهائي لبطله، ذاكراً الحكم الذي حصل عليه.

كما يستعير من جماليات الرواية البوليسية، لكنه لا يتقيد بقواعدها المألوفة، ولا يرثيها ساخراً من نواقصها كما فعل فريدريش دورنمات مثلاً في رائعته "الوعد"، إذ لا يبدو بيجليا مشغولاً بها لهذه الدرجة، بل يستخدم قالبها لتقديم آراء واستبصارات لافتة حول مجموعة من الأدباء وأعمالهم الأدبية، مقدماً نموذجاً مختلفاً للتناصات الأدبية، لا يقتصر على جعل أعمال سابقة مرجعية لعمله، بل يتعدى هذا إلى حد أن تتصرف إحدى شخصياته (توماس مونك) على هدي شخصية فنية من إبداع جوزيف كونراد: "توماس مونك هو من نفذ هذه العقيدة. ألا يلفت النظر أن سلسلة من الأحداث وملامح شخصية فرد محدد يمكن وصفهما بنسخ جزء من عمل أدبي؟ لم يكن الواقع هو ما يسمح بفهم رواية، كانت الرواية هي التي تشرح واقعاً ظل خلال سنوات عصياً على الفهم."

لعل أكثر ما لفت نظري في رواية بيجليا هذه (إلى جانب نجاحه في تقديم رواية جيدة من فكرة مكررة لدرجة تحولت معها إلى كليشيه) كان عدم اكتراثه بالتشويق بشكله الشائع والمرتبط دوماً بالرواية البوليسية وروايات الإثارة والغموض، وربما يعود هذا لإدراكه حقيقة أن ضَعف الأعمال القائمة على التشويق بالكامل، عادة ما ينبع من ميزتها الأهم المتمثلة في قدرتها على حبس أنفاس القارئ وإثارة فضوله ورغبته في كشف اللغز والغموض. ففي معظم الحالات، قد لا يصمد العمل أمام قراءة ثانية بعد أن صارت عقدته مكشوفة أمام القارئ، وهذا ما يتلافاه ريكاردو بيجليا بمهارة.

ليس المهم في "الطريق إلى إيدا" كشف لغز مقتل إيدا براون ولا كيفية ارتكاب توماس مونك لجرائمه، بل "لماذا؟" ذلك السؤال الذي يتم تجاهله، عن عمد، غالباً. والأهم هذه التشكيلة من الشخصيات المرسومة جيداً والتي تعيش على الكتب وبها دون أن يثقل هذا على الرواية أو يحولها إلى عمل ذهني ممل. فمعظم شخصيات الرواية أكاديميون متخصصون في الأدب، كل منهم متبحر في أعمال كاتب بعينه والراوي نفسه كاتب وأكاديمي من الأرجنتين تماماً مثل ريكاردو بيجليا.

سيتوقف القارئ المدقق قطعاً أمام آراء نينا حول تولستوي ودوره في تغيير طريقة الكتابة باللغة الروسية، وآراء دا-أماتو حول ملفيل، وتلك الخاصة بالراوي إيميليو حول وليام هدسون، غير أن جوزيف كونراد هو الطيف المهيمن على رواية بيجليا، والساكن بين سطورها. ومن أمتع أجزاء الرواية على الإطلاق تلك الأجزاء الخاصة بمحاولة اكتشاف القاتل عبر أسلوبه اللغوي، فأولاً سألت نينا: "هل يمكن معرفة شكل شخص انطلاقاً من كتابته؟" وحاولت معرفة هوية مرتكب جرائم القتل، هي وإيمليو، عبر تحليل المانفيستو الذي كتبه. "انتبهنا إلى أن ما قمنا نحن بتحليله بعمق، كما يحدث كثيراً في النقد الأدبي يمكن أن يدركه أي قارئ عادي على الفور. المؤلف كان أكاديمياً، ربما عالم رياضيات أو متخصص في المنطق، شديد الذكاء، رجل وحيد، معتاد على الكلام بمفرده وإلى الإشارة إلى نفسه بصيغة الجمع (........) وهي صيغة معتادة للكلام عن الذات لدى الأفراد (في الغالب ذكور) الذين أمضوا سنوات كثيرة في الجيش أو في جماعة ثورية أو مجتمع أكاديمي مغلق."
وثانياً توصل شقيق توماس إلى أن أخاه هو كاتب المانفيستو ومرتكب الجرائم حين لمح لازمة لغوية يرددها شقيقه غالباً مكررة مرتين في المانفيستو.

تحفل "الطريق إلى إيدا" أيضاً بنقد واعٍ للرأسمالية ونمط الحياة في المجتمع الأمريكي وسمات العنف فيه ببصيرة لا تتوفر عادة إلّا لعين الغريب القادرة على الرؤية متخلصة من الحجاب الذي يفرضه الاعتياد. النقد هنا على مستويين الأول ممثل في رؤية الراوي النقدية، والثاني في ثورة توماس مونك على المجتمع الرأسمالي والتطور التكنولوجي، ويعد مونك غريباً هو الآخر إذ يتحدر (مثل جوزيف كونراد) من أبوين بولنديين، كما أنه رافض للمجتمع الأمريكي خارج عليه، بل ومحتقر له: "الروس فقدوا كل شيء لكنهم احتفظوا باحتقار الأمريكيين. وفي هذا أنا أيضاً روسي." كما قال قرب نهاية الرواية.

زاوية "كتاب"، نقلاً عن جريدة أخبار الأدب.



No comments:

Post a Comment