Friday, April 14, 2017

أنتَ قلتَ: تيد هيوز وسيلفيا بلاث كشخصيتين روائيتين







منصورة عز الدين


في روايتها "أنتَ قلتَ"، الصادرة مؤخراً عن سلسلة الجوائز بترجمة للمياء المقدم، تعيد الروائية الهولندية كوني بالمن تشييد العلاقة الشائكة بين الشاعر الإنجليزي تيد هيوز وزوجته الأولى الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث.
على امتداد صفحات الرواية تمنح بالمن تيد هيوز صوتاً بعد أن آثر تغييب صوته لعقود مفضلاً الصمت على الدفاع عن نفسه أمام طوفان الاتهامات التي حصرته في دور "القاتل" و"الخائن".

"بالنسبة للكثيرين نحن غير موجودين إلا في الكتب. أنا وزوجتي. تابعت، على مدى الأعوام الخمسة والثلاثين الأخيرة، بكثير من العجز والاستنكار، كيف تعفنت حياتها وحياتي تحت طبقة من المغالطات والشائعات، والقصص الملفقة والشهادات الكاذبة والأساطير والخرافات والهراء. ورأيت بعينيّ كيف تم تحوير شخصيتينا المركبتين إلى شخصيتين عاديتين، بملامح باهتة وبسيطة صُنِعت خصيصاً لإرضاء نوع معين من القراء الطامحين للإثارة: هي المقدسة الهشة، وأنا الخائن القبيح."

هكذا تبدأ الرواية، ومن بدايتها لنهايتها يبدو أن ما تطمح المؤلفة لفعله هو نزع العادية عن هاتين الشخصيتين الفريدتين وإلباسهما ما يستحقان من تعقيد وتركيب وثراء، كما تطمح بالأساس إلى وضع الثنائيات الضدية جانباً والبعد عن الأبيض والأسود للغرق في المساحات الرمادية المخاتلة حيث يوجد الفن.

"أنت قلت" أشبه برحلة قطعها هيوز، كشخصية فنية، من رفض لأدب الاعتراف  حتى جرؤ على تعرية كاملة للأنا المفردة التي أخفاها دائماً خلف التعبيرات الرمزية والاستعارات. لذا كان من الطبيعي أن تنتهي الرواية بكلمة: "أنا".

تعتمد الروائية الهولندية بالأساس على قصائد عيد الميلاد الثمانية والثمانين التي نشرها تيد هيوز قبل وفاته (عام 1998) بأشهر قليلة، وعلى أعماله الشعرية الأخرى، كما استنتجت وقائع اللقاء الأخير بين هيوز وبلاث من قصيدته غير المنشورة "الرسالة الأخيرة" التي اطلعت عليها حين عُرِض أرشيفه الموجود في جامعة "إيموري" بأتلانتا للعموم.

التفاصيل الخاصة بالعلاقة بين هيوز وآسيا فيفل (الطرف الثالث في مثلث الحب) تتطابق في معظمها مع ما ورد في سيرة فيفل كما كتبها كل من إيهودا كورين وإيلات نيجيف في كتابهما الصادر عام 2006. كما أن هناك تفاصيل معروفة ومدونة، في هذه العلاقة الشائكة، تجاهلتها بالمن وأظنها فعلت هذا لأنها تكتب بلسان هيوز وتتبنى رؤيته كما استشفتها من قصائده وبالتالي من غير المتوقع أن يذكر هو ما يتناقض مع أو يشوش على روايته لما حدث. من هذه التفاصيل المُتَجاهَلة مثلاً أن بلاث عرفت بحمل آسيا فيفل من زوجها قبل إقدامها على الانتحار بأيام (وهو حمل أجهضته آسيا بعد انتحار سيلفيا مباشرة قبل أن تنجب لاحقاً ابنتها شورا التي ماتت معها حين انتحرت هي الأخرى بالغاز عقب رحيل سيلفيا بسنوات ست)، وأن هيوز استقبل عشيقته آسيا فيفل في شقة زوجته بمجرد انتحارها، وأن فيفل كانت ترتاح في غرفة نوم بلاث بلا حرج وهو ما اعتبرته الأوساط الأدبية في لندن، وقتها، انعدام لياقة صادم وعدم احترام لا يُغتَفَر لذكرى الشاعرة الراحلة لتوها.

لكن بعيدًا عن هذه التفاصيل المهمشة عمداً، تبقى أهمية الرواية في ذلك الوعي الحاد من الكاتبة بدواخل الشخصيتين الرئيسيتين، وفي عدم اكتفائها بتقديم سيرتهما معاً فقط، إنما طرحها أفكاراً فلسفية حول الفن وعلاقته بالذات والحياة والأسطوري والغيبي انطلاقاً من رؤية هيوز بالأساس للشعر والفن في تقابلها مع رؤية بلاث لهما. كل هذا بشكل خافت ومتوارٍ لا يثقل على إيقاع الرواية ولا يعيق خيطها السردي.

كما كل علاقة تجمع بين زوجين شهيرين، ثمة صراع مضمر أو معلن بين روايتين للأحداث نفسها. في حالة زواج بلاث وهيوز كانت الغلبة لرواية بلاث التي خلّدها انتحارها، أو بالأحرى للرواية التي صاغتها الحركة النسوية عنها بعد وفاتها انطلاقاً من كتابتها وحياتها القصيرة، وبكتابته قصائد "رسائل عيد الميلاد" بدا هيوز كأنما يرغب في منح روايته الخاصة لما جرى فرصة في الخلود، أو كما تكتب كوني بالمن على لسانه عن هذه القصائد: "كانت تعكس روايتي للحب الذي جمعني بها، استعدت ذكرياتي معها كما لو كانت من حقي وحدي، كما لو أنها ميراث شرعي لا يشاركني أحد فيه، وكنت كالصدى أردد ظلال قصتها داخل أشعاري."

"أنت قلت" رواية شائقة تلعب على فضول القارئ ورغبته في التلصص على حياتيّ شاعرين مهمين كانت قصتهما معاً أقرب لتراجيديا إغريقية محكومة منذ البداية بالفجيعة. غير أن التشويق هنا ليس التشويق المألوف في روايات أخرى إنما التشويق القائم على النبش في حياة شخصيتين حقيقيتين وتعريتهما حتى العظم، لذا فالتشويق هنا مغلف بالألم أو بذلك الأسى الناجم عن متابعة مأساة نوقن أنها جرت فعلاً لشخصيات من لحم ودم وخلفت ضحايا رحلوا وآخرين بقوا على قيد الحياة مطاردين بأشباح الماضي.

الترجمة جيدة في المجمل، لكن ثمة بعض التفاصيل الدقيقة التي قد يغيب معناها عن القارئ المصري مثل الإشارة إلى أن آسيا فيفل تعمل في "مكتب إشهار"، فبعض القراء قد لا ينتبهون إلى أن المقصود هو "وكالة إعلان". أيضاً عند ذكر أن "جيمس جويس كان الروح التي باركت" زواج بلاث وهيوز الذي عُقِد في 16 يونيه 1956، أظن أن الأدق الإشارة إلى هذا اليوم باعتباره "يوم بلوم" وليس "يوم الإزهار"، لأن المقصود هنا هو بلوم بطل رواية "عوليس" التي جرت أحداثها يوم 16 يونيه، الموافق لتاريخ ميلاد جويس نفسه، والذي يحتفل فيه محبوه سنوياً به وبروايته وببطله بلوم. لكن يبقى توجيه الشكر للمترجمة والشاعرة التونسية لمياء المقدم على ترجمتها لهذا العمل وعلى اختيارها له، لأنه ليس من نوعية الأعمال التي قد يصل لها الناشرون العرب بأنفسهم، ولولاها لما تعرفنا عليه بعد صدوره بالهولندية بفترة وجيزة نسبياً.

نُشِرت المقالة بأخبار الأدب عدد 19 فبراير الماضي، زاوية كتاب.

No comments:

Post a Comment